الأصولية الإسلامية١

(١) المصطلح والموضوع والمنهج٢

لا أجد مفرًّا من أن تكون هناك مقدمة للدراسة؛ فمن الصعب إيجاد مصطلحٍ دقيق لما جرى تسميته في الآونة الأخيرة، خاصة في الغرب، Islalic Fondamena Lism كأفضل تسمية لما يُوصف الآن بالصحوة الإسلامية، أو البعث الإسلامي، أو الإحياء الإسلامي. فالترجمة الحرفية «الأصولية الإسلامية»، لا تُعبِّر عن تيار فكري أو سياسي معيَّن في تاريخ الأمة الإسلامية، ولو أنَّ لفظ «الأصول» لفظ إسلامي، كما هو معروف في علمَي «أصول الدين»، و«أصول الفقه»؛ فالأصل هنا يعني الأساس الذي يَنبَني عليه الشيء، الأساس العقلي عند علماء أصول الدين، والأساس المادي «المصلحة» في علم أصول الفقه. الأصولية الإسلامية بهذا المعنى تعني البحث عن «الأساس» أو «الشرعية»؛ فكل واقعة، وكل نظام، وكل دولة، تقوم على فكرة، أو على تصوُّر، هو الأساس؛ فكما تقوم الدول الرأسمالية على تصوُّر للحرية، والدول الاشتراكية على تصوُّر للعدالة الاجتماعية، فكذلك تقوم الدولة الإسلامية على تصوُّر للشرعية الإسلامية. والأصولية الإسلامية في أحد معانيها تُحاول صياغة هذه الشرعية وتحقيقها، وتأسيس النظام الإسلامي، وتدافع عنه بصرف النظر عن النظم القائمة وإنجازاتها، تعتمد على بحث شرعي، وليس على تحليل واقعي، وتقوم على فكرة مبدئية وليس على ضرورة عملية، وتستعمل منهجًا استنباطيًّا يقوم على تأويل النصوص، وليس منهجًا استقرائيًّا يعتمد على رصد الوقائع وحصرها.

كما يُترجم هذا المصطلح أيضًا بلفظ إسلامي، هو «السلفية»؛ فالسلف هم القدماء، أفضل من الخلف بنص القرآن فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ (١٩: ٥٩). السلف أكثر طهارةً من الخَلَف. وهو المعنى المعروف أيضًا في المأثورات الشعبية «نعم السلف وبئس الخلف». ويتضح ذلك أيضًا في وجداننا الشعبي وارتباطه بالآباء والأسلاف، كما يبدو في حبنا لكل ما هو قديم، «الجبن القديم»، والحسرة على أيام زمان، والبكاء على الزمن الضائع، وهو العنصر المُكوِّن لثقافات المجتمعات التراثية. وقد ظهر هذا المعنى في التاريخ في الحركة السلفية التي أسَّسها الإمام أحمد بن حنبل، وسار فيها فقهاء المسلمين، حتَّى ابن تيمية وابن القيم. ثمَّ أخذت طابعًا شعبيًّا في الحركة الإصلاحية الحديثة عند محمد بن عبد الوهاب، والشوكاني، والمهدية، والسنوسية، أو عند زعماء الإصلاح؛ مثل الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، والكواكبي، وابن باديس، والبشير الإبراهيمي، وعبد القادر الجزائري، والطاهر بن عاشور … إلخ.

ولا تعني «الأصولية الإسلامية» بالضرورة المحافظة والتخلف ومعاداة المدنية الحديثة؛ فهناك إصلاحيون تقدميون مستنيرون يأخذون بوسائل التقدُّم وأساليب النهضة الحديثة، ويدعون المسلمين إلى الأخذ بالعلم والصناعة، ونُظم الحرية والديمقراطية. كما لا تعني التعصُّب، وضيق الأفق، ورفض الحوار، والانغلاق على الذات؛ فهناك مِنْ ممثليها مفكرون متحررون، وعقلانيون، وواسعو الأفق، ومُلِمُّون بتاريخ الشعوب، ويقبلون تحديات العصر، ومنفتحون على الحضارات الحديثة، ويكتبون في التسامح وفي التعاون، ويدعون إلى الإخاء والمحبة. ولا تعني أيضًا الجماعات المغلَقة، السرية منها والعلنية، وجماعات المضطهَدين المنبوذين، بل تدعو إلى بناء الفرد الكامل، من أجل القيام بعملية توحيد شامل للأمة ككل، وتجنيد جماهيرها، وإقامة دولتها، والحفاظ على هويتها. كما لا تعني بالضرورة ممارسة العنف واستعمال أساليب القوة، والعمل على قلب نظام الحكم، والتخطيط للاغتيالات؛ فهناك حركة تقوم على نشر الوعي الديني، وإيقاظ الوعي الوطني، وتأسيس الوعي السياسي، باستعمال وسائل الإصلاح؛ مثل التربية الدينية، والحفاظ على اللغة العربية، والدعوة إلى الطهارة والنقاء، وتنشيط العقائد في قلوب المؤمنين.

ولا تعني «الأصولية الإسلامية» أخيرًا مجرد التمسُّك بالمظاهر وإطلاق اللحى، ولبس الحجاب، والدعوة إلى تطبيق الشريعة، وإقامة الدولة الإسلامية، وبناء المساجد. فقد وَلدَت «الأصولية الإسلامية» حركات تحرير شعوب ضد الاستعمار في السودان وليبيا ومصر وتونس والجزائر والمغرب وفلسطين. وقد دفع الرئيس الراحل أنور السادات حياته ثمنًا لهذا الفهم المشوَّه للأصولية الإسلامية. وكانت سخريته في خطابه الأخير، من المرأة التي تمكث في المنزل «مثل الكرسي والخيمة» التي تضعها الأخت المؤمنة على الرأس، أحد الأسباب المباشرة التي أدَّت إلى تنفيذ خطة الاغتيال. ويبدو ذلك في التحقيقات التي قامت بها النيابة العسكرية مع خالد الإسلامبولي ورفاقه الثلاثة وباقي المتهَمين الأربعة والعشرين.

الأصولية الإسلامية أو السلفية إذن ليست وليدة العصر الحاضر، كما هو شائع في الغرب، منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، واشتداد المقاومة الأفغانية ضد الغزو السوفييتي، وظهور حركة «أمل» الشيعية، بزعامة الإمام موسى الصدر في لبنان، وازدهار الطرق الصوفية لدى المسلمين في أوروبا الشرقية، وظهور حركة الإحياء الإسلامية في الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي، ودخول الإسلام في المعترك السياسي في الملايو وإندونيسيا والفلبين، وانتشار الزي الإسلامي في مصر … إلخ؛ فالأصولية الإسلامية — أو السلفية — موجودة على مدى التاريخ الإسلامي، لها جذورها التاريخية، وروافدها الفكرية، وانفجاراتها السياسية، كما أنَّ لها ظروفها النفسية والاجتماعية التي تتكرَّر في كل عصر، فتتجدَّد الأصولية الإسلامية، وتتواصل حركاتها منذ الإمام ابن حنبل والإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، حتَّى الجماعات الإسلامية المعاصرة وانفجاراتها السياسية في «حزب التحرير الإسلامي»، عند صالح سرية، والاستيلاء على الفنية العسكرية في مصر عام ١٩٧٤م، حتى اغتيال الرئيس السادات على يد جماعة الجهاد في أكتوبر ١٩٨١م. وهي تُوجَد على ثلاثة مستويات:

  • الأول: الأفعال الخارجية لأفراد الجماعة والتنظيمات الاجتماعية التي ينتسبون إليها، وهو المستوى الذي يدرسه علماء الاجتماع.
  • والثاني: الأفكار والنظريات التي يتبناها أفراد الجماعة، والتي تُعطيهم تصوراتهم النظرية للعالم ودوافعهم للسلوك، وهو المستوى الذي يدرُسه المفكرون والفلاسفة.
  • والثالث: الدوافع والبواعث النفسية والتاريخية التي تكمُن وراء الأفعال والنظريات، وهو المستوى الأكثر عمقًا، الذي تُوجَد فيه ظاهرة «الأصولية الإسلامية» في مرحلة الكُمُون، التي لا يُمكن إلَّا لعالم النفس والمؤرخ وفيلسوف الحضارة دراستها ووصفها، مشاركًا معها في الموقف، ومتعاطفًا مع موضوعها، ويكون هو ذاته جزءًا منها، ومطورًا لها، وإحدى مراحلها. ومع ذلك فإنَّ تضافر المناهج ورؤية المستويات الثلاثة تُساعد على اكتمال الرؤية وشمولها؛ فالمنهج الاجتماعي، والعرض الفكري النظري، والتحليل النفسي والتاريخي، كل ذلك يُساعد على فهم الظاهرة، ورؤية جوانبها المختلفة دون الوقوع في الرد المنهجي، واعتبار الظاهرة اجتماعيةً خالصة، أو نفسيةً خالصة، أو سياسيةً صِرْفة، أو اقتصادية، تُعبِّر عن الأزمة الاقتصادية في المجتمع؛ فذلك كله ابتسارٌ للظاهرة ناتج إمَّا عن تعصُّب للمنهج أو عن رغبة دفينة في التقليل من أهميتها واستقلالها. وبالرغم مما تكشف عنه التحقيقات التي جرت حول مقتل السادات، من وجود مثل هذه الظروف الاجتماعية والنفسية التي فرضَت نفسها على أعضاء الجماعة الإسلامية، إلَّا أنَّها كانت وسيلةً في لحظات الضعف البشري لإيجاد الأعذار، وتخفيف الأحكام، والخوف من المجهول. ولا بديل غير التعاطف مع الظاهرة وفهمها من الداخل، حتَّى يُمكن إعادة تمثلها وإدخالها في الحركة الإسلامية المعاصرة، وإرجاعها إلى رافدها الأعظم، الحركة الإصلاحية مع مزيد من الجرأة على الواقع، والتأصيل النظري، والاستنارة العقلية، والرؤية الحضارية، والإحساس التاريخي.

هذه الدراسة إذن نموذج من الدراسات الوطنية، تفترق عن الدراسات الغربية التي يقوم بها الغرب، أو التي يُكلَّف بها الباحث المحلي خوفًا على مصالحه بعد اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، وطرحه السؤال الأبدي: هل يُمكن لما حدث في إيران أن يحدث في مصر أو السعودية أو دول الخليج؟ وهي الدول التي يهتم الاستعمار بها نظرًا لثروتها البترولية وودائعها، أو نظرًا لثقلها السياسي وزعامتها في المنطقة، ودون أن يطرح نفس السؤال بالنسبة للسودان أو تونس أو حتى سوريا والأردن. وقد تابع الباحثون المحليون لدينا هذا النمط من الدراسات الغربية كي ينفع بها الغرب؛ سواء بما تقدِّمه من معلومات أو تحليلات أو نتائج، دونما مراعاة لظروف الأمن الداخلي، أو لحماية الجماعات الإسلامية؛ فهي على الأقل جزء منَّا ونحن جزء منها، ولسنا غرباء عن أعضائها، فهم طلبتُنا وخريجونا، وأبناؤنا وإخواننا.

الهدف إذن من هذا البحث هو التوجُّه الوطني وليس «الاستشراق» الغربي، لحماية أمننا القومي وليس لضربه من الظهر. ليس الهدف إعطاء معلومات عن الجماعات الإسلامية؛ أنواعها، وقياداتها، وأعضائها، وتنظيماتها، حمايةً لها ولأمن البلاد. هذا بالإضافة إلى أنَّ رؤيتها كواقعٍ حاليٍّ، وكباعثٍ لدى الجماهير، وكرصيدٍ تاريخي، وكبديلٍ مطروح، يتجاوز مستوى المعلومات الكمية التي لا تحتاجها إلَّا أجهزة القمع الداخلية، أو أجهزة المخابرات الخارجية.

المنهج المتَّبع إذن هو منهج تحليل الخبرات الفردية والاجتماعية التي يُمكن للجميع الإحساس بها والمساهمة فيها والاتفاق عليها، دونما حاجة إلى نظريات اجتماعية حول نشأة الجماعات الدينية تتبنَّى نظرية أو مذهبًا من علم الاجتماع الغربي، حتَّى لا تضيع إشكالية الموضوع في إشكالية النظرية. المهم هو الإبقاء على وضوح الرؤية، وحقيقة الموضوع، وصدق التحليل، وموضوعية الأحكام، وشمول النظرة، بصرف النظر عن المواقف السياسية أو الاختيارات الفكرية.

والمادة الأساسية هي التحقيقات التي أجرتها النيابة العسكرية في قضية اغتيال السادات مع المتهَمين الأربعة والعشرين، والتي استدعت التقديم بمنظورٍ تاريخي كإطارٍ نظري، تتم الإحالة لها باستمرار، كما تؤخذ منها نصوص عدة من أقوال أعضاء الجماعة الإسلامية، خاصة جماعة الجهاد، التي قامت باغتيال الرئيس الراحل وحدوث الانفجار في ٦ أكتوبر ١٩٨١م، وهو ما يُعادل انفجار الثورة الإسلامية في إيران في أواخر فبراير ١٩٧٩م. ولا يرجع اختلاف صور الانفجار إلَّا إلى اختلاف الظروف؛ وجود قيادة دينية جاهزة، ووجود جماهير شعبية منظمة في حالة الثورة الإسلامية في إيران وغيابها في مصر.

(٢) الجذور التاريخية «الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي»٣

قد يكون المنظور التاريخي أحد العوامل المساعدة لرؤية «الأصولية الإسلامية» أو السلفية في شمولها، وتحديد نشأتها ومسارها. والظواهر الاجتماعية في نهاية الأمر، بما فيها الأفكار والمعتقدات تراكُم تاريخي، وحصيلة عوامل عدة أدت إلى ظهورها في وقتٍ مُحدَّد، لا يُمكن فصلُه عمَّا سبقه، سواء كان ظاهرًا، أو في حالة كمون. وقد لا تكون هذه الرؤية التاريخية واضحة وفعَّالة بما فيه الكفاية عند ممثلي «الأصولية الإسلامية» أفرادًا أو جماعات، وإن بدت أحيانًا في كتابات مُنظريها وأقوالهم. ومع ذلك فهي التي تُفسِّر ظهورها ونشاطها في وقتٍ مُحدَّد، ولدى جيل مُعيَّن، بل وقادرة أيضًا على تحديد مسارها في المستقبل، ومعرفة إذا كان يُمكن قيام الدولة الإسلامية في هذا الجيل، أم في عدة أجيال.

ويظهر هذا البُعد التاريخي بوضوح في التحقيقات التي جرت في قضية اغتيال السادات، وشغف أعضاء الجماعات بقراءة التاريخ، خاصة «ابن كثير» لمعرفة مسار الحضارة الإسلامية، كيف نشأَت وتطوَّرَت واكتملَت، ثمَّ كيف انهارت واضمحلَّت وأحاط بها الأعداء من كل جانب. ويتضح ذلك أيضًا من مقدمة «الفريضة الغائبة» التي يتحسَّر فيها محمد عبد السلام فرج على ضياع الدولة الإسلامية، ويرنو إلى المستقبل لإقامتها من جديد، والاعتزاز بتراث الماضي عند الفقهاء. كما يبدو ذلك أيضًا من أقوال أنور عكاشة وقراءته في التاريخ الحديث (التحقيقات ص٢٩٠) وفي نفس الوقت مع قراءة التاريخ، يقرأ أعضاء الجماعة كتب التفسير؛ فغالبًا ما كان المؤرخون هم المفسرون؛ مثل ابن كثير في تاريخه وتفسيره، والطبري في تاريخه وتفسيره. وكأنَّ الجماعات كانت ترصُد تحقُّق الوحي في التاريخ، وتُفسِّر القرآن تفسيرًا عمليًّا، بالرجوع إلى تاريخ الأمة؛ فتاريخ الأمة هو تحقُّق للوحي، والوحي نفسه تحقق في التاريخ.

وهذا هو ما حدث بالفعل؛ فعندما ظهر الإسلام لم يكن لدى العرب حضارة إلَّا الشعر والتجارة. ففي الشعر سجَّلوا حياتهم، وفي التجارة أقاموا معيشتهم، هذا بالإضافة إلى مجموعة من العادات والعرف والتقاليد والقيم الموروثة التي كانت تحكُم علاقاتهم الاجتماعية، وتتفق مع طبيعة البنية الاجتماعية العربية كقبائل رُحَّل. ثم بفضل الإسلام، تحوَّلوا من قبائل رُحَّل وبدو وتجار، إلى قُوَّاد ومُعلِّمين. أنشَئوا حضارة، وأقاموا دولًا، وأسَّسوا «إمبراطورية» استطاعت أن تقف في مواجهة الإمبراطوريتَين الكبيرتَين آنذاك؛ إمبراطورية الفرس، وإمبراطورية الروم. واستطاع العرب بفضل الإسلام البزوغ كقوة ثالثة في العالم القديم، يرِثون القوتَين الكبيرتَين، ويؤسِّسون حضارةً ابتداءً من القرآن الكريم والسنة النبوية. أقاموا الدولة الإسلامية بنُظمها ودساتيرها، بجماهيرها وجيوشها، بمنطلقاتها وأهدافها، بواقعها ومُثلها، حتى استطاعت أن تكون نموذجًا يُحتذى به في العالم القديم. استمرَّت الدولة الأولى؛ دولة الخلفاء الراشدين، أربعين عامًا نمطًا مثاليًّا، تربَّى عليه الأجيال، فإذا ما عمَّ البلاءُ، وتوالت الهزائم، وانتشر الفساد في البر والبحر، فلا غرابة أن يبرُزَ هذا النموذج الأول في الذهن، ويبدو لنا نحن الزمن وكأنَّه عودةٌ إلى الماضي، حركةٌ سلفية، محافظةٌ رجعية، تريد ترك الطائرة والصاروخ، والعودة بنا إلى الجمل والبعير! وهو في حقيقة الأمر إحياء للنمط المثالي في الشعور كبديل للواقع الموجود؛ وبالتالي تكون «الأصولية الإسلامية» رد فعل على انحطاط المسلمين. ولا غرابة أن يكون أحد كُتبها «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» لأبي الحسن الندوي، الذي كان له أعظم الأثر في نشأة الحركة الإسلامية المعاصرة منذ جماعة «الإخوان المسلمين»، حتَّى الجماعات الإسلامية الحالية.

ونشأَت العلوم الإسلامية القديمة، سواء العلوم النظرية؛ مثل علم أصول الدين وعلوم الحكمة، أو العلوم العملية؛ مثل علم أصول الفقه وعلوم التصوُّف. وبعد أن تطوَّرَت هذه العلوم واكتملَت، وقف منها الفقهاء موقف العداء، منذ أحمد بن حنبل، حتَّى ابن تيمية أو ابن القيم، دفاعًا عن العقيدة ضد البدع، وعن الأصالة ضد التبعية، وعن النص «الخام» ضد تعقيله وتفسيره وتأويله. كان الفقهاء حراسًا للعقيدة الأصلية ضد محاولات فهمها وتحديثها، بحيث يُقضى على خصوصيتها ومصدرها وفاعليتها؛ فبينما قام العلماء بالتمثُّل والفهم، قام الفقهاء بالنقد والرفض؛ وبالتالي أصبح الفقهاء، بالرغم مِمَّا قد يُوصَفون به من تزمُّت وتعصُّب وضيق أفق، يُعبِّرون عن الأصالة الإسلامية؛ لذلك ارتبطَت الجماعات الإسلامية المعاصرة بهذا التراث الفقهي القديم عند ابن تيمية، ابن القيم، والصنعاني، والسيوطي، والشوكاني، وابن حزم، وابن حجر من القدماء، وسيد سابق، ومحمد الغزالي من المحدَثين. يقوم دعاتها بنفس المهمة التي قام بها القدماء؛ وهو الدفاع عن الأصيل ضد الدخيل، وحماية العقيدة من الشرك، والمحافظة على النص «الخام» من التأويل، فكانوا مثل الفقهاء أهلَ نقل لا أهلَ عقل. وكما حوت فتاوى الفقهاء على إجابات إسلامية أصيلة على قضايا العصر، وكانت نماذج في الوجدان الديني عند الناس على قدرة الإسلام على قبول التحدي العصري، أصبحَت مجموعة «فتاوى ابن تيمية» موسوعةً إسلامية ضخمة، تكشف عن الحلول الإسلامية لمشاكل العصر. يُشير أعضاء الجماعة الإسلامية في التحقيقات باستمرار إلى «فتاوى ابن تيمية» كأنَّها المرجع الأساسي لكتاب «الفريضة الغائبة».

ولمَّا كانت معظم القضايا والمسائل القديمة تدور حول موقف المسلمين من القهر الداخلي والعدوان الخارجي، الأول من حُكَّام المسلمين وأمرائهم وسلاطينهم، والثاني من الصليبيين والتتار والمغول، والغارات التي لم تتوقَّف على العالم الإسلامي، فقد وجدت صدًى في قلوب المسلمين المعاصرين؛ نظرًا لأنَّ الأحوال لم تتغيَّر، والأعداء لم يتغيَّروا، وإن تغيَّرت الأسماء. فسلاطين الأمس وخلفاؤهم كثيرًا ما يكونون كحكام اليوم. وصليبية الأمس وهجمات التتار مثل صهيونية اليوم وهجمات الاستعمار. وقد كان الهدف واحدًا عند الفقهاء على مَر العصور، الدفاع عن مصالح الأمة في الداخل، والدفاع عن أراضي المسلمين، سواء في أواسط آسيا أو في الأندلس أو في فلسطين. وقد كان سلاح الفقهاء بناء الوعي الديني، والدفاع عن الأصالة ضد التبعية، ونقد تشبُّه المسلمين بأعدائهم في الفكر والسلوك والعادات اليومية. ولم يكن الفقهاء أهل نظر وفتوى فحسب، بل كانوا طليعة الأمة فيما يتعلَّق بالتصدي الفعلي لأعداء الأمة في الخارج أو في الداخل، قادوا الجيوش، ودافعوا عن الثغور، وحثُّوا على الجهاد، ودعَوا إلى الشهادة، كما قاوموا الظلم والطغيان، وتصدَّوا للأمراء والسلاطين، الذين لا يحكمون بما أنزل الله، ورفضوا أن يكونوا «فقهاء السلطان، أو فقهاء الحيض والنفاس». قضى معظمهم نَحْبه في السجون والقلاع؛ وبالتالي لم يكن غريبًا أن يتصدَّى فقهاء المسلمين لقضايا العصر بالعمل دون الاكتفاء بالقول وحده. ولم يكونوا في ذلك خارجين على القانون، أو ساعين لقلب نظام الحكم بالقوة، بل كانوا يُدافعون عن الشرع الإسلامي بالقول والعمل. وهذا ما يُفسِّر شدة انتساب أعضاء الجماعات الإسلامية إلى هذا التراث الفقهي والاقتداء به. فالشرعية لديهم تأتي من الأصول وليس من النُّظم القائمة. والأصول لديهم الكتاب والسنة وإجماع المسلمين. أمَّا الاجتهاد فإنَّه لا يخرج عن هذه الأصول الثلاثة الأولى، وهو موقف جميع الفقهاء بلا استثناء، في أنَّ الاجتهاد ليس أصلًا مستقلًّا من أصول التشريع؛ ولذلك كانت معظم قراءات أعضاء الجماعات الإسلامية في الكتاب والسنة والفقه؛ أي في الأصول. وكان الاجتهاد لديهم ضمن هذه الأصول، واستنباطًا منها، كما قال عطا طايل حميدة في تحقيقات قضية السادات.

وامتدَّت الحضارة الإسلامية على مدى سبعة قرون، حتَّى جاء ابن خلدون ليؤرخ للفترة الأولى لها؛ نشأة وتطورًا وازدهارًا، ثمَّ أفولًا وانهيارًا. أرَّخ لهذا العصر الذهبي الأول، وهو أمرٌ طبيعي أن تؤرخ الحضارات لنفسها في فترات انهيارها، حتى تدوِّن روحها بعد أن يدبَّ في جسدها الفَناء. ثمَّ جاء بعده عصر الشروح والملخَّصات والموسوعات، حين عاشت الحضارة على ذاتها، تهمِّش نصوصها، وتجتَر علومًا، وتشرح متونها على مدى خمسة قرون، منذ الفتح العثماني حتى فجر النهضة الحديثة في القرن الماضي. فإذا ما توقَّف إبداع الخلَف سُجِّلت إبداعات السلَف، وحافظت الحضارة على نفسها بالتدوين، مُسجِّلة تاريخ روحها.

ثم جاء فجر النهضة الحديثة منذ محمد بن عبد الوهاب مرتبطًا بالأصولية الإسلامية عند فقهاء أهل السلف؛ أحمد بن حنبل، وابن تيمية، وابن القيم، ومحاولًا تخليص التوحيد مِمَّا شابه من شرك، وتأسيس دولة إسلامية في الحجاز. ثم جاء الأفغاني في مواجهة الاستعمار والعدوان الخارجي والتخلُّف والتسلط الداخلي، مُحاولًا تخليص الأمة من عدوَّيها الرئيسيَّين. ثم جاء الكواكبي داعيًا إلى تأسيس دولة عربية إسلامية في الشام، تُحيي الخلاقة وتحيا بها الأمة. وقامت حركاتٌ مشابهة في كل أنحاء العالم الإسلامي؛ المهدية في السودان، والسنوسية في ليبيا، وعبد القادر الجزائري في المغرب، وعلماء الجزائر وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، وعمر المختار في ليبيا، والآلوسي في العراق، والشوكاني في اليمن لبحث أسباب انهيار الأمة وضعفها، وتحديد شروط الإصلاح، ووضع مناهجه من أجل استئناف دورة ثانية للحضارة الإسلامية بعد خمسة قرون من التوقف، وتأخذ الدورة الأولى في القرون السبعة الأولى نبراسًا لها، كعصرٍ ذهبي، كشاهدٍ تاريخي على أنَّه لا يُصْلِح هذه الأمة إلَّا ما صَلحَ به أولها. فنشأَت حركات إحياء المعاصرة من أجل بعث الأمة ونهضتها من جديد؛ لذلك يُشير أعضاء الجماعات الإسلامية باستمرار إلى الشوكاني ويقرَءون «نيل الأوطار»، «فتح القدير»، ويواصلون هذا البعث الإسلامي المعاصر، كحركةٍ تاريخية لا يُمكن إيقافها؛ لأنَّها تُعبِّر عن استئناف حركات الإصلاح الديني وبداية دورة ثانية للحضارة الإسلامية تُعيد للأمة أمجاد السلَف. ويجدون في أنفسهم صدًى لكل الحركات الإسلامية المُعاصرة، سواء في العالم العربي أو في العالم الإسلامي. ويقرَءون رسائل جهيمان، قائد ثورة الحرم المكي. ويطَّلعون على رسائل صالح سرية، مُنفِّذ حادثة الاستيلاء على الفنية العسكرية في مصر. وما زال سيد قطب يُمثِّل بالنسبة لهم دعوةً صريحة لتكوين جيلٍ قرآني جديد، صفوة مؤمنة، قادرة على تحرير الوجدان البشري في العالم كله من «الطاغوت والجاهلية والكفر».

وبالإضافة إلى هذا المدِّ التاريخي الذي لا يُمكن إيقافه، ظهرَت عدة عوامل مادية مساعدة لهذا الانبعاث الحضاري الجديد، أهمها:

  • (١)

    محاولات الانفصال عن العثمانيين، وتأسيس دولة عربية كرد فعل على القومية الطورانية، وظهور العروبة مواكبة للإسلام، خاصةً لدى الكواكبي وحركة الإصلاح الديني بوجه عام، حتى استحال التمييز حاليًّا في وجداننا القومي بين النهضة العربية والنهضة الإسلامية؛ بين الفكر العربي الحديث والفكر الإسلامي الحديث.

  • (٢)

    مواكبة الانبعاث الحضاري لحركات التحرر الوطني؛ فقد ناضلَت شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية منذ أوائل هذا القرن للحصول على استقلالها، دون أن يكون هناك وعيٌ إسلامي شامل يجمع بين معظم هذه الشعوب، وإن كان هناك تعاطف وتآزر وأثر متبادل، ووحدة هدف ومصير وتاريخ بينها. ولمَّا كان الأفغاني أحد روافدها ومؤسسًا للحزب الوطني المصري، ورافعًا شعار «مصر للمصريين» فقد استحال التمييز بين البعث الإسلامي والحركة الوطنية. وقد وضح ذلك في آخر الحركات الوطنية الإسلامية، في الثورة الوطنية في الجزائر، وفي الثورة الإسلامية في إيران.

  • (٣)

    الوعي بالأهمية الجغرافية والاستراتيجية للمنطقة وبأطماع الغرب والشرق فيها؛ فقد كانت من ممتلكات الدولة العثمانية بعد الحرب الأوروبية الأولى وقيام ثورات وطنية فيها، توحَّدَت كلها في حركة القومية العربية، وظهور الإسلام فيها كأحد مُكوِّناتها التاريخية الحضارية واللغوية والدينية. وقد بدا ذلك واضحًا في «الناصرية»، التي رأت فيها الشعوب العربية والإسلامية استئنافًا لحركة الإصلاح الديني، بالرغم مِمَّا يبدو عليها من علمانية، واستخدام الإسلام لتأييد الحركة الوطنية التقدمية، ولتدعيم الاشتراكية العربية.

  • (٤)

    اكتشاف القدرات الاقتصادية الهائلة للمنطقة من حيث المواد الأولية، والأسواق والعمالة، والخبرات الفنية، والرؤية السياسية. وكان آخرها الثروة البترولية وعائدات النفط، الذي ازدادت أهميته بعد أزمة الطاقة في الغرب، وتعاظُم العائدات بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م، واعتماد الغرب الصناعي؛ أوروبا واليابان، على البترول العربي، واستثمار العائدات في المصارف الأوروبية.

ولكن هذه النهضة الإسلامية المعاصرة، وتقويتها بالعوامل المادية المساعدة، بالرغم من بداياتها الجذرية في القرن الماضي ومنطلقاتها المستنيرة، سواء في الحركة الإصلاحية «الأفغاني»، أو في التيار الليبرالي «الطهطاوي»، أو في التيار العلمي «شبلي شميل»، فقد انتهت في منتصف هذا القرن على عكس ما بدأَت منه، فكانت قصيرة المدى، قليلة الأثر على الأجيال الحاضرة. انتهت الحركة الإصلاحية إلى محافظة دينية، وتحوَّلت الليبرالية إلى نُظمٍ فرديةٍ تسلطية، كما انقلب التيار العلمي إلى ممارسات للخرافة وعودة إلى الإيمان.

بدأَت الحركة الإصلاحية على يد الأفغاني مستنيرة، تعتمد على العقل، خاصة عند محمد عبده، بالرغم من انتماءاتها السلفية والصوفية، تدعو إلى الأخذ بأساليب التقدم الحديث؛ العلم والصناعة، وتدعو إلى تأسيس نُظم سياسية تقوم على الحرية والديمقراطية مُمثَّلة في المجالس النيابية، والحكومات الدستورية، والملكيات المقيَّدة؛ إن استحالت النظم الجمهورية. وواجهَت بجرأة شديدة قضايا الاستعمار، والعدوان الخارجي، ووسائل التخلف والطغيان الداخلي. وحاولَت توحيد الأمة في كيان واحد مركزه مصر؛ مصر والشام، مصر والسودان، مصر وشمال أفريقيا، أو مصر والأمة الإسلامية، أو مصر والجامعة الشرقية، في مواجهة الاستعمار الغربي الواحد؛ البريطاني أو الفرنسي أو الهولندي أو البرتغالي أو الإسباني. ثم خبَت إلى النصف عند محمد عبده ارتدادًا عن الثورة السياسية الشاملة، وإيثارًا لمناهج التربية والإصلاح الديني والخُلُقِي، ونكوصًا عن التغيير السياسي في جيلٍ واحد، ورغبةً في حركةٍ طويلة الأمد، تمتد عدة أجيال، وتراجعًا عن وحدة الأمة الشاملة إلى وطنية ضيقة محدودة بالحدود السياسية. اشترك في الثورة العرابية ثم نكص عنها وطعنها في الخلف، عادى الإنجليز ثم صادقَهم، قاوم توفيق ثم صادقَه، اقترب من المعتزلة في العدل وتراجع عنهم في التوحيد، فكان نصفه مستنيرًا تقدميًّا ونصفه الآخر محافظًا سلفيًّا؛ لذلك كان الأفغاني يمسك بتلابيبه ويقول له: والله إنَّك لَمُثبِّط!

ثم خبت الحركة الإصلاحية إلى المنتصف مرةً أخرى على يد تلميذه رشيد رضا، الذي تحوَّلَت الحركة الإصلاحية على يدَيه إلى سلفية مُعلنة. فعاد إلى محمد بن عبد الوهاب، الذي أعاده إلى ابن القيم وابن تيمية أولًا، ثم إلى أحمد بن حنبل ثانيًا؛ فبدلًا من الانفتاح على أساليب المدنية الحديثة، آثر الانغلاق والهجوم على الغرب. وبدلًا من الدفاع عن الاستقلال الوطني للشعوب، وكرد فعل على الحركات العلمانية في تركيا، دافع عن الخلافة بعد إصلاحها، ضعف العقل لحساب النبوة، وقلَّ تحليل الواقع، ووصف حركة التاريخ لحساب تفسير المنار، وشرح النصوص، وتحوَّلَت «العروة الوثقى» من جريدة نضال يومي ومعارك الاستعمار والتخلف إلى مجلة «المنار»، مجلة ثقافية حضارية عامة تتوارى عن السياسة، وتظهر في العلم والمعرفة. وهنا ظهر «حسن البنَّا»، تلميذ رشيد رضا في دار العلوم في ١٩٣٥م، مُحاولًا إحياء المنار من جديد في ١٩٣٦م، فأخذ السلفية، وحاول العودة بها إلى حماس الأفغاني ونشاطه، ونظرته الشمولية، وعدائه للاستعمار والتخلف، وحاول إكمال ما نقص الأفغاني، مُحقِّقًا هدفه في تجنيد الجماهير الإسلامية، فأسَّس جماعة الإخوان المسلمين، كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة، التي خرجَت الجماعات الإسلامية الحالية من ثناياها، دون وعيٍ كافٍ بمصادرها. وتتجلَّى فيها الحركة الإصلاحية المعاصرة، بعد أن خبت إلى النصف عدة مرات.

أمَّا التيار الليبرالي؛ الذي بدأه الطهطاوي، فقد ارتبط بالإسلام في تصوُّره للدولة الحديثة، وأعاد اكتشاف مبادئ الحرية والإخاء والمساواة، التي سمع بها في فرنسا في التراث الإسلامي. وكتب في سيرة النبي «ساكن الحجاز»، في نفس الوقت الذي يُعجب فيه بحضارة الغرب في «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». كان المنظِّر لدولة محمد علي، مُؤسِّس الدولة المصرية الحديثة، دولة قوية، تخلُف الدولة العثمانية. فأسَّس الروح الوطنية المصرية، وجعل حب الوطن من الإيمان، نظر للنهضة القومية في «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية»، ودعا إلى تربية البنات في «المُرشد الأمين في تربية البنات والبنين»، وأيَّد الدعوة بنظرة الإسلام للتعليم الذي يتساوى أمامه المسلم والمسلمة. ترجَم هو وأعضاء البعثات العائدون أُمهات الكتب، في شتى نواحي العلوم والآداب، لا فرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الأدبية.

ولكن خبتْ هذه الحركة أيضًا إلى النصف، على يد مُمثِّلي الليبرالية في الجيلَين الثاني والثالث عند لطفي السيد، وطه حسين والعقاد؛ فقد عاد لطفي السيد إلى مصر للمصريين، ولكن خبا روح الإسلام من النداء كما أطلقه الأفغاني لصالح الحركة الوطنية العامة. وزاد الانفتاح على التُّراث الغربي المُعاصر، أو في روافده الأولى في التراث اليوناني القديم. ثم جاء طه حسين، واستمرَّت الاستنارة العقلية، وتحوَّلت الليبرالية على يدَيه إلى إعمال للعقل في نقد التراث الأدبي وفي نقد الأوضاع الاجتماعية، ولكن خَبا الإسلام لصالح الغرب، وحاول ربط مصر بحضارة البحر الأبيض المتوسط، التي يمَّحي فيها الصراع بين الإسلام والغرب، وكما وضح ذلك في «مستقبل الثقافة في مصر». وقد أثار ذلك التيار الإسلامي السلفي وبدأت موجات التكفير. وقد دفع ذلك العقاد إلى تغليب الإسلام، والعودة به إلى الصفاء الأول، وجمع بين الرومانسية الأدبية والرومانسية الدينية، فكتب «العبقريات»، وسِير الأبطال الأوائل، ووضع الإسلام في مواجهة الغرب، والقديم في مقابل الجديد، مما جعل الحركة الإسلامية في مواجهة الغرب، والقديم في مقابل الجديد، مِمَّا جعل الحركة الإسلامية تجد فيه مُنطلقًا جديدًا لها؛ تُحرِّم مؤلفات طه حسين في معارض الكتب الإسلامية في الجامعات، وتُبرز العبقريات. ثم انتهت الليبرالية تمامًا عند خلفاء العقاد، وظهر كُتَّاب إسلاميون، أقرب إلى السلفية منهم إلى العقلانية، يُكفِّرون طه حسين من جديد، ويضعون الإسلام في مواجهة العقل والعلم والنظم الديمقراطية، ويُظهِرون جوانبه الإلهية على حساب الجوانب العقلانية، فانتهت الليبرالية في هذا القرن، وسادت موجات التكفير لكل فكرٍ جديد، وأصبح كل اجتهاد بدعة. وظهرَت كتاباتٌ دينية عن عالم الجن، والملائكة، وأولياء الله الصالحين، وصحابة رسول الله. وتاب علي عبد الرازق عن «الإسلام وأصول الحكم». وكفَّر خالد محمد خالد عن ذنبه «من هنا نبدأ». وقد أعطى هذا الانقلاب في الحركة الليبرالية دفعةً جديدة للأصولية الإسلامية، وانصَب فيها بعد أن كان قائمًا عليها في البداية.

أمَّا التيار العلمي العلماني الذي بدأه شبلي شميل، ويعقوب صروف، ونقولا حداد، وإسماعيل مظهر، وزكي نجيب محمود، فقد بدأه المسيحيون في الشام، المهاجرون إلى مصر، كرد فعل على الحركة الإسلامية، دفاعًا عن الأقليات، وتحت أثر المُبشِّرين، دعَوا إلى القومية والوطنية والعلمانية، كما دعَوا إلى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. نقلوا العلم الحديث، والعقلانية الحديثة، والنُّظم الديمقراطية الحديثة، وعلوم العمران. ولكنَّهم أيضًا جعلوا الدين علاقةً خاصة بين الإنسان والله، والقانون الوضعي علاقة الإنسان بالإنسان. ازداد الارتباط بالغرب، وأصبح الغرب هو نمط التحديث، تُقلِّده كل الشعوب، وتقتفي أثره كل الحضارات، بل وأصبح المصدر الوحيد للعلم والأدب والفكر والاجتماع والسياسة والقانون. وظهرَت الدعوات للتتلمذ على الغرب، «هؤلاء علموني»: فولتير، وجيته، ودارون، وفيسمان، وإبسن، ونيتشه، ورينان، ودستويفسكي، وثورو، وتولستوي، وفرويد، وسميث، وأليس، وجوركي، وشو، وغاندي، وولز، وشفيتزر، وجون ديوي، وسارتر. وانتهى ابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، والسيوطي، فلم يعلموا أحدًا منَّا شيئًا! وبدأَت النظم العلمانية الغربية، كالاشتراكية أو القومية، تظهر كبديل عن النظام الإسلامي. وبدأَت الحياة اليومية تبتعد شيئًا فشيئًا عن التقاليد الإسلامية باسم المدنية والحياة العصرية. وبالرغم من أنَّ الأفغاني كان صديقًا لشبلي شميل، إلَّا أنَّ هذه الصداقة بين الحركة الإسلامية والفكر العلماني في البداية انتهت إلى العداء، ثمَّ إلى القطيعة عند سلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وزكي نجيب محمود. وكي يعيش التيار، انقلب «الإسلام … أبدًا». وحاول زكي نجيب محمود التأقلم، ويُعيد اكتشاف التراث، مُسقِطًا عليه ولاءاته للمذاهب الغربية، ولكن ما خلَّفه التيار العلمي العلماني من آثار انطوى، ولم يظهر إلَّا ما سبَّبه من ردود أفعال لدى الأصولية الإسلامية. فربَّى فيها العداء الشامل للغرب بكل محامده ومآسيه، فانتهى العلم، وانتهت منجزات العصر الحديث، وعادى أعضاء الجماعة الإسلامية الراديو والتلفزيون. وانتهى كل ذلك إلى المادية والإلحاد، والطعن على الإسلام والمسلمين. ويظهر ذلك من التحقيقات في معاداة خالد الإسلامبولي سماع الراديو والتلفزيون، ورفض أعضاء الجماعة الإسلامية العلاج في عيادة التكافل الاجتماعي والاكتفاء بالطب النبوي (التحقيقات، ص٣٠٨).

وهكذا انتهى فجر النهضة الإسلامية العربية الحديثة، ولم نرَ ضُحاها أو ظُهرها، وحلَّ ليلُها بسرعة، وسادت روح المحافظة الدينية، وكأنَّ الصاروخ قد هبط إلى الأرض بمجرد أن ارتفع، ولم يستطع خرق حُجُب السماء إلى رَحْب الفضاء، فظهرَت الأصولية الإسلامية على أنَّها الرصيد التاريخي الوحيد الباقي على مَر العصور، حامي حِمى الإسلام ضد الغرب.

(٣) ازدهار الحركة الإسلامية المعاصرة (الإخوان المسلمون ١٩٢٧–١٩٥١م)٤

بدأ حسن البنَّا دعوته في الإسماعيلية على ضفاف القناة، وهو يُشاهد جنود الاحتلال، فارتبطَت الدعوة الإسلامية بالحركة الوطنية منذ البداية في مصر. وعاصرت تطورها وازدهارها في الأربعينيات حتى وقع الصدام بينهما في الخمسينيات، بعد اندلاع الثورة المصرية في أقل من عامَين، وأصبحَت الدعوة على مدى خمسة وعشرين عامًا (١٩٢٧–١٩٥١م) معادِلة للصحوة الإسلامية الجديدة، محاوِلة تجديد الحركة السلفية، كما وصلَت عند رشيد رضا بالرجوع إلى مشروع الأفغاني الأول؛ الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والتخلف في الداخل، بالإضافة إلى تأسيس تنظيمٍ شعبي تكون ركيزته في مصر، نظرًا لأسفار الأفغاني التي منعَتْه من الاستقرار وتأسيس مثل هذا التنظيم.

وقد امتازت الحركة بالآتي:

  • (١)

    ارتباط الدعوة بالحركة الوطنية المصرية، خاصة في الأربعينيات، ودخول بعض أعضائها اللجنةَ المصرية للطلبة والعُمَّال في ١٩٤٧م، بالرغم من عدم انضمام الجماعة الرسمي خطأً منها في التحليل السياسي، ونظرًا لسيادة وجهة النظر الشمولية على تصوُّرها للإسلام، الذي لا يقبل التعاون مع أي تيارٍ علماني آخر، بعد أن خسرَت العلمانية أرضيتها الإسلامية، وارتبطَت بمشروع مصر القومي، مناهضة الاستعمار، والنضال من أجل الاستقلال. وكان الاستعمار ينظر إليها بحق على أنَّها العدو الرئيسي له في المنطقة، بعد أن استطاع احتواء بعض الأحزاب، وخلق علاقات للبعض الآخر مع القصر، واستمالة بعض أعضاء الأحزاب الوطنية.

  • (٢)

    شعبية الدعوة، وتغلغُلها في أوساط العُمَّال والفلاحين والطلبة والمثقفين، وانتشارها في محافظة الشرقية في مواجهة جنود الاحتلال، وفي الجامعات في الأوساط الطلابية؛ حيث كان الإسلام هو الانتماء الفكري الوحيد الأصيل في مواجهة العلمانية والماركسية الغربية. وكان المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية وكأنَّه بيتٌ جديد للأمة، تنصهر فيه جميع الطوائف، وتظهر فيه وحدة مصر الوطنية. وكانت انتخابات اتحادات الطلاب بالجامعة قُبيل الثورة تُعطي مرشَّحي الإخوان ٩٥٪ من أعضاء الاتحاد، في الوقت الذي كان فيه المد الشعبي الوفدي، وكما ظهر في انتخابات ١٩٥١م في الذروة. وكان نداء «الله أكبر، ولله الحمد» كفيلًا بهز الجامعة، وخروجها عن بكرة أبيها؛ مِمَّا يجعل أي تحليل طبقي لنشأة حركة الإخوان المسلمين مستحيل التطبيق عمليًّا، ومِمَّا يكشف قدرة الدعوة الإسلامية على اختراق كافة الطبقات والطوائف.

  • (٣)

    نشاط الدعوة وفاعلية التنظيم؛ بحيث كان يُمكن الدعوة لأي مؤتمرٍ عام في أقل وقتٍ ممكن. وكان التنظيم الهرمي من القمة إلى القاعدة، أو من القاعدة إلى القمة، كفيلًا بتماسك الجماعة. ولم يكن يُضارعه إلَّا التنظيمات الشيوعية السرية. وكان نظام الأُسر، والتعارف بين أعضائها، كفيلًا أيضًا بتجنيد أعضاء جدد، ثمَّ الترقي في السلم الهرمي «حتى مكتب الإرشاد». وقد ركَّزت الجماعة على الجانب الرياضي والكشفي وفرق الجوَّالة والمعسكرات الصيفية من أجل تربية البدن؛ لأنَّ المؤمنَ القوي خيرٌ من المؤمن الضعيف، بالإضافة إلى العبادة والتربية الروحية من أجل خَلْق «فرسان بالنهار ورهبان بالليل». وبهذه الروح تمَّ إنشاء تنظيم سري من أجل التدريب على حمل السلاح؛ سواء في مواجهة الاستعمار في الخارج، أو قُوى التسلط والطغيان في الداخل، من أجل تأسيس الدولة الإسلامية. ولا ضَير في استعمال القوة إذا ما حانت الفرصة ولو بالاستيلاء على السلطة، فذاك مُقرَّر شرعًا عند الفقهاء؛ لذلك لم تكن الاغتيالات السياسية مستبعدة «النقراشي، أحمد ماهر … إلخ». ولم يكن العنف الثوري مستهجنًا؛ فقد كان إحدى الوسائل المطروحة في الأربعينيات للتغيُّر الاجتماعي والسياسي، كعنفٍ مضادٍّ ضد عنف السلطة الممثَّلة في الجيش والبوليس والإنجليز والقصر وشتى أجهزة القمع؛ أمين عثمان، سليم زكي، محافظ القاهرة. وقد بلغ ذلك العنف الذروة في حريق القاهرة، في يناير ١٩٥٢م.

  • (٤)

    وبالرغم من كل ما يُقال عن التعاون بين الإخوان والقصر، والاستشهاد بالعبارة المشهورة التي قالها زعيم الإخوان إثر مقابلته للملك «مقابلة كريمة لملك كريم»، إلَّا أنَّ العداء بين حركة الإخوان المسلمين، باعتبارها جزءًا من القوى الوطنية في مصر، وبين القصر كان مشهودًا؛ فلم يكن الإسلام ليقبل النظام الملكي، أو يعترف بإمام للمسلمين لا تقوم ولايته بيعة وشورى. وكان القصر يُبادل الجماعة عداءً بعداء؛ مِمَّا كلَّف الإمام الشهيد حسن البنَّا حياته في ١١ / ٢ / ١٩٤٩م، كهدية قدَّمَتْها له أجهزة الأمن في عيد ميلاد الملك. وقد قيل نفس الشيء، مهادنة القصر والتعاون معه، بالنسبة لحزب الوفد، من أجل تشويه الحركة الوطنية المصرية برافدَيها الديني والعلماني، وإلغاء الفارق بين الأحزاب الوطنية وأحزاب القصر.

  • (٥)

    اشتراك الجماعة في حرب فلسطين في ١٩٤٨م، واندفاعها في الحرب الشعبية طلبًا للشهادة؛ مِمَّا أثار إعجاب الجيش، وكذلك اشتراكهم في المقاومة الشعبية في قناة السويس ١٩٥١م، بالتنسيق مع الضباط الأحرار «كمال الدين حسين، كمال رفعت». فأصبحَت إحدى القوى الوطنية الرئيسية؛ مِمَّا جعل الإنجليز وإسرائيل يتربَّصون بها ويخشَونها، باعتبارها تُمثِّل مستقبل مصر وقوَّتها القادرة على التصدي للاستعمار والصهيونية دون هوادة أو مساومة، واستمرار هذا الخط الوطني حتى الجماعات الإسلامية في عدائها للاستعمار الصليبي والصهيونية، والتعبير عن أخصِّ خصائص الإسلام في التحامه بالشعوب حتَّى يُصبح مرادفًا للحركة الوطنية، كما هو الحال في مصر والجزائر والمغرب والفلبين والسودان وليبيا وتركيا، ومحافظًا على خصائص الشعوب القومية، كما هو الحال في أوروبا الشرقية والجمهوريات الإسلامية بالاتحاد السوفييتي.

  • (٦)

    الانفتاح على العالم العربي والإسلامي؛ إذ أصبح «المركز العام» للإخوان المسلمين محور التقاء لشتى الحركات الإسلامية، وفيه بدأَت أواصر مصر مع دوائرها الطبيعية. كانت حركة الإخوان وثيقة الصلة بحزب الاستقلال، وبعلال الفاسي في المغرب، وبرابطة علماء الجزائر، وبالحركة الإسلامية بالسودان وسوريا والأردن واليمن. وشاركَت في الثورات الوطنية في اليمن ضد نظام الأئمة. وكانت ذات صِلات قوية بالنهضة الإسلامية في الهند وإندونيسيا والملايو والفلبين وتركيا وإيران. وكانت كتابات أبي الحسن الندوي من الهند، وأبي الأعلى المودودي من باكستان، تُعادل كتابات حسن البنَّا، وسيد قطب، وعبد القادر عودة، ومحمد الغزالي في مصر، وتُساهم في التثقيف الديني والوعي الإسلامي للشباب. وكانت من أهم أهدافها الدعوة إلى وحدة العالم العربي والإسلامي، واستقلاله، وعدم انحيازه شرقًا أو غربًا، وتأسيس حركة الآسيوية الأفريقية على أُسس إسلامية، كما كانت مُعظم الشعوب الإسلامية في آسيا وأفريقيا، فقدَّمَت مصر للعالم الإسلامي كما قدَّم العالم الإسلامي لمصر.

  • (٧)

    الانفتاح على تجارب الأمم، والتعلُّم من الآخرين؛ فالأصالة لا تعني الانغلاق، والحفاظ على الهوية لا يعني العداء للآخرين؛ وبالتالي استمرَّت في تيار الحركة الإصلاحية الدينية عند مؤسسيها الأوائل وإن كان بدرجةٍ أقل. وكان تعلُّم وسائل التقدُّم الحديث وسُبل النهضة المعاصرة؛ من علم وفن وصناعة، والأخذ بعلوم الوسائل، أحد مقوِّمات المسلم المعاصرة، فكانت دعوةً عصريةً تجديدية، خاصة عند مؤسِّسها «حسن البنَّا»، قبل أن تنغلق على نفسها؛ نظرًا لظروف الدعوة واصطدامها بالثورة المصرية في الخمسينيات والستينيات، وتولُّد الجماعات الإسلامية الحالية.

  • (٨)

    صياغة برنامج إصلاحي شامل تظهر فيه أفكار العدالة الاجتماعية، والمساواة، والحرية، والوحدة، والسلام، وعدم الانحياز، والاستقلال عن مناطق النفوذ. كانت قادرةً على أن تكون بديلًا مطروحًا على الساحة المصرية في الحياة الوطنية؛ إمَّا بمفردها أو بالتعاون مع القوى الوطنية الأخرى، وتقديم برنامجٍ إصلاحي مشترك بين الإخوان، والطليعة الوفدية، والأحزاب الماركسية، ومصر الفتاة، والحزب الوطني، حول شخصية المفكر الإسلامي الكبير الإمام الشهيد سيد قطب في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، حين كان يكتب في جرائد الأحزاب السياسية ومجلات القوى الوطنية جميعًا، وبلا استثناء. وقد وُئدَت الحركة في مهدها، بعد الصراع بين الثورة والإخوان، واختفت تمامًا في الجماعات الإسلامية؛ كنتيجة طبيعية لهذا الصراع، باستثناء بعض المشايخ ضحايا سبتمبر ١٩٨١م.

  • (٩)

    كانت الجماعة تُمثِّل دعوة طاهرة ونقية في أذهان الناس، بالمقارنة بالأحزاب القائمة وقتئذٍ، وانتشر الحديث عن صدق الدعوة في مقابل فساد الأحزاب؛ وبالتالي كانت تحظى باحترام الجميع. حاولَت جميع الأحزاب الوطنية مخاطبة ودِّها. ولا يُوجد زعيم وطني إلَّا واتصل بها؛ إمَّا بالانضمام إليها، أو بالتعلم منها وحضور ندواتها والاستماع إلى محاضراتها، فكانت «الدعوة» مدرسة للتربية الوطنية والدينية. وكان الاختيار الوحيد المطروح أمام طهارة الشباب وحكمة الشيوخ. وكانت القدوة أحد مظاهر الصدق، فكان أعضاء الجماعة يُركزون عليها؛ حتَّى يكون الأخ المسلم إسلامًا يتحرَّك، يجذب إليه الأنظار كقدوةٍ حسنة.

  • (١٠)

    تنشيط الأزهر، أكبر جامعة إسلامية، وانتشار الدعوة بين أساتذتها وطلابها، وتكوين حركة معارضة فيه تُقاوم التعاون مع السلطة القائمة وتبرير قراراتها، وتدعو إلى استقلال المؤسَّسات الدينية عن السلطة السياسية، وتكوين خطباء وأئمة من الأزهر والدعوة. أصبحَت لهم شهرة وسمعة، حتَّى أصبح الأزهر المكان الطبيعي للدعوة مثل الجامعات. ونشطَت وزارة الأوقاف في الدعوة، وتغيَّرت إلى حدٍّ ما صورة «رجل الدين» في أذهان الناس، فأصبح رجلَ قولٍ وعمل، طهارة وسلوك، وموضع تقدير واحترام من الجميع. وقد ضاع ذلك كله فيما بعدُ بتحويل الأزهر إلى تابعٍ للسلطات، حتَّى كفَّرت الجماعة الإسلامية مشايخه وكل من يُصلُّون في مساجد الأوقاف!

ومع ذلك، وبالرغم من هذه الصورة الناصعة التي كانت لدعوة الإخوان منذ نشأتها حتى بداية الثورة المصرية كانت لها بعض الجوانب السلبية؛ نظرًا لظروف التخلف العامة في البلاد. وهي الجوانب التي تظهر في القوى الوطنية والأحزاب السياسية الأخرى. وهي الجوانب التي استمرَّت في الجماعات الإسلامية في السبعينيات، بعد إظلام الصورة الناصعة الأولى التي جهلَها صغار السن، أعضاء الجماعات الإسلامية الحالية، الذين نشَئوا في ظروف اضطهاد الحركة الإسلامية. وأهم هذه الجوانب السلبية هي:

  • (١)

    انحسار العقل عمَّا كان عليه في الحركة الإصلاحية الأولى، خاصة عند محمد عبده، والتركيز على أولوية الإيمان على العقل؛ مِمَّا جعل الجماعة دينيةً أكثر منها عقلانية، تبدأ من الإيمان كمُسلَّمة لا تقبل النقاش؛ وبالتالي سادت العاطفة، وعمَّ التعصب أحيانًا، فزاد التصلُّب، وقلَّ الحوار، وضاق الأفق. وهو ما ظهر في الجماعات الإسلامية في السبعينيات مضاعفًا مرتَين أو أكثر؛ نظرًا لتهيئة الظروف على تقلُّص الإيجابيات وتضخُّم السلبيات.

  • (٢)

    سيطرة فكرة «الحاكمية» كأساس للدولة الإسلامية؛ مِمَّا يُقوِّض النظام القائم تمامًا، من حيث الشرعية، دون بحث للنُّظم القائمة بحثًا موضوعيًّا، فليس كل ما فيها حكم الشيطان، وقانون الكفر، ومجتمع الجاهلية، بل يُمكن تأييد ما اتفق مع الشرع وتغيير ما خالف الشرع. وهي الفكرة التي استُخدمَت فيما بعدُ كأهم مِعولٍ للانقضاض على السلطة القائمة، واغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، بعد أن ترسَّخَت في أذهان أعضاء الجماعة الأم، وما تولَّد عنها من جماعاتٍ صغيرة، من خلال سيد قطب، وتحث أثر أبي الأعلى المودودي، وسيادتها على معظم الجماعات الإسلامية، وفي مقدمتها جماعة الجهاد.

  • (٣)

    إقامة الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة الإسلامية تنفيذًا للقانون الإلهي وطاعةً للإرادة الإلهية، دون إبراز جوانب المصلحة العامة التي هي أساس التشريع، ودون نظر إلى الأضرار التي قد تنجم عن هذا التطبيق في المجتمعات المعاصرة إذا ما كان تطبيقًا فوريًّا صوريًّا مفروضًا دون تهيئة الظروف الملائمة له والإعداد الصحيح لذلك؛ لذلك بدأ الناس يتخوفون من الدعوة وينفرون من صورتها، خاصة وأنَّ الشريعة الإسلامية كانت تعني الحدود؛ أي قانون العقوبات؛ أي المحرمات دون المباحات، ومطالبة المسلم بواجباته قبل إعطائه حقوقه. وهو ما ظهر في السبعينيات كاحتكارٍ للسلطة وكدعوةٍ للجماعات في آنٍ واحد.

  • (٤)

    إحداث التغيُّر الاجتماعي عن طريق إحداث انقلاب في السلطة، والاستيلاء على السلطة السياسية عملًا بالقول المأثور «إنَّ الله يزعُ بالسلطان ما لا يزعُ بالقرآن»، ودون انتظار لانتشار الدعوة بين الناس، ومطالبة الجماهير بها، فتأتي على أكتاف الجماهير بدلًا من أن تأتي فوق رقاب الناس. وطالما استولت أحزاب على السلطة دون أن تُحدث أي تغييرٍ اجتماعي، مثل بعض أحزاب الأقلية قبل الثورة المصرية. وطالما ظلَّت اتجاهاتٌ خارج السلطة وكان لها أكبر الأثر في إحداث تَحوُّلات أساسية في المجتمع مثل الإخوان المسلمين، والحزب الوطني، وحزب مصر الفتاة؛ لذلك تحدث الانفجارات السياسية، وتُتهم الجماعات الإسلامية بين الحين والآخر بتهمة مُحاولة الاستيلاء على نظام الحكم بالقوة، كما حدث لجماعة الإخوان المسلمين في ١٩٥٤م وفي ١٩٦٥م، ولحزب التحرير الإسلامي، وحادثة الاستيلاء على الفنية العسكرية في ١٩٧٤م، ثمَّ لجماعة الجهاد في ٦ أكتوبر ١٩٨١م. ومِمَّا يُبيِّن عودة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية إلى مشروع الأفغاني للانقلاب السياسي بعيدًا عن المنهج التربوي الأخلاقي لمحمد عبده.

  • (٥)

    استخدام القوة الفعلية لإحداث هذا التغيير في السلطة السياسية، واستعمال الجهاز السري لهذا الغرض، وإنشاء نظام عسكري شبه مسلح يكون نواة الجيش في الدولة الإسلامية المستقبلة؛ لذلك دخلَت الجماعة في صراع مع السلطة والنظام السياسي القائم، وفي صراع مُسلَّح في أغلب الأحيان بعد إطلاق النيران؛ إذ يقع الصدام بين أجهزة الأمن وبين الجهاز السري بالرغم من تفاوت القوى، ويكون الشعب في النهاية هو الخاسر؛ فلا الدولة الإسلامية قامت، ولا الأمن قد استقرَّ، ولا الدعوة الإسلامية قد استقرَّت ولا أصبح أعضاؤها مواطنين صالحين؛ وبالتالي تتقدم الدعوة خطوة وتتراجع خطوتَين.

  • (٦)

    الوقوع في جدل الكل أو لا شيء، فإمَّا أن يُقبل النظام الإسلامي ككل، أو يُرفض ككل، وإمَّا أن تُرفض الدولة العلمانية ككل فيكون موقفًا إسلاميًّا، أو أن تُقبل ككل فيكون موقفًا مناهضًا للإسلام. وغابت فكرة التدرج، وغاب منهج المراحل الذي كان أهم ما يُميِّز محمد عبده، فعاش أعضاء الجماعة مسلمين في دولة لا إسلامية، يُكوِّنون أُسرهم الخاصة، ويتصاهرون فيما بينهم، ويُكوِّنون جماعاتهم وشركاتهم ودورهم حتى تقوم الدولة الإسلامية، بؤرة إيمان وسط مجتمع كافر. وهو ما ظهر بوضوح في السبعينيات عندما انغلقَت الجماعات تمامًا، وكفَّرت الدولة العلمانية كما هو واضح في جماعة التكفير والهجرة، أو ناصَبتْها العداء، كما هو واضح في جماعة الجهاد.

  • (٧)

    تحوُّل أعضاء الجماعة إلى خارجين على النظام، وعصاة القانون، تتعقَّبهم أجهزة الأمن وكأنَّهم مجرمون بعد أن كانوا دُعاةً وهداةً. وتتم محاكمتُهم، وتصدُر عليهم أحكام الإعدام لتصفية زعمائهم، واستعداء الأزهر عليهم، حتى لقد أصبح الداعية الإسلامي باستمرار خريج سجون أو دخيل سجون؛ مِمَّا جعل البسطاء يخشَون منه، وجعل الأُسر تخاف على أبنائها وبناتها من الانضمام إليه، حفاظًا على مستقبل الآباء والأبناء. أصبح جزء منهم هاربًا من العدالة، والجزء الآخر شهداء، والبعض الثالث في السجون والمعتقلات. بدأ ذلك قبل الثورة المصرية على نطاقٍ محدود، ثمَّ اتسع بعد الثورة وفي عهدها على أوسع نطاق. وكان حسن الهضيبي قد نبَّه لهذا الأمر في «دعاة لا قضاة»، ولكنَّ الأمور تطوَّرَت في اتجاه آخر.

  • (٨)

    بالرغم من وجود بدايات تعاون بين كافة القوى الوطنية إلَّا أنَّ الرفض كان أكثر من القبول. وقد كان ذلك الموقف أحد أسباب انشقاق الحركة الوطنية المصرية في ١٩٤٧م، وكان أحد أسباب الصدام مع الثورة في بدايتها، عندما رفض الإخوان الاشتراك في الوزارة، بعد أن اعترضت الثورة على صغر سن أحد المرشَّحين، ثمَّ فُصل الشيخ الباقوري من الإخوان بعد قبوله الوزارة، مع أنَّ الحركة الإسلامية هي الوعاء الأكثر شمولًا، والأقدر على أن تكون بوتقة تنصهر فيها كل القوى الوطنية، كما حدث أخيرًا لدى بعض الأئمة والمشايخ والخطباء المستنيرين الذين كانوا ضحية انفجار سبتمبر/أكتوبر ١٩٨١م. وكيف يتم للجماعات الإسلامية الرافضة الدعوة في مجتمع وهي خارجه، تعيش على هامشه، تُناصِبه العداء، وهو يخشاها ويترقَّبها بحذَر، وإن كان يتعاطف معها، ويعطف على دعاتها، ويبكي على شهدائها؟

  • (٩)

    اتسم نظام الجماعة بالطابع الهَرمي الذي يستلزم الطاعة المُطلقة من القاعدة إلى القمة. وبالرغم من فاعلية التنظيم إلَّا أنَّه كان ينحو نحوًا تسلطيًّا، وهو الاتجاه العام في معظم التنظيمات في المجتمعات المتخلفة، حتَّى في الأحزاب الديمقراطية والتقدمية والماركسية فيها. كان المطلوب من الأعضاء الطاعة المطلقة وإلَّا كان جزاؤهم الفصل أو التأديب. صحيح أنَّه كانت تحدُث مناقشات وحوار داخل الأُسر على كافة المستويات، ومع ذلك كان المطلوب طاعة الرؤساء؛ مِمَّا جعل الإمارة فيما بعدُ لدى الجماعات الإسلامية الحالية محور التنظيم، وموضعًا للتنافس، ومطلبًا في حد ذاته، وسببًا للفرقة والتشتُّت، وخلق نوعًا من الحسد والغَيرة حول المناصب، والانتقال من درجة إلى درجة، والارتفاع من مرتبة إلى أخرى، ثمَّ الانتقال من التنظيم العلني إلى الجهاز السري، فإذا ما حدث العصيان انشقَّ الصف، وضاعت الوحدة، وانهارت الجماعة، وهو ما يُسبب الصراع على السلطة داخل الجماعة، كما حدث في بدايات الثورة المصرية. وقد ظهر الخلاف على الإمارة في «التحقيقات»، الإمارة العامة للدكتور عمر عبد الرحمن، والإمارات الخاصة والقسَم على الطاعة للأمير، وأنَّ طاعة الأمير من طاعة الله ورسوله (التحقيقات ص١٧٦، ١٨٢، ١٨٥، ٤٤٧).

  • (١٠)

    بالرغم من عداوة الجماعة للاستعمار الغربي وللمادية الإلحادية للمعسكر الشرقي، إلَّا أنَّها في فكرها وممارستها راحت ضحية التصوُّر الرأسمالي للعالم، وركَّزت على الاقتصاد الحر، والربح، والتجارة، والملكية، كله رزق من الله طبقًا للجهد، واستشهدَت بتاريخ المسلمين وبكبار الصحابة وبتجَّار مكة وبأغنياء قريش، ما داموا يُجهِّزون الجيوش، ويشترون العبيد ويُطلقون سراحهم، ويُطعمون الفقير، ويُساعدون المحتاج؛ وبالتالي ظهر العداء للاستعمار والصليبية دون أن يظهر عداء للرأسمالية. في حين ظهر العداء للاتحاد السوفييتي عداءً نظريًّا خالصًا، ضد المادية والإلحاد والماركسية، دون أن يظهر أي قبول لنظم العدالة والمساواة وتقديس العمل وتحريم الاستغلال.

وبالرغم من هذه السلبيات، إلَّا أنَّ الجماعة كانت تزهو بنفسها بإيجابياتها. ولم تتضخَّم السلبيات وتتوارَ الإيجابيات إلَّا في السبعينيات في الجماعات الإسلامية الحالية. كانت إيجابيات الدعوة تجذب الأنظار. وكانت الدعوة قُبيل الثورة المصرية قاب قوسَين أو أدنى من النصر، أو هكذا خُيِّل لها. ولم يكن يُضارعها في الشعبية إلَّا الوفد في اكتساحه الهائل لانتخابات ١٩٥١م، ولكن بعد حريق يناير ١٩٥٢م، وإقالة الحكومة الوفدية، وإعلان الأحكام العرفية، وتوالي الوزارات، واشتداد الأزمة الوطنية، وقع ما لم يكن في الحسبان، وانفجَرَت الثورة المصرية بقيادة الضباط الأحرار.

(٤) اضطهاد الحركة الإسلامية، الصراع بين الإخوان والثورة (١٩٥٢–١٩٧٠م)٥

كان الضباط الأحرار، وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، على اتصال دائم بكل الحركات الوطنية والقوى السياسية قبل الثورة. كان على اتصال بالوفد، ومصر الفتاة، وبالشيوعيين، والإخوان. وعرف «حسن البنَّا»، وكشف له عن تنظيم الضباط الأحرار وأهدافه ونواياه، ولكن لم يحدث الوفاق المطلوب؛ فقد طالب الإخوان أن يكون تنظيم الضباط الأحرار الجناح العسكري للإخوان في الجيش، ولكن حرص الضباط الأحرار على إبقاء تنظيمهم مستقلًّا استقلالًا تامًّا عن كافة القوى والأحزاب السياسية في مصر، وأنَّه لا يجوز على الضابط الحر أن يكون عضوًا في تنظيم آخر غير تنظيم الضباط الأحرار، وعليه أن يختار بينهما. ومع ذلك ظلَّت الاتصالات مستمرة، وساد الوفاق، وعمَّ الوئام؛ بين الضباط الأحرار والإخوان. فقد كان هناك ضابط اتصال بينهما «أبو المكارم عبد الحي» للتنسيق بين التنظيمَين. وكان هناك أعضاء من الإخوان من شعبة الجيش في تنظيم الضباط الأحرار «عبد المنعم عبد الرءوف، رشاد مهنا …»، بالإضافة إلى وجود بعض الضباط الأحرار المتعاطفين مع الاتجاه الإسلامي بوجه عام «كمال الدين حسن، حسين الشافعي مثلًا»، وقد كان الضباط الأحرار يُخفون الأسلحة التي يُهرِّبونها من الجيش داخل مخابئ أعدُّوها لدى الإخوان حتَّى تحين الفرصة للقيام بالثورة، وكانوا قد تعرَّفوا على بعض في ساحة القتال في فلسطين، وفي قناة السويس ١٩٥١م. ولقد بلغَت الثقة بين التنظيمَين أقصى درجة عندما أخطر الضباط الأحرار الإخوان بموعد الثورة، وتكليفهم بحراسة المنشآت العامة والبنوك والمؤسَّسات والوزارات والمصالح الحكومية والسفارات والهيئات الأجنبية، عشية الثورة وبعد قيامها.

واندلعَت الثورة المصرية، وظهر الوئام بين الإخوان والثورة منذ الساعات الأولى؛ فقد أصبح الإخوان السند الشعبي والتنظيم الجماهيري الذي اعتمدَت عليه الثورة في أيامها الأولى، نظرًا لغياب أي تنظيمٍ شعبي آخر، وقبل إنشاء هيئة التحرير كبديل عن الإخوان. كما ظهر التيار الإسلامي بوضوح داخل مجلس قيادة الثورة، ولدى رئيس المجلس اللواء محمد نجيب، الذي دعا إلى الوحدة الإسلامية الشاملة في جامعة القاهرة أمام جماهير الطلاب من الإخوان. كما استثنت الثورة الإخوان من تطبيق قانون حل الأحزاب؛ لأنَّها لم تتسم بالفساد الذي استشرى في الأحزاب. كما أعلَنت الثورة في بياناتها الأولى أنَّ من بين دوافعها التحقيق في اغتيال الإمام الشهيد حسن البنَّا، والاقتصاص من القتلة؛ إرضاءً للإخوان وكسبًا لتأييدهم.

ومع ذلك فقد ظهرت بدايات الخلاف بين الثورة والإخوان؛ نظرًا للصراع الداخلي بين الضباط الأحرار، ولصراع داخلي آخر داخل الإخوان؛ مِمَّا شتَّت الجهود، ومزَّق الصفوف. ونظرًا لِما تتسم به المجتمعات المتخلفة دائمًا على الصعيد السياسي من الصراع حول السلطة وغياب الوحدة الوطنية، فقد أحسَّ الضباط الأحرار بأنَّ الإخوان يُمثِّلون تحديًا شعبيًّا لهم، وبأنَّهم يُظهرون قوتهم وقوة تنظيماتهم الرياضية والكشفية في كل المناسبات، خاصة داخل أسوار الجامعة، وأنَّ الحركة الإسلامية نظرًا لرسوخها وشعبيتها ما زالت تُمثِّل قطب جذب لم تستطع المبادئ الستة أن تقوم بمثلها، بالرغم من التأييد الشعبي الهائل للثورة. وقد بدأ الخلاف حول اشتراك الإخوان في الوزارة، ورفض مجلس قيادة الثورة مرشَّح الإخوان الشاب، ورفض الإخوان ترشيح غيره، وكأنَّ الإخوان يستصغرون سن الضبَّاط، ويرسلون إليهم مَن هم في مثل سنهم. كما بدأ ظهور الشقاق بين أعضاء مجلس قيادة الثورة؛ بين التيار الديمقراطي الذي يُريد عودة الجيش إلى الثكنات والعودة إلى الحكم المدني والنظام الدستوري، والتيار التسلطي الذي يريد الاحتفاظ بالسلطة والحكم باسم الثورة. وكان على رأس التيار الأول، وهكذا بدا الأمر أمام الشعب، رئيس مجلس قيادة الثورة وخالد مُحيي الدين، وعلى رأس التيار الثاني جمال عبد الناصر وباقي الرفاق. فانحاز الإخوان إلى نجيب. ورأى نجيب فيهم سندًا وعونًا ضد صغار الضباط. ثمَّ تمَّت تصفية التيار الإسلامي الإخواني من مجلس قيادة الثورة، فهرب عبد المنعم عبد الرءوف، وأُزيح رشاد مهنا، بعد أن كان وصيًّا على العرش. ومع ذلك سيطر الإخوان على الجامعة، وبدأ التوتر بين الإخوان وبين هيئة التحرير كتنظيمٍ جديد منافس، ورفض الإخوان الحد الأدنى للملكية الزراعية في قانون الإصلاح الزراعي، الذي صدر بعد أقل من شهرين من انتصار الثورة؛ مِمَّا يدل على تسرُّب التصوُّرات الرأسمالية إلى أذهان الجماعة.

ولقد دام هذا التوتر أقل من سنتَين، حتَّى حدثَت أزمة مارس ١٩٥٤م. وكانت بداية الصراع بين رفقاء الأمس. وتفاقمَت الأزمة يومًا بعد يوم، حتَّى انتهت بالصدام الحتمي الدموي في يوليو ١٩٥٤م، إثر حادث المنشية. وقد اشتدَّت الأزمة، خاصة بعد عقد معاهدة الجلاء بين مصر وبريطانيا في مارس ١٩٥٤م، التي تُعطي بريطانيا الحق في العودة إلى قاعدة التل الكبير، واستعمال مطارات القناة في حالة الحرب؛ وبالتالي ارتبطَت مصر ببريطانيا من جديد. وبدأ الإخوان ينقدون بنود المعاهدة، ويخطبون في المساجد وعلى المقاهي؛ حفاظًا على استقلال مصر؛ فقد قبلَت الثورة أقل مِمَّا كانت تنادي به الحركة الوطنية مجتمعة في ذات الوقت، ومنذ اشتعالها في الأربعينيات. كما ظهر الطابع التسلطي على مجلس قيادة الثورة، ورغبة عبد الناصر في الاستئثار بالسلطة، وعجزه عن الرد على انتقادات الإخوان للمعاهدة. ثم وقعت حادثة نواب صفوي زعيم فدائيان إسلام في إيران في الجامعة المصرية، عندما حملَه الإخوان على الأعناق داخل الحرم الجامعي، والصدام بينهم وبين هيئة التحرير وحرق عربتها، وضرب أتباعها. ثم وقع حادث المنشية، ومحاولة اغتيال عبد الناصر في ٢٦ يوليو ١٩٥٤م، في ميدانٍ عام، وفشل المحاولة.

وقد تكون محاولة العرض العسكري في ٦ أكتوبر ١٩٨١م، من الجماعة الإسلامية وليدة الإخوان اغتيال الرئيس، خليفة جمال عبد الناصر، ونجاحها أكبر رد فعلٍ من التيار الإسلامي، وأخذًا بالثأر مما حدث للجماعة في عمر الثورة، وبصرف النظر عن التحقق التاريخي من صدقها، ومن الذي دبَّرها، وتنكُّر الإخوان لها، وإن قام بعض أعضائها بتنفيذها على مسئوليتهم الخاصة، فقد كان الحادث البداية الفعلية للصراع، فحُلَّت الجماعة، وقُبض على أعضائها، وتمَّت مطاردة زعماء الجهاز السري، وتمَّت محاكماتٌ علنية للإخوان، واستُشهد ستة من أعضائها، من بينهم فرغلي قائد المقاومة ضد الإنجليز في القناة، وعبد القادر عودة من كبار مجددي الإسلام في القانون الجنائي. وتمَّت أكبر حركة تعذيب شهدها التاريخ في السجون والمعتقلات، وبلغت حدًّا لا يصدقه عقل، تحتويه عشرات الكتب التي خرجَت في السبعينيات عن أهوال التعذيب؛ مِمَّا كان له أبلغ الأثر على تكوين الجماعات الإسلامية الحالية داخل السجون وخارجها، وكما يبدو ذلك بوضوح في «التحقيقات» وفي الدرس المستفاد من الصلة بين تجربة الإخوان مع الثورة.٦
ثم حدث داخل السجون والمعتقلات، وتحت أهوال التعذيب وآلام البدن وعذاب النفس أكبر تحول خطير في فكر جماعة الإخوان والأبنية النفسية لأعضائها، ومناهج سلوكها في فكر داعيتها ومفكرها الأول الإمام الشهيد سيد قطب؛ فقد بدأ سيد قطب ناقدًا أدبيًّا وشاعرًا منذ أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات. وأصدر ديوان شعر «الشاطئ المجهول»، ودراسة نقدية «مهمة الشاعر في الحياة». وكان يُبشِّر بمولد ناقد وأديب من الأدباء الشُّبان، يدافع عن الشباب ضد الشيوخ، ويدافع عن الجديد الذي كان يُمثِّله العقَّاد في مواجهة القديم الذي كان يُمثِّله طه حسين. وفي أواخر الأربعينيات بدأ يكتشف الجانب الأدبي في الإسلام عن طريق النقد الأدبي، والتصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة في القرآن. وكان إعجاز القرآن الأدبي بداية تحوُّل لاكتشاف الإسلام ذاته في جوانبه العقائدية والفلسفية والتشريعية. وفي أتون الحركة الوطنية، وفي معترك النضال السياسي، وهي البيئة التي خرج منها أيضًا تنظيم الضباط الأحرار كان الإمام الشهيد محور الحياة الوطنية، ونقطة التقاء بين التيارات السياسية، وحلقة وصل بين القوى الاجتماعية، فكان على صلة وطيدة بالتنظيمات الماركسية «حدتو»، والوطنية «مصر الفتاة»، والوفد «الطليعة الوفدية»، يكتب في جرائدها ومجلاتها، وهي تفسح له صدرها وصفحاتها. وكانت القضية الاجتماعية مُلحَّة للغاية، فكتب في ١٩٤٩م مقالًا مطولًا عن «العدالة الاجتماعية في الإسلام» تحوَّل إلى كتاب فيما بعدُ في ١٩٥١م، قُبيل الثورة المصرية، يعرض فيه للإسلام الاشتراكي أو للاشتراكية الإسلامية. وبعدها بعامٍ واحد حرَّر «معركة الإسلام والرأسمالية»، متحدثًا عن البطون الجائعة والأفواه المفتوحة، واضعًا بذلك الإسلام في أتون المعركة الاجتماعية. ونشر في نفس الوقت «السلام العالمي والإسلام» يتحدَّث فيه عن رؤية الإسلام للعلاقات الدولية، وواضعًا أُسس السلام العالمي ابتداءً من السلام في الضمير والأسرة حتى السلام في المجتمع وبين الدول. ظهر سيد قطب مُعبِّرًا عن أماني الحركة الوطنية التي عبَّرت عنها ثورة يوليو ١٩٥٢م، وزاد عليها انبثاقه عن الإسلام، وخروجه من تراث الأمة، وقدرته على أن ينشئ تيارًا جديدًا في الفكر الديني عن الإسلام الاجتماعي أو الإسلام السياسي أو الإسلام الاشتراكي أو «اليسار الإسلامي». ثم ذهب إلى أمريكا لمدة عام في أوائل الخمسينيات في بعثة تربوية لدراسة نُظم التعليم، وحدثَت صدمة لديه بالنسبة للغرب واكتشافه الأسطورة، فبدأ في أخذ موقف من الغرب كحضارة، ورد على نظرياته ابتداء من «الإنسان والحضارة» ردًّا على «الإنسان، ذلك المجهول» لكاريل، فبدأ لديه الوعي بالآخر بناءً على التجارب الذاتية. وأعدَّ لذلك خلاصة تجاربه ومشاهداته في «أمريكا التي رأيت» والذي لم يصدر حتى الآن؛ ومن ثمَّ جمع سيد قطب في موقفه المحاور الرئيسية الثلاثة؛ الموقف من التراث القديم من أجل إعادة تنقيته وتصويبه نحو حاضر المسلمين وقضاياهم الكبرى، الموقف من التراث الغربي ناقدًا له ومُحجِّمًا إياه وحاميًا لحاضرنا من آثار التقليد والتبعية، والموقف من الواقع الحالي، ونقد النُّظم القائمة من أجل المساهمة في قضايا التغير الاجتماعي وإقامة نظام أفضل، وهي المواقف الثلاثة التي تُعبِّر عن الموقف الحاضر لجيلنا كله.٧
ولمَّا كان تنظيم الإخوان في ذلك الوقت هو المنبر الإسلامي الذي يسمح بمثل هذه المنطلقات، باعتباره تنظيمًا شعبيًّا وطنيًّا إسلاميًّا؛ فقد انضمَّ إليه سيد قطب، أمام دهشة أعضاء الجماعة؛ فما شأن هذا الذي يتعامل مع الوطنيين والاشتراكيين والقوميين والليبراليين بالدعوة الإسلامية؟ ولكن نظرًا للفراغ الذي تركه الإمام الشهيد حسن البنَّا سرعان ما أخذ سيد قطب مكانه ومكانته، وحرَّر برنامج الجماعة «دعوتنا» بناءً على طلب من مجلس قيادة الثورة للأحزاب بصياغة وثائق تُعلن فيه كلٌّ منها عن برنامجها السياسي والاجتماعي. وكان برنامج الإخوان وطنيًّا اشتراكيًّا قوميًّا وحدويًّا، كل ذلك باسم الإسلام. ولو أنَّه كان أقرب إلى الثورة منه إلى الإخوان. وقد قام بعدة أحاديث في الإذاعة المصرية، في الأشهر الستة الأولى للثورة، تُعبِّر عن الأهداف القومية التي أجمعَت عليها الأمة، والتي عبَّرت عنها «المبادئ الستة» الأولى للثورة. كان جزءًا من الحركة الوطنية المصرية وليس منعزلًا عنها. وكان يُبشِّر بالخير، لولا زحمة المنافقين والمتسلقين والطامعين، الذين التفُّوا حول الضباط الأحرار لعرض خدماتهم عليهم بأي ثمن.٨

ولم يدخل سيد قطب في الصراعات التي بدأَت تظهر في الجماعة؛ بين أنصار المرشد الجديد «حسن الهضيبي»، وأنصار الجهاز السري «عبد الرحمن السندي». وكان لا يهتم إلَّا بالجانب الفكري للدعوة، مُحاولًا صياغة أيديولوجية إسلامية ثورية، وبما امتاز به من وضوح الرؤية، ودقة الأسلوب. ثمَّ حدثَت أزمة مارس ١٩٥٤م، وراح سيد قطب ضحية الصراع بين الإخوان والثورة. لم يؤثِّر في الإخوان فكريًّا، بل أثَّروا هم فيه عمليًّا، ولم يؤثِّر هو في الثورة فكريًّا، ولكنَّه راح ضحيتهم عمليًّا. قُبض عليه، وحُوكم، وأودع السجن. وفي غياهب الجب، وبين الجدران، وفي الظلمات، بدأ يخْرج فكر جديد، فيه مرارة وحزن، الأبرياء الأطهار في السجون، والأشرار المذنبون أحرار.

بدأ فكر سيد قطب يتحوَّل من الإسلام الثوري الاجتماعي، إلى الإسلام المستقبلي النظري في «هذا الدين»، «المستقبل لهذا الدين». وما دامت الممارسة العملية قد توقَّفَت، فمن الطبيعي ألَّا يبقى إلَّا العرض النظري، وما دام الواقع قد تقلَّص أمامه وانسد، فلم يبق أمامه إلَّا الحلم والخيال. وبدأ يُكمل «في ظلال القرآن»؛ فقد كان القرآن عُدَّته الوحيدة في السجن. وبعد عدة سنوات، وفي داخل السجن، قرأ كُتيِّبًا صغيرًا لأبي الأعلى المودودي بعنوان «المصطلحات الأربعة»؛ وهي الحاكمية، والألوهية، والربانية، والوحدانية، فأبرزَت لديه مفهوم الحاكمية، وجعلَته محورًا لتفكيره؛ حاكمية الله ضد حاكمية البشر، وألوهية الله ضد ألوهية البشر، وربانية الله ضد ربانية البشر … إلخ. ولا بقاء لأحدهما إلَّا في غياب الآخر، وظهر صدى هذا الفكر الجديد في المراحل الأخيرة من «في ظلال القرآن». وهي الفكرة التي نبتَت في جماعات المضطهَدين وفِرق المعارضة في التراث الإسلامي، سواء عند الشيعة أم الخوارج، لقلب النظم القائمة التي لا تقوم على أسس من الشرعية، والتي تظهر من جديد طبقًا لحاجات العصر، وظروف اضطهاد الحركة الإسلامية، ومعارضتها للنظم اللاشرعية القائمة.

وأُفرج عنه في أوائل الستينيات، وقبل أن يُفيق من مرارة السجن الأول أُودع السجن من جديد في ١٩٦٥م، بعد أن نشر كتاب «معالم في الطريق»، والذي يُعبِّر فيه أصدق تعبير عن حال الدعوة الإسلامية في ظروف الاضطهاد، والتعذيب البدني والنفسي والذي أصبح حتى الآن إنجيل الجماعات الإسلامية كلها بلا استثناء. تمسك به الإخوان القدامى والجدد، وتنكروا لكل ما قاله سيد قطب قبل ذلك سواء في المرحلة الأدبية أو في المرحلة الاجتماعية، وكأنَّ «معالم في الطريق» هو خاتمة المطاف، ونهاية تجربة، وحصيلة عُمْر، مع أنَّه بالنسبة للمرحلة الاجتماعية أسوأ ما كتب سيد قطب. قرأه عبد الناصر وهو في طريقه إلى موسكو في رحلة للعلاج، وبحسه التنظيمي نبه أجهزة الأمن إلى ضرورة وجود تنظيمٍ سري وراء هذا الكتاب ليُحِّقق الهدف الداعي إليه، تحرير البشر من خلال الصفوة المؤمنة. فصيغَت مؤامرة ١٩٦٥م، بنفس التهمة التقليدية، تشكيل نظام سري لقلب نظام الحكم، والاستيلاء على السلطة بالقوة. وسيق الآلاف إلى السجون من جديد. كان الهدف هذه المرة سيد قطب بشخصه لِما يُمثِّله من ثقل فكري وتنظيمي. ولم تشفع تدخُّلات العالَم الإسلامي وقتئذٍ لإنقاذ حياته، والإبقاء عليه رصيدًا للفكر الإسلامي.

وإلى الآن يُمثِّل «معالم في الطريق» محورًا أساسيًّا في تطور فكر الإخوان، يعكس فكر الجماعات المضطهَدة، ولدَتْه ظروف الصراع بين الإخوان والثورة، وسيظل مُعبِّرًا عن أيَّة جماعة إسلامية مضطهَدة حتى تتغير ظروف الاضطهاد وتُصبح الدعوة الإسلامية شرعية في مجتمع إسلامي، ويُصبح أعضاء الجماعة مواطنين عاملين في البناء والتشييد والمشاركة في المشروع القومي الوطني وليس أعضاء خارجين على القانون على هامش المجتمع، يُعادون المجتمع، ويبادلهم المجتمع عَدَاءً بعَدَاء. ويرسم «معالم في الطريق» ببساطة ووضوح منهاج الدعوة على النحو الآتي:

  • (١)

    هناك تعارض شديد بين فكرتين، وتصورين، ومجتمعين، ونظامين، وحقيقتين؛ الإسلام والجاهلية، الإيمان والكفر، الحق والباطل، الخير والشر، حاكمية الله وحاكمية البشر، الله والطاغوت … إلخ، وأنَّه لا بقاء لطرف إلَّا بالقضاء على الطرف الآخر، ولا سبيل إلى المصالحة أو الوساطة بينهما.

  • (٢)

    إنَّ الإسلام هو الحق والخير والعدل، مجتمع الإيمان حيث تكون فيه الحاكمية لله، وإنَّ نظام الدولة القائم هو الباطل والشر والظلم، مجتمع الكفر، مجتمع تكون الحاكمية فيه للطاغوت؛ وبالتالي تتحوَّل التصوُّرات النظرية إلى مواقف عملية، فتنشأ الثورة على المجتمع والتمرد عليه لما كان الإيمان قولًا وعملًا، وكان الإسلام مشروعًا ممكنًا، وكانت الشهادة مطلبًا وأمنية.

  • (٣)
    لا يمكن أن يحدث التغير إلَّا عن طريق الانقلاب، الانقلاب في السلطة، والقضاء على أئمة الكفر، ووضع أئمة الإيمان محلهم، بل إنَّ الكلمة الأردية التي تعني ثورة هي «انقلاب».٩ ولا تُوجد مراحل أو تدرُّج في عملية التغير. وكما يحدث الانقلاب في الفرد عن طريق الهداية يحدث في المجتمع عن طريق تغيير السلطة.
  • (٤)

    ويقوم بهذه العملية الصفوة المؤمنة، جيل قرآني جديد مثل جيل الصحابة الأوائل، قادر على قيادة مجتمع الإيمان ضد مجتمع الكفر؛ فالأولوية للصفوة وليس للجماهير، والصدارة للنخبة وليس للشعب، ومُحرِّك التغير هي الزعامة والقدوة وليس الناس، وهي السمة الغالبة في نُظم المجتمعات المتخلفة التي تعطي الأولوية للقمة على القاعدة، وللسلطة على الجماهير، وللراعي على المحكومين، والتي قد تكون ناتجة عن طابع الفكر الإلهي الموروث من الأشعرية.

  • (٥)

    هذه العملية عملية تحرر شامل، واجبة وضرورية، مفروضة فرضًا عينيًّا على كل مسلم ومسلمة، مسئولية فردية واجتماعية، دينية وأخلاقية، على أن يحرر البشرية جمعاء، وأن يحول مجتمع الكفر والطاغوت إلى مجتمع الإيمان والحرية؛ وبالتالي تُمثِّل «لا إله إلا الله» نهج حياة، وعملية تحرر للوجدان البشري من حرية الاعتقاد، والتخلص من حكم الطاغوت واجب المسلم تفرضه عقيدته، تحقيق هذا الشعار بالفعل، وتحرير البشرية كلها من حكم الطاغوت.

ما حدث لسيد قطب على المستوى النظري حدث لباقي أعضاء الجماعة على مستوى السلوك العملي، ممن قُبض عليهم في ١٩٦٥م، والذين أفرَزوا الجماعات الإسلامية في السبعينيات؛ فقد حدثت عدة مناقشات داخل السجون «شكري مصطفى وزعماء جماعة التكفير والهجرة»، كما حدث للإخوان المسلمين إبَّان الثورة، وحاولوا إعادة تقييم المرحلة السابقة والتعلم من التجربة للمستقبل، وانتهَوا إلى أنَّ ما أصاب الجماعة من اضطهاد وتعذيب إنَّما نتج عن مواقفَ ليِّنة بالنسبة للثورة، نتيجة التعامل مع مجتمع الجاهلية وإقامة جسور بين الإيمان والكفر؛ وبالتالي يكون الإبقاء على التعارض أفضل للدعوة؛ فإنما بقاء الباطل في غيبة الحق عنه. كما أنَّ التعاون مع الجاهلية اضطَر الجماعة إلى أن تعيش بينها؛ وبالتالي أصبحت جزءًا منها خاضعة لقوانينها، والأفضل انفصال مجتمع الإيمان عن مجتمع الكفر حتى يحدث تحوُّل جذري في قلوب المؤمنين، وحتى يظهر التعارض الفعلي وتكوين مجتمع الطهارة والإيمان «التكفير والهجرة». كما أنَّ كثرة الأعداد في الإخوان المسلمين، بالآلاف، نقطة ضعف وليست مظهر قوة. كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ (٢: ٢٤٩)؛ وبالتالي لا بد من التركيز على الكيف دون الكم؛ لذلك تحوَّلَت الجماعات الإسلامية الحالية إلى جماعاتٍ صغيرة لا تبلغ إحداها المائة أو المائتَين، وأكثرها ألف أو ألفان مع الدقة في الاختيار، والالتزام بتعاليم الإسلام قولًا وعملًا. وليس الإخواني المتحرِّر المستحدَث السابق! ولمَّا احتوى تنظيم الإخوان هذا العدد الكبير اضطُر للتغاضي عن الخلافات الفردية، ووجهات النظر المتصارعة، حرصًا على وحدة التنظيم وشمول الجماعة، ولكن سرعان ما فرض الاختلاف في وجهة النظر نفسه على الجماعة في بدايات الثورة المصرية، فانشقَّت على نفسها. لقد حاول كل فريق مصالحة الآخر حرصًا على وحدة الجماعة الأم، فحدثَت مساومات داخل الجماعة، ومصالحات على حساب الحق. والأولى الإبقاء على الفروق، والحرص على النوعية حتى ينشأ المسلم الكامل؛ مِمَّا جعل الجماعات الإسلامية في السبعينيات أكثر من فِرقة، بينها صراع حتى الموت. كما أنَّ الإخوان لم يُعِدوا القوة بما فيه الكفاية للجهاد، وركَّزوا على الاستعداد له بطريق التربية والإعداد الروحي دون أن ينتقلوا إلى الفعل، فظلَّت جمعيةً تربويةً دينية أشبه بالشبان المسلمين وجماعة الشباب المسلم وبأنصار السنة المحمدية وبالجمعية الشرعية وبجماعات الهداية والرشاد في حين ركَّزت الجماعات الإسلامية الحالية على فريضة الجهاد، تلك الفريضة الغائبة لدى «جماعة الجهاد».١٠
ثم حدثَت هزيمة يونيو ١٩٦٧م، التي كانت نقطة تحوُّل أخرى نحو الأصولية الإسلامية، من جانب القيادة السياسية والجماعات الإسلامية على حد سواء.١١ وبالرغم من أنَّ الهزيمة كان لها أسبابها المادية، العسكرية والسياسية والاجتماعية، إلَّا أنَّ القيادة السياسية أرادت رفع الروح المعنوية للبلاد، للجيش وللشعب على السَّواء، كنوع من التوجيه المعنوي لإعادة بناء الروح الوطنية، من أجل الصمود واستئناف القتال، فقامت أجهزة الإعلام التي تُسيطر عليها الدولة آنذاك بحملة دعائية، مستعملةً الدين لتبرير الهزيمة ولشحذ النصر؛ مِمَّا قوَّى العاطفة الدينية عند الجماهير، فوجدَت فيها الجماعات الإسلامية التربة الصالحة للانتشار؛ فالهزيمة قدَر من الله؛ لأنَّه «لا يُغني حذر من قدر»، ولا محيص عن قدر الله؛ وبالتالي غابت مفاهيم الحرية والمسئولية والمبادرة باستثناء شجاعة أدبية من القيادة السياسية؛ إمَّا بالتنازل والاستقالة، أو بتحمُّل المسئولية الكاملة عمَّا حدث للبلاد، كما أنَّ الرضا بقضاء الله هو الموقفُ الوحيد الممكن حتى لا يثور الشعب ويغضب ويطالب برَدِّ الكرامة له، وأنَّ الاستسلام للقضاء خيرٌ من الاستسلام للعدو؛ وبالتالي يُمكن التغلب على روح الهزيمة لدى الجيش والشعب على السواء، وأنَّ الموقف الذي يفوِّت على العدو تحقيقَ إرادته بعد نصره هو الصبر والإيمان، فانتشَرَت هذه المفاهيم في خطب القيادة السياسية وفي أجهزة الإعلام، وهي نفس القيم التي عاودَت القيادة السياسية في السبعينيات استعمالها لإيقاف عملية التغيير الاجتماعي، في مواجهة المعارضة السياسية التي تطالب بالمحافظة على مكتسبات الثورة وأيديولوجيتها المُمثَّلة في الناصرية. انتشرَت هذه المفاهيم بتوجيه من القيادة السياسية يقابله اتجاهٌ شعبي طبيعي يظهر باستمرارٍ في أوقات الهزيمة كوسيلةٍ سريعةٍ لرفع الروح المعنوية، ولكن القيادة السياسية كانت تستعد في نفس الوقت للقتال، وتُعيد بناء الجيش، وتُصفي الطبقة الجديدة، وتُعيد بناء المجتمع، وتُجدِّد شباب الثورة بعد محاولة النقد الذاتي، وكما هو واضحٌ في بيان «٣٠ مارس» ١٩٦٨م. أمَّا الاتجاه الطبيعي الشعبي فقد بدأ بظهور حركات الدعوة إلى العودة إلى الدين؛ فكما انتصرَت إسرائيل مُتمسكةً بدينها فكذلك انهزمنا لبُعدنا عن الدين. وظهر الحجاب، وإطالة اللحى، وبناء المساجد، وإنارة المآذن، والدعوة إلى الأذان في مكبِّرات الصوت، وتُقطع البرامج في الإذاعة والتليفزيون لأذان الصلاة، وتُخصَّص صفحات يوم الجمعة في الصحف للفكر الديني، وتكثر الاحتفالات الدينية والموالد، وتُطبع المصاحف بالآلاف، ويتم التبادل بها كهدايا منمَّقة بالصوف والقطيفة الحمراء، وتُوضَع في العربات وعلى النوافذ وعلى المكاتب دون أن تُقرأ أو أن تُستعمل، وتزدهر تجارة المصاحف، والكتب الدينية، وتنتشر كتب التصوُّف، وتتنشر كتب التراث، وتظهر دعوات العودة إلى التراث، ومعارك التراث، وتجديد الفكر العربي، وتحديث العقل العربي، وتُطبع «الله»، «محمد»، «الله أكبر»، «لا إله إلا الله» على قِطعٍ من البلاستك لتُزان بها العربات، وتظهر دعوات تطبيق الشريعة الإسلامية، وكل المظاهر التي أصبحَت سلوكًا عامًّا لدى الجماعات الإسلامية، والتي بدأَت السلطة السياسية فيها بعدُ معارضتها لمدلولها المضاد ووظيفتها في المعارضة السياسية. وهي المظاهر التي لاحظَتْها أجهزة الإعلام الغربية، والتي من أجلها بدأ الحديث عن الإحياء الإسلامي، قبل اندلاع الثورة الإسلامية في إيران بعشر سنوات تقريبًا.

كما استغلَّت «الأصولية الإسلامية» الهزيمة لحسابها الخاص؛ فقد اعتبَرَت الهزيمة انتقامًا إلهيًّا مِمَّا حدث لجماعة الإخوان وتعذيبهم في السجون، وأنَّ كل من يفتري على الله، ويُحارب جند الله، فإنَّه هالك لا محالة، كما هلك فرعون من قبله. كما أنَّ بُعد الدولة عن الإيمان، وعدم تطبيقها الشرع الإلهي كان هو السبب الأول للهزيمة. ولو أنَّ الدولة طبَّقَت الشريعة الإسلامية، وأقامت حدود الله، وبنَت المجتمع الإسلامي، وأعدَّت الناسَ للجهاد لمَا وقعَت الهزيمة. كما أنَّ ضعف الدولة، وجرح القيادة السياسية كان ظرفًا مواتيًا لإعادة تنظيم صفوف الإخوان، ليس فقط للقيادات القديمة التاريخية، بل للشباب الجُدد، صغار السن الذين يغلبون على الجماعات الإسلامية الحالية؛ فالدعوة الإسلامية تيارٌ شعبي عام في التراث القومي، وفي وجدان الأمة، تُفرخ باستمرارٍ أعضاءً جددًا للدعوة، دونما حاجة إلى تنظيم، أو إلى جهود الأعضاء القدماء. وقد أدى ذلك إلى استعجاب أجهزة الأمن من أنَّ الأعضاء المقبوض عليهم ليسوا في الكشوف السابقة، وأنَّ معظم الأسماء في الكشوف القديمة إمَّا توفاهم الله، أو هاجروا، أو اشتغلوا بالتجارة يجمعون المال، أو باقون دون أي نشاط، ومع ذلك يُقبض عليهم لأنَّ أسماءهم ما زالت في السجل المحفوظ لم يمحُها أحدٌ بعدُ من أم الكتاب! وقد أدركَت القيادة السياسية أهمية ظرف الهزيمة كظرفٍ مُواتٍ لعودة نشاط الجماعة، فتم القبض على بعض الإخوان في الداخل وفلولُ الجيش راجعةٌ من سيناء سيرًا على الأقدام إلى الوادي؛ فقد يستغل الإخوان الفرصة، ويطيحون بنظام الحكم؛ مما قوَّى الإحساس لدى الجماعة بأنَّها ما زالت تُمثِّل البديل المطروح للنظام السياسي القائم.

ظلَّ الإخوان إذن طول عمر الثورة بعيدين عنها في السجون. وتمَّ بناء مصر، وأضخم مشروع قومي منذ محمد علي وهم بعيدون عنها، مع أنَّهم كانوا من دعاته، وممن شاركوا في صياغاته قبل الثورة. لم يُشاهد الإخوان، وهم أحرار، تأميمَ قناة السويس في ١٩٥٦م، وهم الذين حاربوا في ١٩٥١م، لتحريرها. ولم يُدافعوا عن البلاد ضد الاعتداء الثلاثي في ١٩٥٦م، وهم الذين طالما قاوموا الاستعمار والاحتلال. ولم يشاهدوا أول تجربةٍ وحدويةٍ في التاريخ الحديث بين مصر وسوريا ١٩٥٨–١٩٦١م، وهم دعاة الوحدة الشاملة لأطراف الأمة مع قلبها. ولم يُشاهدوا بناء مصر الاشتراكي ١٩٦١–١٩٦٤م، وهم من أوائل الداعين للعدالة الاجتماعية والاشتراكية. ولم يُشاهدوا معارك مصر ضد الحلف الإسلامي في ١٩٦٥م، وكانوا المدافعين عن استقلال المنطقة ضد الأحلاف العسكرية وارتباط مصر بالغرب إثر عقد معاهدة الجلاء في مارس ١٩٥٤م. ولم يُشاركوا في الدفاع عن مصر في ١٩٦٧م، ضد إسرائيل، وهم الذين حاربوا في فلسطين في ١٩٤٨م، لتحرير الأرض المغتصبة، تمَّ كل ذلك وهم في السجون، يُعذَّبون إلى الموت، فكان من الطبيعي أن ينشأ بينهم وبين الدولة ثأر لا يمحوه إلَّا الدم، وهو ما حدث في انفجار أكتوبر ١٩٨١م.

(٥) اتفاق المصالح بين الإخوان والثورة المضادة (١٩٧١–١٩٧٧م)١٢

وباختفاء القيادة الثورية في ٢٩ سبتمبر ١٩٧٠م، حدث تحوُّل كيفي وكمي في الحركة الإسلامية نظرًا للظروف الاجتماعية والسياسية الجديدة؛ فقد كان بديهيًّا أنَّ صراعًا على السلطة سيحدث بين الاستمرارية الثورية الناصرية، وبين الطبقات الجديدة التي ظهَرَت إبَّان الثورة، والتي أثْرت من خلال القطاع العام وأجهزة الدولة ومميزات الحزب، طبقة التكنوقراط، وكبار ضباط الجيش، التي حاول بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨م، تصفيتها، ولم يستطع، والتي كان مؤتمر المبعوثين بالإسكندرية والدراسات التي قدَّمها وفد الطلبة الدارسين في فرنسا في صيف ١٩٦٦م، أول من نبَّه على وجودها، وعلى مخاطرها قبل الهزيمة بعام واحد. صحيحٌ أنَّه كان في نية القيادة الثورية تأميم قطاع المقاولات وتجارة الجملة عندما بدأَت الرأسمالية الوطنية، إحدى قوى تحالُف الشعب العامل، تظهر كرأسماليةٍ مستغلة، ولكن اختفت القيادة الثورية قبل أن تُحقق غرضها.

ثمَّ انتهى الصراع الخفي بين «اليمين الناصري» و«اليسار الناصري»، بعد ثمانية أشهر في مايو ١٩٧١م، إلى تصفية علنية للناصرية، أو من يُمثِّلها عن حق أو عن باطل. وبدأَت عملية انكشافٍ تدريجي للارتداد عن الناصرية، والعودة إلى مصر، في نطاق مناطق النفوذ وأحلاف الغرب، مرتبطة برأس المال الغربي، والتخلي عن تجربتها الاشتراكية، واستقلالها الوطني، وعن ريادتها لحركة عدم الانحياز، وقيادتها لحركة القومية العربية. بدأَت عملية الارتداد شيئًا فشيئًا بعد الحديث عن الثورة المصرية وكأنَّها في ذمة التاريخ، وكأنَّها أصبحَت تاريخًا ماضيًا لا حاضرًا واقعًا، وبعد القضاء على الاتحاد الاشتراكي، وبداية تشجيع القطاع الخاص، والحديث عن عيوب القطاع العام، ثم الإعلان عن سياسة الانفتاح الاقتصادي بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م، ثم الإعلان في ١٩٧٥م، عن أيديولوجية مايو الجديد «الاشتراكية الديمقراطية». واستمرَّ الأمر كذلك حتى يناير ١٩٧٧م، والإحساس بأنَّ الناصرية وما تُمثِّله من دفاع عن حقوق الفقراء ورعاية لمصالحهم، ما زالت هي الخطر الأكبر؛ وبالتالي الإسراع في التوجه إلى التدعيم الخارجي للنظام، أمريكا وإسرائيل، وتحويل الأنظار عن المشاكل الداخلية إلى المشاكل الخارجية، حتى مبادرة السلام في نوفمبر ١٩٧٧م، وعَقْد معاهدة الصلح مع إسرائيل في ١٩٧٨م، واستسلام النظام.

هذه الظروف السياسية الجديدة أدت إلى تنشيط الحركة الإسلامية؛ فقد كانت القيادة السياسية الجديدة في حاجة إلى شرعيةٍ ما؛ إذ إنَّها أتت بعد انقلاب ١٥ مايو ١٩٧١م، ولم يكن رصيدها في النضال الوطني ضخمًا إبَّان الثورة المصرية وهي في أوج انتصاراتها، سواء في تأميم القناة ورد الاعتداء الثلاثي على مصر في ١٩٥٦م، أو في الوحدة مع سوريا في ١٩٥٨م، أو في بناء مصر الاشتراكي في ١٩٦١–١٩٦٤م، أو في الدفاع عن استقلال المنطقة ضد الحلف الإسلامي في ١٩٦٥م، بل على العكس كانت هناك ظلال عليها منذ ليلة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، عندما ذهب إلى السينما، وافتعل مشاجرة، وسجلها في محضر الشرطة، حتى إذا ما فشلَت الثورة وقُبض على زعمائها لثبت رسميًّا أنَّه كان في السينما. ولو نجحَت الثورة لانضمَّ إليهم، ولما أتى حول مبنى القيادة ليلتها ليستطلع الخبر منعَه الجنود من الاقتراب، بالرغم من إخبارهم بأنَّه معهم، لولا تدخُّل عبد الحكيم عامر والتعرف عليه. كانت مهمته باعتباره ضابط سلاح إشارة قطع التلفونات عن مبنى القيادة، وهو ما تمَّ بدونه، هذا الإحساس بأنَّه كان باستمرار هامشيًّا، نكرة، لا وزن لها في حركة الضباط الأحرار، قبل الثورة أو ليلتها أو بعدها، هو الذي جعله يُصر على قلب الحقائق وتزييف التاريخ، والبحث عن دور قيادي له، يُعطيه شرعية الحكم، خاصة وأنَّ صورة عبد الناصر وذكراه ما زالت حية في وجدان الناس، وإنجازاته ما زالت قائمةً يعيش الناس بينها، فكان دائم الإصرار على أنَّه أعلن عن الثورة بصوته؛ أي إنَّه كان من زعمائها وليس فقط مذيعها، وأنَّه هو الذي كوَّن الضباط الأحرار، وأنَّ عبد الناصر كان أحد أتباعه! وأنَّه كان مُنزَّهًا عن الأطماع وزاهدًا في المناصب السياسية؛ لذلك لم يختلف مع عبد الناصر كما اختلف رفاقه معه، وأنَّه كان رفيق عبد الناصر وصديقه، خليله ووصيه، يلجأ إليه في الملمَّات، وأنَّ أولاد عبد الناصر أولاده، وأنَّه المدافع عن شرف عبد الناصر وذمته ضد من يلبسون قميصه! كان بذلك كله يريد أن يُغيِّر صورته في ذهن الناس، وما عُرف عنه من أنَّه لم يتقلد أي منصب قيادي في الثورة، بل كان باستمرار على هامشها، وأنَّه لهذا السبب وحده قد تم تعيينه نائبًا لرئيس الجمهورية؛ لأنَّه نكرة، يعيش دائمًا في الظل، تابعًا لسيد، مقودًا لا قائدًا. وقد أُشيع حول سلوكه الشخصي الكثير، منها رغبته في الاستيلاء على فيلا وشكوى صاحبها، وغضب عبد الناصر عليه عدة أشهر. كما عُرف عنه أنَّه كان من ضُباط الحرس الحديدي، من أعوان الملك، وبأنَّه رجع إلى الجيش عن طريق وصيفة الملك «ناهد رشاد»؛ لذلك أوقف سلسلة أحمد حمروش في روز اليوسف عن تاريخ الضباط الأحرار والثورة المصرية بعد يناير ١٩٧٧م. وعُرف عنه أنَّه إرهابي في مقتل أمين عثمان، وأنَّه نازي معجَب بالنازية في لباس ضباطها، الذي اختاره زيًّا رسميًّا للقوات المسلحة منذ عامَين، وبتعاونه مع الألمان أثناء الحرب. كل ذلك أعطاه إحساسًا دفينًا باللاشرعية، وبأنَّه أتى في قمة السلطة السياسية خلفًا لزعيمٍ شعبي، ودون أن يكون له رصيدٌ تاريخي أو نضالٌ وطني أو سلوكٌ نزيه أو صورةٌ كريمة مثل سلفه، وقد جعله هذا الوضع طيلة عشر سنوات في أقواله وأفعاله وسلوكه يُحاول ملء هذا الفراغ الشرعي؛ إمَّا بالقضاء على عبد الناصر، أو بإحلال صورته محله من خلال أجهزة الدعاية والإعلام، وخلق أسطورةٍ جديدة. وكان من وسائل إضفاء الشرعية عليه إبراز عيوب الناصرية، والاستفادة من أخطائها، لمَّا كان من الصعب النَّيل من إنجازاتها، وعلى رأس الأخطاء قضايا الحرية والديمقراطية، فجعل مراكز القوى مسئولة عن التعذيب والسجون والمعتقلات، وحرق شرائط التنصُّت في فِناء وزارة الداخلية، وأغلق السجون والمعتقلات، وهدم بيده طوبة من حائط ليمان طرة أمام أجهزة الإعلام، ورفع شعار سيادة القانون، والشرعية الدستورية في مواجهة الشرعية الثورية، وأتى على حصان الديمقراطية حتَّى يكسب الشرعية.

وحتى يُعطي الدليل العملي على ذلك؛ أفرج عن الإخوان المسلمين من السجون والمعتقلات، ليس حبًّا في الحرية أو إيمانًا ببراءتهم؛ فقد كان من المصدِّقين على أحكام الإعدام، ومن المشاركين في محاكم الثورة، وجزءًا من النظام الذي أدانهم، بل لاستعمالهم ضد عبد الناصر وتراثه، وللإيحاء لهم بأنَّه رسول الحرية، أتى إليهم ليُخلصهم من براثن عبد الناصر، الذي كان يحكم بالحديد والنار من خلال أجهزة القمع، بالظلم والعدوان. أراد الاستفادة من عداوة الإخوان لعبد الناصر لحسابه الخاص، والاستعانة بجميع أعداء عبد الناصر لتدعيم النظام الجديد؛ وبالتالي يظلون أوفياء له، يلهجون بحمده وثنائه، كما فعل عمر التلمساني بعد يناير ١٩٧٧م، بثنائه رسميًّا في أجهزة الإعلام، وبأنَّه هو الذي أخرجهم من المعتقلات والسجون، قبل أن يحدث تعارضٌ في المصالح بين الجماعة الإسلامية وبين الثورة المضادة، وشكواه إلى الله أيضًا في أجهزة الإعلام ورفض سحب شكواه!١٣

أخرجهم وهو يعلم أنَّهم ليسوا خطرًا عليه؛ نظرًا لعدائهم لعبد الناصر، ونظرًا لتخلفهم الفكري أو عدائهم للاشتراكية وللقومية العربية وللاتحاد السوفييتي، وموالاتهم التقليدية للغرب، ولحرصهم على الإسلام الشعائري المظهر، وكل ذلك قاسمٌ مشترك بينهم وبينه. خرج الإخوان من السجون وهم شاكرون الحمد. ينشطون من جديد ولو أنَّ سيف اللاشرعية ما زال مسلطًا على الرقاب، وقرار الحل ما زال قائمًا، ومصادرة الأملاك ما زالت موجودة. ولم تُفلح قضايا الإخوان أمام المحاكم في الطعن في قرار الحل، أو لاسترداد الأموال المصادرة، والمركز العام الذي اشتراه الإخوان من أموالهم الخاصة وبحُلي نسائهم، تخوفًا من المستقبل ولئلا يُفلت الزمام، ويخرجوا عن الإطار المرسوم لهم. كان الهدف من الإفراج عنهم هو العداء للناصرية، وتأييده ومساندته. وذاعت قضايا التحقيق في التعذيب لتشويه النظام السابق عليه، ولإعطاء النور الأخضر للإخوان للهجوم عليه، وإظهار الإخوان على أنَّهم الضحية، فيتعاطف الناس معهم من جديد، ونُشرت عشرات الكتب عن تعذيب الإخوان في المعتقلات وأهوال السجون. في ذلك الوقت لم تستعمل القيادة السياسية الجديدة الإسلام؛ نظرًا لأنَّها وجدَت من يستعمله نيابةً عنها، وهم الإخوان.

استفادت الحركة الإسلامية من حرب أكتوبر ١٩٧٣م، بإطلاق العواطف الدينية؛ فأصوات الجنود العابرين القناة التي ارتفعَت بصيحة الإسلام «الله أكبر» تُبيِّن أنَّ العاطفة الدينية خيرُ حاملٍ لدوافع التحرر والمقاومة؛ فالنصر من عند الله بإيمان الجنود وقوة العقيدة. وظهر كثيرٌ من الكتابات الدينية وخطب المساجد تُبيِّن التأييد المادي من عند الله من خلال الملائكة التي عبَرت القناة، والطير الأبابيل التي كانت ترميهم بحجارة من سجيل، والملائكة المسوَّمة التي كانت تُقاتل مع الجنود، والأولياء ذوي العمامات الخضراء، والسراويل البيضاء، والنبي مجردًا سيفه البتَّار، وشن الهجوم على كل من حاول بيان خطورة مثل هذه الأساطير وهضم حق المقاتلين والثوَّار، وإنكار التخطيط الدقيق والإعداد العلمي لها، وأصبح ذلك كله وسيلة للقيادة السياسية والحركة الإسلامية معًا لإثبات أنَّ البعد عن الله كان سبب هزيمة ١٩٦٧م، وأنَّ العودة إلى الله كانت سبب نصر ١٩٧٣م. كان اضطهاد الإخوان في الستينيات سبب الهزيمة، والإفراج عنهم في السبعينيات سبب النصر!١٤

وبعد انتهاء الحرب، وبداية سلسلة من التنازلات، والشكوك حول نوايا القيادة السياسية ذاتها، وإعادة النظر في مجرى الحرب، والتساؤلات عن السبب في عدم أخذ المضايق، والاستمرار في التقدم، والانتهاء إلى أنَّ المقصود من الحرب ربما لم يكن تحرير الأرض، بل تحريك القضية، بناءً على نصيحة كيسنجر لحافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي في ذلك الوقت، بأنَّ العالم لن يلتفت إلينا إن لم نفعل شيئًا؛ فالعالم لا يلتفت إلى المهزوم، وبعد اتفاقيات الفصل بين القوات، الأولى والثانية، والإعلان عن سياسة الانفتاح الاقتصادي، وورقة أكتوبر، والاشتراكية الديمقراطية بدأ النظام يكشف وجهه سافرًا مِمَّا دفع آخر أجيال الناصريين في الجامعة، التي كانت وراء مظاهرات ١٩٧٢م — ومنذ ١٩٦٨م — إلى التحرك، فكان «نادي الفكر الناصري» في الجامعة، والأُسر الطلابية التقدمية مثل أسرة مصر، والوطن، محور اتحادات الطلاب. والتفَّ الطلاب حولها. وبدأَت الناصرية كحركة معارضة للنظام في أوساط الطلاب وداخل الحرم الجامعي. ولمَّا بدا خطرها على النظام، ونشاطها يدخل الساحة، واتضح جذبها لطلابٍ جدد قرَّرت القيادة السياسية استعمال الجماعات الدينية، التي بدأت تظهر في الجامعات بعد حرب ١٩٧٣م، وبعد الإفراج عن الإخوان في ١٩٧١م، لدرء المخاطر الناصرية المسيطرة على الجامعة وتصفيتها، خاصة وأنَّ الجماعات الإسلامية كانت مدينةً للسلطة السياسية آنذاك بالحرية، بعد الإفراج عن الإخوان.

فتمَّ حل اتحاد الطلاب المستقل، وأُلغي نظام الأُسر ونشاط الجمعيات، وحُرِّم النشاط السياسي، وزادت أجهزة الأمن في الجامعة، واشتدَّت الرقابة على الطلبة والأساتذة على السواء، وظهرت الجماعة الإسلامية كنشاطٍ وحيدٍ مسموح به يقوم بدور الدعوة الإسلامية من خلال معارض الكتب، وتسهيل الحصول على الزي الإسلامي، والمطالبة بحجرة مستقلة للطالبات، وبمصلًّى، وبمسجد، وبتسهيل العمرة، وطبع المذكرات الجامعية، والتمسك بالمظاهر كاللحية والجلباب. وزادت قوة الجماعة الإسلامية في الجامعة ربما لا لسبب ذاتي خاص بها، بل لأنَّها النشاط الوحيد المسموح به، فلم يجد الطلاب أمامهم إلَّا الانخراط في الجماعة لعدم وجود بديل عنها للاختيار بينها وبين غيرها، إذا ما أراد الانضمام إلى جماعةٍ علنية شرعية يُظهر فيها ولاءه الديني، لمَّا أصبح الولاء الوطني موضع شبهة، ولا سبيل إلى إظهاره إلَّا في الجماعات السرية. وإحساس الجماعة الإسلامية أنَّها أتت بتأييد من السلطة أعطاها ثقة بنفسها، وبحرية نشاطها، وبأنَّها تأمُر فتُطاع، ما دام السلطان معها، فتطاولَت على الأساتذة والعمداء ورؤساء الجامعات، وأصرَّت على تفريق الطلبة والطالبات في المدرَّجات، وعلى الخروج من المدرَّجات أثناء المحاضرات، وإحداث ضجة بالمقاعد لأداء الصلوات، وعلى حق الأذان العلني، وعلى المناقشة داخل المدرجات لإظهار العضلات، وتحويل المحاضرة إلى مظاهرة دعائية، وممارسة شتى أنواع الإرهاب في الحياة الجامعية، ومنع الحفلات والرحلات، والاحتفال بعيد الأم وشتى الأعياد «الوثنية»، وملء جدران الجامعة باللافتات الإسلامية، وبمجلات الحائط الخالية من أي وعي سياسي أو وطني، وقامت بالدور المرسوم لها، التصفية الفعلية والاستبعاد الجسدي لباقي أعضاء الأُسر الوطنية والجماعات الناصرية، واستعمال مطاوي قرن الغزال والعِصِي، حتَّى تحوَّلَت إلى مجموعة من العصابات داخل الجامعة تُمارس الإرهاب بتأييد من السلطة. ثمَّ انتقل النشاط إلى المدن الجامعية، أكبر تجمُّع للطلاب خارج المدرجات، وأصبح فيها أكبر تكتُّلات للجماعة الإسلامية. وتحوَّلت إلى مراكز قوى، تُطالب بالتدخل في سياسة قبول الطلاب في المدن الجامعية، وإعداد قوائم الطعام، وطرق الإقامة، وأساليب المعيشة، كنوع من إظهار القوة، وكمحاولة للسيطرة على شتى مظاهر النشاط في الحياة الجامعية داخل قاعات الدرس وخارجها. واحتلَّت المدن الجامعية لمواصلة النشاط في الصيف. ودعت لفيفًا من المفكرين الإسلاميين من خارج الجامعة من الإخوان «عمر التلمساني»، «محمد الغزالي» أو من الشخصيات الإسلامية أعضاء مجلس الشعب «صلاح أبو إسماعيل» أو مشاهير الإعلاميين المشايخ «متولي شعراوي» للحديث داخل الجامعة، باعتبار ذلك مظاهرةً أخرى وبيعةً للجماعة داخل الجامعة، بالرغم مِمَّا كان يحدث فيها من صدام بين الجماعات أو بين الجماعة والقيادات التقليدية للإخوان. وتكوَّنت جماعات للنشر داخل الجامعة أو داخل الكليات لنشر مؤلفات سيد قطب، وفصول من «معالم في الطريق»؛ حيث كان محرمًا قبل ذلك، ورسائل حسن البنَّا، وكتب التراث الفقهي وسائر الكتب الدينية. وزاد نشاط الجماعة وعدد أعضائها في الكليات العملية أكثر منها في الكليات النظرية التي تسمح بحوار أكثر وبعقلية أكثر انفتاحًا، وتصرف الطاقة الروحية للشباب، من خلال الأدب والفكر والنشاط الذهني والإبداع، في حين تعزل النشاطات العلمية الجانب الوجداني في الإنسان، ويكون تصريفه الوحيد في الجماعات الدينية. وأخيرًا رفضَت الجماعة الإسلامية الدخول في أي حوار مع القوى الوطنية، مثل أسبوع «الجامعة والمجتمع»، الذي يُعقد سنويًّا، لخوف المتحدثين الإسلاميين من المشاركة مع متحدثين علمانيين «حلمي مراد مثلًا» استئثارًا بالنشاط، وخوفًا من السلطة.

ثمَّ بدأَت الجماعة الإسلامية تُمارس نشاطها خارج الجامعة، فبدأَت مجلة «الدعوة» في الظهور منذ ١٩٧٦م، وهي ما زالت تحت سيف القانون وخطر المصادرة، حتى لا تخرج الجماعة على الحدود التي رسمتها لها السلطة السياسية، لاستغلالها لصالحها ضد خصومها السياسيين، وحتى تكون المجلة الوحيدة ذات الرأي المسموع، فتخلق تيارًا إسلاميًّا شعائريًّا عقائديًّا تقليديًّا معاديًا للناصرية في البلاد، فتحمي النظام من مخاطرها. وظهرت مجلات أخرى مثل «الاعتصام»، «المختار الإسلامي» لتوزيع الأدوار، وتمثيل جماعاتٍ إسلامية أخرى متنوعة، تُشارك جميعها في هدفٍ مشترك واحد وتفسيرٍ ديني واحد. ونشِطَت الجماعات الإسلامية الخيرية التقليدية مثل الجمعية الشرعية، وأنصار السنة المحمدية، وجماعات الهداية، والوعظ والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأصبحَت أرضيةً خصبة لانضمام أعضاءٍ جدد للجماعة الإسلامية. وأنشأَت عياداتٍ طبية للتكافل الاجتماعي، ومستوصفات ودُورًا للعلاج، وجمعياتٍ تعاونية ودُورًا للمناسبات لتجميع الناس والدعوة إلى الانضمام للجماعة.

وبدأ أعضاء الجماعة في التواجد في أجهزة الدولة، في الوزارات والمصالح الحكومية، يُظهرون قوَّتهم على الأقل في صلاة العيدَين في ميدان عابدين، والدعوة لها على نطاق الجمهورية، لإظهار القوة بمليون من المصلين أو مليونَين في ميدان عابدين. وكان أهم من ذلك كله استعمال المساجد الأهلية، التي لا تخضع لإشراف وزارة الأوقاف خضوعًا مباشرًا، للخطابة والدعوة لانضمام الأعضاء الجدد. وبدأَت الدعوة تظهر في صفوف الجيش. وبدأَت تظهر مشاكل الزي الإسلامي داخل صفوف الجيش، وجواز إطالة لحية الجندي. كما تعاونَت الجماعة مع مرشَّحي الحكومة في انتخابات ١٩٧٦م، على إسقاط مرشَّحي اليسار في كثير من الدوائر، على أساس العداء للناصرية.

ثمَّ بدأَت الجماعة الإسلامية تعمل لحسابها الخاص بعد أن أدَّت دورها المرسوم لها، وأرادت الخروج عليه ولعب دورها الخاص، وبعد أن ظهرت كقوة داخل الجامعة وخارجها، تعجز السلطة السياسية عن مواجهتها، وتظل شاكرة لها الجميل الذي أدَّته لها. ظهرت كنظامٍ مستقل عن توجيهات النظام السياسي وأجهزة الأمن في وزارة الداخلية. كما ظهرت آمرةً ناهية قادرة على فرض رؤيتها الخاصة التي على الدولة الالتزام بها، وتحوَّل أعضاؤها إلى خفر وشرطة في الطرقات لتطبيق الشريعة الإسلامية «جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وتحطيم محلات الراديو والتليفزيون، وتهديد المواطنين، وعقاب المفطرين في رمضان، وبدأَت في جمع الأسلحة ابتداءً من مطواة «قرن الغزال» حتَّى المدفع الرشاش والقنابل اليدوية استعدادًا ليوم الفصل، وبدأَت مطالبة أجهزة الدولة بتطبيق الشريعة الإسلامية. وبدأ أول انفجار سياسي لها في حادثة الاستيلاء على الكلية الفنية العسكرية عام ١٩٧٤م، على أيدي جماعة صالح سرية وحزب التحرير الإسلامي، ونشِطَت جماعاتٌ أخرى في الصعيد، كانت تحت أعين أجهزة الأمن، ومن بينها جماعة التكفير والهجرة، ثمَّ حدث انفجار ثانٍ في حادث مقتل الشيخ الذهبي عام ١٩٧٦م، وبدأ الخروج على النظام كإظهار للقوة واختبار للسلطة، وإقامة دولة داخل الدولة، وكوَّنت جماعات التكفير والهجرة، قوانينها الخاصة بالزواج والطلاق والعمل والأجر وشتى المعاملات.

ثمَّ بدأ التوتر بين الجماعات الإسلامية والسلطة السياسية خاصة في الصعيد في «أسيوط»، بسبب النشاط المتزايد للجماعة الإسلامية داخل الجامعة وخارجها؛ ففي الصعيد عددٌ كبير من المسيحيين مِمَّا يجعل الحمية الدينية متوقدة، بالإضافة إلى طباع الصعيد المعروفة مثل التعصب والتحزب والعنف، في حين انتشر الإخوان المسلمون في الوجه البحري. كما يُعرف عن الصعيد بُعده عن مظاهر الحياة المدنية وأساليب الحياة العصرية؛ مِمَّا يُساعد على نشأة التيارات الدينية المحافظة فيه. فكثرت حوادث الصدام بين الجماعة وأجهزة الأمن، وزاد مقدار التحدي في وسطٍ ملتهب من الحماس الديني من كل الأطراف. واستطاعت الجماعة أن تقف راسخةً في حوارٍ مع الرئيس علنًا وعلى الهواء، كما كان يفعل نادي الفكر الناصري في الجامعة منذ عدة سنوات، ووصفوا حاشيته بأنَّها مجموعةٌ من المنافقين المدَّاحين؛ مِمَّا أثار أعصاب الرئيس، وجعلَه يفقد السيطرة على نفسه، ويُسرع بالدفاع عن رب العائلة المصرية وكبير العائلة، فإذا ما أعوزَتْه الحجة العقلية لجأ إلى حجة السلطان، وكان ذلك في ١٩٧٧م.

فلمَّا ظهرت شدة الناصرية، وأنَّها ما زالت في قلوب الناس تُحرِّك الجماهير. واتضح ذلك في الانتفاضة الشعبية في ١٨، ١٩ يناير ١٩٧٧م، وظهر للسلطة السياسية أنَّ الخطر الأكبر هو جماهير الناصرية من الفقراء والمحرومين الذين رفضوا زيادة الأسعار، وهبُّوا ضد مظاهر الترف والبذخ والزيف الإعلامي والفساد في البلاد، وحطَّموا النوادي الليلية في شارع الهرم التي لا يدخلها إلَّا المترفون، ودُور الصحف التي تقوم بنشر الكذب والنفاق، ومراكز الحزب الحاكم الذي لا يهتم إلَّا بزيادة ثروة أعضائه، ومراكز الشرطة التي تُستخدم للقمع، ووسائل المواصلات العامة، رمز الحكومة، وسبب البلاء اليومي للملايين. كان يناير بداية التحوُّل في السلطة السياسية، من نسيان بدايات الصراع مع الجماعات الإسلامية إلى توجيه الضربة الرئيسية إلى الناصريين، بما تضم هذه التسمية من اشتراكيين وتقدميين وقوميين وماركسيين؛ فقد كانت صورة عبد الناصر في يناير تتحكَّم بالملايين في الشوارع، وكان ذلك كله اقتراعًا عامًّا ضد سياسة الانفتاح، ودفاعًا عن مكتسبات الشعب وحقوق الملايين التي جسَّدَتها الناصرية.١٥

فبدأَت الإجراءات الاستثنائية ضد الحريات، وصدر قانون العيب وشُكلَت محكمة القيم، وأُجريت الاستفتاءات الشعبية حتى تستعيد السلطة السياسية شرعيتها. ولمَّا كان الدين في المجتمعات المتخلفة أنجع وسيلة يُمكن استعمالها من جانب الحاكم دفاعًا عن النظام القائم، أو من جانب المحكومين من أجل تغيير النظام القائم، فقد لجأَت السلطة السياسية إلى استعمال الدين لتُحقِّق ثلاثة أهداف:

  • (١)

    المزايدة على الجماعات الإسلامية التي بدأ الصراع معها يبدو في الأفق، وتأجيل هذا الصراع لحين الانتهاء من القضاء على الخطر الداهم الحالي، جماهير الناصرية، وتجاوزها واحتوائها بإغراقها في الدين، والمفاهيم الدينية حتَّى يسلبها قوَّتها، وينزع البساط من تحت أقدامها فيحتوي الجماعات الإسلامية ويتجاوزهم، ويحتوي الجماهير ويضمن سكوتها ورضاءها.

  • (٢)

    عزل الخصوم السياسيين عن الشعب وحصارهم وتشويه سمعتهم، واتهامهم بالكفر والإلحاد والمادية والعمالة والخيانة وخراب الذمة، والتنبيه لخطورتهم على تكوين الرأي العام وأثرهم على الشباب، والتهديد بعزلهم عن مراكز إعداد الشباب، وتوجيه الرأي العام؛ فمن لا إيمان له لا أمان له، والتنديد بهم في كل خطابٍ سياسي وفي كل مناسبة، وما أكثر المناسبات! بل تجاوز الأمر إلى السباب والقذف؛ مِمَّا دعا البعض إلى رفع الأمر للقضاء بتهمة القذف العلني.

  • (٣)

    الحصول على مزيد من الشرعية بعد انتفاضة يناير الشعبية، أمام الجماهير التي خرجَت عن بكرة أبيها من الإسكندرية إلى أسوان، ترفض نتائج الانفتاح. ولمَّا كان الدين لدى الشعوب المتخلفة أحد مصادر الشرعية فقد لجأت القيادة السياسية إليه حتَّى يسهل الحصول على ولاء الشعب ولو وهمًا، إيهامًا للناس، وخداعًا للنفس.

بدأَت القيادة السياسية في انتقاء بعض القيم الدينية لتأييدها في مواجهة المعارضة السياسية مثل الإيمان، والأصالة، والصلابة، والصبر، والمحبة، والأمل، والتوفيق، والهداية … إلخ؛ فالإيمان هو نقطة البداية في حياة الإنسان، ومحور وجوده، ومصدر قيمه. والإيمان بهذا المعنى لدى الشعوب النامية، التي لم تصل بعد إلى درجة كبيرة من الوعي السياسي، يعني القبول، والطاعة، والتسليم، وعدم إعمال العقل الذي قد يؤدي إلى الرفض والتحرر والثورة، فإذا ما تهيأ وعي الجماهير لمقولة الإيمان، وانطبع بمضمونه، سهُل قيادها وقبولها لكل ما تصدر السلطة السياسية من قرارات؛ أي يتحوَّل وعي الجماهير إلى حالة من السلبية والاستقبال دون أيَّة إيجابية أو عطاء. وحتَّى لا يكون الإيمان قديمًا تقليديًّا اقترن به «العلم»، وخرج شعار «العلم والإيمان»؛ فالإيمان هو ما لدينا بالأصالة يجعلنا نرتبط بالقدماء، وننحو بذهننا نحو الماضي بعيدًا عن الحاضر، والعلم مستورد في صورة تكنولوجيا من الغرب؛ وبالتالي يظل الإنسان محافظًا على تخلفه القديم دون تطوير مقولاته الذاتية، ويستورد طبقة أخرى من العلم الحديث من إنجازات الغير، فتنشأ التبعية. ويكون النموذج المقترح، تقليد القدماء، وتبعية الغرب، فيزايد على الحركة السلفية التي تُمثِّلها الجماعات الإسلامية، ويحتوي المعارضة السياسية «الموالية للاتحاد السوفييتي»! وفي أحسن الأحوال، يكون النموذج إسلامًا فوقه غرب كما هو الحال في تركيا، أو كاثوليكية فوقها ماركسية كما هو الحال في بولندا، وهو نموذج مخالف للتحديث والتطوُّر والإبداع والتجارب المستقبلة، ويعتمد على المحافظة الدينية من جانب وعلى التبعية والنقل من الغير من جانبٍ آخر.

أمَّا الأصالة فإنَّها تعني الذات في مواجهة الغير، والأنا في مواجهة الآخر، ولكن ليس بدافع الإبداع ورفض التبعية، بل بدافع رفض أي تغيير في الوضع القائم، ورفض نوعٍ معين من الآخر وليس الآخر في ذاته؛ أي رفض الاشتراكية باعتبارها تجربة الآخرين وليست تجربة الذات، بما في ذلك الاشتراكية العربية، وهي التجربة الأصيلة في ثورة يوليو ١٩٥٢م، التي كانت تُوصف في السبعينيات على أنَّها ماركسية مقنَّعة. كان الهدف من الأصالة إذن هو حصار الاشتراكية، واعتبارها تبعية للاتحاد السوفييتي، والدفاع عن الوضع القائم باعتباره أصالة وتربة وطنية ووطنًا.

أمَّا الصلابة فإنَّها تعني القوة، والقدرة على الصمود، والهدف منها تثبيت الوضع القائم وترسيخه، والوقوف ضد كل محاولات التغيير الاجتماعي، واتهامها بأنَّها فوضى، وعنف، ودموية، وانحراف، وانقلابات، وتصفيات، ومؤامرات، واغتيالات.

أمَّا الصبر فإنَّه يعني القدرة على الانتظار، وعدم التسرع في فعل أي شيء، وعدم المعارضة لأي شيء. المقصود منه الصبر على المكاره، وهي الأزمات الاقتصادية الطاحنة، وتأجيل الصراع، والقضاء على فورة الغضب في قلوب الناس. ويكون البديل لهم هو «الأمل»، ويعني عدم الحزن أو الضيق بالحاضر؛ فالمستقبل يحتوي إمكانياتٍ أفضل، والمقصود منه خداع الذات، والإيهام بسراب، وأنَّ الحل قريب، بعد زيارة نيكسون لمصر في ١٩٧٣م، وبعد حلول السلام؛ فالسلام يجلب الرخاء، وبعد ١٩٨٠م، وبعد ١٩٨٢م، بعد أن نخرج من عنق الزجاجة، وبعد سنة ٢٠٠٠م. وها هو مؤتمر مصر سنة ٢٠٠٠م يُحضر البشائر! وفي مجتمعٍ تكون فيه «الأخرويات» جزءًا من تكوينه الثقافي، ما أسهل انقياده لفكرة الخلاص في المستقبل!

أمَّا المحبة ونزع الحقد فمهمتها تمييع الصراع الاجتماعي وتذويبه بالعواطف والوجدانيات، وكأنَّ الشر ناتج من النفس وليس من الوضع الاجتماعي؛ وبالتالي تستسلم الجماهير، ويُعانق الفقير الغني، ويقبل المحروم المترف، ويُحبُّ الجائع المتخم، وكانت المعركة الخلقية غطاءً وستارًا لإخفاء المعركة الاجتماعية.

أمَّا الهداية أو التوفيق فيعني أنَّ كل شيء إيجابي يحدث في الواقع، لم يحدث بناءً على تخطيط مسبق أو خطوة مدروسة أو بجهد العاملين، بل أتى من الله؛ فالكشوف البترولية هبة من الله وليس بناءً على جهود شركات التنقيب، وزيادة دخل قناة السويس توفيق من الله وليس لعمليات توسيع مجرى القناة، وزيادة المحصول الزراعي ليس نتيجة لإصلاح التربة وتحسين نظام الري والصرف أو لنوع السماد، بل رزق من الله وعطاء منه للمؤمنين، قيادة وشعبًا، حتى تظل الجماهير أسيرة المِنَح والعطايا التي تُعطى لها في الأعياد، منَّة من الحاكم، وبتوفيق من الله.

وبالإضافة إلى هذا النوع الجديد من التربية الدينية، التي تهدف إلى القضاء على «الناصرية الشعبية»، باستعمال الدين، بدأَت مظاهر العودة إلى الإسلام تشتد من جديد في الحياة العامة، دفاعًا عن النظام القائم، كما كان الحال بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م، وكما فعلَت الجماعة الإسلامية جذبًا للأنظار، وتأجيلًا للصراع بينها وبين النظام القائم فيما بعدُ، فأُنيرت المآذن والمساجد، وأُذيعت الصلوات في أجهزة الإعلام ومكبرات الصوت على المآذن، وبُنيت المساجد، وأُقيمت الاحتفالات الشعبية بالموالد والمهرجانات الدينية، وتبارى القادة السياسيون وأصحاب رءوس الأموال والفنانون في بناء المساجد لإطلاق أسمائهم عليها للدعاية الانتخابية، أو لإعفاء عماراتهم من العوائد، أو حبًّا في الله الذي يتم اكتشافه من خلال الفن! وتصدر كل ورقة رسمية ﺑ «بسم الله الرحمن الرحيم»، والتاريخ الهجري، ووضعهما على طبعات خطب الرئيس في مصلحة الاستعلامات، وتتكوَّن لجنة مجلس الشعب لتطبيق الشريعة الإسلامية، لم تفعل شيئًا حتى الآن. وينص الدستور على أنَّ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وعلى أنَّ الدين الرسمي للدولة هو الإسلام. وتُصاغ بعض قوانين الشريعة الإسلامية، ابتداءً من قانون العقوبات، وحد الردة، وحد القذف، وحد شارب الخمر، وحد قاطع الطريق، وحد الإفطار في رمضان للردع والتخويف، موجَّهة ضد الخصوم السياسيين باعتبارهم شيوعيين ملحدين، كافرين لا يُصلون، ويشربون الخمر! وتُوضع قوانين للعيب، وتُقام محكمة القيم دفاعًا عن التقاليد، وإبقاءً على الوضع القائم، وردعًا لأي نقد أو تغيُّر اجتماعي. وظهرت في أجهزة الإعلام شخصياتٌ دينية مهمتها إلهاب العواطف الدينية، وإلهاء الجماهير بعيدًا عن المعركة الاجتماعية، وتبرير زيادة الأسعار في يناير ١٩٧٧م، التي كانت سبب الانتفاضة الشعبية، بأنَّها الدواء المُر الذي فيه شفاء الاقتصاد المصري المريض «متولي الشعراوي»، والإكثار من البرامج الدينية والابتهالات والموشَّحات والقراءات والدروس لبيان حكمة الله، وصحة الدين، فيغرق الناس في الرضا والسرور «مصطفى محمود». وتتحدَّث الصحف عن رزق الناس وقضاء الحاجة.

وقد رسم الرئيس الراحل لنفسه صورةً من هذا النوع، فأخذ لقب «الرئيس المؤمن». وألحَّ على أن يظهر «محمد» أنور السادات أسوة باسم النبي، يظهر بجلباب أبيض، وبيده مسبحة، جالسًا على أريكة، قارئًا القرآن أو متوشحًا بحزام أخضر وبيده عصًا، مثل عصا موسى، تفعل السحر، وتأتي بالأعاجيب، أو مصليًا في مسجد، ويداه على صدره، وعلى رأسه زبيبة، يتمتم بشفتَيه، ويُغلق عينية، ويُحرِّك رمشَيه، ويطأطئ رأسه من شدة التقوى، وفَرْط الإيمان! يعتكف في الأواخر من رمضان في سيناء للتعبد وللتهجد والابتهال، يدعو إلى بناء مجمَّع للأديان في سيناء للتآخي والمحبة وتناسي الصراع بين الشعوب، بين العرب وإسرائيل، بين الشعوب والاستعمار، يفتتح خطبه «باسم الله»، ويُنهيها بآيات قرآنية، أو أدعية صوفية، توحي في ظاهرها بالتواضع وطلب المغفرة والرحمة من الخطأ والنسيان، وتطلب الهداية والعون مِمَّا يكشف عن اقتناعٍ مسبق، وتصلُّب في الرأي، وغرورٍ جنوني، أخذ لقب «كبير العائلة» الذي يجلب له الاحترام، والطاعة لأوامره، واعتناق أفكاره، والامتناع عن مناقشتها؛ فعلاقة الأب بالأبناء علاقةٌ أُحادية الطرف. الآباء يأمرون والأبناء يُطيعون؛ وبالتالي تغيب المراجعة، ويختفي النقد، ويتوقَّف النصح والإرشاد، ويخشى الجميع سلطة الاب الذي يُطلق عليهم «أولادي»، «أبنائي»، «ابني»، «بنتي»! ووضع مجموعةً من القيم أسماها «أخلاق القرية» التي تفرض احترام الأب، والالتزام بالتقاليد، ورفض الخروج والتمرد والعصيان. وأفضل فيلم لديه «وبالوالدين إحسانًا» الذي يعود فيه الشاب العاق تائبًا يُقبِّل يدَي والدَيه، جاثيًا على ركبتَيه، طالبًا التوبة والمغفرة! وهو زعيمٌ ملهَم تأتيه الأفكار وهو فوق السحاب، فوق قمم الجبال، لا يسمع لنصيحة الموتى أو الأحياء، لا يقرأ ولا يدرس، لا يتقصَّى ولا يستشير، لا يُحصي ولا يعُد، لا يجمع ولا يُحلِّل، بل ينتظر الإلهام وينتظر أن تأتيه فكرة، فينفِّذها أمام دهشة العالم أجمع من أسلوب الصدمات الكهربائية التي راح ضحيتها في النهاية! وهو قادر على رؤية المستقبل، ويكشف عنه الحجاب؛ فقد كان لديه هاجس الموت قبل اغتياله بشهر، وكان قلبه صافيًا يعكس حوادث الزمان وغوائل الأيام. كان رئيسًا للمؤتمر الإسلامي في بداية الثورة، يوطِّد أواصر الصلة والمحبة بين المسلمين، كما يعقد الصفقات التجارية مع خليفته «توفيق عويضة»، وعجز القضاء عن أن ينال منه. وكاد يُصبح «خامس الخلفاء الراشدين» بعد أن تكوَّنت لجنة خاصة في مجلس الشعب لذلك الغرض ومنحه اللقب!

وهنا يظهر ما يُسمَّى بأثر الإسلام الشعائري الخارجي المظهري الذي يهدف إلى غير المقصود منه؛ إذ يتحوَّل الإسلام إلى مجرد مظاهر وشعائر ورسوم دون أي مضمون اجتماعي سياسي، وتطغى فيه العبادات على المعاملات، والأخلاق الفردية على النظم الاجتماعية. ويتم اختيار نسقٍ معين من القيم تُساعد على المحافظة على الوضع القائم، وتُكفر كل محاولة لتغييره باعتبارها كفرًا وإلحادًا. كما يتم استخدام هذا الجانب لإضفاء صفة الشرعية على السلطة السياسية، وإفراز قيم الطاعة لأولي الأمر والحُكَّام، ما داموا يُطبِّقون الشريعة ويؤدون العبادات ويُقيمون شعائر الله! ويستعمل قانون العقوبات في الإسلام للإرهاب، وقطع يد السارق من الشعب، وليس من الحُكَّام، في سرقة دراهم معدودات وليس لنهب الثروات من باطن الأرض. كما يستخدم الإسلام لمحاربة الاشتراكية والشيوعية والماركسية والنظريات الهدَّامة والملحدة التي تُهدِّد الإيمان والعقيدة. والحقيقة هي محاربة هذه النظريات التي تُمثِّل خطرًا على النظام الاجتماعي والسياسي القائم باسم الدين؛ لذلك قامت المملكة العربية السعودية بتأييد «الإخوان المسلمين» في مصر، وما تولَّد من التنظيم الأم؛ أي «الجماعة الإسلامية» تأييدًا ماديًّا ومعنويًّا، والمساهمة في نفقات الدعوة وتوزيعها. كما تمَّ استعمال محور «السعودية – مصر» قبل مبادرة السلام، هذا المحور القائم على الإيمان والإسلام في مواجهة النظم العربية التقدمية، التي ما زالت تُمثِّل الناصرية بحسناتها ومساوئها، والعودة إلى أفكار الحلف الإسلامي في ١٩٦٥م، التي واجهتها الناصرية، بين القاهرة والرياض وطهران!

(٦) تعارُض المصالح بين الجماعة الإسلامية والثورة المضادة (١٩٧٨–١٩٨١م)١٦

يبدو أنَّ بداية الفرقة بين الجماعات الإسلامية، وليد الإخوان المسلمين، وبين السلطة السياسية التي أسفرَت عن وجهها كثورة مضادة كان السلام في نوفمبر ١٩٧٧م، ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في مارس ١٩٧٨م؛ فقد دفعَت انتفاضة يناير ١٩٧٧م، السلطة السياسية إلى التخلي عن الخط القومي تمامًا، واللجوء إلى أُسس خارجية لتدعيم النظام ومساندته ضد المخاطر الداخلية، ووجدتها في أمريكا وإسرائيل؛ أي الاستعمار والصهيونية، أعداء مصر الطبيعيين، ولتحويل الأنظار من المشاكل الداخلية إلى المسائل الخارجية بعد الربط بين الأزمة الاقتصادية وتكاليف الحرب، والربط بين الرخاء والسلام. وهنا بدأَت الجماعة الإسلامية في التحوُّل هي الأخرى من الشعائر الدينية إلى العمل الإسلامي، وإلى النقد السياسي والاجتماعي بوجهٍ خاص، فازداد حضورها على الساحة الوطنية، وبدأَت تصبح القوة الفعلية القادرة على تنظيم مظاهراتٍ شعبية بعد أن اكتفت المعارضة السياسية بالنقد العلمي الأكاديمي لسياسة الانفتاح ولاتفاقية السلام، وللقواعد العسكرية الأمريكية، ولعزلة مصر، وللقوانين المُقيدة للحريات، ولكن معاهدة السلام في مارس ١٩٧٨م، واستقبال الشاه في ١٩٧٩م، وازدياد الصدام بين الجماعات الإسلامية وأجهزة الأمن في الصعيد، وبداية التعرض لمظاهر الفساد في الدولة، أنهى مرحلة الوفاق، وبدأ مرحلة الصراع، التي بلغَت قمَّتَها في انفجار أكتوبر ١٩٨١م.

ففي السنوات الثلاث الأخيرة كان الجو مُهيَّأً تمامًا للانفجار؛ فقد زادت السلطة السياسية من استعمال سلاح التكفير ضد خصومها السياسيين؛ مِمَّا جعل سلاح التكفير واردًا في الأذهان من خلال أجهزة الإعلام وعلى قارعة الطريق، فالتقطته الجماعة الإسلامية، واستعملَته ضد السلطة السياسية، وهي المسئولة أولًا وآخرًا عن حمل هذا السلاح وإشهاره في وجه الخصوم. وبعد مغادرة الجامعة العربية أرض مصر أُقيمت في مبناها وبدلًا عنها جامعة الشعوب الإسلامية. وبعدها صدَرَت مجلة «العروة الوثقى» استئنافًا لمجلة الأفغاني التي صدَرَت كملحق لجريدة الحزب، جريدة مايو، ثم كجريدةٍ أسبوعية منفصلة للارتباط باللواء القديم، منبر الحركة الوطنية المصرية، زيادةً في النفاق الإسلامي؛ فشتان ما بين الوطنية والخيانة. كما صدر قانون الأحوال الشخصية الذي أثار الجماعة الإسلامية باعتباره خروجًا على الشريعة الإسلامية، وصدر في لمح البصر لأن حرم الرئيس كانت وراءه، في حين ظلَّت لجنة تقنين الشريعة الإسلامية سنوات وسنوات دون أن تُنجز شيئًا. كما استغلَّت السلطة السياسية الغزو السوفييتي لأفغانستان لإظهار تأييد المسلمين ضد الملحدين، والاستعانة بأمريكا والاستغاثة بالغرب لتحقيق غرضٍ مشترك. ونزلت الجماعة الإسلامية في نفس الحلبة، وأقامت المؤتمرات تأييدًا لشعب أفغانستان، وجمعَت الأموال ونظَّمَت طلبات المتطوعين، وقدَّمَت المجاهدين الأفغان في حي الأزهر. ولم يعُد أحد يعلم أين الدولة وأين الجماعة الإسلامية. وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بدأَت القيادة السياسية في مصر الهجوم على الثورة في كل مناسبة، وفي كل خطبة، وتصفها بالدموية، وبالكفر، وبالعداء للعرب، وبالأطماع الشخصية والإقليمية، وبالإرهاب والتسلط، وكانت الجماعة الإسلامية قد فرحَت بالثورة في البداية، ونشرَت صور «الخميني» على غِلاف «الدعوة» والشاه يتساقط ويتشبَّث بالعلم الأمريكي. كما نشرَت الاعتصام صورة «الخميني» على صفحة الغِلاف. ووزَّعَت الجماعة عدة منشورات تأييدًا للثورة الإسلامية في إيران؛ فقد أعطتها الثورة إحساسًا بأنَّ النصر أصبح قاب قوسَين أو أدنى، وأن الشاه والاستعمار وكل أجهزة القمع لا تستطيع أن تقف أمام الإسلام، عقيدة، وقيادة، وشعبًا. ونظَّمَت الجماعة الإسلامية مظاهرةً في جامعة القاهرة لأول مرة خارج الأسوار، وحول النصب التذكاري للشهداء، ضد استقبال الشاه المخلوع في مصر، بعد أن أصبح طريدًا في العالم كله، وإقامة أسرته في مصر في قصرٍ رسمي من قصور الدولة ودفنه في مصر. ثم غيَّرت الجماعة الإسلامية موقفها بعد سيادة التخلف التقليدي على موقفها المبدئي؛ مِمَّا جعلها تُميز حركتها وثورتها المستقبلة عن الثورة الإسلامية في إيران، وترفض أي تشابه أو مقارنة بينهما. وبعد أن نُشر كتاب «الحكومة الإسلامية» في مصر، رفضَت الجماعات الإسلامية توزيعه لأنَّ به خلافًا عقائديًّا مع أهل السنة.

ولكن يبدو أنَّ الحوادث «الطائفية» كانت عاملًا حاسمًا في حدوث الفرقة بين رفقاء الأمس، منها ما كان محدود الأثر تلقائيًّا عفويًّا، نتيجة للحمية الدينية التي كانت تسود أجهزة الإعلام نفاقًا، من أجل الحصول على الشرعية الدينية، ومن أجل مواجهة الخصوم السياسيين، ومزايدةً على الجماعة الإسلامية، ومنها ما كان تخلفًا، وكمصيدةٍ وقعَت فيها الجماعة الإسلامية كرد فعلٍ طبيعي على ظروف الدعوة الإسلامية في الثورة المصرية، وكذريعة لإظهار القوة، وتقويض سلطة الدولة، ومنها ما كان من تدبير أجهزة الأمن ذاتها لإحداث الفرقة، وكذريعة للقيام بمزيد من إجراءات الأمن وتقييد الحريات، بحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية، وكذريعة لضرب المعارضة السياسية باسم الفتنة الطائفية، ووسط هذا الجو المشحون والسلاح المشهر. والحقيقة أنَّ «الفتنة الطائفية» غريبة على تاريخ مصر. لم تعرفها مصر في أوقات ثوراتها الوطنية مثل ثورة ١٩١٩م، أو في مرحلة البناء الاشتراكي مثل ١٩٦١–١٩٦٤م، أو في حرب أكتوبر ١٩٧٣م. ولا تظهر إلا في غياب الولاء الوطني، وضعف الدولة، كانتماءات بديلة مثل التعصب لنوادي الكرة أو للصعيد أو للوجه البحري، أو للمحافظات وللقرى أو للمهنة والطبقة. كان من الطبيعي أن تُثير الحمية الإسلامية في أجهزة الإعلام الحمية القبطية؛ فالحمية الدينية واحدة.

كان هدف الدولة من استخدام «الفتنة الطائفية» وتهويل الأمر وتضخيمه كما حدث في ١٩٨١م، في أحداث الزاوية الحمراء هدفًا متعدد الجوانب مُتمثِّلًا في الآتي:

  • (١)

    المزايدة على الجماعات الإسلامية، وتجاوزها في الحمية الدينية، والسباق في الإسلام، وبأنَّ الدولة هي المحافظة على الإسلام وعلى الديانات، وأنَّها المسئولة أمام الشعب عن الدين، وليس الجماعات.

  • (٢)

    الدفاع عن المسيحيين أمام الغرب، باعتبار أنَّ مصر هي حامية المسيحية، حتَّى تزداد ثقة الغرب وأمريكا بها، بدليل السماح بنشاط الكنائس التعليمي والاجتماعي والديني على أوسع نطاق داخل مصر، خاصة الكنائس الغربية بصورة لم يسبق لها مثيل، وتضييق الخناق على الكنيسة القبطية الوطنية، خاصة بعد إصدارها بيانًا تُحرم فيه على أقباط مصر زيارة القدس المحتلة في الوقت الذي تَعِد فيه السلطة السياسية بمد إسرائيل بمياه النيل، وتسير في إجراءات التطبيع.

  • (٣)
    الدفاع عن اليهود واليهودية، مثل الدفاع عن المسيحيين والمسيحية، واحترام المعابد مثل احترام الكنائس والمساجد؛ وبالتالي تُضفي الشرعية الدينية على الصلح مع إسرائيل، باعتبارها دولة يهودية، وإنهاء الحرب معها قبل انسحابها من باقي الأراضي العربية المحتلة؛ فاليهودية والمسيحية والإسلام أديان ثلاثة أتت من مصدر واحد هو إبراهيم أبو الأنبياء. والمسلمون يؤمنون بكل الرسل. لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (٢: ٢٨٥) وتتكرَّر في كل الخطب عن الفتنة الطائفية آية قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٢: ١٣٦) (٣: ٨٤)؛ فالصلح مع إسرائيل نتيجة لاعترافنا بالأديان؛ ومن ثم لا طائفية في الإسلام!
  • (٤)

    إيجاد ذريعة لضرب الجماعات الإسلامية وتصفيتها، باعتبارها هي المسئولة الأولى عن الحوادث الطائفية، والقضاء على هذا الخطر بعد القضاء على خطر الناصرية، بكافة القوانين والإجراءات الاستثنائية، ووقوع الجماعات في هذا الشَّرَك في الأعداد الأخيرة من مجلة الدعوة، خاصةً العدد ما قبل الأخير أغسطس ١٩٨١م، عندما وجَّهَت إنذارًا إلى أقباط مصر، وكأنَّه إعلان حرب من المسلمين على الأقباط!

  • (٥)

    وجود ذريعة أخرى، وهو الأهم، لضرب كل قوى المعارضة والخصوم السياسيين بحجة الفتنة الطائفية، أساتذة الجامعات والصحفيين والسياسيين ورجال الدين المسيحي والإسلامي نظرًا لمعارضتهم السياسات الرئيسية للنظام؛ الصلح مع إسرائيل، الانحياز لأمريكا، الانفتاح الاقتصادي، القوانين المُقيِّدة للحريات، هي الدوافع التي كانت وراء قرارات سبتمبر الأخيرة، الفتيل الذي أشعل النار.

  • (٦)

    إعطاء الفرصة للرئيس الراحل للظهور وكأنَّه بطل الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، وأنَّ الشعب كله وراءه، وأنَّه الساحر القادر على حل كل المشكلات، وأنَّ صدماته الكهربائية المستمرة، وآخرها علاج المشاكل الطائفية، علاجٌ سحري لمشاكل مصر حتَّى يطغى على أصوات المعارضة في الداخل والخارج بعد أن ارتفع صوتها، وأصبح العالم كله يتحدَّث عنها همسًا أحيانًا وجهارًا أحيانًا أخرى، ودون أن يهز الصورة التي خلقَتْها أجهزة الإعلام الغربية للرئيس، والتي صدَّقها الناس وصدَّقها هو نفسه.

  • (٧)

    التحذير بأنَّ مصر لن تكون لبنان أخرى، ولمَّا كان أحد في مصر لا يود أن يراها لبنان أخرى فإنَّه بذلك يظهر وكأنَّه حامي حمى الديار، ومنقذ البلاد من فتنةٍ طائفية ساهم هو في صنعها.

ولقد لقطت الجماعة الإسلامية الطعم المُلقى إليها، الفتنة الطائفية، واستغلَّته لحسابها الخاص على النحو الآتي:

  • (١)

    إظهار قوة الجماعات الإسلامية، وأنَّها أصبحت عصية على النظام لا يُمكن قهرها، وأنَّها هي المُسيطرة على المدن الجامعية وعلى المحافظات، بل وعلى مناطق بأكملها مثل الوجه القبلي، وما يُمثِّله هذا التحدي أمام الشعب من مظهر لإضعاف سلطة الدولة وهيبتها.

  • (٢)

    إشعال الفتنة الطائفية كذريعة لتقويض النظام السياسي، وبحجة الدفاع عن الإسلام أمام الجماهير الإسلامية، وإبراز صور القتلى من المسلمين في جريدة «الدعوة» والمطالبة بالأخذ بالثأر، خاصة وأنَّ الحكومة نفسها ستتلكأ في إخماد الفتنة إن لم تزد في إشعالها حتَّى يسهل القضاء على المعارضة الدينية إسلامية ومسيحية. وقد ثبت هذا التلكؤ بالفعل في أحداث «الزاوية الحمراء»، وإحضار مجموعة من صبية الأحداث للإحراق والنهب والسلب أمام أجهزة الأمن.

  • (٣)

    ما دام الأقباط يستعملون العنف، ويُنظِّمون أنفسهم في جماعات مسلحة، فإنَّه لا بد من مقابلة العنف بالعنف، والتنظيم المسلح بتنظيم مسلح مضاد، وقد كان الأقباط في رأي الجماعة الإسلامية هم البادئون بإطلاق النار في الزاوية الحمراء.

  • (٤)

    تجميع أكبر قدرٍ ممكن من الجماهير المنظمة نحو هدف واحد، خاصة وأنَّه هدف شرعي أمام أعين المسلمين، دفاعًا عن الإسلام؛ مِمَّا يسهل بعده تحويل الهدف الطائفي إلى هدفٍ سياسي أكبر، والانقضاض على الدولة من منطلقٍ إسلامي شرعي، ومن جماعةٍ إسلامية شرعية تحرس الدين وتحمي المسلمين.

  • (٥)

    تكشف التحقيقات عن هذه الرغبة المتبادلة من الطرفين لتضخيم الأحداث، كلٌّ لمصلحته الخاصة، الجماعات من أجل الانقضاض على الدولة، والدولة من أجل الانقضاض على المعارضة السياسية، فيقول عبد الحميد عبد السلام، أحد المتهمين بعد التحقيق في حوادث الزاوية الحمراء؛ حيث صُوِّرت الوقائع على أنها مشاجرة بين عائلتَين بسبب نشر الغسيل، بالرغم من أن المسيحي المدعو كامل فتح النار على المصلين أثناء صلاة العشاء في المسجد من المكان المتنازع عليه بين المسلمين والنصارى، وبعد ذلك تصوير علماء المسلمين في خطاب الرئيس بعد القبض عليهم ووضع أسمائهم مع أسماء أعضاء الأحزاب السياسية، والتعليق على أنَّهم مجموعةٌ واحدة لتكبير الموقف عن حقيقته (التحقيقات، ص١٣–٤٣)!

  • (٦)

    إصدار فتوى من الجماعة الإسلامية بأنَّ مال المسيحيين حلال ما داموا في حالة عداء مع المسلمين، وأنَّ الأقباط جزء من المسيحيين، والمسيحيون جزء من الصليبيين، والصليبيون مُمثَّلون داخل البلاد الإسلامية في نشاط الكنائس والمُبشِّرين، وقد كان مخطَّطهم منذ الحروب الصليبية تحويل مصر إلى إمارة صليبية، والاستشهاد بكتابات أقطاب مفكِّري الجماعات الإسلامية مثل محمد الغزالي.

  • (٧)

    أصدر الفتوى د. عمر عبد الرحمن، أستاذ في كلية أصول الدين جامعة الأزهر، فرع أسيوط؛ فقد أفتى بجواز قتال النصارى والاستيلاء على أموالهم؛ فيقول «إنَّ المسيحيين على ثلاثة أقسام؛ من قتل منهم مسلمًا يُقتل، ومن أعان الكنيسة واشترى منهم سلاحًا للاعتداء على المسلمين يحل ماله، ومن لم يفعل هذا ولا ذاك فماله ودمه حرام» (التحقيقات، ص١٩٧، ص٣٩٢).

والحقيقة أنَّ الطائفية كانت لها أرضيةٌ واسعة جهَّزتها السلطة السياسية والجماعة الإسلامية على حد سواء، وساعدَت عليها بعض الظروف النفسية والمكانية؛ فنظرًا لسيادة التخلف على مدى عشر سنوات هو عمر الثورة المضادة، دخلَت البلاد في مباراة في الدين، وليس في مباراة للولاء للوطن. وفي هذه المباراة في بناء المساجد، وإظهار الشعائر، بدأ الصراع ينشأ بين صلاة الجمعة والقُدَّاس، وبين المسجد والكنيسة، وبين الأذان والأجراس، وبين الهلال والصليب، وبين الشيخ والقسيس، وبين شبرا والحسين، وبين السمن والزيت، واللحم والبيض، والزفر والفول، والطبيخ والبصارة! فوقعَت حوادث في كل حيٍّ أيُّ الطرفين فيه أفضل وأكثر وأحسن موقعًا. نظرًا لغياب الولاء الوطني عند الحاكم والمحكوم، وعدم أولوية صفة المواطن على الانتماءات القبَلية والعشائرية والدينية استشرت الطائفية، وكثُرت في الصعيد نظرًا لكثرة الأقباط في مصر الوسطى، ونظرًا لحمية الطباع لدى سكان الوجه القبلي، وبُعدهم النسبي عن الاحتكاك الحضاري بالعالم الخارجي. وقد وصل الأمر إلى حد اعتبار اليهود والنصارى كُفارًا تجوز محاربتُهم وأخذ أموالهم غنيمةً ما داموا يجمعون الأموال ويستعملون السلاح. لم يكن للمواطن وجود، ولا للوطن وجود، بل أدَّت الطائفية إلى نزع الولاء للوطن وللمواطنين، والسطو على الجيش وعلى الشعب، والحصول على السلاح والأموال بالقوة. وكأنَّ العدو في الداخل وليس في الخارج، وكأنَّ المعركة بين المواطنين وليس بين الوطن وأعداء الوطن.

وقد نشِطَت مجلة «الدعوة» منذ إعادة ظهورها في ١٩٧٦م، حتَّى معاهدة الصلح مع إسرائيل في مارس ١٩٧٨م. وكان يغلب عليها الموضوعات الدينية التقليدية البريئة، مثل أهمية العقيدة الإسلامية والتوحيد، وأهمية العبادات والشعائر، وتاريخ الإخوان المسلمين، وصفحات من جهادهم قبل الثورة وتعذيبهم بعد الثورة، والدفاع عن أوضاع الإخوان المسلمين في سوريا، والهجوم على نظام البعث السوري وطائفة النُّصيرية العلوية وكشف مخططاتها ضد الإسلام والمسلمين، وهو ما كان يتَّفق مع الخط السياسي للدولة، وإن كان الهدف البعيد هو «الكلام لكِ واسمعي يا جارة»، والدعوة العامة إلى الحكم الإسلامي التي لا تُشير إلى دولة خاصة، أو إلى وضع مُميَّز في مصر، في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو القانون، بالإضافة إلى بعض نصائح عامة للحكام المسلمين، والهجوم على الاتحاد السوفييتي خاصة بعد غزوه لأفغانستان، وهو أيضًا ما يتَّفق مع الخط السياسي للدولة.

ولكن منذ مارس ١٩٧٨م حتَّى أغسطس ١٩٨١م، انتقلَت الدعوة إلى مرحلةٍ أخرى جعلَتها لسان حال المعارضة الدينية في مصر؛ فقد بدأَت تنتقد معاهدة الصلح مع إسرائيل، بندًا بندًا، نقدًا يدل على وعي سياسي عالٍ دون خطابةٍ دينية أو انفعالٍ إسلامي، نقدًا سياسيًّا علميًّا يُبيِّن مخاطرها على السيادة المصرية على سيناء، وعلى مستقبل الأراضي المحتلة، وعلى قضية فلسطين، وعلى مستقبل علاقة مصر بالأمة العربية، بل علاقة الحاكم بالمحكومين في مصر الذي عليه أن يمنع، بنص المعاهدة، أي نشاطٍ مُعادٍ للدولة الصديقة إسرائيل. انتقلَت الدعوة الإسلامية فيما يبدو، تحت ضغط الظروف السياسية، واستحالة أن تكون الدعوة الإسلامية مجرد دعواتٍ وابتهالاتٍ دينية، إلى مرحلةٍ جديدة، الدخول في القضايا المصيرية للبلاد؛ لذلك صُودرت المجلة في أكتوبر ١٩٨٠م، كإنذارٍ لها ضد هذا الخط الجديد، ودُعي عمر التلمساني إلى وزارة الداخلية للتنبيه عليه بعدم التعرض لمثل هذه الموضوعات «القومية» من جديد، والعودة إلى الإسلام كعقيدة وشريعة «فلا سياسة في الدين ولا دين في السياسة»! كما بدأَت المجلة في نقد سياسة الانفتاح الاقتصادي، أقل خطورة من الصلح مع إسرائيل، وبيان آثارها الوخيمة على الاقتصاد المصري، وخطورة سياسة الاستيراد، والبنوك الأجنبية، وتزايد الأغنياء غنًى والفقراء فقرًا، والتهرُّب من الضرائب، والرشوة، والعمولات، وشتَّى مظاهر الفساد في الدولة، مثل المُجون والخلاعة والهزْل المَقيت. كما نقدَت المجلة سياسة التحالف مع أمريكا، أقل خطورة أيضًا من الصلح مع إسرائيل، الحليف الجديد، والصديق الوفي، في غضون نقد سياسة التحالفات مع الشرق أو مع الغرب، وخطورة السيطرة الغربية، وعداء الغرب التقليدي للإسلام منذ الحروب الصليبية حتَّى تقطيع الاستعمار لأوصال العالم الإسلامي. وأخيرًا نقدَت المجلة عزلة مصر عن العالم العربي، وإضعاف الجبهة العربية حتى رتعَت الصهيونية كما شاءت فوق الأرض العربية، وألحَّت على ضرورة عودة مصر إلى الصف العربي، واسترداد مصر لدورها القيادي، وكأنَّ الدعوة الإسلامية قد نسيَت خلافَها مع القومية العربية لدرء خطرٍ مشترك واحد هو التفكُّك والتشرذم، وإخراج مصر من دوائر الصراع في المنطقة حتَّى تلتهمها الصهيونية، ويبتلعها الاستعمار.

ثم دخل خطباء المساجد والأئمة في المعركة، بالتركيز على نفس المحاور الأربعة السابقة التي أصبحَت معالم الثورة المضادة، ونقطة تجمُّع للجبهة الوطنية، وبداية التوحيد بين المعارضة بجناحَيها الرئيسيَّين؛ المعارضة الدينية والمعارضة السياسية، كما حدث ذلك في الثورة الإسلامية في إيران، التي أدَّت إلى سقوط الشاه في النهاية. ركَّز الأئمة أساسًا على قضايا الفساد في مصر، وظهر خطباء يتفاوتون في أسلوب العرض ودقة التحليل ودرجة الوعي السياسي «الشيخ كشك، الشيخ المحلاوي، الشيخ محمد عيد، الشيخ السماوي … إلخ»، وتحوَّلَت خطبهم يوم الجمعة ودروسهم في المساجد إلى منتدياتٍ سياسية، ومظاهراتٍ وطنية سلمية، واقتراعٍ شعبي ضد الثورة المضادة، بما تضمَّنت من خيانة وبيع للبلاد؛ وبالتالي استوفَى الأئمة شروط الخطبة الشرعية؛ أي التعرض للقضايا العامة التي تهم البلاد، والدفاع عن المصالح العامة، والدخول في المسائل التي تعم فيها البلوى. وبدأَت بوادر الوحدة الوطنية بين المعارضة الدينية والمعارضة السياسية، وذهب أعضاء من المعارضة السياسية للحديث في المساجد «حلمي مراد»، وتحدَّث رجال الدين لدى أحزاب المعارضة، واستعملوا لغة الاقتصاد، ونظريات السياسة، وإحصائيات الاجتماع، كما استعملَت المعارضة السياسية مفاهيم الإسلام ونصوص القرآن والحديث. ثم بدأَت هذه التجمعات تُحدث آثارًا ضخمة في الجماهير، فأصبحَت المساجد عامرة بالمصلين بعد أن كانت قفرًا ليس من أجل الصلاة، بل من أجل سماع الخُطب السياسية والدروس الوطنية. ونشطَت أحزاب المعارضة، وأصبحَت جرائدها محور حديث الناس، يتلقفونها صباح صدورها وتنفد في الحال، نظرًا لما كانت تُقدِّمه من بدائل، وما تكشف عنه من مظاهر الفساد في البلاد. ثم انتقلَت الدعوة الدينية والمعارضة السياسية أخيرًا من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة الفعل، توجَّه النقد المباشر العلني الصريح ليس فقط للأوضاع في الدولة، بل للشخصيات العامة، وعلى رأسها شخص الرئيس وحرمه واستراحاته وبذخه وترفه، وتدخُّل حرمه في شئون السياسة، وسفرها ممثلة لمصر في المنتديات الدولية، وتصدُّرها لكل الأحداث العامة، وحياتها الخاصة، وأسلوب معيشتها وتجارتها، وتعاملها مع أصدقاء مصر الجُدد، بيجين ورؤساء أمريكا السابقين وتعاملهم معها تعامل الجنتلمان.

ثم وصلَت السلطة السياسية تقارير من جهاتٍ متعددة. أجمع كلها على خطورة الوضع في مصر. فإثر زيارة بيجين لمصر في الإسكندرية في أغسطس ١٩٨١م، أخبر بيجين الرئيس الراحل عن الوضع الداخلي السيئ في مصر، عن قوة المعارضة، وعن رفض كل الاتجاهات السياسية في مصر لإجراءات التطبيع، وعن كثرة النشاط «المُعادي» لإسرائيل في مصر، وعن كمية الكُتب والمقالات المنشورة عن مُعاهدة الصلح والتطبيع؛ وبالتالي فإنَّ ما يقوله الرئيس من أنَّ «شعبي ورائي»، وأنَّ ٩٩.٩٪ من الشعب وراءه باستثناء قلة من الحاقدين الأراذل لا أساس له من الصحة. وأثناء زيارة الرئيس للولايات المتحدة في نفس الشهر عَلِم أيضًا من المخابرات الأمريكية عن تدهور الوضع الداخلي في مصر، وربما فهم أيضًا، ولو بالإشارة، إلى أنَّ أمريكا تبحث عن البديل، في حالة سقوط النظام، أو في حالة ما إذا قرَّرت هي إسقاط النظام، الوفد؟ الناصريون؟ الإخوان؟ وأنَّ أمريكا لا تُريد أن تُضحي بالمنطقة كلها من أجل شخصٍ واحد تخشى عليه من الثورة التي قد تقوم بها اتجاهاتٌ جذرية تُغيِّر سياسة مصر؛ وبالتالي تقلب موازين القوى في المنطقة، وتُغيِّر الاستراتيجية الأمريكية كلها. كما أفزعَته أخيرًا أجهزة الأمن المصرية، والمخابرات العامة، ومباحث أمن الدولة، وهيئة الأمن القومي المصرية بشدة المعارضة في مصر وخارج مصر، في العالم العربي والغربي، من المصريين والعرب، بل ومن الصحفيين الأجانب، الذين هم على صلة وثيقة بالمعارضة في مصر، وعلى دراية بخطورة الأحوال في مصر، وعن نشاط المعارضة الدينية والسياسية داخل مصر وبداية جبهة الائتلاف، واستشراء المعارضة في أجهزة الدولة ومؤسساتها، في أجهزة الإعلام، والجامعات، والأحزاب السياسية، والجماعات الدينية، والنقابات، والاتحادات وكأنَّ مصر قد أجمعَت على أنَّ ساعة الخلاص قد حانت، وأنَّ وقت الفعل قد قرب. وجاءت بداية النهاية بقرارات سبتمبر لمَّا ظهرَت بوادر الوحدة الوطنية والتجمع الوطني والجبهة الوطنية. واجتمعَت الاتجاهات السياسية الأربعة في مصر على برنامجٍ وطني موحَّد يكون هو البديل عن السياسات القائمة مُعارض لها تمامًا؛ فقد اجتمعَت الليبرالية المصرية المُمثَّلة في حزب الوفد، والناصريون الذين يُمثِّلون ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، والتيار الإسلامي الذي تُمثِّله الجماعات الإسلامية، والاتجاه الماركسي الذي تُمثِّله الأحزاب الماركسية والشيوعية في مصر على سياساتٍ أربع بديلة وهي:

  • (١)

    رفض كل الإجراءات الاستثنائية والقوانين المُقيِّدة للحريات والاستفتاءات الشعبية، والمطالبة بحق كل اتجاه في التعبير عن رأيه في منبره الخاص، صحافة حزبية، واجتماعات شعبية، وحق المعارضة في التعبير عن نفسها دون تكفير أو اتهام بالخيانة والعمالة.

  • (٢)

    رفض سياسة الانفتاح، وبيان مخاطرها على الأوضاع الاقتصادية في مصر، وآثارها الوخيمة على الصناعات الوطنية في مواجهة المستوردة، وعلى الأسواق والعمالة المصرية، وعلى مستوى المعيشة واستشراء الرأسمالية الطُّفيلية في مصر، وما نتج عنها من مظاهر الفساد، من المضاربات والعمولات وإنشاء البنوك الأجنبية، وازدهار السوق السوداء، وتهريب الأموال إلى الخارج.

  • (٣)

    رفض الصلح مع إسرائيل، وإجراءات التطبيع، والتنازل عن السيادة في سيناء، وعقد أي صلح منفرد، وأي تنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني، وتحويل معاركنا السياسية ضد الاستعمار والصهيونية وجبهات مصر الحقيقية إلى معارك أخرى وهمية في أفريقيا، ومساعدة الثورات المضادة، وافتعال معارك الحدود مع ليبيا.

  • (٤)

    رفض سياسة التحالف مع أمريكا، وإعطاء القواعد العسكرية لها، وخروج مصر عن سياسة عدم الانحياز، وعن مبادئ باندونج التي أرستها مصر، والعودة بمصر إلى ميزان الثقل في المنطقة ومحور الدوائر الثلاث.

(٧) الانفجار، أكتوبر ١٩٨١م١٧

ويبدو أنَّ العلاج بالصدمة الكهربائية لم ينجح؛ إذ يستحيل وضع مصر كلها في السجون «ومين يقدر ساعة يحبس مصر؟» ففي أقل من يومَين من سبتمبر ١٩٨١م، وُضِع ألفان في السجون، وفُصِل مئات من أساتذة الجامعات والصحفيين، وأُلغيَت تراخيص الصحف ومجلات المعارضة، وعُزِل بابا الأقباط، كل ذلك تحت ذريعة «الفتنة الطائفية» من أجل تصفية المعارضة. وكان يتضح أنَّها بداية النهاية؛ إذ لم تستمر الأمور أكثر من شهر «من ٥ سبتمبر حتى ٦ أكتوبر ١٩٨١م» حتى حدث الانفجار، وتغيَّر مجرى التاريخ في مصر والمنطقة العربية، نحو إعادة موازين القوى من جديد.

ففي أبهة المجد، ووسط جيش مصر، وأمام أجهزة الإعلام التي خلقَته، والتي أراد أن يُقيم معاركه من خلالها، فوقه الطيران، وأمامه الدبابات والمدرعات، وحوله رجال الأمن والنظام وفريق مكافحة الإرهاب الدولي، وأجهزة الأمن الأجنبية، وفي قلبه وعلى لسانه أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٧٩: ٢٤) أو وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٤٣: ٥١)، انتهى كل شيء بيد جيش مصر، وبروح مصر، وبأيدي مصر، وبتراث مصر، تعبيرًا عن إرادة مصر الجماعية. وبعد ظهر نفس اليوم، دبَّ الفرح في قلوب الجميع لسماع النبأ. وكان أول من سمع به في مصر السفير الأمريكي، الذي أبلغه إلى البيت الأبيض، والذي أبلغ بدوره بعض الإذاعات، فعرف المصريون النبأ عن هذا الطريق، وليس من خلال أجهزة مصر التي كانت آخر من يُبلِّغه! ولأول مرة يُغتال رئيس مصر، فقد كان فرعون إلهًا. ولكن لمَّا سُدَّت جميع السُّبل، ووُضعت مصر كلها في السجون، لم يكن أمام شعب مصر إلَّا هذا الطريق.

ولم تتوقَّف الحياة ليلتها أو بعدها، أُطفئت الأنوار ليلتها في المحال العامة، حتى لا يُقال إنَّ الشعب لم يحزن ليلة المأتم، ولكن استمر الناس في مشاغلهم بعدها، يحتفلون بالعيد، ويسخطون على حداد أجهزة الإعلام، وخاصة التلفزيون أيام عيدهم، ولكن كان الكابوس الرهيب قد أُزيح عن الصدور، وتنفس الناس نسيم الحرية من جديد. ومنذ «أحزان أم خالد» بجريدة «الأحرار» الوحيدة التي بقيَت من صحف المعارضة «المستأنسة»، ومنذ الجلسة الافتتاحية في المحاكمة العسكرية اكتسب خالد ورفاقه شعبيةً هائلة لصمودهم وتحديهم وإيمانهم واقتناعهم. ويُسمع قوله «أنا قاتل ولكني غير مذنب»، قاتل كي يُخلص مصر من الطغيان والفساد، وغير مذنب لأنَّه قام بذلك أداءً لواجب ديني ووطني. ثم تتسرب أنباء المحاكمة إلى الشعب من الصحف الأجنبية أو الإذاعات العالمية عن صمود خالد ورفاقه، بعد أن ظهر النور يشع من وجهه، والابتسامة على شفتَيه، يقول لأمه، بعد أن طلبَت منه أن يذكُرها عند ربه «نحن أحرار وأنتم السجناء»؛ لأنَّه ورفاقه أتَوا بفعل حر، وحرَّروا به أنفسهم من الخوف والرضا بالضيم، والدنية في الدين. ثم تحوَّلت المحاكمة إلى محاكمةٍ سرية خشيةَ أن يتحوَّل خالد ورفاقه إلى نماذج وطنية للبطولة والفداء، وكان ما تنعم به مصر الآن من حرية نسبية وبشائر ديمقراطية، وإعادة الحياة للصحف، والكرامة للجامعة، ونزول القضاء المصري إلى الساحة دفاعًا عن حرية المواطنين، واستقلال المؤسسات والجامعات، والصحف، والكنيسة القبطية، ورفض خالد ورفاقه أي دفاع إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا (٢٢: ٣٨)، ولأنَّهم كانوا يُؤدُّون واجبهم الديني.

وكثُرت النكات الشعبية عن الرئيس ولم يُوارِ جسدَه الترابُ بعدُ. ولم يحضر مراسمَ الدفنِ إلا إسرائيل والغرب ممثلًا بثلاثة من رؤساء أمريكا السابقين، وبيجين مُصرًّا على الحضور يوم السبت، مُتمسِّكًا بدينه وبصديقه الذي أعطى إسرائيل شهادة ميلاد، وصك حياة. وفي صحراء مصر، وبلا شعب، باستثناء أجهزة الأمن، تحضُر في أذهان مصر جنازة عبد الناصر، خمسة ملايين في القاهرة، يحملون النعش على الأكتاف، بعد أن تخاطفَته الأيادي، وودَّعَته إلى مثواه الأخير، بحضور رفيقَين له، أخٍ من السودان وابنٍ من ليبيا. وقد كان عمله الأخير إنقاذ المقاومة الفلسطينية من مذابح أيلول الأسود ١٩٧٠م. وفي مثواه الأخير تقف حرم السادات التي كانت أحد أسباب نهايته، تصفِّف شعرها، في أبهى حلة، وأجمل زينة. أول ما قامت به الاتصال بالبيت الأبيض لتطمئن: اغتيال فقط، أم انقلاب أكبر؟ فلمَّا طمأنها الرئيس الأمريكي أنَّه اغتيال فقط حمدَت الله أنَّها نجت برأسها، وهُرعَت إلى المنزل لتُنقذ ما يُمكن إنقاذه من أوراق وأسرار وثروات.

وشاهد الناس على الملأ قادة مصر، تحت الكراسي، مطأطئي الرءوس، بعد أن كانوا شامخي الأنوف، منهم من بال على نفسه، ومنهم من جرى ناجيًا بحياته، تاركًا رئيسه يلقى مصيره وحده، ومنهم من وضع فوق جثته الكراسي ليحميه، نفاقًا، وهو يعلم أنَّه قد قُضي الأمر، وكأنَّ النفاق حتى الموت! ورجال الحرس والأمن المدرب لم يَفْدِ أحدٌ منهم بحياته رئيسه؛ إذ إنَّه لم يشعر بالولاء له ولا بولاء رئيسه للوطن. وتناقلَت وكالات الأنباء صيحة خالد «الموت للخونة وتحيا مصر»، لكن التحقيقات لا تذكر هذه العبارات أو المواقف، ولكن تناقلَتها الصحف الأجنبية، ورواها شهود عيان، وهي تكشف اهتراء النظام مقابل قوة وعقيدة الأفراد، واستعدادهم للتضحية والشهادة، فكرة مقابل مصالح، وشهادة في مواجهة حرص على الحياة.

ولم يكن خالد ورفاقه يريدون إلَّا الرئيس وحده دون غيره. وقد تناقلت الصحف العالمية ووكالات الأنباء وسمع شاهد عيان قول خالد لأبي غزالة قائد الجيش أو لمبارك النائب: «ابعد أنت، أنا عاوز الكلب ده.» يردُّون إليه سَبَّه لرجال الدين، ووصفه الشيخ المحلاوي بأنَّه «مرمي زي الكلب». كان الغرض أن يُجتثَّ رأس الفساد الذي أصبح هو وحده عماد النظام دون غيره من الحاضرين. فإذا أُصيبوا دون قصد فإنَّهم يُبعثون على نياتهم، ويجوز شرعًا حين التصدي للحاكم الظالم أن تقع ضحايا؛ فالأصل هو الأساس. وقد كان الهدف تخليص البلاد من الظالم وحده. توجَّه إليه خالد ورفاقه بحسٍّ غريزي، بالرغم من أنَّ الثلاثة يلبسون نفس الزي العسكري، وحتَّى يكون عبرةً وعظةً لغيره من حُكَّام مصر فيما بعدُ؛ وبالتالي تسقط التهمة بأنَّهم أرادوا اغتيال الرئيس وكل مَن في المنصة من رجال الدولة وضيوف مصر، لأنَّ الهدف كان الرئيس وحده دون غيره. ويظهر هذا من التحقيقات في أماكن كثيرة، يقول مثلًا عطا طايل حميدة: «لم نقصد إلَّا قتله هو فقط.» وكانت النية قتل الرئيس ليكون عبرةً لمن يأتي بعده. وكذلك يقول محمد عبد السلام فرج: «تناقشنا بالنسبة للرئيس وحده ولم نتطرق إلى غيره.» وردًّا على سؤال: «ما الذي كنت ترجوه من قتل الرئيس؟» أجاب: «أن كل واحد يأتي بعده يرتدع ويأخذ عِبرة.»

وهناك ثلاثة افتراضات حول المسئولية المباشرة عن حادث الاغتيال، كلها تدور في أذهان الناس وفي الوعي القومي. الأول الافتراض الأمريكي، وأنَّ أمريكا هي المسئولة الأولى والأخيرة؛ فالتقارير الواردة من داخل مصر، لأجهزة المخابرات الأمريكية تكشف سوء الأحوال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في مصر، وانتشار الفساد نتيجةً لسياسات الدولة، ولم يكن ذلك خافيًا على أحد. وكانت أمريكا على علم بزيادة المعارضة الدينية عامة والسياسية خاصة في مصر، ورفضها لسياسات الدولة واختياراتها الأساسية، وفي مقدمتها الاعتراف بإسرائيل؛ فقد قطع النظام في مصر كل جسوره مع المعارضة، وانتهى بأن وضعَها جملةً واحدة في السجن للتخلص منها في سبتمبر ١٩٨١م، ولم يستمع لنصائح أمريكا بالحرص على ليبرالية النظام، والمحافظة على هذه الصورة خاصة في أجهزة الإعلام الغربي، التي كانت دعامة النظام ومبرر وجوده الشرعي منذ ١٥ مايو ١٩٧١م. وفي نهاية الأمر، لقد استنفدَت أمريكا الرئيس في كل شيء؛ فقد أنهى تجربة مصر الاشتراكية، وحقَّق عُزلة مصر عن العالم العربي، وحوَّل مصر إلى سوق للمال الدولي، واعترف بإسرائيل، وسلَّم بالصهيونية، وانحاز لأمريكا، وأعطاها القواعد العسكرية، وغيَّر موازين القوى في المنطقة، ولم يعُد لديه ما يُقدِّمه لها، استنفدته لآخر قطرة أو كما يقول نزار قباني:

جرَّدوه من كل شيء ولما اسْـ
ـتَنفدوه ألقَوا إليه العِظامَا

ولما لم تشأ أمريكا أن تخسر كل هذه المكاسب التي حصلَت عليها، أصبحت في حاجة إلى وجهٍ جديد قادر على الإبقاء على هذه المكتسبات بطريقة أفضل، وبأسلوب أذكى، وبعقلانية أكبر. لقد أصبح الرئيس عبئًا عليها بهذا الانحياز المباشر الفاضح، وأصبح يُسبِّب لها المخاسر على الصعيد الداخلي في مصر بنشأة الاتجاهات الجذرية الدينية والسياسية، وعلى الصعيد الخارجي برفض العالم العربي التعامل معه؛ وبالتالي خسارة الأنظمة التقليدية العربية المحافظة المنحازة تاريخيًّا لأمريكا. ولمَّا كان الأسلوب الأمريكي المعهود هو البحث عن البديل الأمريكي إذا ما تأزَّمت الأمور، بيدها لا بيد عمرو، كما فعلَت في فيتنام وكوريا الجنوبية وبعض دول أمريكا اللاتينية، قرَّرت التخلص منه.

وبالرغم من منطقية هذا الافتراض وصدقه إلَّا أنَّ «التحقيقات» لا تكشف عنه ولا تؤيده، بل وتفنده الأوضاع في مصر؛ فالنظام السابق كان قادرًا على استمرار تقديم الخدمات المتوالية لتحقيق الأهداف الأمريكية في المنطقة، وكانت لدى النظام أجهزة الأمن وأجهزة القمع القادرة على الوقوف أمام المعارضة، خاصة وأنَّ النظام قد أوهم نفسه بأنَّ أصوات المعارضة أقوى من جماهيرها، وأنَّ آراءها أقوى من حجمها، وأنَّ أمريكا في نهاية الأمر لا تريد أن تخسر الشاه الثاني في مصر، وكدعامةٍ رئيسية لاستراتيجيتها في المنطقة، وكان يُعادي الاتحاد السوفييتي، ويدعم الثورات المضادة في أفريقيا، ويُحوِّل معارك مصر إلى ليبيا وتشاد وزائير، كما أنَّه يصعب إثبات صلة بين الجماعة الإسلامية والمخابرات الأمريكية؛ إذ تكشف التحقيقات عن درجةٍ عالية من الوعي الديني والسياسي لدى أفراد الجماعة، وأن انتماءهم الأول والأخير كان للإسلام ولمصر.

والافتراض الثاني، أنَّ جيش مصر هو الذي كان له هذا الشرف، وهو افتراض تؤيِّده بعض جوانب التحقيقات، ولا يتعارض مع صورة جيش مصر الوطني، وتدعمه القرائن الحسية بانتماء خالد ورفاقه إلى الجيش سواء كانوا مجندين أو احتياطيين؛ فقد وقع الحادث في أرض العرض العسكري، بجوار النصب التذكاري للجندي المجهول، وبسلاح الجيش. وليس من المعقول أن يتم ذلك كله من خلال العرض؛ السهولة التي تمَّ بها استبدال الطاقم، وتزوير خطابات الاستدعاء، وإدخال الذخيرة الحية، وجود إبر ضرب النار، وعدم التفتيش، وعدم تأمين المنصة من الأمام لأول مرة، وعدم إطلاق النار من الحرس، وتوقيت الحادث مع مرور الطائرات من فوق المنصة، واحتمال وجود أنصار للفريق أحمد بدوي في الجيش يتربصون بقياداته لاحتمال استشهاد الفريق بدوي ورفاقه غيلةً واغتيالًا، واستحالة أن يكون ذلك بتوفيقٍ من الله كما يقول خالد ورفاقه. كان خالد يُصرُّ أولًا على عدم الاشتراك في العرض، وقد يكون ذلك حقيقة وليس إيهامًا، ولكن قائد الكتيبة أصرَّ على إشراكه، ورفض الأسماء المقترحة بديلًا عنه ملتمسًا الأعذار لهم بالغياب أو المرض أو الانشغال في أعمال الوحدة الأخرى، بل لقد قام أحد أفراد الجماعة الإسلامية من الجنود، بعد أن عرض عليه الاشتراك في الحادث، بتبليغ ذلك إلى المخابرات العسكرية وأجهزة الأمن الحربي ولم يتحرَّك أحد. وتتضح هذه السهولة من هذا الجزء من التحقيقات مع خالد الإسلامبولي.

س: وما ظروف تعيينك في العرض العسكري؟

ج: أنا كنت غير راغب أصلًا في الاشتراك، وكان فيه واحد مُعيَّن غيري، وهو النقيب عبد الرحمن سليمان من كتيبتي، وهو كانت ظروف مراته صعبة شوية، فقائد الكتيبة الرائد مكرم عبد العال عينني أنا. وسبب عدم رغبتي أولًا في الاشتراك هو أنِّي كنت أرغب في النزول إجازة.

س: ألم يكن ضابط الأمن بالوحدة يعلم المعلومات المسجَّلة عنك؟

ج: كل اللواء كان يعلم!

س: وقائد الكتيبة تحديدًا؟

ج: قائد الكتيبة وقائد اللواء يعلمان!

س: هل زوَّرت خطًّا بإلحاق كلٍّ من عبد الحميد وحسين وعطا على أساس أنَّهم جنودٌ من اللواء ١٨٨؟

ج: عملت جواب ثمَّ مزَّقته.

س: لماذا؟

ج: أنا عملت هذا الجواب علشان يدخلوا بيه، وهمه دخلوا بدون اعتراض، فلم أجد حاجة لمثل هذا الخطاب.

س: متَّى مزَّقت هذا الخطاب وفي أيَّة ظروف؟

ج: لا أذكر، وأنا لم أجد له لزومًا.

س: من الذي قام بالتفتيش للتثبت من عدم وجود ذخائر أو إبر ضرب نار في الأسلحة «الذخيرة»؟

ج: لم يقم أحد بالتفتيش على الذخيرة، ولكن كان هناك أمر بنزع إبر ضرب النار. ولم يُفتِّش أحد للتثبُّت من تنفيذ لك.

وكانت كل المعلومات متوافرة لمخابرات الجيش عن اتجاهات الضُّباط الدينية والسياسية ومنهم الضابط خالد. كانت التقارير موجودة منذ ثلاثة أشهر عند رؤسائه على شتَّى المستويات في وحدته وكتيبته ولوائه عن انتماءاته الدينية، ولكنَّ تقريرًا ورد قبل العرض بأنَّه شخصٌ عادي، لا يبدو عليه أي شيء غير عادي. وكان شقيقه المنتمي إلى الجماعة الإسلامية قد قُبض عليه في سبتمبر الماضي، وطلب خالد إجازة أسبوعًا لرؤيته والاطمئنان عليه، وكان سلوكه في الوحدة معروفًا باتجاهاته المتزمتة. وكان خالد لا يُحب أن يسمع الراديو أن يأكل الفراخ المذبوحة ولا السمنة الهولندي ولا يُحب مشاهدة التلفزيون. وطبقًا لوصف زميله عبد الهادي مصطفى أنَّه لاحظ بداية التغيير على خالد في أوائل ١٩٧٩م، لاحظ عليه أنَّه يُصلي بشكلٍ منتظم، وامتنع عن التدخين، فاستراح له زميله، وحادثه في الإسلام والإعداد له، وصلَّيا معًا في المسجد، وعرَّفه على أعضاء الجماعة مدنيين وعسكريين. ثمَّ ترك له ورقة ذات مرة مكتوبًا عليها آية قرآنية معناها: أنَّ الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا لها فهُم في عِداد الكفار، ويوم الخميس السابق على العرض مباشرة، كان خالد يميل إلى العنف مع الجنود لأداء الفرائض، حتَّى إنَّ المخابرات استدعَتْه ولا يعلم ما تمَّ بعد عودته. عاد حزينًا جدًّا ولم يتدخَّل في شئون الأفراد بعد ذلك سوى دعوة الناس إلى أداء الصلاة. وكان خالد يحث زملاءه على الصلاة وهجر الأعمال الدنيوية. وكان الجيش عادةً ما يُتابع الأفراد المشبوهين في الوحدات، ويضعهم تحت المراقبة الشديدة. وكانت تأتي التقارير من مباحث أمن الدولة عن تصرفات خالد المدنية خارج الجيش وانتماءاته الدينية، فهل صمت الجميع، وترك خالدًا يشترك في العرض وهو يعلم ما كان ينوي، وسهَّلوا له كل شيء؟ وهذه الدقة المتناهية في التنفيذ توحي بأنَّ العملية قد قام بها رأسٌ مدبِّر لأنَّها Master Plan وليس غريبًا على أجهزة الدولة والمخابرات المدنية أو العسكرية القيام بمثل هذه العمليات على مدى التاريخ «مقتل كيندي مثلًا».

والافتراض الثالث هو بطبيعة الحال الجماعة الإسلامية، وجماعة الجهاد بالذات التي كان فقيهها محمد عبد السلام فرج صاحب «الفريضة الغائبة»، وقائدها العسكري عبُّود الزمر، ضابط المخابرات العسكرية بالقوات المسلحة، وهو الافتراض المُسلَّم به، وتؤيده التحقيقات، ويكون هذا الافتراض أكثر صدقًا إذا قلنا إنَّه الجناح العسكري لجماعة الجهاد في الجيش، فقد بدأَت الجماعة الإسلامية تُجنِّد أنصارها في القوات المسلحة، ضباطًا وجنودًا، وكان معروفًا لدى المخابرات العسكرية؛ مِمَّا دعا إلى تصفية أكثر من مائة ضابط ذوي ميولٍ دينية بعد حادث الاغتيال. ولم تكن جماعة متطرفة بالمعنى الجهازي للكلمة، ولكنَّها كانت جماعة تؤمن بضرورة الجهاد لقيام الدولة الإسلامية، والإعداد لذلك، ولكن الذي أسرع بالتنفيذ شيئان؛ الأول هو الحكم على الرئيس بالكفر بالأدلة الشرعية، وبفتوى من فقهاء الجماعة، والثاني إعطاء الرئيس نفسه إشارة البدء بقرارات سبتمبر وخطبته فيها خاصة الأخيرة يوم ٥ / ٩ / ١٩٨١م، التي كانت بمثابة آخر مسمارٍ دقَّه في نعشه.

لقد أصدر تنظيم الجهاد حكمًا بكفر الرئيس؛ فهو كافر لأنَّه لا يحكم بما أنزل الله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٥: ٤٤). وقد أصدر د. عمر عبد الرحمن فتوى رسمية بهذا المعنى؛ أي بصواب قتل الحاكم الكافر، وقد كان موضع ثقة الجماعة خاصة بعد أن اختاروه أميرًا عامًّا للجماعات؛ إذ إنَّه رجل متدين يثق فيه عبد الله السماوي، ويُعطي دروسًا دينية، ويشرح سورة التوبة والأنفال عن وجوب قتال المشركين والكفَّار. كان محمد عبد السلام يتحدَّث بعد الصلاة في المساجد عن تكفير الرئيس، وحكم الإسلام في وجوب قتال الكفَّار. وقد تكون إباحة دم الرئيس نتيجةً طبيعية للحكم عليه بالكفر؛ فالحاكم حلال قتله. وهذا الحكم لم يكن اجتهادًا فحسب، بل اعتمد على إجماع الأمة وعلى نصوص الكتاب والسنة؛ وبالتالي فهو حكم له ما يؤيده في الشريعة، مستقلًّا عن الأفراد وعن الفقهاء، حكم موضوعي مستقل له وجوده في التاريخ، ويعمل كدافع في سلوك الناس، ويحثهم على الإقدام والمبادرة.

وجاء في أقوال عبُّود الزمر أنَّ تكفير الرئيس وتحليل دمه كان قد صدر من أهل الفقه مثل محمد عبد السلام «كان قد أفتى بحل دمه منذ عدة شهور». ويُحتمل أن يكون قد درس هذه القضية مسبقًا وحدَّد موقفه منها، وهذا هو المتوقع من مثله، كعالم يُستفتى دائمًا في هذه الأمور، ولكن يبدو أنَّ عبد الحميد عبد السلام، أحد الأربعة الذين نفَّذوا العملية، كان أكثرهم وعيًا بأسباب الاغتيال بقوله: «الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومصداقًا لقوله تعالى وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ صدق الله العظيم. والدولة تُوجد بها مفاسد من تشجيع على جذب السُّياح، ومن خمور وربًا، وتقديم شرار القوم وتأخير خيارها، والعمل على الإقلال من قيمة المسلمين، والسخرية من علماء المسلمين المخلصين، والميل كل الميل على الإخوة الملتحين، والسخرية من الحجاب الذي فرضه الله تعالى على نساء المسلمين، وتبديل شرائع الله بقوانين وضعية، والتضييق على المسلمين في بناء المساجد ومن يعطون دروس العلم بالقبض على العلماء، كل هذا كان من الدوافع التي جعلتني أُفكِّر في تغيير هذا المنكر أو وضع حد له، وكان أملنا في مجلس الشعب عندما تعيَّن صوفي أبو طالب رئيسًا له وإصدار قرارات بتقنين الشريعة الإسلامية وحتى الآن لم يحدث أي تقدُّم أو جديد في هذا الأمر، بالرغم من أنَّ أي قراراتٍ عادية يتخذها رئيس الجمهورية أو من قوانين الأحوال الشخصية تُنفَّذ على الحال دون عوائق. وكذلك التشبيه بأنَّ ثورة الخميني ثورة إسلامية على الرغم من أنَّ الخميني يبعد كل البعد عن تطبيق الشريعة الإسلامية لأنَّه شيعي، والشيعة يعملون على قتل السنية. هذا التشبه يُشوِّه صورة الحكم الإسلامي الصحيح؛ فهو تشبيه في غير محله. كل هذه الأشياء جعلتني أضع في مخيلتي ومعتقداتي أنَّ نظام الدولة يعمل ضد الإسلام وليس لصالح الإسلام. والواجب على المسلم الحق الأمر بالمعروف وأن يُغيِّر المنكر خصوصًا إذا كان القائمون على هذا المنكر هم أئمة هذا البلد، وكل هذا كان تبديلًا لشرائع الله.» ويقول عبد الحميد عبد السلام: «وأخبرني خالد في نفس اليوم أنَّه يعمل خطة.» ويقول حسين عباس: «إنَّ هذا الأمر لا يحتاج إلى علم كثير، ولكن ما أعلمه أنَّ هذا الظالم كان لا يحكم فينا بكتاب الله أولًا، ثمَّ إنَّه كان يستهزئ ببعض آيات الله سبحانه وتعالى، مثل أنَّه قال على الحجاب الشرعي إنَّه خيمة، وكان يُحارب المسلمين في كل مكان بجنوده، وأقصد بالأمن المركزي، حتَّى إنَّهم دخلوا بعض المساجد وقبضوا على مَن فيها، وضربوا فيها قنابل الدخان، وحاربوا علماءنا، وأصدر أوامره بالقبض عليهم لأنَّهم يقولون قولة الحق بحجة أنَّه يُريد أن يُنهي الفتنة الطائفية، واعتقل رجاله الكثير من المسلمين حتَّى إنَّهم كانوا يقبضون على النساء من الشوارع. وهو قد خرج من دين الله بكلمةٍ قالها وهي «لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين». وشتم العلماء على الشاشة الصغيرة وقال إنَّهم كلاب؛ إذ قال إنَّ المحلاوي مرمي في السجن زي الكلب، وقال عن الشيخ حافظ سلامة بتاع السويس لا أتحٍدَّث عنه لأنَّه مجنون (وهو قائد المقاومة الشعبية في السويس في حرب أكتوبر ١٩٧٣م)، وشوَّه صورة الإنسان المسلم ذي اللحية، وقال إنَّه مُضلِّل، وقال كلامًا كثيرًا. وقال إنَّ هؤلاء العلماء الذين هم في السجون هم الذين يُضلِّلون الشباب المغرَّر بهم بينما هو الذي يُضلِّل الناس.»

ويقول عطا طايل ردًّا على سؤال للمحقق: «ولكن الرئيس محمد أنور السادات رحمه الله هو الذي أدخل في الدستور لأول مرة في تاريخ البلاد أنَّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وكان يُصلي ويصوم ويقرأ القرآن فما الذي جعلكم تيأسون من تنفيذ ما عزم عليه عندما أدخل هذا النص في الدستور؟» وهو سؤال يدل على استخدام المظاهر الإسلامية نفاقًا وخداعًا لتغطية مفاسد الدولة: لا يهمنا نص على ورق، ولكن الذي يهمنا هو التنفيذ، وكل ما نراه هو حتَّى ما تبقَّى من الشريعة الإسلامية، وهو قانون الأحوال الشخصية، قام بإلغائه، ووضع قانونًا جديدًا، وتمَّ إلغاء قانون الأحوال الشخصية. للقضاء على هذا الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله، وهو الرئيس أنور السادات، وذلك معلوم من كتب الفقه «أنَّ المرتد حلال الدم». ويقول خالد: وأنا قلت له «محمد عبد السلام»: إنِّي مُشترك في العرض، وممكن أقوم بأي حاجة تخلصنا من هذا الحاكم الظالم. فرحَّب بهذه الفكرة، وأبدى استعداده لأي مساعدة أحتاج من الأفراد أو الذخيرة، وكان يتكلَّم عن موضوع اتفاقية السلام وقال «إنَّه من الخطأ أن نتصالح مع اليهود». ويقول عطا طايل أحد الأربعة: «ولقد بيَّنا لرئيس الجمهورية هذه الأحكام على لسان أئمة كثيرين، ولم يرضَ بتنفيذ أحكام الله سبحانه وتعالى، مُتحججًا بحجج ما أنزل الله بها من سلطان، بل تعدَّى الأمر ذلك وطالب بفصل السياسة عن الدين، وهذا ليس من الإسلام في شيء؛ لأنَّ الديمقراطية هي حكم الشعب نفسه بنفسه، فيستطيع مجلس الشعب أن يُقر أي قرار توافق عليه الأغلبية دون الرجوع لكتاب الله، وأكبر مثَل على ذلك هو الديمقراطية في بريطانيا؛ فبينما وافق مجلس اللوردات على إباحة اللواط أصبح اللواط شيئًا شرعيًّا في بريطانيا. وهذا دليلٌ على الديمقراطية عندهم. وموافقة المجلس الممثل في السويد على تعدُّد الأزواج للزوجة تحت اسم الديمقراطية، وموافقة مجلس الشعب المصري على إباحة الرقص والأفلام الهازلة أو الهابطة وبيع الخمور وعلمه بجميع فضائح الدعارة وما أشبه ذلك؛ فلفظ الديمقراطية هذا مرفوض لدى المسلمين، ولن يكون لنا منهج إلَّا كتاب الله تعالى «إن الحكم إلَّا لله»؛ فالله سبحانه وتعالى قد بيَّن لنا إطارًا عامًّا للحكم وترك لنا أشياء نختارها نحن لتناسب كل زمان ومكان، ومعارضة رئيس الجمهورية لأمر الله سبحانه وتعالى بأن تبقى المرأة في بيتها ولا تخرج إلَّا للضرورة، والاستهزاء من حكم النقاب للإسلام والسخرية به، وهو حكمٌ إلهي به نصٌّ شرعي في القرآن. ولقد ازداد الأمر استفحالًا حينما قام بإصدار أوامره بالقبض على كل من يدعو إلى الله، ومُعاداته لكل من يعمل في سبيل الله، وتركه للكافرين، ولم يقم بسجنهم كما قام بسجن المسلمين. كل هذه الأدلة أدَّت إلى أنَّه لا بد من استخدام القوة للقضاء على هؤلاء الحكَّام الذين أحاطوا أنفسهم بسياج من الحديد لا يُمكن الوصول إليه.» أمَّا الأسباب المباشرة لتنفيذ الاغتيال فقد قدَّمها الرئيس نفسه في قرارات سبتمبر، وخطبة ٥ / ٩ / ١٩٨١م؛ أي الإجراءات الاستثنائية الأخيرة، والقبض على أعضاء الجماعة، والزج بمشايخ المسلمين في السجون، وليس القبض على واحد بعينة، شقيق أو قريب أو صديق، بل على عموم أهل مصر. ثمَّ سب رجال الدين، والإخوة الملتحين، والسخرية من الحجاب، وهي سننٌ عن الرسول، والتعدي على حرمات المسلمين، وسب نساء المؤمنين، ووصفهن بأنَّهن كالكراسي أو كأنَّهن كالخيام، ثمَّ قوله «لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة»، وهو قول جاهل بأحكام الدين، وتبديل الشرائع الوضعية بشرائع الإسلام، والنفاق الديني، والصلح مع إسرائيل؛ مِمَّا يدل على وعيٍ سياسي متضمَّن في الوعي الديني.

والحقيقة أنَّ روح مصر هي التي غيَّرت وجه مصر. وما الضابط خالد ورفاقه، وجماعة الجهاد، والأصولية الإسلامية إلَّا الجانب التنفيذي فقط، بعد أن كانت الجماعات اليسارية السرية التقليدية هي التي لها شرف تغيير التاريخ. ولقد وصلَت مصر إلى طريق مسدود بسياساتها، خاصة في السنوات الخمس الأخيرة، حتَّى أصبحَت جثةً هامدة تعيث فيها الهوام، وتنهش فيها الطيور الجارحة. لمَّا بدأَت روح مصر تُبعث من جديد في المعارضة، وأراد الرئيس تصفيتها؛ أي القضاء على روح مصر، ثارت غريزة البقاء، وحدث الانفجار؛ فإنَّ الضابط خالد ورفاقه يُعبِّرون إذن عن إجماعٍ وطني شامل، وكان هو مجرد الإدارة المنفذة لإرادة شعبية عامة، وتجلَّت في روح مصر الجامعة بين الإسلام والوطنية وطهارة الشباب ومُثله، والعلم النافع، المقرون بالعمل، والرغبة الصادقة في الشهادة.

(٨) جماعة الجهاد، فكرًا وعقيدة١٨

جماعة الجهاد ضمن الجماعات الإسلامية، كانت الأداة المنفذة لانفجار أكتوبر ١٩٨١م، نظرًا لفكرها وممارساتها. ويقوم فكرها على عقيدة الجهاد، تلك الفريضة الغائبة التي تركها المسلمون، فانهارت دولتهم، وقبِلوا الضيم والهوان، وتقوم ممارساتها على قتال الحاكم الظالم فردًا أو جماعة، مواجهة أو اغتيالًا، بناءً على تكفير الحاكم كفرد مسئول عن الأمة، أو بثورةٍ شعبية عامة تبدأ من الجيش ويُساندها الشعب «عبُّود الزمر»؛ فانفجار أكتوبر انفجار عقائدي بالأساس، ويدل على ذلك أسئلة المُحقِّقين المتلاحقة لكل المتهمين اﻟ «٢٤»: هل قرأتَ الفريضة الغائبة؟ وكأن كُتيِّبًا صغيرًا لا يتجاوز الخمسين صفحة قادر على تغيير وجه مصر وقلب موازين القوى في المنطقة! وهو كذلك بالفعل؛ مِمَّا يدل على أهمية العقائد في المجتمعات، وقدرتها على التأثير في الناس خاصة الشباب الأطهار، المثالي النزعة بالطبيعة، المستعد للشهادة بالتكوين، كان الجانب النظري أكمل من الجانب العملي. كان هناك علم الجهاد دون أن تكون هناك قيادة فعلية لعملية الجهاد. وهذا ما يُفسِّر الإسراع في التنفيذ، وكيف أنَّ الفكرة أتت في ذهن الجماعة قبل الحادث بأسبوعَين، بمجرد اشتراك خالد في العرض، بناءً على أمر اللواء. ويظل تجهيز الأعضاء عقائديًّا أهم جانب في ممارسة الجماعة.

تشمل الجماعة إذن جانبَين؛ العقيدة والطريقة أو الفكر والممارسة؛ فالعقيدة هي التوحيد والمنهج، والطريقة هي الجهاد. ويختلط في ذهن الأعضاء التوحيد في التصوُّر القديم؛ أي الأسماء والصفات، والتوحيد العملي الذي تحدَّث عنه الفقهاء، والذي تنتسب إليه جماعة الجهاد. وكان فقيه الجماعة في القاهرة على اتصال دائم بجماعة الصعيد، وفي نقاش مستمر معهم، يتأثرون به ويبلغون رسالته. وأحيانًا يصعب التمييز بين الجانبَين؛ نظرًا لأنَّ مفهوم «الحاكمية» ينبثق عن التوحيد، وفي نفس الوقت أساس الدولة الإسلامية، والدليل الشرعي على قيامها. ومع ذلك يغلب التوحيد العملي على التوحيد النظري، كما هو الحال في الحركة الإصلاحية منذ محمد بن عبد الوهاب، تبعًا لابن تيمية وابن القيم، حتَّى الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، والحركات الإسلامية المناهضة للاستعمار، مثل السنوسية والمهدية؛ ففي مثل هذه العقائد يمَّحي الفرق بين النظر والعمل، بين العقيدة والشريعة، كما هو الحال في الماركسية تمامًا. وستظل هذه العقيدة تُولِّد تنظيماتٍ وحركاتٍ سرية أو علنية. ويكون السؤال حينئذٍ ليس في كيفية القضاء عليها، بل كيفية توجيهها وصَبِّها في المشروع القومي الواحد. وردًّا على سؤال ما هو فكر ومنهاج جماعتكم وفكر وجماعة محمد عبد السلام يرد فؤاد الدواليبي: «الفكران واحد. وينقسم قسمَين وهما التوحيد، الأسماء والصفات، والمنهاج والهدف هو الحكم بكتاب الله، عن طريق الجهاد في سبيل الله، وذلك بإحداث انقلاب في نظام الحكم مستخدمين الأسلحة.» ويذكر فؤاد الدواليبي أنَّه لمَّا رجع من مصر قال إنَّه قابل محمد عبد السلام، وإنَّه على فكرٍ إسلامي سليم، ويتكلَّم عن الإسلام وشموليته. ومن حوالي سنة انتقل الفكر إلى تنظيم. ومن القراءات عرفنا أنَّ الجهاد شمولية الإسلام، والجهاد المسلح في سبيل قلب نظام الحكم؛ لأنَّ الحكم في مصر لم يكن يحكم بما أنزل الله. ويقول كرم زهدي ردًّا على سؤال: «ما الغرض من قيام الدولة الإسلامية؟ هو تحكيم كتاب الله في الأرض، وما يتبعه من حدود شرعية، وحكومة إسلامية، وسلوك إسلامي، ومظاهر إسلامية، وإعلام إسلامي، وعلم وثقافة شرعية، ورفع لراية الإسلام في البلاد.»

وتقوم عقيدة الجهاد أولًا على فكرة الحاكمية، وعلى أساسها يتم إدخال الأعضاء الجدد، أو الاتفاق مع قدامى الأعضاء على بداية الفعل والتنفيذ. وقد كانت الفكرة الموضوع الرئيسي في حديث المشايخ السياسيين. ويؤمن بها كل أعضاء الجماعة سواء من يؤيد منهم طريق العنف أو من يُفضِّل طريق النصيحة. ونظرًا لأهمية الحاكمية كان المُحقِّق كثيرَ السؤال عنها، وعن اقتناع أعضاء الجماعة بها، وعن أثرها على شرعية القوانين الوضعية في الدولة، وضرورة تبديلها بشرائع الله، ولا يفترق في ذلك قانون الأحوال الشخصية عن القانون الجنائي أو القانون المدني وسائر النظم الإسلامية، ولكن تبديل قانون الأحوال الشخصية كان هو «القشة التي قصمَت ظهر البعير»؛ لأنَّه يمس حياة الإنسان الخاصة، وكأنَّ نظام الأسرة له الأولوية على نظام المجتمع.

ويُبيِّن عبد الحميد عبد السلام أنَّ بداية العملية كان الاتفاق في العقيدة مع خالد ومحمد عبد السلام فرج «الاتفاق بيننا على الآيات المتعلقة الحاكمية». ويقول ممدوح محرم، ضابط مهندس مقدَّم «بدأتُ في الالتزام في بداية السبعينيات بالعبادات، وبدأتُ أقرأ كتب التفاسير والفقه المختلفة». وفي بداية ١٩٧٧م، بدأتُ أواظب على الخطب والدروس للدعاة الذين يميلون إلى الخوض في السياسة وخلطها بالدين، أمثال الشيخ عبد الحميد كشك، والشيخ يوسف البدري، والشيخ عبد الرشيد صقر، والشيخ المحلاوي من الإسكندرية، وأيضًا الشيخ آدم صالح من المطرية. وقابلتُ طه السماوي وشهرته عبد الله السماوي. ومن سماعي لهؤلاء اعتنقتُ فكرة الحاكمية، وهي الحكم بما أنزل الله، ووجوب قيام الدولة الإسلامية. وبالرغم من تنكر د. عمر عبد الرحمن لأساليب العنف وفتوى إباحة دم الرئيس إلَّا أنَّه يؤمن أيضًا بالحاكمية قائلًا: «يكون الحاكم بغير كتاب الله كما جاء في القرآن فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. فإن كان الحاكم قد نُوقش وجُودل في هذا الأمر؛ أي في وجوب الحكم بكتاب الله، وعدل عنه؛ أي عدل عن الحكم بكتاب الله، ورأى أنَّ القانون الوضعي أفضل منه فهو كافر. وإن لم يُناقش أو يُحاجَّ في هذا فهو ظالم أو فاسق. وفي هذه الحال لا يصح قتله؛ أي في حالة الظلم والفسق.» ويقول طارق الزمر إجابة على سؤال: ما هو سندكم في إباحة الاغتيالات؟ قول الله عز وجل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.

وكانت الجماعة على وعي بالمسألة الفقهية حول عموم الحكم وخصوصه؛ فكل من يرفض الحاكمية، ويعتبر أنَّ السلطة من الشعب عن طريق البيعة، يجعل آيات الحاكمية أحكامًا خاصة في وقائع خاصة؛ فقد نزلت هذه الآيات في أهل الكتاب، ولكن الجماعة تأخذ بالرأي الآخر، وهو الأصح شرعًا، الذي يجعل آيات الحاكمية أحكامًا عامة بالرغم من نزولها في وقائع خاصة؛ لأنَّ أسباب النزول لا تمنع من التعميم. والحاكمية ليست للسلطة أو للحاكم بل للشريعة، والسلطة مجرد أداة تنفيذ لشرع الله.

وينتُج عن فكرة الحاكمية، تكفير النظام القائم، وتكفير الحاكم والخروج عليه، وجواز قتاله، واغتنام أموال الدولة، ومحاربة الجيش والبوليس، واعتبار الخدمة فيهما كفرًا؛ فلا طاعة إلَّا لإمام، ويجب عصيان إمارة الكفر والسفه والجاهلية. تؤدي فكرة الحاكمية إذن إلى تقويض شرعية النظام القائم. الحاكمية هي نقطة البداية والخروج على النظام هي النتيجة. وهو الاستدلال المتبع في الجماعات الجذرية التي ينقلب فيها الوعي الديني إلى وعيٍ سياسي، مثل جماعة الجهاد، استدلال يقوم على الانتقال من الفكر إلى الواقع ومن المبدأ إلى الفعل. وهو نفس الاستدلال الذي تتبعه جماعة التكفير والهجرة، ولكن بأسلوب آخر، العزلة وليس القتال. ولا يحدث أبدًا تحليل الوضع القائم، والانتهاء إلى ضرورة تغيير النظام إلى نظامٍ آخرَ بريءٍ من العيوب، يكون هو النظام الإسلامي الذي يقوم على فكرة الحاكمية، وهو المنهج الاستقرائي الذي ينتقل من الواقع إلى الفكر، ومن الفعل إلى المبدأ. وليست الحاكمية هي فكر الجماعة فحسب، بل هي الواقع الذي يراه من هم خارج الجماعة لتفسير سلوك الجماعة بأنَّه يقوم على فكر ديني «متطرف»، يُكفِّرون الحاكم استنادًا إلى قوله تعالى وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ؛ فالحاكمية تعبير عن الوحدانية، والوحدانية ضد الشرك؛ وبالتالي استحالت أن تقبل الحاكمية موالاة المؤمنين للكافرين؛ ومن ثمَّ انتقلَت الحاكمية إلى مستوى العمل في إيجاد التعارض بين طرفَي الإيمان والكفر؛ وبالتالي تستلزم الحاكمية ممارسة الجهاد. الإسلام دين ودولة، دنيا وآخرة، عقيدة وشريعة. وإنَّ هذا التعارض هو السبيل لإقامة الدولة الإسلامية، ولا يُمكن تحقيقه إلَّا بالسلاح والعنف. وعلى هذا يتطابق تمامًا التعارض بين الإيمان والكفر على مستوى النظر مع التعارض بين الحاكمية والجاهلية على مستوى نُظم الدولة.

ووجدَت جماعة الجهاد سندًا لها في التاريخ في «فتاوى ابن تيمية» ورأيه في التتار؛ فهم قد دخلوا الإسلام ويقيمون الشعائر، ويبنون المساجد، ولكنَّهم يُحاربون أهله، ويقبضون على العلماء، ويزجُّون بهم في السجون، إذا ما عارضوهم، ويحكمون بغير ما أنزل الله، بقانونٍ جديد هو «الياسق» مجموعة من الشرائع اليهودية والمسيحية والوثنية والإسلامية، كما يفعل المسلمون اليوم عندما يحكمون بالشرائع الوضعية. وقد أصدر ابن تيمية في حقهم وفي حق قائدهم جنكيز خان فتوى بوجوب قتالهم مثل قتال أهل الكفر، وقاتل هو ضدهم، ولم يؤثِّر فقيه حتى الآن في تاريخ الأمة كما أثَّر الإمام أحمد بن تيمية ومجموعة فتاويه؛ فهو المرجع الأول والأخير لهم. يُذكر اسمه باستمرار، وهو ما زال يفعل في روح الأمة، يُعبِّر عن واقعها منذ محمد بن عبد الوهاب مؤسس الحركة الإصلاحية الحديثة حتَّى محمد عبد السلام فرج صاحب «الفريضة الغائبة». ثار الشعب عليهم بقيادة ابن تيمية درءًا للمفاسد وحمايةً للإسلام كمضمون لا كمظهر، وكحق لا كنفاق. وتؤكِّد الجماعة أنَّه ما أشبه اليوم بالأمس، وبأنَّ مجتمع التتار القديم يُشابه مجتمعنا الإسلامي الحالي. وأوجه الشبه كثيرة منها: عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، واستبدال قانون وضعي بدلًا عنها، والسخرية من علماء الإسلام، والهزءُ بالسنة مثل إطلاق اللحية، والخمار، وأن تقرَّ النساء في البيوت، وتغيير قانون الأحوال الشخصية، وعدم الجدية في تطبيق الشريعة الإسلامية، والنفاق الديني الذي لا يتعدَّى الكلام دون الفعل بحجة الاستعداد والإعداد واحتياج ذلك كله إلى وقتٍ طويل.

والحقيقة أنَّ الماضي هو الذي فرض حكمه على الحاضر بناءً على أزمة الحاضر وعزلة الفكر الإسلامي عنه؛ فسرعان ما ألقى الحاضر بثقله كله في الماضي، فوجد المبررات الكافية للخروج على الدولة، دون مراعاة لاختلاف الظروف التاريخية بين الماضي والحاضر، انتصار القدماء وهزيمة المحدَثين. ويُدافع أمين الجماعة عن هذا التشابه بين تتار الأمس وحُكَّام اليوم في أقواله وردوده على أسئلة المُحقِّق كالآتي:

س: جاء في هذا الكُتيب صفحة ١١ مقارنة بين التتار، وقلتَ فيه إنَّ القانون الذي وضعه هؤلاء التتار واسمه «الياسق»، والذي كان مُطبَّقًا على الأراضي الإسلامية التي سيطروا عليها، أقل جرمًا على حد تعبيرك من الشرائع المُطبَّقة في مصر، المأخوذة من القوانين الغربية، فما وجه التشبيه الذي أوردتَه في كتابك هذا؟

ج: التتار لم يُطبِّقوا شريعة الإسلام كاملة، وحكَّام اليوم لا يُطبقون من الإسلام شيئًا.

س: وهل تعلم في تاريخ الزمان كله من هم أشد جرمًا وفسادًا في الأرض من التتار الذين ألقَوا جميع المراجع الإسلامية، التي كانت في بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية، في نهر دجلة حتى اسودَّ ماء النهر من مداد هذه الكتب، فقضَوا نهائيًّا على كل مكوِّنات الفقه الإسلامي، عدا ما كان بمصر، والذين أحرقوا بغداد ودمشق وحلب، والذين كانوا لا يُميِّزون في قتالهم بين المقاتلين وغير المقاتلين من النساء والأطفال والشيوخ؟

ج: صور الحرب على الإسلام على مَر العصور من قِبل الحُكَّام متعددة ومختلفة في الأساليب حسب العصر، وحُكَّام اليوم أيضًا يُحاربون الإسلام بصورٍ مختلفة.

س: من الذي دلَّك على مثال التتار هذا؟

ج: قراءاتي لابن تيمية.

س: ألا تجد في هذه المقارنة غلوًّا كبيرًا؟

ج: ليس هناك غلو في المقارنة.

س: أوضِح كيف كان ولي الأمر الذي حرَّضتَ وأعنتَ على قتله رحمه الله يُحارب الإسلام والمسلمين كحرب التتار لهم؟

ج: كفاه حربًا على الإسلام أنَّه كان يمنع شرع الله وحُكم الله من أن يقوم في هذا البلد المسلم، والذي يتشوَّق إليه كل مسلم، واضطهاده للمسلمين ولدعاة الإسلام وعلماء المسلمين واستهزاؤه بأحكام الله، ووصفه زِيَّ زوجات النبي بأنَّه خيمة، وإضحاكه للسذج وناقصي العقول الذين كانوا يستمعون إليه في مجلس الشعب، وغيره من فرائض الله.

س: وما هي فرائض الله التي أضحك الناس عليها كما تقول؟
ج: وصفه للزي الذي كن يرتدينه زوجات النبي بالخيمة، ووصفه لالتزام المرأة ببيتها وحسب أمر الله تعالى وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ بأنَّه تخلُّف، ووصفه للشباب المسلم الملتزم بأوامر الله أنَّه مهووس ومتطرف.

ولمَّا كان التراث الفقهي مُعاشًا في قلوب الجماعة، فإنَّه أصبح ذاتًا وموضوعًا في نفس الوقت. ولم تكن الجماعة بحاجة إلى واقعٍ حاضر تُحلِّله وترصد عِلله حتَّى يُمكن بعد ذلك القياس على الماضي؛ فالقوانين الوضعية الحالية ليست كلها كفرًا؛ إذ يجمعها والشريعة الإسلامية فكرة المصلحة. وفي بدايات الإسلام لم يرَ فقهاء المسلمين أي غضاضة في تبني بعض القوانين الرومانية والفارسية ما دامت لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وتُحقِّق مصالح الناس، خاصة تلك التي تُنظم شئون الدنيا، مثل الزراعة والري وتدوين الدواوين، بل وبعض العادات والأعراف والتقاليد خاصة في مصر؛ فواضح أنَّ فكر جماعة الجهاد فكر مبادئ لا فكر وقائع، يحكم بالأصل دون تحليل للفرع ودون بحث في العِلل؛ مِمَّا يدل على أنَّ أحكام القياس الشرعي لم تُطبق، بل فرضَت أزمة الحاضر نفسها على الماضي، ووجدَت انفجاراتها فيه؛ فلولا معاداة الدولة للجماعات ولولا مظاهر الفساد في الدولة، لولا هذا الفصام في الشخصية الوطنية بين الكثرة والقلة لما وجدَت القلة حريتها في الماضي، ولما تعرَّفَت على نفسها فيه.

والطابع الغالب على قراءات الجماعة هو فكر الفقهاء، وفي مقدمتهم مجموعة «فتاوى ابن تيمية»، و«نيل الأوطار»، و«فتح القدير» للشوكاني تلميذ ابن تيمية من خلال محمد بن عبد الوهاب في اليمن، «سبل السلام» للصنعاني، وكتب ابن القيم تلميذ آخر لابن تيمية، و«فتح الباري» لابن حجر العسقلاني، و«المُحلَّى» لابن حزم و«المغني» لابن قدامة. هذا بالإضافة إلى كتب التفسير والحديث والسيرة، ثم كتب التاريخ مثل ابن كثير «البداية والنهاية». ووجدوا في هذا التراث الفقهي الديني تعبيرًا عن حاجات عصرهم، وعلى رأسها الإصلاح والتغيير؛ فقد كان الفقهاء أهل إصلاح وتغيير، وكانوا الحُرَّاس على الشرع والراعين لمصالح الأمة. هم أضافوا إلى كتب القدماء بعض مؤلَّفات المحدَثين مثل الشيخ سيد سابق «فقه السنة»، وكتب سيد قطب، دون أن يظهر «معالم في الطريق» خاصة؛ مِمَّا يدل على تجاوز جماعة الجهاد له، وإن كان خير مُعبِّر عن الجماعات الإسلامية كلها بعد عصر الاضطهاد. وقرَءُوا سبع رسائل لجهيمان، قائد الهجوم على الحرم في مكة، وكتاب الجهاد لصالح سرية، زعيم حزب التحرير الإسلامي، وقائد عملية الفنية العسكرية في ١٩٧٤م؛ مِمَّا يدل على طابع الفكر الملتزم في جماعة الجهاد، والتواصل التاريخي منذ ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب حتَّى صالح سرية وجهيمان العُتيبي ومحمد عبد السلام فرج، ولكن الإسلام لديه فوق المذاهب، ويتجاوز الفروق التاريخية، وهو الإسلام الأول قبل نشأة المذاهب والفِرق.

وكان من الواضح أنَّ لفكر الجماعة جذورًا عند الفقهاء، ولكن الأولوية عندهم كانت لظروف العصر، البناء النفسي للشباب المسلم الممزَّق بين حلم التاريخ والواقع المجهض؛ فتكفير الحاكم المسلم الذي لا يُطبِّق الشرع موجود في كتب أهل السلف وفي كتب الخلف، ولكن الدافع على إصدار الحكم كان هو الفساد المستشري في الدولة، والنفاق الديني الذي يعم حكَّامها وأجهزتها.

فالتراث إذن بأصالته وقد وجد فيه الشباب المسلم الطاهر ما يريد، وما يحفظ له دولته، وما يُحافظ له على هويته، وما كان أسهل من سريان عقيدة الجهاد في هذا الشباب المسلم الطاهر، والطبيعة البشرية تنحو نحو الولاء لقضية، والشهادة من أجل مبدأ.

وهنا تأتي عقيدة الجهاد، الفريضة الإسلامية التي فرضها الله فرضَ عين على كل مسلم ومسلمة، لتحقيق الحاكمية، والقضاء على نظام الجاهلية، ودولة الكفر؛ لذلك نسخَت آية السيف كل ما قبلها، وأصبح القتال شريعة المسلمين، وكما حارب أبو بكر مانعي الزكاة. وهي العقيدة التي بدأ فيها أيضًا صالح سرية وحزب التحرير الإسلامي، والذي كتب أيضًا كُتيِّبًا عن الجهاد. والجهاد قمة الفكر الإسلامي. وكل ما دونه أقل منه مثل الإيمان والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويكون رقي الإنسان في مراتب الإيمان هو ارتفاعه إلى مستوى الفكر «الجهادي»، بل إنَّ الدعوة بالحسنى وإقامة الشعائر الدينية هي أيضًا ترتفع فيما بعدُ إلى مستوى الفكر الجهادي. وفقيه الجماعة نفسه كان على فكر الدعوة فقط «ولكن من خلال قراءاتي ارتفعتُ إلى مستوى الجهاد، وذلك من حوالي ثلاث سنوات». وقد كان نبيل المغربي على هذا الفكر من قبلُ.

وقد كان الحث على الجهاد يتم في المساجد بحديث يسحر القلوب، يُخاطب في التماس روح الولاء والتضحية في ظروف العمالة والخيانة والسعي وراء حظوظ الدنيا. وكان لا بد أن يأتي فعله في الشباب الطاهر. وآية السيف عند جماعة الجهاد ناسخة لآية الدعوة، وآية الدعوة منسوخة بآية السيف؛ وبالتالي يكون الجهاد فريضة دائمة وحكمًا إلهيًّا. وهو حكمٌ شرعي معروف عند الفقهاء في حالة الدفاع عن الديار. ولا يأخذ الفقهاء الحكم الثاني إلَّا في حالة الاستسلام والعجز عن قيادة الأمة.

وكان لفقيه الجماعة القدرة على إقناع الأعضاء باتباع أسلوب الجهاد لقيام الدولة الإسلامية، وكان مفتيها يُصدر الفتاوى الشرعية المباشرة. وكان قادرًا على تحويل أيَّة جماعة تنتهج سبيل الدعوة بالموعظة والإرشاد، ويرتفع بها إلى مستوى الفكر الجهادي. وكان دُعاتها يركزون على سور القرآن وآياته الداعية إلى الجهاد، يقرَءون فيها احتياجاتهم، ويجدون فيها ما ينقصهم. وكان استخدام القوة نوعًا من الرمز على الاستعداد للتضحية والشهادة، والقوة المسلحة أعلى درجات الرمز؛ فالجماعة دولة في مقابل دولة، وشرعية في مقابل اللاشرعية، وإنَّ أعلى درجة من درجات الفعل هو الفعل باليد والمستند إلى الشرعية.

ويقول محمد عبد السلام فرج أنا أقنعت كرم بفكر الجهاد ولإقامة الدولة الإسلامية. لم يكن منهاج الاغتيال والتغيير بقوة السلاح، غير مناهجهم؛ بحيث يكون غير قاصر على الجامعة، بل يكون شاملًا للدولة بأَسْرها، ولا يكون قاصرًا على استخدام اليد، وإنَّما شاملًا للأسلحة وغير ذلك من أدوات القتال. اقتنعتُ بفكر الجهاد وشرعيته ووجوب قيام الدولة الإسلامية باستخدام القوة المسلَّحة. ويقول أيضًا: إنَّنا نهدف إلى إقامة الدولة الإسلامية بأسلوب الجهاد، وبقوة السلاح، واستفتيناه؛ أي د. عمر عبد الرحمن في ذلك، فأفتى بأنَّ ذلك فرض على المسلم، وأفتى بكفر الحاكم وحل دمه شرعًا.

ويقول فؤاد الدواليبي عن فتوى د. عمر عبد الرحمن «عرضنا على د. عمر أنَّا جماعة تدعو لشمولية الإسلام والجهاد المسلَّح لإحداث انقلاب باستخدام القوة، وأنَّا جماعة منظَّمة من ناحية الإعداد والسلاح، وفيه أمور شرعية لا نستطيع البت فيها، وطلبنا منه على أساس أنَّه رجلٌ عالم، وأن يرأس هذه المجموعة للرجوع إليه في أي فتوى خاصة بهذا العمل. وقبِل بعد رفضٍ شديد لأنَّه كان يعتقد أنَّه ليس أهلًا لذلك. وكان اختيارنا للدكتور عمر لأنَّه كان يدعو للجهاد في المؤتمرات.»

وكان الحث الخطابي على الإسلام يُلاقي اعتراضات من المستمعين عن الإمكانية العملية والتشكك حول جدوى القتال الفعلي وكأنَّ الجهاد داخل الأمة غير الجهاد خارج الأمة، وأنَّ الجهاد داخل الأمة هو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، والجهاد خارج الأمة هو القتال والاستعداد للقتال، وكأنَّ جهاد المسلمين في الداخل هو الدعوة والتذكرة، ومواجهة الحُكَّام بالقول. ولكن في حالة غياب الحوار، وسيطرة الدولة على أجهزة الإعلام فإنَّ الدعوة باللسان تتحوَّل إلى دعوة باليد، وتختفي معارضة الجمهور للجهاد باليد، وتظهر المقاومة للبغي والتسلُّط والطغيان.

وكتاب «الفريضة الغائبة» هو إنجيل الجهاد، وهو باعتراف مؤلفه تجميع من الكتب، وليس منعزلًا عن «صالح سرية» بل من كتب السلف علماء المسلمين الذين كانوا يسلكون منهج النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة رضوان الله عليهم. ومعناه الجهاد، ويدعو إلى مقاتلة الكفَّار؛ أي الحكومة والنظام؛ لأنَّهم لا يحكمون بشرع الله، ويعتمد في ذلك على الأدلة الشرعية من فقهاء أهل السنة، وشرعية السلف، وبالرغم من أنَّ ما في الكتاب له ما يُشابه في التراث سواء في الكتاب أو السنة أو في كتب الفقه، إلَّا أنَّ أثره في نفوس الشباب كان ضخمًا؛ نظرًا لأنَّه يُعبِّر عن حالة نفسية، الثقة بالنفس في مواجهة الضياع، والعزة في مواجهة الذلة، والكرامة في مقابل المهانة، والقوة في مواجهة العجز.

وقد أثَّر كتاب «الفريضة الغائبة» أيما أثر على أعضاء الجماعة. وكانت رسالته بسيطة تصل مباشرة إلى قلوبهم، الدعوة إلى الجهاد، ومقاومة السلطة، وتغيير نظام الحكم بالقوة. ومن لم يقرأ الكتاب سمع عن مضمونه في أحاديث شفوية ودروس دينية وشروح لسورتَي الأنفال والتوبة. وهي كلها عن قتال الكفَّار والمشركين، كما كان يفعل الإخوان قديمًا في تحفيظ الأعضاء سورة «براءة»، وهي بمثابة إعلان حرب على النفاق والمنافقين. وقد ظهر أثر الكتاب في وقت يُعلن فيه أنَّ حرب أكتوبر هي آخر الحروب، وأنَّه يجب وضع نهاية لسيل دماء الشهداء، وأنَّ السلام هو طريق الرخاء في الوقت الذي تُهان فيه كرامة مصر، ويتصلب فيه العدو، ويبني المستوطنات، ويرفض الانسحاب من الأراضي المحتلة. ظهرَت فكرة الجهاد في السنوات الثلاث الأخيرة منذ معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في مارس ١٩٧٨م، والتسليم بالصهيونية، والتحالف مع الاستعمار؛ فلم تبقَ معركة تمتص طاقات الشباب، ولم يعُد للجهاد مكانة، وهو الفريضة المعادلة للتوحيد، التي لا تنتهي إلَّا بنهاية الزمان.

(٩) جماعة الجهاد، طريقًا وممارسة١٩

للجهاد طريقان؛ الأول قتال الحاكم وجهًا لوجه أو مباغتة، مواجهة أو اغتيالًا. والطريق الثاني إحداث انقلاب في الحكم بالقوة بمساندة الجيش والشعب، وتغيير النظام بالقوة. الأول هو الطريق الفردي والثاني الطريق الجماعي، ولكن تسبق الطريقَين الدعوة والتذكرة والنصيحة، وقولة الحق في وجه السلطان، فإن لم يرعوِ السلطان وإن لم يستجب للحق تجب مواجهته بالقوة؛ إمَّا في الحال، وإمَّا في المآل، في الحال تعبيرًا عن حق الشرع بصرف النظر عن التمكُّن، وفي المآل بعد التمكُّن والاستعداد. ومواجهة السلطان في الحال إمَّا تكون وجهًا لوجه وفردًا لفرد وإمَّا أن تكون بثورة شعبية عارمة يقوم بها الجيش وتُسانده اللجان الشعبية الثورية. ويشرح كرم زهدي هذَين الطريقَين كالآتي:

س: وما الحكم فيما لو لم يلتزم الحاكم بأن يحكم بما أنزل الله؟

ج: الحكم في ذلك كما أخبر الإمام ابن تيمية هو أن يُنصح، فإذا نسي ذكَّرناه، فإذا ابتعد وأصرَّ جاهدناه حتى ينزل على حكم الله.

س: وما الوسيلة التي يُمكن استخدامها في جهاد الحاكم حتى ينزل على حكم الله؟

ج: الوسيلة في الجهاد تكون بشكلَين؛ الأول هو قولة الحق في وجه السلطان، والثاني هو الجهاد بالقوة. وفيه رأيان أيضًا؛ رأي يقول بأنَّه يُمكن بأي عدد من المسلمين أن يُجاهد الحاكم ليحكم بما أنزل الله وإن قُتلوا جميعًا، ورأي يقول إنَّ الجهاد يُرْجَأ حتَّى يأتي الإمام الذي يُمكن الجهاد من خلفه؛ فلا جهاد إلَّا خلف إمام مُمكَّن في الأرض بالإسلام.

س: وهل أتى هذا الإمام المُمكَّن في مصر؟

ج: لا لم يأتِ الإمام الذي يحكم بما أنزل الله، وشريعة الله كاملة في مصر.

س: لمن الرأي الذي يُنادي بإرجاء الجهاد حتَّى يأتي الإمام الذي يُمكن للمسلمين الجهاد من خلفه؟

ج: هذا الرأي للإمام جلال الدين السيوطي، ورد في كتاب «الإتقان في علوم القرآن»، والله أعلم.

س: هل ترى أنَّ هذا الرأي هو ما يتفق مع أحكام شريعة الله السمحاء؟

ج: أرى ذلك الآن، فأتفق مع هذا الرأي تمامًا.

طريق الجهاد الأول هو قتال الحاكم الظالم، ويتم ذلك لأنَّه هو الوسيلة الوحيدة المتاحة نظرًا لعدم وجود جيش يستطيع الوقوف أمام جيش الحاكم الظالم، وما سوى ذلك متروك لقدرة الله؛ فالكافر دمه مباح، وتكفير الحاكم ليس موقفًا لجماعة معينة، أو حكمًا لفرقة، بل هو حكم جميع المسلمين وجماهير الأمة؛ وبالتالي تُعبِّر جماعة الجهاد عن جماهير الأمة الإسلامية وإجماع الأمة على تكفير الحاكم الظالم وقتاله وإباحة دمه اغتيالًا حتَّى ولو ادَّعى الإيمان نفاقًا وخداعًا، وتقوم بذلك ثأرًا لدين الله وليس من أجل القبض على الأفراد، وإن كانت قرارات سبتمبر وخطبه وسب رجال الدين فيها الأسباب المباشرة للاغتيال، ولكن السبب الشرعي المبدئي هو حق الأمة في مواجهة الحاكم الظالم بالقوة، والقضاء عليه بالسيف، حتَّى ولو كان بأسلوب الاغتيال.

ويقول عطا طايل في بداية أقواله مستشهدًا بنصوص الحاكمية ورفض الموالاة: «يقول الله تبارك وتعالى وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ويقول تبارك وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ. صدق الله العظيم، ولقد قمتُ بهذا العمل وهو قتال كل حكَّام لا يحكمون ولا يُطبِّقون ما أمر الله سبحانه وتعالى به حتَّى لا ينطبق علينا قول الله تعالى عن فرعون فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ. فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ صدق الله العظيم. هنا يُبيِّن الله لنا أنَّ اللعنة لم تحلَّ على فرعون وحده، بل عليه وعلى جنوده وقومه؛ لأنَّهم لم يمنعوا فرعون من طغيانه، ولا نقبل على أنفسنا «على نفسي» أن أكون كقوم فرعون يُصيبُنا ما أصاب قوم فرعون؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً. ونحن ليس عندنا جيش، وليس عندنا قوة، وليست هناك وسيلة إلَّا الاغتيال.» وأخبرني خالد في نفس هذا اليوم أنَّه يعمل خطة للقضاء على هذا الحاكم، الذي لا يحكم بما أنزل الله، وهو الرئيس أنور السادات. وردًّا على سؤال: كيف ستُبيح الدماء؟ أجاب عطا: «الكافر الذي يُشاقق الله ورسوله يُستباح دمه، الذي يسجن المسلمين الذين ليست لهم تهمة إلَّا قول لا إله إلَّا الله.»

والحاكم الظالم هو الذي يُحارب الإسلام، ولا يُطبِّق شريعته، ويحكم بشريعة أخرى، ثمَّ بعد ذلك يُنافق حتى ولو صلَّى وصام وظهر في المساجد خارجًا منها وداخلًا إليها، محتفلًا بالموالد، وحتَّى لو وضع في الدستور أنَّ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، أو كوَّن لجانًا في مجلس الشعب لتقنين الشريعة، أو صاغ حد الردة؛ فكلها كانت مظاهر نفاق؛ نظرًا لأنَّ البلاد كانت تسير في طريقٍ آخر بعيدًا عن شرع الله. لا فرق في شرع الله بين إقامة الصلاة وإقامة الشرع بتطبيق الشريعة. يقول كرم زهدي ردًّا على سؤال: «وهل يجوز قتل الحاكم الذي خلط عملًا صالحًا بآخر باطل؟» الحاكم الذي لا يُحارب الإسلام لو ملأ الأرض عملًا سيئًا فعلى نفسه، ولا يجوز الخروج عليه، وفي ذلك قول النبي : «من خرج عليكم يريد شق عصاكم فاقتلوه.» وقال: «لا تقاتلوهم ما أقاموا فيكم الصلاة.» يقصد بذلك الحُكَّام الذين يأمرون بالحدود ويُطبِّقونها مهما فعلوا من سيئات، وأمَّا الحاكم الذي يقاتل فهو فقط الذي يُحارب الإسلام، ويستهزئ به، ويُبدِّل الشرائع الإسلامية الموجودة في البلاد إلى الإفرنجية، ويقف في طريق الدعوة الإسلامية؛ أي يُصبح حائلًا دون وجود الإسلام والشريعة؛ فهذا هو الذي نصَّت النصوص على قتاله والخروج عليه.»

س: ألم يكن أنور السادات رحمه الله يُقيم فينا الصلاة؛ ومن ثمَّ فإنَّه إعمالًا لقول رسول الله لا يجوز مقاتلته؟

ج: «المقصود بقوله «ما أقاموا فيكم الصلاة»؛ أي ما أقاموا فيكم الشرع، وعلى رأس ذلك الشرع أمره بالصلاة. وإمام المسلمين ينبغي أن يأمر بالصلاة، وأن يؤم المسلمين فيها، وأن يُقيم الحد على تاركها بعد الاستتابة.»

ولقد صبَرَت الحركة الإسلامية كثيرًا منذ بداية ثورة يوليو ١٩٥٢م، على الجهاد، فنالها ما نالها؛ مِمَّا يدل على الرغبة في الثأر من الثورة لا شعوريًّا. وقد يكون الاغتيال في أكتوبر ١٩٨١م هو أكبر ثأر لاضطهاد الحركة الإسلامية إبَّان عمر الثورة والثورة المضادة، بعد حادث المنشية في يوليو ١٩٥٤م. وربما كان اضطهاد الحركة الإسلامية على مدى ثلاثين عامًا هو الذي دفع الجماعة الإسلامية إلى ترك الصبر والإعلان عن الجهاد. ويتضح ذلك من أقوال محمد عبد السلام فرج.

س: قلت في التحقيق، وكما قال غيرك، وخاصة القتلة، إنَّ باعث الانتقام من الرئيس كان موجودًا في الأنفس، تحت تأثير الإجراءات الأخيرة التي اتُّخذَت على أثر الفتنة الطائفية، فما هو رأيك في ذلك، وما مقدار هذا التأثير في التصميم على الاغتيال؟

ج: كان الموقف الأخير الذي ظهر فيه العداء الواضح من قبل التصميم على عملية الاغتيال؛ وبالتالي بالفتنة الطائفية، وهكذا كانت الفرصة كبيرة في التصميم على عملية الاغتيال، فوجدنا الفرصة سانحة خلال عملية العرض.

س: لماذا لم تنتظروا حتَّى يقول القضاء كلمته بشأن المُتحفَّظ عليهم؟

ج: القضية ليست قضية أفرادٍ مقبوضٍ عليهم، ولكن قضية الثأر لدين الله سبحانه وتعالى.

س: لماذا لم تصبروا حتَّى تكبر أسنانكم وتزداد معارفكم بالدين؟

ج: كوننا شبابًا لا يعني أنَّنا أقل من مستوى هذا العمل، والرسول يُعلن أنَّه نُصر بالشباب وعُودي من الشيوخ.

س: ولماذا لم تصبروا كما صبر رسول الله ، كما صبر السنين الطويلة، وكان على الحق المبين، مؤيدًا بوحي من الله تعالى نزل به الروح الأمين على قلبه فكان من المؤمنين.

ج: منذ قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م، والحركة الإسلامية تُعاني من عداءٍ شديد من قِبل هذه الثورة. ونحن المسلمين قد صبرنا كثيرًا، وثورتنا ليست انتصارًا لأنفسنا، ولكنَّها تطبيق لأمر الله سبحانه وتعالى.

س: وأنت تعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى جلَّت قدرته قادر على أن ينصر دينه بكلمة منه، ولكنَّه بيَّن لنا أنَّه إنَّما يبلو المؤمنين بالصبر والأذى، فلماذا لم تصبروا كما صبر رسول الله ؛ إذ ظلَّ ١٣ سنة صابرًا يتعرَّض للأذى هو ومن معه في مكة؟
ج: بالنسبة للنبي في مكة، وكانت فترة بداية الدعوة وليس مطالبًا، فلم يكن أمامه إلَّا أن يُعلن دعوته أمام الناس، لم يؤذن له في القتال لمدة ١٣ عامًا، ثمَّ أمره الله سبحانه وتعالى أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. وكانت هذه الآية إذنًا للنبي بالقتال، والتزامًا بدين الله عزَّ وجل، وهي قائمة لم تُنسخ حتَّى يومنا هذا.
س: أليس مدلول هذا الواقع الذي تحدَّثتَ عنه أنَّه لا إذن بالقتال إلَّا بحال التمكُّن في مجتمعٍ إسلامي وليس قبل ذلك؟

ج: «هناك في الإسلام قتال في حالة عدم التمكُّن، وهو في حالات الخروج على الحاكم الظالم أو الحاكم الكافر.»

وطريق الجهاد الثاني هو الثورة الشعبية؛ فالاغتيال وحده لا يكفي؛ إذ لا بد من مساندته بثورةٍ فعلية، لتغيير نظام الحكم، والسيطرة على أجهزة الدولة؛ ولذلك لم يتحمَّس عبُّود الزمر أولًا لفكرة الاغتيال عندما عرضها عليه محمد عبد السلام وخالد، ولكنَّه لم يستطع أن يفعل شيئًا إزاء إصرارهما على التنفيذ؛ لذلك أعدَّ عبُّود العدة، وأعدَّ لديه رسومًا كروكية لمباني القيادة العامة (العمليات) ولمبنى المخابرات، والإذاعة والتلفزيون، ووضع خططًا للاستيلاء عليها، وهذا هو السبب في قيام ثورة أسيوط، وضرب مديرية الأمن صباح العيد حسب الاتفاق، ومحاولة الاستيلاء على الإذاعة، كان الهدف القيام بثورة شعبية مؤيدة للحركة في الصعيد، كان المشروع إذن هو القيام بثورة إسلامية لإقامة دولة إسلامية بقوة السلاح في ٦ أكتوبر ١٩٨١م، ابتداءً من اغتيال رئيس الجمهورية، واحتلال الإذاعة، جمعًا بين أفكار محمد عبد السلام وأفكار عبُّود الزمر، وقد وافق عبُّود على أن يحدث شيء في العرض يُلهي الحكومة عن القبض على تنظيمه الخاص، وإزالة الخوف عن الجماهير، وقد تمَّ إعداد منشورات لإعلان الحكومة الإسلامية بعد حادث الاغتيال، ولكن كان التخطيط أن يتم الاغتيال بعد سنتَين، بعد إكمال الخطة اللازمة للثورة الشعبية، والسيطرة على الأهداف الحيوية، وأن يتم الاغتيال في القناطر الخيرية؛ لأنَّ الرئيس كان يُقيم فيها بصفةٍ مستديمة. كان المطلوب أولًا معرفة رد الشعب على الاغتيال؛ لأنَّ مساندة الشعب أساس الثورة، الاغتيال وحده لا يكفي بل لا بد من مقاومة السلطة، وإكمال الثورة بمساندة الشعب. يقول الأشوح: «الغرض من قتل الرئيس أنَّه لا يحكم بشرع الله وبنصوصه على الناس، وبعد قتل الرئيس تُقام دولة إسلامية؛ لأنَّهم كانوا فاكرين إنَّ الجيش والناس ستقف معهم. وقد سجَّل محمد عبد السلام بيانًا للإذاعة مُسجلًا على شريط، وأعطى د. عمر عبد الرحمن فتوى لقتال الأمن المركزي والشرطة، ولإخراج سلاح من القوات المُسلَّحة عن طريق دس السم للأفراد أو تنويمهم أو ضربهم ضربًا لا يُفضي إلى الموت، وكانت البيانات معدَّة لمخاطبة الحركات الإسلامية وطلب مساندتها، وتأييد الشعب المتمسك بالدين، ومطالبة القوات المسلحة بأن تقف على الحياد أو أن تُساند الثورة الإسلامية إذا شاءت. وقد أتى عبُّود بأسلحة لضرب عربات الأمن المركزي، وتصعيد الموقف في الصعيد أول يوم العيد، وخروج مظاهرات للمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وطبع منشورات بهذا المعنى.» ويشرح عبُّود الزمر بعد اعتناقه مذهب الجهاد أنَّه اتفق مع محمد عبد السلام ونبيل المغربي على تنفيذ ذلك، عن طريق وضع خطة للعمل باتجاه إقامة الدولة الإسلامية «ونظرًا لأنَّني عسكري وهم مدنيون فقد اقترحتُ عليهم فكري في هذا الشأن، وهو ضرورة عمل خطة إحكام؛ أي السيطرة على الأهداف الحيوية والسيطرة مثل مبنى وزارة الدفاع، ومبنى الإذاعة، وقيادة الأمن المركزي، ووزارة الداخلية، وقتل بعض الشخصيات الهامة بحيث يؤدي القتل إلى إرباك القيادات، وفقد السيطرة على الدولة، مثل وزير الداخلية وقائد الأمن المركزي ووزير الدفاع ووزير الخارجية، أو بشل حركتهم وإفقادهم السيطرة على أمور الدولة، فضلًا عن قتل الشخصيات المؤثرة من الأحزاب الشيوعية حتى لا تركب الموجة، وتستغل الحركة الإسلامية لصالحها، مثل خالد محيي الدين، علاوةً على شل شبكة المواصلات الخطية في مصر القاهرة والجيزة. وفضلًا عن خطة الإحكام هذه كنت أُفكِّر ضمن الخطة الشاملة في إخراج الشعب المسلم في مظاهرات لتأييد الثورة الشعبية، بعد إعلان البيانات الخاصة بتفجير الثورة الإسلامية في الإذاعة، مع إجراء مواجهاتٍ محدودة مع عناصر الأمن المركزي التي قد تعرض للمظاهرات، وذلك بغرض كسر حاجز الخوف أمام الجماهير لكي تنطلق، وكذلك تحقيق فقد اتزان القوات المسلحة بإعلان بياناتٍ وهمية في الإذاعة، بوصول تأييد بعض قادة الفِرق. وهذا هو الرأي الذي توصَّلنا إليه نحن الثلاثة، ولكنَّنا كنَّا بصدد وضع خطط تفصيلية لتنفيذ جميع هذه العمليات بعد جمع المعلومات اللازمة وتدريب الأفراد. وقد كان هذا التفكير منذ سنة. ثمَّ بدأنا في أخذ خطواتٍ عملية لتنفيذ هذا المخطط، وتكوَّن مجلس شورى على مستوى القاهرة إلى مصر كلها من محمد عبد السلام ونبيل المغربي وأنا، وكان تقسيم العمل كالآتي: محمد عبد السلام هو الداعي لهذه الحركة أو صاحب الفكر، وهذا في المرحلة الأولى، أمَّا نبيل المغربي فكان يتولَّى تدريب الأفراد في موضوعات الطبوغرافيا والأمن والتدريب على الأسلحة وتجميع المعلومات المطلوبة منه لاستكمال الخطة، وأمَّا أنا فكنت أتولَّى عملية التخطيط للثورة الشعبية وقتال الأعداء.» ويستمر عبُّود الزمر: «كنتُ أعتقد أنَّ قيام الدولة الإسلامية يلزم أن يكون له مقدمات تتمثَّل في إعداد المجتمع من ناحية الوعي الإسلامي، وتفهُّم مبادئ الإسلام، وإعداد اللجان الثورية في الأحياء والمناطق المختلفة، وكان ذلك يتطلَّب أعوامًا من الإعداد. ثمَّ بعد ذلك حين تفجير الثورة الإسلامية يكون المجتمع قد هُيِّئ للثورة؛ حوالي ثلاث سنوات أو قد يزيد طبقًا للموقف.» ويقول أيضًا: «كانت الخطة تعتمد على الثورة الشعبية، وإعداد القاعدة الشعبية لذلك. بسبب استحالة قيام القوات المسلحة بانقلاب عسكري، أو تحريك وحدة عسكرية تقوم بتنفيذ مهمة معينة؛ نظرًا لاستحالة تجميع ضباط الوحدة بالكامل على الفكر الجهادي المطلوب، علاوة على وجود عناصر نصرانية وحزبية تقوم بالتبليغ إذا ما حدثَت أي محاولة للتحرُّك، علاوة على إجراءات الأمن بداخل القوات المسلحة والشرطة العسكرية وقوات الحرس الجمهوري وجهاز المخابرات الحربية، كما أنَّني كنتُ مقتنعًا أنَّه يستحيل في هذا البلد قيام انقلاب عسكري لِما تقدَّم. واعتقادي أنَّ الثورة الشعبية هي التي تستطيع أن تحسم الموقف مع القوات المسلحة والشرطة؛ بحيث يستحيل أن تتحرَّك القوات المسلحة ضد الشعب. التجربة الإيرانية دلَّت على أنَّه يصعب على القوات المُسلَّحة والشرطة قتال جماهير الشعب التي تُطالب بتطبيق شريعة الله، بل سيحدث انقسام فيها، وتنضم عناصر منها إلى الثورة الشعبية بأسلحتها تلقائيًّا دون إعداد مسبق، فتكسب الثورة قوة.» ويقول عبُّود: «سبق أن قرَّرت أنَّ تنفيذ خطة قتل الرئيس فقط لا تُحقِّق الهدف من العمل الجهادي الشامل، وأنِّي كنتُ أرى أنَّ ذلك يحتاج إلى وقت من الإعداد، ولم يكن عندي تصميم على قتل الرئيس في الوقت الحاضر.» ويقول محمد عبد السلام: بالنسبة للقوات المسلحة إنَّه لم يكن في تخطيطهم استخدام القوات المُسلَّحة إلَّا بعد قيام الثورة الشعبية الإسلامية، ثمَّ استخدام القوات المُسلَّحة للسيطرة على الموقف. ويقول محمد عبد السلام أيضًا بالنسبة لارتباط خطة الاغتيال بالثورة الشعبية: «بالنسبة لعملية المنصة كانت ستوفِّر علينا مجهودات كبيرة؛ حيث إنَّ كل الذين يملكون زمام الأمور في نظام الحكم الجائر مجتمعون في المنصة، وكان ذلك سببًا في التفكير في تعجيل القيام بثورة شعبية من خلال عملية المنصة، فقمنا بالتجهيز لثورة شعبية لإتمام نجاح الخطة، وكنَّا نتوقَّع أنَّه سيحدث استجابة من الشعب، ولكن فشل الخطط الأخرى أدى إلى عدم وصول الثورة إلى الشعب.»

الثورة الشعبية ثلاثة أشياء؛ الفكرة «محمد عبد السلام»، وتدريب الأفراد «نبيل المغربي»، ثمَّ التخطيط للثورة «عبُّود الزمر»، وتسبقها مقدمات منها الوعي الإسلامي، وفهم مبادئ الإسلام. والأهم من ذلك إعداد «اللجان الثورية» في الأحياء والمناطق السكنية لمساندة الثورة، وكان مُخططًا لها أن تقوم بعد ثلاث سنوات حتَّى يتم إعداد الجيش والسيطرة عليه، وتُعد اللجان الشعبية لمساندة الجيش؛ فالجيش لا يُمكن التجنيد فيه بأعداد كبيرة، ونظرًا لوجود أجهزة الأمن فيه. ومع ذلك تدل تجربة الثورة الإسلامية في إيران على أنَّ الجيش والشرطة لا يستطيعان الوقوف أمام الشعب، ومع ذلك بدأ تجنيد ضباط الجيش وجنوده في جماعة الجهاد. وبدل أن يسأل ضابط عن شرعية «الفراخ المستوردة» فإنَّه يتحدَّث عن «الأحوال الإسلامية» في القوات الجوية. ونظرًا لأنَّ الثورة الشعبية لم تكن جاهزة، وكما رفض عبُّود الزمر فكرة مهاجمة المنصة بعناصر من القوات الجوية المُشاركة في العرض، فإنَّه لم يتحمَّس أيضًا لاغتيال الرئيس؛ لأنَّه عمل فردي وليس عملًا ثوريًّا، ولا يُحقِّق الهدف من الجهاد كعمل ثوري، إلَّا أنَّه قد يكشف عن وجود الخطة الأم.

كان تخطيط الجماعة أن تتم تهيئة الشعب للجهاد بعد عدة سنوات، ووُكل لعبود الزمر أمر تهيئة القوات المسلحة نظرًا لأنَّ أعضاء جماعة الجهاد بها كانوا قليلين، وكان الغرض من تجنيدهم أولًا طلب معاونتهم بخبراتهم العسكرية، ومد الجماعة بأسلحة الجيش وذخيرته إذا ما أتت لحظة تفجير الثورة الشعبية، وكان النموذج الناجح هو الثورة الإسلامية في إيران. وبالرغم من رفض جماعة الجهاد، خاصة الأعضاء الذين قاموا بعملية الاغتيال، مقارنة حركتهم بالثورة الإيرانية، بل إنَّهم اعتبروا مقارنة السادات لحركتهم بالثورة الإيرانية «الدموية» عند الخميني أحد الأسباب المباشرة للاغتيال، مع سب رجال الدين والسخرية من شعائره، والقبض على دعاته، وإهانة أئمته، إلَّا أنَّ الجانب الثوري فيها من أجل الجانب العقائدي «عقائد الشيعة». ولكن عبُّود الزمر ضحَّى بالجانب العقائدي من أجل الجانب الثوري، وهو الموقف الإسلامي الأصح؛ نظرًا لأنَّ الفقه يسمح بالاختلاف النظري في مقابل وحدة العمل؛ فالحق مُتعدِّد ولكن العمل واحد؛ لذلك لم يُوافق عبُّود الزمر عندما عُرض عليه الأمر أول مرة، ولكن لم يستطع الرفض عندما عُرض عليه الأمر من جديد، ولكنَّه طالبهم بالحذر، ولكن يبدو أنَّ جماعة الجهاد لم تستطع أن ترفض تمامًا فكرة عبُّود الزمر في الثورة الشعبية المساندة، فقلَّدوها دون الإعداد لها، وقاموا بمحاولة صبيانية في الصعيد للاستيلاء على مديرية الأمن، وقتلوا الأبرياء صباح العيد، وأمكن إجهاضها في النهاية، كان الهدف إذن من عملية الاغتيال قيام الدولة الإسلامية، وذلك عن طريق القضاء على كل جهاز الدولة ورجالها مرة واحدة؛ مِمَّا يُسهِّل بعد ذلك قيام الدولة الإسلامية. ولم تكن هناك مجموعات في الوجه البحري، كانت هناك مجموعة واحدة بالإسكندرية تمَّ حلها، وتفرق أعضاؤها من كثرة القبض عليهم؛ وبالتالي لم تقم الثورة الشعبية إلَّا في الصعيد، فإذا كانت فكرة الاغتيال قد أتت لخالد قبل العرض بأسبوعَين على الأكثر، فإنَّه من المستحيل أن يقوم الإعداد لثورة شعبية مواكبة في مثل هذا الوقت، وكانت النتيجة اكتشاف التنظيم في الجيش، وإبعاد كل الضباط ذوي الميول الدينية عن الجيش، وقد كانوا نواة المستقبل للحركة الإسلامية. ويقول محمد عبد السلام فرج ردًّا على سؤاله عن السبب لإطلاع جماعة الصعيد على الخطة: «علشان يقوموا بثورة شعبية مؤيدة للحركة في الصعيد.» وردًّا على سؤال: «وهل كانوا مستعدين لتفجير ثورة شعبية في هذا الوقت القصير بين المقابلة وتاريخ العرض؟» قال: «أخبروني أنَّه في خلال أسبوعٍ واحد سيتم استعدادهم!» ويقول محمد عبد السلام فرج موضحًا ارتباط الاغتيال بالثورة الشعبية: «السبب في التعجيل من عملية المنصة أنَّنا كنَّا نرى أنَّها تُحقِّق هدفًا كبيرًا بالنسبة للرئيس ومعاونيه؛ لأنَّها كانت ستوفر علينا جهدًا كبيرًا؛ لأنَّ الشخصيات الكبيرة كلها مجتمعة في المنصة، ولكن بجوار ذلك لا بد من تفجير ثورة شعبية. عملية الاغتيال ستكون في صالح الهدف.»

الاغتيال إذن عمل فردي، ولكنَّه يدخل في إطار كلي متكامل، يكون هو تفجير الثورة الإسلامية. وبالرغم من عدم اغتيال الشاه إلَّا أنَّ الثورة أجبرَتْه على المغادرة والاختفاء دونما حاجة إلى الاغتيال، أمَّا في مصر فلم يمتثل السادات لتحذير الأئمة له، ولم تكن هناك ثورةٌ شعبية تُجبره على الرحيل كما فعل الشاه، فلم يكن هناك إلَّا الاغتيال كطريق وحيد للخلاص، ولو كانت هناك تنظيماتٌ سياسية فعَّالة قادرة على العمل السريع، لانتهزت فرصة الاغتيال، وقامت بحركة شعبية مساندة؛ وبالتالي تكرَّرت مأساة ١٨ / ١٩ يناير ١٩٧٧م، عندما هبَّ الشعب دفاعًا عن حقوقه ضد السلطة، ولم يُسانده جيش أو تنظيم. والآن قام التنظيم بتصفية رأس النظام، ولكن لم يُسانده شعب أو جيش أو تنظيم. ويقول كرم زهدي: «اتفقنا على قيامنا بالسيطرة على أسيوط في نفس الوقت، واستخدام القوة في السيطرة.» ويقول أيضًا: «لم يكن عندنا مسبقًا فكرة الاغتيال للرئيس، بل كانت كل الفكرة هي عمل مُتكامل لتمكين شرع الله، ولم يكن الرئيس بعينه.»

ويشرح كرم زهدي توافق الاغتيال مع حركة الصعيد صباح أول يوم العيد. وردًّا على سؤال: وما دليلكم الشرعي في عملية أسيوط واستحلالكم للدماء التي أُريقت فيها؟

ج: احنا كنَّا متفقين أصلًا على أنَّ الضربة الأولى ستكون ضربة تهديد وفرقعة؛ أي إطلاق نيران في الهواء، فإذا ردوا عليها ضربنا، وهذا الأمر دليله الشرعي هو أنَّنا نريد أن نُزيل النظام الذي يحكم بغير ما أنزل الله، ولم يحكم بشرع الله، فإذا قاتلنا الذين يُحافظون على النظام الجاهلي غير الشرعي، فإنَّه يصح لنا قتالهم. ويقول عبد الهادي مصطفى إنَّ محمد عبد السلام أخطره أنَّه سيتم قتل جميع القيادات في الدولة، والسيطرة على البلد، وإقامة الدولة الإسلامية.

وقد حرص تنظيم الجهاد على أن يجمع بين الإمارة والشورى، بين الطاعة للأمير وعقد البيعة له وبين عدم الاستبداد بالرأي وعرض الأمور على أعضاء الجماعة. وبالرغم من أنَّ الإمارة واجبة إلَّا أنَّ الشورى أيضًا واجبة منعًا للاستبداد بالرأي والانفراد بالقرار في أمور تهم المسلمين جميعًا؛ فقد عُرض الاغتيال على محمد عبد السلام وعبود الزمر؛ أي الفقيه والقائد. كما عُرضَت على عمر عبد الرحمن الفكرة العامة باعتباره فقيهًا وأميرَ الأمراء، ولم يحدث اجتماع لمجلس أمراء الجماعات كلها ومناقشة الرأي والتصويت عليه؛ لأنَّ ذلك كان مستحيلًا عمليًّا لضيق الوقت، وخشية تسرُّب الأمر، وللثقة المُتبادَلة بين الأمراء من ناحية وبين الأمراء وأعضاء التنظيم من ناحيةٍ أخرى. لم يعرض أحدٌ الخطة على مجلس الشورى؛ لأنَّ الذين عرفوها كانوا من مجلس الشورى؛ وبالتالي أمكن تنفيذها دون موافقةٍ رسمية من مجلس الشورى، ونظام الجماعة هو النظام العنقودي؛ أي الخلايا، وعلى كلٍّ منها رئيس، ويكون الأمير على رأس الرؤساء.

كانت الإمامة تستلزم الطاعة المطلقة، إلَّا أنَّها لم تكن طاعةً عمياء، بل كانت طاعة الأمير واجبةً ما دام قد أطاع الله والرسول.٢٠ فعلى المسلم أن يُطبِّق قاعدة «التبيُّن والتمييز» والتي على أساسها نشأَت جماعة بأكملها هي جماعة «قف وتبيَّن». وكان يشترك في الإمارة العلم والفقه حتى يُمكن البت في الأمور الشرعية. وكان فقيه الجماعة «محمد عبد السلام» يرى أنَّ د. عمر أفقه منه؛ وبالتالي فهو أولى بالإمارة منه. ولكن د. عمر رفضها دون أن يرفضها بتاتًا، ومع ذلك كانت الجماعة تستفتيه، فأفتى بكفر الرئيس دون أن يُفتي بإحلال دمه شرعًا؛ فهو كافر دون كفر يخرجه من ملة الإسلام، وكفره كالفسق؛ أي ارتكاب معصية أو كبيرة لا تخرجه من ملة الإسلام. ومع ذلك لم تقتنع الجماعة بفتواه. وقد جعل ذلك التنظيم أشبه بالتنظيم العسكري تنفيذًا للأوامر دون مناقشة أو اعتراض، وهو الطابع العام الغالب على الحركات الإسلامية المعاصرة، وله نمطه في الجمعيات السرية ونظم الشيعة؛ لذلك بدأ محمد طارق بعد الحادث التخلِّي عن محمد عبد السلام تدريجيًّا حتى يتبيَّن ويميز، وإن كان ذلك لا يُعارض قاعدة «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، والثقة بأهل العلم والفقه والفتيا». وتدل أقوال محمد عبد السلام فرج أنَّه طبقًا لقاعدة الشورى تمَّت الموافقة على الاغتيال داخل جماعة الجهاد. كان مجلس الشورى يتكوَّن من الأخ عبود والأخ محمد عبد السلام فرج، والأخ كرم، والأخ فؤاد الدواليبي، والأخ طلعت فؤاد، والأخ عاصم عبد الماجد، والأخ ناجح إبراهيم، والأخ محمد عصام دربالة، والأخ حمدي عبد الرحمن. ويشرح طارق الزمر مجلس الشورى قائلًا: «التنظيم عبارة عن مجموعات، وكل واحد أمير مجموعة، وبعدين فيه مجلس شورى لجميع الموضوعات، ومجلس الشورى برئاسة الشيخ عمر عبد الرحمن، ومكنتش أحضر مجلس الشورى، وكان يحضر مجلس الشورى عندنا عبود ومحمد عبد السلام، وباقي الأفراد من قِبْلي، ومجلس الشورى هو الذي كان يُعطي الفتوى العامة.» ويتحدَّث فؤاد محمود حنفي، وشهرته فؤاد الدواليبي، عن مجلس شورى جماعة المنيا وأسيوط، وهو مُكوَّن من محمد عصام، وعاصم عبد الماجد، وكرم زهدي، وفي أسيوط أسامة حافظ، وناجح إبراهيم، وشعبان. وكانت تتم فيه المناقشات بخصوص الفكر الإسلامي. ومرةً أخرى يقول إنَّ مجلس الشورى يتكوَّن من حمدي عبد الرحمن (سوهاج) وناجح وأسامة وعاصم (أسيوط)، وفؤاد، وكرم، والدواليبي، ومحمد عصام (المنيا)، وعلي الشريف (قنا).

كانت هناك إمارةٌ أحيانًا بلا مشورة، ومشورةٌ بلا إمارة لتسهيل الحركة، وليسهُل اتخاذ القرار. الإمارة دون مشورة قائمة على الثقة، والمشورة بلا إمارة قائمة على العمل الجماعي، وذلك حتَّى لا يتعطل العمل، ويتم الإنجاز، وإلَّا وقع التنظيم في بيروقراطية التنظيمات الحزبية ومناقشات اللجان. لا تلتزم الجماعة بطريقة أو شيخ أو أوامر أمير كما تفعل الطرق الصوفية، بل تتدبَّر أمورها داخلها. وكان الشرع الإسلامي يتحكَّم في الحالتَين؛ أي عامل موضوعي تاريخي أصولي يكون هو المرجع الأول والأخير للأمير وللجماعة على حد سواء. ومن هنا أتت أهمية الفقيه ومقدار علم الفقهاء؛ فالأمير ومجلس الشورى، كلاهما لا يحكم عن هوًى، ولا يصدر عن مصلحة، بل يبغي موضوعية الشرع، ومن هنا جاءت أهمية التأويل وحكم المُؤَول.

وكانت تنتسب إلى الجماعة مجموعة من أطهر شباب مصر، شديدة الاقتناع بفكر الجهاد وممارسته. ويبدو ذلك من الأسماء المستعارة؛ فقد كان خالد هو «ظافر» وعبود الزمر «منصور». وقد بلغَت شدة الإقناع حد التأكُّد من نجاح العملية ١٠٠٪، وعدم وضع أيَّة احتمالات للفشل، وعدم وجود خطَط بديلة في حالة فشل الخطة الحالية لسبب أو لآخر. كان الاعتماد كله على عنصر المفاجأة. ولو حدث قتال مع الحرس فسيُقاتلون حتَّى يسقطوا شهداء؛ لذلك لا يُسمُّون عمليتهم جريمة، بل عملية اغتيال الظالم، يتوجَّهون بالغريزة نحوه لتخليص البلاد. ويتمنَّى المسلم الشهادة في سبيل الله، وليس فقط اغتيال الحاكم وإقامة الدولة الإسلامية؛ فالجانب الموضوعي يُقابله جانب ذاتي. وكان يحدث للشباب نوع من التغير المفاجئ؛ فينقلبون من حالٍ إلى حال دون تدرُّج أو اقتناع، من الفساد إلى الطهارة، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الجاهلية إلى الإسلام؛ مِمَّا يجعل فكر الاضطهاد، وليد الإخوان، يُعبِّر عن بنائهم النفسي. هذه اللحظة هي لحظة الهداية والتوفيق من الله. وكان معظمهم من صغار السن ابتداءً من ١٨ حتَّى الثلاثين؛ فالشباب أقرب إلى الطهارة والإخلاص والولاء والمثالية التي لم تنجرف مع تيار الحياة وزحمة الدنيا بالثراء السريع أو الهجرة خارج البلاد، بالرغم من أنَّ معظمهم من الطبقة المتوسطة الدنيا، ويسكنون أحياء شعبية فقيرة أقل من المتوسط، ويُمثِّلون قطاعات مصر؛ فمنهم مهندسون، وأطباء، وضباط، وأساتذة جامعات، وعُمَّال، وجنود، وطلاب، وينتسبون إلى الريف والحضر على السواء؛ فالإسلام قادر على اختراق كل طبقات المجتمع وفئاته ومهَنه ومستويات ثقافته.

باع حسين عباس نفسه لله، وذهب ليرى أهله بعد تنفيذ العملية وليكن ما يكون. لم يُبلغ زوجته، ولكن كان يبدو على وجهه الفرح، وكان يُشير إلى عطا بأنَّه الشهيد لأنَّه رآه مُلقًى على الأرض. وقد كان عطا طايل فخورًا بأقواله واعترافاته مع العلم بأنَّ النهاية هي الموت. وهو يتمنَّى الموت لأنَّه في المطلوب، وهو قتال أئمة الكفر. لقد صمَّم الإخوة على هذا العمل على أساس أنَّه عملية استشهاد. وردًّا على سؤال: كيف تمَّ تنفيذ الجريمة؟ قال حسين عبَّاس: «كلمة جريمة لا أقبلها؛ فما تمَّ بالنسبة لنا ليس جريمة؛ فهي عملية اغتيال الظالم، وأول من نزل أخونا خالد بارك الله فيه. ونزل وأعطى أخانا الشهيد عطا قنبلة فألقاها بعد نزوله. وعلى ما أتخيل أول من نزل أخونا خالد، وتلاه عطا الشهيد، ثمَّ أخونا عبد الحميد، وأنا آخر من نزل.» وردًّا على سؤال: كيف أطلقتَ النار على المنصة؟ قال: «خرجتُ من فوق العربة بالتوجه الغريزي نحو الظالم.» ويقول علاء الدين مدافعًا عن نفسه بأنَّه ما فكَّر يومًا أن يقتل مصريًّا؛ مِمَّا يدل على أنَّ الاغتيال السياسي لم يكن ضد الوطنية، ولكن الاغتيال كان هو الوسيلة الوحيدة المتروكة بعد أن سُدَّت جميع السبل. ويُنهي عطا طايل أقواله للمُحقِّق قائلًا: «فاقضِ ما أنت قاضٍ إنَّما تقضي هذه الحياة الدنيا، إلى أن نلتقي يوم القيامة.» وقد عرض عليه خالد الأمر من قبلُ، وقال هناك استشهاد في سبيل الله، ورحَّبت بذلك. وكان الأربعة يصفون بعضهم بعضًا بالشهيد.

وقد كان إحساس خالد بالشهادة إحساسًا مرهفًا. وكلَّما اشتدَّت الطهارة شعَر الإنسان بسوء الأوضاع، وأسرع بإيجاد التوافق بين طهارته وشرور العالم، بتخليص العالم من الشر، فينتهي بأن يُخلِّص نفسه من شرور العالم. كان معروفًا بين زملائه بهذه الطهارة في عصرٍ انغمس فيه أقرانه في الدنيا، يغترفون منها، ويتسابقون عليها. وفي حالة الاختيار بين الولاءَيْن؛ الولاء للجيش أم الولاء للإسلام، يكون الاختيار واضحًا بلا تردُّد، الولاء للإسلام. وقد كانت الرغبة عند الجميع ألَّا يُقتل مسلم بريء بغير ذنب. وكان السؤال باستمرار عن حكم الشرع في ذلك حتى لا يُقتل بريء دون ذنب. ولولا الحديث القائل «يُخسَف بأولهم وآخرهم، ثم يُبعَثون على نيَّاتهم»، وتأكيد ذلك من فقهاء الجماعة وأمرائها، لما أقدم خالد والرفاق على مثل هذه الشجاعة بهذا الاقتناع. إنَّ الطهارة في عالم دنس لا بد وأن تتحوَّل إلى قذيفة تنطلق ضده حفاظًا على الذات، ورفضًا للتقوقع والتحوُّل إلى طريقة صوفية أو إلى اعتكاف في زاوية، وقد كان أيضًا هو السبيل أمام أئمة آل البيت لمواجهة طغيان يزيد والحكم اللاشرعي.

ومع ذلك فقد كان التردُّد والضعف أحيانًا يظهران في سلوك الأعضاء، لا عن خوف أو إيثار للحياة، بل عن رؤية لصعوبة التبعة واستحالة التنفيذ العملي، وحَيْرة الإنسان بين المبدأ والواقع، وتردُّده أمام النتائج الفعلية التي تنشأ عن الاقتناع بالمبادئ العامة، مثل الخروج على النظام الناتج عن فكرة الحاكمية، واغتيال الحاكم كأحد وسائل الخروج على النظام؛ فقد تردَّد بعض الأعضاء إحساسًا منهم بعدم جدوى العنف وخطورته، وربما لأنَّ طريق الاغتيال ليس طريقًا شرعيًّا حتَّى لو كان هناك بعض الأدلة التي يعتذر صاحبها بالتأويل. وقد يُصيب قتل راعي الدولة البلاد بمفاسد أكبر من الحادث نفسه، ولكن الظروف النفسية والاجتماعية هي التي تدفع إلى تجاوز هذا التردُّد. كان بعض أعضاء الجماعة يرفضون أسلوب إلقاء القنابل، وتفجير عربات أنابيب البوتاجاز، ويعتبرونه عنفًا صبيانيًّا (جماعة نبيل المغربي). وكان يُقال للبعض تشجيعًا لهم على حمل السلاح للدفاع عن النفس، وليس لممارسة العنف، أو للقيام بأعمال الاغتيال، وقد أنكر بعض أعضاء الجماعة معرفتهم بعملية الاغتيال، ورفض البعض الآخر أن يُقره من حيث المبدأ، بل إنَّ أمير الجماعات كلها د. عمر عبد الرحمن تراجع عن فتواه في التحقيق، وحاول التنصُّل من التبعة، متخفيًا وراء العلم، ومتواريًا خلف تقسيمات الفقهاء. ويعترف صالح رمضان مثلًا بأنَّه آوى حسين عباس في بيته ليلةً بعد الحادث دون أن يعلم، ولو علم لما آواه. كما أنكر محمد عبد السلام فرج كثيرًا من الأقوال ثمَّ عاد وغيَّر موقفه واعترف بكل شيء، ومحمد طارق كان يُريد الاطمئنان على مصيره. وكرم زهدي قال: «أنا لم أشترك ولم أحرِّض ولم يكن أمامي أمام إصرار خالد على هذه الفعلة إلَّا أن أوافقه على مواقفه. وما كانت مواقفي إلَّا نتيجة بعض الظروف التي كانت تُحيط بنا من جميع النواحي. لم أحرِّض، ولم أُساعد بشيءٍ ملموس في هذه الفعلة.» ويعترف الأشوح بأنَّه خاف عندما سمع البعض بيشتم الريس، ويقول صالح جاهين: «طلب مني عبُّود الزمر أن نقوم بأعمال ضد الحكومة فرفضت ذلك، وقلت له إنَّكم كنتم تقولون عنَّا إنَّا نساء الإسلام، وإنَّنا رفضنا أن نستجيب لنداء الله، فأنتم الآن تريدون منَّا أن نتحرك دفاعًا عنكم لا دفاعًا عن دين الله.» ويقول صالح رمضان: «أنا أتبرأ من فعلته (حسين عبَّاس)، ولو كنتُ أعلم أنَّه يُفكِّر في قتل رئيس الجمهورية لنصحتُه بأن يتَّقي الله.» ويُلقي أسامة اللوم على جهات الأمن قائلًا: أريد أن أقول إنَّ كل ما حدث يُعدُّ خطأ فلا شك أنَّ مسئوليته تقع على جهات الأمن، التي قصَّرت في توعية الشباب، ولم تعمل على هدم الحاجز الذي بينها وبين الشباب؛ مِمَّا دعا الشباب إلى أن يلجأ لهذا المسلك الذي لا يرضون عنه. ويقول أنور عكاشة: «كل عمل عند المسلم لا بد أن يكون له مستند شرعي؛ فتفجير القنابل في ميدان عام، ووقوع ضحايا من المسلمين، ليس له ما يؤيده من الكتاب أو السنة؛ فلا يجوز قتل المسلم مهما كان السبب، ولأنَّ قتله لا يُحقِّق أيَّة أهداف.» وقد اعترض أنور عكاشة على أسلوب عبُّود الزمر في البداية بحرب عصابات. واقترح أن يُرسل رسالةً إلى الرئيس حسني مبارك يُطالبه بتحقيق الشريعة الإسلامية، والإفراج عن المعتقلين. وتقول زوجة عبد الحميد عبد السلام إنَّ زوجها لو أخبرها أنَّه ينوي اغتيال الرئيس لكانت قد منعَتْه حتَّى لا يرمي نفسه في النار؛ لأنَّ القتل حرام. ولكن الموقف الدال هو موقف د. عمر عبد الرحمن في قوله بأنَّ الاغتيال حرام بدليل قوله تعالى وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا. ويقول عبد الحميد عبد السلام في جماعة التكفير والهجرة: «أنا أختلف معهم في الرأي؛ لأنَّهم يُكفِّرون الناس جميعًا؛ فكل من هو خارج جماعتهم ولا يمتثل لهم كافر. وأنا لا أرى تكفير الناس إلَّا بالنية.» كما أعلن محمد عبد السلام فرج أولًا أنَّ للدماء حُرمة ولا تُستباح. وتنصَّل من مواقفه العملية. وردًّا على سؤال: ما هي مناهج الجماعات الإسلامية المختلفة في زماننا؟ يُجيب محمد عبد السلام: «توجد جماعة التبليغ والدعوة، وفكرها قائم على تبليغ الدعوة للناس في بيوتهم وفي المقاهي والأماكن العامة، وهم يدعون إلى الصلاة والشعائر فقط ولا يتكلَّمون في السياسيات، وليست بغيتهم إصلاح الحكم نهائيًّا. وتوجد جماعة الإخوان المسلمين، وطريقها هو دعوة الناس، وتكوين قاعدة شعبية، ولكنَّهم أيضًا يتكلَّمون في السياسة ويُحاولون أن يتجنَّبوا المصادمات مع الدولة، ولو أنَّهم يُعلنون أنَّ الإسلام لا بد أن يقوم ويعود، ولا بد من إقامة الدولة الإسلامية بطريق الدعوة الطويلة الأمد. كما توجد جماعة التكفير والهجرة وحجمها ضئيل للغاية.»

«س»: والجماعات الإسلامية في الجامعات؟

«ج»: جماعة الإخوان المسلمين.

وقد دخلَت جماعة الجهاد في نقاش عنيف وحوار مستمر مع باقي الجماعات الأخرى التي لا تؤمن بهذا الأسلوب، مثل النقاش بين محمد عبد السلام وجماعة السماوي التي لا تؤمن بالجهاد على هذا النحو، كان الأول يُناقش الثاني باستمرار في موضوع الجهاد ويحثه على ضرورة تكوين الخلافة المسلمة؛ لأنَّ الدولة ليست إسلامية، ولا تُطبق شريعة الله، ولا بد من إقامة الدولة الإسلامية عن طريق انقلابٍ عسكري. وكان السماوي يرفض ذلك من باب أنَّ دخول الجيش نفسه كفر، ويرى أن يقتصر الجهاد حاليًّا على الدعوة إلى الإسلام، والناس بأنفسهم سيفهمون الفرق بين الصحيح والخطأ، والاستمرار في الدعوة السلمية حتَّى يأذن الله بالجهاد بحد السيف. كما أنَّ بعض أعضاء جماعة الجهاد كانوا أولًا أعضاء في جماعة «التكفير والهجرة» التي كان اسمها أولًا جماعة «العزلة». أعطتهم الحكومة أرضًا يزرعونها في الخطاطبة اتقاءً لشرهم، وإبعادًا لهم، ولكنَّهم اختلفوا فيما بينهم، وتركوا أميرهم. مع أنَّها كانت بداياتٌ صحيحة لتكوين جماعات دين وعمل، إيمان وإنتاج، كما فعلَت الهجرات اليهودية الأولى في فلسطين، وتكوين المستوطنات، وتحويل العمل إلى عبادة، وقراءة التوراة إلى زراعة الأرض. وكانت الجماعة الإسلامية بأسيوط تدعو إلى الإسلام عن طريق الكتاب والدروس، وتقوم بالرد على فكر الجماعات الأخرى، سواء جماعة التكفير والهجرة أو جماعة الإخوان المسلمين.

ويظهر التردُّد بوضوح في شخصية د. عمر عبد الرحمن؛ فإنَّه أنكر معرفته بجماعة الجهاد، باستثناء جماعة صغيرة في الفيوم رفض إمارتها لأنَّه أعمى لا يعرف قيادة الجماعات. كما أنَّه أنكر فتواه بإباحة دم الرئيس، وبإباحة قتال النصارى، وإباحة دماء رجال الأمن المركزي والشرطة، وأخذ أسلحتهم، بل إنَّه نهاهم عن ذلك، أو على الأقل لم يعلم، أو علم ولكنَّه صمت، وأنَّ رأيه هو تنبيه الرئيس ومطالبته بتطبيق الشريعة دون إباحة دمه بالرغم من إيمانه بالحاكمية، بل إنَّه استطرد في ذكر الأدلة على إيمان الرئيس وجهاده في الإسلام! فقد وضع في الدستور أنَّ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وقاد حرب رمضان، وأعلن نيَّته الصادقة في تطبيق الشريعة، وحواره مع بعض قيادات الحركة الإسلامية، ونقده للشيوعية.

بل يرفض أن يكون هناك مقارنة بين مُسلمي اليوم وتتار الأمس، كما فعل مُفكِّر الجماعة في «الفريضة الغائبة»، نقلًا عن ابن تيمية. كما أنَّه لا يُحرِّم العمل في الدولة، ولا يُسلِّم باتباع وسائل العنف لإقامة الدولة الإسلامية، بل تكفيه الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولو كان هذا موقفه حقيقةً لما اختير أميرًا عامًّا للجماعات الإسلامية كلها، وفقيهًا من فقهاء جماعة الجهاد. ويُعارض رأي جماعة الجهاد في اعتبار آية السيف ناسخةً لآيات الدعوة، ويجعل آية الدعوة ناسخةً لآية السيف، بل يظهر هذا التردُّد في شخصية فقيه الجماعة ذاته عندما بدأ اعترافاته بالإنكار التام، ثمَّ غيَّر موقفه بعد ذلك إلى الإثبات التام، وكأنَّ العقيدة مهما بلغَت قوَّتها فإنَّها بعد أن تتحقَّق في فعل وسلوك، وتتحوَّل إلى واقع عملي، يظهر الفرق الشاسع بين الفكر والممارسة.

ويقول ممدوح محرم تائبًا: «أنا أحسستُ بالذنب، وندمتُ على تورطي مع محمد عبد السلام، وتيقَّنتُ أنَّ من واجبي كشف النقاب عن كل ما يتصل بهذا المرض الفكري لتجنيب الأمة هذه الفتن المظلمة، واتقاءً لإراقة دماء المواطنين الأبرياء في هذا الوطن المُفدَّى وهذا البلد الأمين.» وردًّا على سؤال المُحقِّق فيما يتعلَّق بإسلام الرئيس، ووضعه نصًّا في الدستور يجعل الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، الذي يعتبره باقي أعضاء جماعة الجهاد نفاقًا، يقول الشيخ عمر: «أفهم من السؤال أنِّي قلتُ إنَّ الرئيس محمد أنور السادات كافر، والحقيقة أنِّي لم أقل ذلك، ولا أعتقده، ولا أُكفِّر مسلمًا لقول الله تعالى في المشركين فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ فما بالك فيمن فعل ذلك ولم يكن مشركًا؟ وكيف يكون كافرًا وهو أولًا قد وضع في الدستور هذا النص، وثانيًا قاد حرب رمضان وفيها انتصار على اليهود، وثالثًا قد سمعتُ من أعضاء لجنة الفكر والدعوة بالحزب الوطني أنَّه قال لهم: لقد صبرتم كثيرًا على من قبلي فتمهلوا عليَّ، ورابعًا رده على التلمساني عندما قال أشكوك لله، وخامسًا ما ذكره الشيخ النمر من أنَّ الرئيس قال لهم في اجتماع أسرعوا بتنفيذ هذا الأمر، وسادسًا طرده للشيوعية التي كانت تُهدِّد مصر في عقيدتها وإيمانها بالله. وإنَّ أقصى إثم يعترف به هو النجوى بناءً على سؤال المُحقِّق بقوله: ولكنَّك تعلم القاعدة الشرعية التي أحكمها المولى سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أنَّه لا خير في النجوى إلَّا أن تكون على الأمر بالصدقة أو المعروف أو الإصلاح بين الناس، وأنَّ صفة أمة الإسلام التي فضَّلها الله تعالى على كل الأمم أنَّها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.» ويرد عمر: هذا من الخطأ الذي ارتكبه المخالف لقاعدة النجوى في الآية السابقة والآية الأخرى وهي قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى. ثمَّ يعترف بأنَّ الرئيس «قُتل ظلمًا وعدوانًا؛ لأنِّي لم أعرف أنَّ مجلسًا من العلماء ناقشه ورفض الحكم بكتاب الله.» ويقول في رفض المقارنة بين المسلمين اليوم والتتار بالأمس التي وضعها محمد عبد السلام في «الفريضة الغائبة»، نقلًا عن ابن تيمية: «لا أرى وجهًا لهذه المقارنة؛ فالبون شاسع. هؤلاء كانوا كفارًا؛ أي التتار أعداء الله وأعداء للعلم؛ حيث وضعوا كتب العلم التي كانت موجودة في بغداد في نهر دجلة، حتَّى تلوَّن ماء النهر بالمداد من كثرة ما أُلقي فيه من الكتب. أمَّا حُكَّام اليوم فهم مسلمون، ولم يصنعوا شيئًا من هذا الفساد.» ويقول بالنسبة لتحليل العمل في الدولة بالأجر: «هذا الراتب حلال؛ لأنِّي أتقاضاه نظير عمل أُؤديه، وآخذ الأجر عليه، وقد استُفتيتُ في وظائف الدولة والعمل فيها فقلتُ إنَّ العمل بوظائف الدولة حلال.» ويقول في الوسيلة الشرعية المتبعة لقيام الدولة الإسلامية: «وسيلتي الشرعية في ذلك ما علَّمنيه ربي سبحانه بقوله ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وقوله سبحانه وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وقوله فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ لأنِّي أُبيِّن للناس في الخطب والدروس والمحاضرات والندوات والاجتماعات عظمة الإسلام ورفعة منهجه، وأُبيِّن لهم أنَّ عليهم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يقولوا الحق ولو كان مُرًّا، وأن يُطالبوا الحاكم في الصحف والمجلات، وبالكتابة إليه، وإلى المجالس المتخصصة، للمطالبة بالحكم بكتاب الله، لا سيما وأنَّ آيات القرآن في ذلك كثيرة، ومنها قوله تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وآيات أخرى كثيرة.» ويقول عن الرئيس: «ولم أعلم أنَّ الرئيس محمد أنور السادات قد نوقش في هذا الأمر ورفضه.» ويقول رافضًا نسخ آية الدعوة بآية السيف: «هذا فهمٌ سقيم لكتاب الله عز وجل؛ إذ بهذا الفهم تُعطَّل مبادئ كبرى وعظيمة في القرآن الكريم. وهل هناك أخطر من أن يُعطَّل مبدأ الدعوة إلى الله حين نسمع لهذه الآراء التي تقول إنَّ آية السيف قد نَسَخَت آيات الدعوة، بل إنَّ مبدأ الدعوة إلى الله هو أصلٌ عظيم من أصول الإسلام، بل هو من أعظم أصوله، وهذه دعوةٌ خطيرة لتعطيل آياتٍ كثيرة من كتاب الله لا معنى لها، ولا هدف، وأنا أميل إلى القول الذي يقول لا نسخ في القرآن.»

(١٠) الفريضة الغائبة وجدل التاريخ٢١

«الفريضة الغائبة» هي إنجيل جماعة الجهاد، يُسأل كل عضو فيها من المُحقِّقين إذا كان قد قرأه أو فهمه أو اعتنق أفكاره، أو تأثَّر به. والغريب أن يُحدِث مثل هذا الكُتيب الصغير، الذي هو مجرد تجميع آيات وأحاديث من كتب السلف، هذا الأثر الضخم في حياة أمة، ويكون أداة انقلابٍ في نظام الحكم، بداية من اغتيال الرئيس حتَّى الثورة الشعبية الشاملة؛ مِمَّا يدل على أنَّ الظروف النفسية والاجتماعية كانت مُهيَّأة لقبول مثل هذه النصوص. والظروف النفسية تتلخَّص في حال الدعوة الإسلامية في عهد الثورة المصرية واضطهاد الحركة الإسلامية، الإخوان أولًا، ثمَّ الجماعة الإسلامية ثانيًا، ليس فقط في مصر بل في تونس، والمغرب، وسوريا، والأردن، والعراق، ولبنان، والسودان، والحجاز، وإبعاد أعضاء الجماعة عن المشاركة في الحياة الوطنية، وعزلتهم عن واقعهم، فكان لا بد أن ينشأ مجتمعهم الخاص، وتكوينهم النفسي المميز كجماعة أقلية مضطهدة تُناصب الأغلبية العداء. وتتجلَّى الظروف الاجتماعية في مظاهر الفساد العامة في البلاد، وإحساسهم بأنَّهم القلة الأخيار وسط مُحيط من الأشرار، وأنَّ هذه الظاهرة هي التي تُثير السياسي فيُصبح من المعارضة، كما تُثير المتدين فيُصبح من الجماعة الإسلامية؛ فالدين هو البوتقة للوعي السياسي، هو مقياس الطهارة في جسم الفساد.

ولا يحتوي الكتاب إلَّا على النص «الخام» والشروح عليه. وتتجلَّى هذه الظروف النفسية والاجتماعية في نوعية النصوص المختارة التي تُعبِّر عن أحوال العصر، والرغبة في استئناف عملية التقدم والنهضة والرجوع بالإسلام إلى مجده الأول، وعدم اليأس ورفض القنوط. كما أنَّ الشروح عليها تُعبِّر عن البناء النفسي والاجتماعي، إسقاط الحاضر على الماضي، وقراءة النفس في التاريخ، والقيام بعملية التأويل الضرورية من خلال تشابه المواقف، بالرغم من بُعد فترات التاريخ، التتار بالأمس وحُكَّام المسلمين اليوم؛ وبالتالي تنشأ الحركة من خلال الثبات، ويحدث التغير من خلال التواصل، ويتراءى الحاضر في الماضي، ويعيش الماضي في الحاضر، وتنطلق قوى التاريخ، وتتحرَّك الشعوب. وهذه النصوص هي زبدة التراث وخميرته الأولى، وأكثر النصوص فاعليةً في سلوك الناس؛ فالنصوص الفلسفية لا تؤثِّر إلَّا في القلة المثقفة المتعلمة المُطَّلعة على ثقافات الغير والحضارات المجاورة، والنصوص العقائدية لا تؤثِّر إلَّا في العلماء المتخصصين في أصول الدين، والنصوص الصوفية لا تؤثِّر إلَّا في الطرق الصوفية والذين آثروا الانعزال عن العالم لمَّا انتهت المقاومة الفعلية إلى طريق مسدود، أمَّا النصوص الفقهية فهي التي تحتوي على الفتاوى، رأي علماء الأمة في أحداث العصر، وحكم الشرع في مجريات الأمور. فهي أشبه بالمنشورات السياسية اليوم، وبيانات الأحزاب السياسية، والمؤتمرات الصحفية للقادة؛ وبالتالي كان لها فعلها المباشر في الجماعة الإسلامية ورؤيتها لأحداث العصر.

وأهم ما في الفريضة الغائبة شيئان؛ الأول، وضع الفكر الإسلامي في الزمان، والفكر الإسلامي في صورته البدائية النصية في نصوص تؤكِّد الأنا في مواجهة الآخر، ترفض الموالاة، وتؤكِّد عنصر التمايز، وتُبرز المعارضة. ويتجلَّى هذا الفكر في عقيدة الجهاد، وتوجيه هذه العقيدة نحو الحاضر الآن، في التو واللحظة مِمَّا يجعل المسلم يقشعر ويخاف، وتبدأ عملية التحوُّل الفجائي لديه، فينقلب حاله من حال إلى حال، كما يحدث للصوفي عندما تأتي لحظة النداء في حادثةٍ عارضة، أو نداء شيخ، أو صوتٍ مجهول، أو هاتفٍ باطني، أو رؤيةٍ قلبية؛ لذلك تتصدَّر الكتاب الآية الكريمة أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ. ويؤكِّد الشرح هذا المعنى الآني للنداء الإلهي؛ حيث يبدأ المسلم على الفور في سماع النداء، وهو أنَّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن. والثاني، هو الفعل والعمل والتنفيذ والتحقيق والمبادرة، أو إن شئنا بلغة الاجتماع والسياسة القوة، وكأنَّ الدخول في الحاضر الآني، وفي اللحظة الحالية يجعل المؤمن فاعلًا، وتضيع المسافة بين النظر والعمل، بين الفكر والممارسة. واستعمال القوة يقتضي إراقة الدماء، والتعارض بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين الهداية والضلال؛ وبالتالي يتوافر للفكر عنصراه الضروريان؛ الإنسان والتاريخ، الزمان والحركة، الحاضر والفعل؛ وبالتالي يُحْدِث الفكر أثره في كل من يقرؤه بالتحوُّل الفجائي، ويعيش الحاضر بعد الخروج منه والتعويض عنه بالماضي أو الحلم في المستقبل، وينقله من موقف المُتفرِّج إلى موقف العامل؛ فالفكر قائم على الانتقال من الضد إلى الضد. وكذلك السلوك يتحوَّل بالانتقال من الضد إلى الضد، حتَّى أصبحت جماعة الجهاد أشبه بالطريقة الصوفية التي يبدأ فيها المُريد بالتوبة، والانتقال من حال إلى حال، ولسان كل شابٍّ مُسلم يقول: «اليوم خمر وغدًا أمر.»

ثمَّ ينطلق الزمان من الحاضر الآني إلى المستقبل على عكس ما هو معروف وشائع عن الحركة السلفية، من أنَّها اتجاه نحو الماضي، من الحاضر إلى الماضي، وعودة إلى العصر الذهبي، وإغراق في الماضي هروبًا من الحاضر، وعجزًا عن مواجهته، بل إنَّ الدعوة الجديدة دعوةٌ «مستقبلية» تتجه من الحاضر نحو المستقبل، وتُعطي المسلمين أملًا جديدًا؛ فالمستقبل يحتوي على إمكانية أكثر من الماضي، وإنَّ المُسلم مُتَّجه بقلبه نحو المستقبل، قادر على الفعل وليس نحو الماضي، عاجزًا عنه، وترتبط بهذه النظرة المستقبلية الرؤية المشيانية Messianic التي تجعل الخلاص واردًا في المستقبل إمَّا بزعامة أو بمصلح أو كل فترة من الزمن؛ وبالتالي تكون هذه النظرة عن الخلاص في المستقبل أكبر رد فعلٍ على الوضع الشائع عند أهل السنة، الذي يغلب عليه التشاؤم والحسرة على الماضي، وأنَّ التاريخ في انهيارٍ مستمر «خير القرون قرني.» من النبوة إلى الخلافة الراشدة ثمَّ إلى المُلك العَضُوض.

لذلك لا مكان لليأس بدعوى الصبر، وهي الدعوة التي وجَّهها المُحقِّقون باستمرار إلى أعضاء جماعة الجهاد مُتسائلين: فيم الإسراع وفيم العجلة؟ أو بدعوى ضياع الوقت في الأحلام، وإلَّا فما معنى عقيدة المهدي المنتظَر التي يؤمن بها الشيعة والسنة على حد سواء إلَّا هذا الأمل في المستقبل مقابل اليأس من الحاضر بناءً على تجارب الماضي. هذا المهدي الذي سيظهر في آخر الزمان، ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن مُلئت ظلمًا وجورًا؟ وما أكثر الآيات القرآنية التي تُبشِّر بالأمل واستخلاف الله للمؤمنين وخلافتهم للأرض! فكان من الطبيعي أن يتعلَّق الشباب بجماعة الجهاد التي تُعطيهم الأمل في مواجهة اليأس، والإحساس بالرسالة في مواجهة التميع والانحلال، ثمَّ يقوى هذا الإحساس لديه بفعل العزلة عن المجتمع، والفصام بين الأنا والنحن حتى ينشأ في نفسه الشعور بأنَّه مُخلِّص العالم، وأنَّه المسيح الجديد، وأنَّ التحوُّلات الرئيسية في التاريخ منوطة به وبرفاقه من خلال الجماعة.

ثمَّ يأتي البعد الثالث للزمان، وهو الماضي، وضرورة التحرُّر من الارتباط به والعودة إليه والتخلُّص من إساره، من أجل تحقيق الانطلاقة نحو المستقبل، وهنا تبدو الحركة السلفية كرؤية مستقبلية للعالم لا عودة إلى الماضي، كما هو معروف في كتب علم الاجتماع الغربي، وفي أذهان الباحثين المعاصرين المتأثرين بالغرب وبأحكامه المسبقة. فالإسلام مُقبل وليس مُدبرًا، والمستقبل أكثر غنًى من الماضي، والبشارة أقوى من الحسرة، والأمل أقوى من اليأس، ولا يزال أمام المسلمين مجال للفتوح وللانتشار في الأرض، وإنَّ تاريخ الأمة منذ الفتح العثماني حتَّى اليوم هو تاريخ فتوح وانتصارات، وقد تنبَّأ الرسول بالفتح العثماني قبل ثمانمائة سنة، كما أنَّه تنبَّأ بفتح المسلمين المرجو منهم اليوم. وهذا هو مدلول الصحوة الإسلامية الحالية التي تدل على أنَّ المستقبل للمسلمين. وإذا كان تاريخ الإسلام قد مرَّ بأربع مراحل في الماضي؛ النبوة، والخلافة، والمُلك العاض، ثمَّ المُلك الجبري، فإنَّ المرحلة الخامسة هي عودة الخلافة والحكم بسنة النبي؛ أي عود إلى المرحلة الثانية، والمُلك العاضُّ قد انتهى بالثورات العربية الأخيرة. أمَّا المُلك الجبري فهو الذي يأتي عن طريق الانقلابات، التي تحمل أصحابها إلى الحكم رغم إرادة الشعب. فإذا كانت المراحل الأربع في الماضي تُمثِّل الانهيار، فإنَّ المرحلة الخامسة تُمثِّل النهضة ومستقبل الأمة. والصحوة الإسلامية في ظاهرها هي عودة إلى مرحلة الخلافة الأولى، المرحلة الثانية بعد النبوة. وهنا تتبنَّى جماعة الجهاد مفهوم دورات التاريخ، الذي له أبلغ الأثر في حركات الإحياء والنهضة وفي الثورات الدينية، عندما يتحد نشاط الجماعة بإحدى مراحل الدورة، وهي في الغالب مرحلة البداية الجديدة، والعودة إلى المرحلة الأولى، مرحلة البداية، ونهاية مرحلة الانهيار؛ وبالتالي يكون وجود الجماعة ونجاحها مواكبًا لحركة التاريخ. وقد بشَّر رسول الله بإقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة. هذا فضلًا عن كونها أمرًا من أوامر المولى جلَّ وعلا، وواجبًا على كل مسلم بذل قصارى جهده لتنفيذه. ويستشهد بأربعة أحاديث:

  • (أ)

    «إنَّ الله زَوَى ليَ الأرض فرأيت مشرقها ومغربها، وإنَّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها.»

  • (ب)

    «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مُدر ولا وبر إلَّا أدخله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يُعز به الله الإسلام، وذُلًّا يُذل به الكفر.»

  • (جـ)

    «مدينة هرقل تفتح أولًا، القسطنطينية.»

  • (د)

    «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثمَّ يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثمَّ تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله لها أن تكون، ثمَّ يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثمَّ تكون مُلكًا عاضًّا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثمَّ يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثمَّ تكون مُلكًا جبريًّا فتكون ما شاء الله أن تكون ثمَّ يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثمَّ تكون خلافة على منهاج النبوة، تعمل في الناس بسنة النبي، ويُلقي الإسلام بِجِرَانِه في الأرض، يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدع السماء من قَطْر إلَّا هبَّته مدرارًا، ولا تدع الأرض من نباتها ولا بركاتها شيئًا إلَّا أخرجَته.»

وإقامة الدولة الإسلامية فرضٌ على كل المسلمين؛ فلا تحقيق للحاكمية إلَّا بالدولة، وما يتم به الواجب فهو واجب طبقًا لقاعدة القدماء من الأصوليين، والدولة الإسلامية هي نواة الخلافة؛ وبالتالي فإنَّ الخلافة أيضًا فرض على المسلمين يجب العمل على إعادتها؛ فإمام المسلمين هو قائدهم وخليفتهم، ومن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية، طبقًا للحديث الذي تعتمد عليه الشيعة في القول بوجوب الإمامة، وصيغته عند أهل السنة: «من مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتةً جاهلية.» فالإمامة عند الشيعة أصل من أصول العقيدة، وهي عند أهل السنة ضرورةٌ شرعية عملية وليست أصلًا من أصول الدين. وهذا هو موقف الفقهاء وجمهور علماء المسلمين وما اتَّفق عليه الأئمة جميعًا حتَّى حسن البنَّا وسيد قطب أخيرًا؛ فالإسلام دين ودولة، ولا شأن له بما حدث في الغرب نتيجة لتسلُّط الكنيسة على الدولة، وعلى كل شيء؛ مِمَّا أخلَّ بالحياة السياسية والعلمية والفكرية، فكان الحل الوحيد هو الفصل بينهما والاتجاه نحو العلمانية. أمَّا الإسلام فإنَّه نظام حياة، عقيدة وشريعة؛ لأنَّه فكرة مُمكنة التحقيق، مثال يتحوَّل بطبيعته إلى واقع. ولمَّا كانت الدولة جزءًا منه فإنَّه يزحف على الدول القائمة ويبتلعها ليؤسس دولته. والدولة الإسلامية نواةٌ للحكم الإسلامي العام، للدولة الإسلامية أو للأمصار تحكمها كلها الشريعة. وعلى رأس الدولة النواة يوجد إمام المسلمين، الذي يرمز لوحدة الأمة ووحدة عقيدتها، والذي يُدافع عن الديار، ويحمي الحمى ويذب عن البيضة، ويُقوِّي الثغور، ويرسل السرايا، ويفتح البلدان.

والدولة التي يعيش فيها المسلمون اليوم ليست دولة إسلامية؛ فمن الشروط للدولة الإسلامية أن تعلوها أحكام الإسلام. وتتحوَّل إلى دار كفر إذا اجتمعَت فيها ثلاثة شروط «طبقًا لفتوى أبي حنيفة»؛ الأول أن تعلوها أحكام الكفر، والثاني ذهاب الأمان للمسلمين، والثالث المتاخمة أو المجاورة لدار كفر، فتكون مصدر خطر على المسلمين، وسببًا في ذهاب الأمن. وحكم الدار يتبع الأحكام التي تعلوها طبقًا للفقهاء «صاحبَي أبي حنيفة الإمام محمد والإمام أبو يوسف» فإن كانت تعلوها أحكام الإسلام فهي دار الإسلام، وإن كانت تعلوها أحكام الكفر فهي دار الكفر. وهما قسمان واضحان لا خلاف عليهما، ومعروفان في كتب الفقه القديمة، ولكن الحكم يكون صعبًا بالنسبة لدار يعيش فيها مسلمون وكان يحكمها الإسلام ثمَّ تحوَّل الحكم فيها بغير الإسلام، هل هي دار إسلام أم دار كفر؟ دار حرب أم دار سلم؟ ويُلحِق فقيه جماعة الجهاد هذا القسم الثالث بدار الكفر، كما فعل ابن تيمية من قبلُ في فتواه، عندما سُئل عنه؛ لأنَّ الحاكم بغير ما أنزل الله كافر طبقًا لآيات الحاكمية. وفي هذا القسم الثالث يندرج تاريخ الإسلام كله بعد الخلفاء الراشدين، عندما تولَّى أمر المسلمين أناس لا يحكمون بكتاب الله، وأظهر مثلٍ على ذلك هو حكم التتار؛ فمن فعل ذلك يكون كافرًا، والكافر يجب قتاله، وعلى ذلك يتفق ابن تيمية وابن كثير في شأن التتار الذين كانوا يحكمون المسلمين بقانون يُسمَّى «الياسق»، وهو مجموعة من الشرائع المستقاة من اليهودية والنصرانية والإسلام طبقًا للهوى والغرض. وهو ما كان موضوع سؤالٍ مستمر في «التحقيقات»؛ فالمسلمون اليوم يعيشون في دار الكفر، وتنطبق عليهم أحكام دولة الكفر، وعلى رأسها وجوب القتال. وحُكَّام اليوم كُفَّار، خرجوا عن ملة الإسلام شرعًا. ويُشير المؤلف إلى «بدائع الصنائع» وإلى كتاب «الجهاد» لابن تيمية. وفي هذا القسم الثالث سُئل الإمام ابن تيمية عن حكم بلدة ماردين، التي كانت تُحكم بحكم الإسلام، ثمَّ تولَّى أمرها أُناس أقاموا فيها حكم الكفر. ويستشهد المؤلف بالإضافة إلى آية الحاكمية السابقة بآية أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. ثمَّ يقتبس نصًّا لابن كثير «يُنكر الله تعالى على من خرج عن حُكم الله المُحكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مِمَّا يصنعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة من ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتابٍ مجموعٍ من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتَّى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها. وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت شرعًا مُتَّبعًا يُقدِّمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ؛ فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتَّى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحكِّم سواه في كثير ولا قليل.» ويذكُر نصًّا آخر لابن تيمية: «ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين، وباتفاق جميع المسلمين أنَّ من سوَّغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد ، فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا

فحكام المسلمين اليوم في ردة عن الحكم الإسلامي؛ نظرًا لأنَّهم تربَّوا في أحضان الاستعمار، سواء الصليبية أو الشيوعية أو الصهيونية؛ أي أمريكا وروسيا وإسرائيل؛ أي إنَّهم أتباع الغرب وأتباع الشرق، الخائنون لقضية البلاد، المفرطون في حقوقها، مسلمون بالاسم أو بالشعائر لا أكثر، وعقوبة المرتد أقسى من عقوبة الكافر؛ لأنَّ المرتد عرف الحق ثمَّ أنكره، في حين أنَّ الكافر لم يعرف الحق، خطأ المرتد خطآن؛ نظري وعملي، في حين أنَّ خطأ الكافر خطأ واحد، نظري فقط، وربما لو عرف الحق لآمن، المرتد لا عذر له في حين أنَّ الكافر قد يكون له العذر؛ مِمَّا يدل على أنَّ الخطأ العملي أقسى وأشد من الخطأ النظري؛ لذلك يُقتل المرتد العاجز عن القتال في حين لا يُقتل الكافر، كما أنَّ المرتد لا يرث ولا يُناكح ولا تُؤكل ذبيحته بخلاف الكافر. ويكون موقف المسلمين منه هو القتال.

ويذكُر المؤلف نصًّا آخر لابن تيمية: «وقد استقرت السنة بأنَّ عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة، منها أنَّ المرتد يُقتل بكل حال، ولا تُضرب عليه جزية، ولا يُعقد له ذمة بخلاف الكافر الأصلي. ومنها أنَّ المرتد يُقتل وإن كان عاجزًا عن القتال بخلاف الكافر الذي ليس من أهل القتال؛ فإنَّه لا يُقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد؛ ولهذا كان مذهب الجمهور أنَّ المرتد يُقتل، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد. ومنها أنَّ المرتد لا يرث ولا يُناكح ولا تُؤكل ذبيحته بخلاف الكافر الأصلي، إلى غير ذلك من الأحكام. وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين، فالردة عن شرائعه أعظم من الكفر وخروج الخارج الأصلي عن شرائعه.» ويُورد المؤلِّف نصًّا آخر لابن تيمية ليؤيد قتال المرتد: «كل طائفة خرجَت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنَّه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين، وإن تكلَّمت بالشهادتين. فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتَّى يُصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتَّى يؤدوا الزكاة. كذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق، وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش أو الزنا أو الميسر أو الخمر أو غير ذلك من محرمات الشريعة، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة، كذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يُسلموا ويُؤدُّوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وكذلك إن أظهروا البدع المُخالفة للكتاب والسنة واتباع السلف مثل أن يُظهروا الإلحاد في أسماء الله وآياته، أو التكذيب بآيات الله وصفاته والتكذيب بقدره وقضائه، أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين. إنَّ الطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم، وأمثال هذه الأمور تُوجب الخروج عن شريعة الإسلام، قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ؛ ولهذا قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ. وهذه الآيات نزلَت في أهل الطائف لمَّا دخلوا في الإسلام، والتزموا بالصلاة والصيام، ولكن امتنعوا عن ترك الربا، فبيَّن الله أنَّهم مُحاربون له ولرسوله إذا لم ينتهوا عن الربا. والربا هو آخر ما حرَّم الله، وهو ما لا يؤخذ برضا صاحبه، فإذا كان هؤلاء محاربين لله ورسوله يجب جهادهم فكيف لمن يترك كثيرًا من شعائر الإسلام أو أكثرها كالتتار؟ وقد اتفق علماء المسلمين على أنَّ الطائفة إن امتنعَت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة فإنَّه يجب قتالها إذا تكلموا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلاة والزكاة وصيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق، أو عن الحكم بينهم بالكتاب والسنة، أو عن تحريم الفواحش أو الخمر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن استحلال النفوس والأموال بغير حق، أو الربا أو الميسر، أو الجهاد للكفار، أو عن ضربهم الجزية على أهل الكتاب، ونحو ذلك من شرائع الإسلام، فإنَّهم يُقاتَلون عليها حتى يكون الدين كله لله.»

هناك إذن أوجه تشابه بين تتار الأمس وحُكَّام اليوم يستنبطها فقيه جماعة الجهاد، مؤلف «الفريضة الغائبة»، من أحكام الفقهاء، خاصة ابن تيمية وابن كثير، ويُحصيها في سبعة:

  • (١)

    لا فرق بين كل من يخرج عن حكم الله وبين التتار، ولا فرق بين الحكم بالياسق أيام التتار والحكم بشرائع اليوم المُستقاة من القوانين الغربية؛ فكلاهما واحد، حُكم بغير ما أنزل الله.

  • (٢)

    لا فرق بين تمتمة التتار بالشهادتين وكفرهم بالشريعة، وكُره المسلمين للخروج معهم إلى القتال في صفهم، وكُره العلماء على الفتيا لهم سواء كانوا فقهاء أو صوفية، وبين حُكَّام اليوم الذين يُقيمون الشعائر ولا يحكمون بما أنزل الله، ويُجبرون الشباب المسلم على القتال في صفهم بناءً على قانون التجنيد الإجباري، ويُوظِّفون العلماء والمشايخ للفُتيا لهم تبريرًا لأحكامهم.

  • (٣)

    لا فرق بين مواليهم وهم شرار الخلق، سواء كانوا زنادقة أو منافقين لا يؤمنون بالإسلام إلَّا ظاهرًا مثل أهل البدع كالرافضة والجهمية والاتحادية ونحوهم أو من أهل الفسق والفجور، لا يحجون البيت وإن كان فيهم من يُصلي ويصوم، لا فرق بين رعية الأمس ورعية اليوم من أهل الزندقة والنفاق الذين يؤمنون بعقائدَ ومذاهبَ ونظرياتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، أو الذين يحجُّون إلى البيت تجارةً وشهرةً وعمالةً ونفاقًا، ويُصلُّون ويصُومون رياءً للناس.

  • (٤)

    ولا فرق بين أن يُقاتل مسلمو الأمس تحت قيادة ملكهم جنكيز خان، فمن دخل في طاعتهم جعلوه وليًّا لهم حتى ولو كان كافرًا، ومن خرج عن طاعتهم جعلوه عدوًّا حتى ولو كان مسلمًا، لا يُطالبون الكفار تحت إمرتهم بالجزية ويُطالبون المسلمين بتعظيمهم وتكبيرهم، لا فرق بين هؤلاء ومسلمي اليوم الذين لا يُحاربون تحت لواء الإسلام، يُدخِلُون في طاعتهم الكفار ولا يأخذون منهم الجزية، ويُطالِبون المسلمين بتعظيمهم أكثر من تعظيمهم لخالقهم، فنشأت بطاناتُ النفاق الموالية للحُكَّام في كل العصور.

  • (٥)

    ولا فرق بين أن يُعظم مسلمو الأمس محمدًا وجنكيز خان ويجعلوا للثاني الانقياد في الأنفس والأموال، ويُقرُّوا له بالنيابة، ويدينوا له بالسمع والطاعة، ويُحاربوا المسلمين ويُعادوهم إذا ما خرجوا عليه وكأنَّه فرعون أو غرور، وهو أعظم فسادًا، يعتبر من أطاعه معه ومن عصاه كان ضده حتَّى ولو كان نبيًّا أو رسولًا، لا فرق بين هؤلاء وبين مُسلمي اليوم الذين يُعظِّمون محمدًا وملوكهم، ثم يدينون لملوك اليوم بالانقياد، يُحاربون معهم، ويُعادون من يخرجون عليهم.

  • (٦)

    لا فرق بين من يُصادق تتار الأمس ويدخل في طاعتهم الجاهلية وبين مسلمي اليوم الذين يَقْبَلون حكم الكفر، ولا فرق بين من عادى حكم تتار الأمس ورفض شريعتهم وخرجوا على طاعتهم وبين من عادى حُكَّام اليوم وخرج على طاعتهم.

  • (٧)
    ولا فرق بين قضاة وعلماء وفقهاء الأمس أيام التتار وبينهم اليوم؛ فقد قدَّم حُكَّام الأمس الأشرار وأبعدوا الأخيار كما يفعل حُكَّام اليوم، وعلى رأس هؤلاء قاضي القضاة الذي يُفتي لهم بما يريدون، فيقضون على قوة الإسلام ومناعته بمحو التعارض بين الإسلام من ناحية واليهودية والنصرانية من ناحية أخرى. وهو مثل ما يفعله حُكَّام المسلمين اليوم من حديث عن الإخاء الديني وبناء مُجمَّع الأديان، وبأنَّ المُسلم هو الذي يُؤمن بإبراهيم وإسحق ويعقوب وبكل ما أنزل الله حتَّى يضيع التعارض بين المسلمين وأعدائهم، وبأنَّ العرب أقرباء اليهود من جد واحد، العرب من إسماعيل واليهود من إسحق، وأنَّهم والنصارى أهل كتاب. يُشير المؤلف إلى مجموعة الفتاوى السابقة ويذكر سورة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ. وهي السورة التي يحتج بها فقهاء التتار للاعتراف باليهودية والنصرانية. ويستشهد المؤلف بنصٍّ لابن تيمية بتكفير هذا القسم الثالث، المسلم ظاهرًا والكافر حقيقةً؛ لأنَّه لا يحكم بشريعة الله، أمَّا كونها دار حرب أو سلم فهي مُركَّبة فيها المعنيان ليست بمنزلة دار السلم التي تسري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يُعامَل المسلم فيها بما يستحقه، ويُقاتَل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه.

ثمَّ يستنبط ستة أحكامٍ أخرى فيما يتعلَّق بقتال المرتدين سواء كانوا تتار الأمس أو مسلمي اليوم وهي:

  • (١)

    تحريم إعانتهم ومساعدتهم. ووجوب الهجرة من مجتمعهم على من كان عاجزًا عن إقامة دينه وسطهم، فإن لم يستطع الهجرة فبالعزلة عنهم ورفض معاملتهم أو إقامة أيَّة علاقات معهم؛ أي اتخاذ جميع وسائل المقاومة السلبية برفض الخدمة معهم مدنية أو عسكرية، أو تقلد وظائف أو انخراط في الجندية. ولا يجوز وصفهم بأنَّهم منافقون لأنَّهم كُفَّار، والنفاق له شروطٌ معينة حددها القرآن.

  • (٢)

    كل أموالهم غنيمة للمسلمين، حلال عليهم حتَّى ولو كان التتار قد نهبوها من المسلمين أثناء الغزو؛ فالتتار مثل الكُفَّار أموالهم غنيمة للمسلمين يُنتفع بها للصالح العام.

  • (٣)

    وجوب قتال التتار بالكتاب والسنة حتَّى يكون الدين كله لله وليس جزءًا من الدين «الشهادتان والشعائر» دون الجزء الآخر «الشريعة»، فلا فرق بين الصلاة والزكاة، أو بين الصلاة والامتناع عن الربا، وقتالهم واجب مثل قتال الخوارج.

  • (٤)

    قتال التتار ليس قتالًا لأهل البغي المُتأولين، حُكمهم حُكم مانعي الزكاة والخوارج، بل قتالهم واجب لأنَّهم مُعتدون على الشرع خارجون عليه؛ فهم أشد من أهل البغي.

  • (٥)

    ويرتد عن دين الله من والاهم ضد المسلمين من الأمراء والجنود، وهم أشر من المرتدين المانعي الزكاة؛ لأنَّهم يُحاربون المسلمين ويعتدون على الشرع.

  • (٦)
    لا ينضم إليهم طوعًا إلَّا منافق أو زنديق أو فاسق فاجر، ومن أُكره على القتال معهم فإنَّه يُبعَت على نيَّته، وواجب المسلمين قتالهم جميعًا حذرًا من المكروه، ويعتمد المؤلف لإثبات هذه الأحكام الستة على فتاوى ابن تيمية، ويستشهد بنصوص منها للحكم الأول، وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام مُحرَّمة، سواء أكانوا أهل «ماردين» أو غيرهم. والمُقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه وإلَّا استُحبت ولم تجب، ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال مُحرَّمة عليهم، ويجب عليهم الإقلاع عن ذلك بأي طريق أمكنهم من تغيُّب أو تعريض أو مصادفة، فإذا لم يكن إلَّا بالهجرة تعيَّنت … ولا يحل سبهم عمومًا بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، فيدخل فيها أهل ماردين وغيرهم (ابن تيمية ص٢٨٠ مسألة ٥١٣ في رجل جندي وهو يُريد ألَّا يخدم، إذا كان للمسلمين به منفعة وهو قادر عليها، لا ينبغي له أن يترك ذلك لغير مصلحة راجعة على المسلمين … بل لكونه مُقدَّمًا في الجهاد الذي يجعله الله ورسوله أفضل من التطوع بالعبادة، كصلاة التطوع والحج وصيام التطوع والله أعلم). وللحكم الثاني «مسألة ٥١٤» إذا دخل التتار الشام ونهبوا أموال النصارى والمسلمين، ثمَّ نهب المسلمون التتار وسلبوا القتلى منهم، فهل المأخوذ من أموالهم وسلبهم حلال أم لا؟ الجواب: كل ما أخذ من التتار يُخمَّس ويُباح الانتفاع به «ومعنى يُخمَّس أي غنيمة». وللحكم الثالث «قتال التتار الذين قدموا إلى بلاد الشام واجب بالكتاب والسنة؛ فإنَّ الله يقول في القرآن وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ. والدين هو الطاعة، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتَّى يكون الدين كله لله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ. وقد ثبت في الصحيحين أنَّ عمر لمَّا ناظر أبا بكر في مانعي الزكاة قال أبو بكر كيف لا أُقاتل من ترك الحقوق التي أوجبها الله ورسوله وإن كان قد أسلم كالزكاة؟ وقال فإنَّ الزكاة من حقها، والله لو منعوني عِقال بعير كانوا يُؤدُّونها لرسول الله لقاتلتهم على منعها. وقد ثبت في الصحيح غير مرة أنَّ النبي ذكر الخوارج وقال فيهم «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم يقرَءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرُق السهم من الرميَّة. أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد».» وللحكم الرابع «فقد يتوهَّم البعض أنَّ هؤلاء التتار من أهل البغي المُتأوِّلين، ويحكم فيهم بمثل هذه الأحكام ما أدخل في هذا الحكم مانعي الزكاة والخوارج، وسنُبيِّن فساد هذا التوهُّم إن شاء الله» (ابن تيمية، ص٢٨٢، ٢٩٦). ويستشهد بحديث «من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون عرضه فهو شهيد». الحكم الخامس «وكل من يسير إليهم من أمراء العسكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم، وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدْر ما ارتد عنه من شرائع الإسلام. وإذا كان السلف قد سمَّوا مانعي الزكاة مرتدين مع كونهم يصومون ويصلون ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين، فكيف بمن صار من أعداء الله ورسوله قاتلًا للمسلمين؟» (ابن تيمية، ص٢٩٣). وللحكم السادس «فإنَّه لا ينضم إليهم طوعًا من المُظهرين الإسلام إلا منافق أو زنديق أو فاسق فاجر، ومن أخرجوه معهم مُكرهًا فإن يُبعَت على نيته، ونحن علينا أن نُقاتل العسكر جميعه إذ لا يُميَّز المُكرَه عن غيره … المُكرَه على القتال في الفتنة ليس له أن يُقاتِل بل عليه إفساد سلاحه وأن يصبر حتَّى يُقتل مظلومًا فكيف بالمُكرَه على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام كمانعي الزكاة والمرتدين ونحوهم؟ فلا ريب أنَّ هذا يجب عليه إذا أُكْرِه على الحضور ألَّا يُقاتل وإن قتله المسلمون … وإن أُكْرِه بالقتال ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المظلوم أولى من العكس؛ فليس له أن يظلم غيره فيقتله لئلا يقتله هو.»
ويردُّ المؤلف على شبهات المعاصرين، الآراء والأهواء التي تريد تأجيل الجهاد أو إيقافه أو بيان استحالته. ويردُّ عليها شبهةً شبهة مُعارضًا تخوُّفات المُعاصرين، وهي الآراء التي تحث أيضًا على قيام الحكم الإسلامي ولكن بطريق الدعوة الإسلامية ونشر الوعي الديني. وهو الطريق الذي رسمَتْه جماعة الإخوان المسلمين إثر محمد عبده ورشيد رضا، والذي سارت فيه سائر الجماعات الإسلامية الأخرى، باستثناء جماعة الجهاد. والشبهات ست عشرة وهي:٢٢
  • (١)

    يُمكن إقامة الدولة الإسلامية ابتداءً من الجمعيات الخيرية التابعة للدولة، التي تحث الناس على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وعلى فعل الخير؛ فكلها أوامرُ من الله لا يُمكن التفريط فيها. وفي رأي المؤلف أنَّ هذا طريق مسدود؛ فلا يُمكن إقامة الدولة الإسلامية عن طريق الجمعيات الخيرية، خاصةً وأنَّها تحت إشراف الدولة، وتحت سيطرة السلطة.

  • (٢)

    يُمكن إقامة الدولة الإسلامية عن طريق طاعة الله وتربية المسلمين، وكلَّما اجتهد المسلمون في العبادة صفت سرائرهم؛ إذ إنَّ كل ما يُحيط بهم من شرور إنَّما ناتج عن ذنوبهم وسيئات أعمالهم، فمن جنس أعمالهم سلَّط الله عليهم حُكَّامهم. والحقيقة أنَّ هذا الطريق لا ينسخ طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطريق الجهاد؛ فالجهاد هو أعلى درجات الطاعة، وركن الإسلام الركين، وذروة سنام الإسلام، ومن ضمن الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر؛ أي مواجهة الحُكَّام وجهًا لوجه. ومن يرَ ذلك الطريق، فإمَّا أنَّه لا يفهم دولة الإسلام، فأراد أن يستبدل بها فلسفات غربية، أو أنَّه جبان لا يقف بصلابة مع الحق في مواجهة الباطل، ومع الله في مواجهة الحُكَّام. ويذكر المؤلف الحكمة المأثورة عن مالك بن أنس التي تدعم هذا الرأي وهي: «أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك بيدي؛ فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، ولكن توبوا إليَّ أعطِّفهم عليكم.» وحديث الرسول «من مات ولم يغزُ ولم يحدِّث نفسه بالغزو مات على شُعبة من النفاق.» وكذلك حديث «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.»

  • (٣)

    أمَّا قيام الحزب الإسلامي فليس طريقًا لإقامة الدولة الإسلامية؛ فهو مثل باقي الأحزاب السياسية، يُزايد على الجمعيات الخيرية في آرائها ومناهجها؛ وبالتالي فإنَّه يُساعد على تدعيمها وترسيخ قواعدها، عن طريق الاشتراك في عضوية المجالس التشريعية، التي تُشرِّع بغير ما أنزل الله.

  • (٤)

    أمَّا الاجتهاد من أجل الحصول على المناصب، حتى تمتلئ الدولة بالطبيب المسلم والمهندس المسلم والقاضي المسلم والجندي المسلم … إلخ؛ وبالتالي يسقط نظام الكفر من تلقاء نفسه ودون جهد وتقدم دولة الإسلام فهو من ضرب الخيال أو المزاح، لا سند له من الكتاب والسنة، ولا يمكن أن يتحقَّق في الواقع شيء منه؛ فمهما بلغ الأمر من تربية «كوادر» إسلامية للدولة فإنَّهم سيظلون عاملين فيها ومن نباتها، ولن يصل الأمر إلى أن تصل شخصيةٌ إسلامية أي منصبٍ قيادي إلَّا إذا كانت موالية للنظام؛ فبدلًا من أن تبتلع «الكوادر» المُسلمة الدولة تنتهي الدولة إلى ابتلاعهم.

  • (٥)

    أمَّا الدعوة من أجل تكوين قاعدة عريضة شعبية تستطيع أن تُطالب بالإسلام نظامًا وشريعة وكبديل عن الجهاد، فإنَّها لا تُقيم الدولة الإسلامية؛ لأنَّ الذي سيُقيمها هي القلة المؤمنة، الجيل القرآني الجديد، الصفوة المصطفاة، والقرآن يُدين الكثرة، ويُؤثِر الكيف على الكم. وكيف تنجح الدعوة وتحصل على هذه القاعدة العريضة وأجهزة الإعلام في يد الدولة، في حين أنَّ الوثوب إلى السلطة يُمكِّن الدعاة من الدعوة إلى الله، وتكوين القاعدة العريضة، من خلال السيطرة على أجهزة الدولة؛ فلا يجب انتظار أن يكون الناس مسلمين حتى تُقام الدولة الإسلامية؛ لأنَّ الدولة الإسلامية هي الطريق الذي من خلاله يستطيع الناس أن يكونوا مسلمين؛ فالإسلام ليس دينًا عاجزًا أو ناقصًا، بل هو دين عملي وصالح للتطبيق وقادر على قيادة المسلم والكافر والفاسق والصالح والعالم والجاهل. وإذا كان الناس قادرين على أن يعيشوا تحت حكم الكفر والظلم فإنَّهم يكونون أقدَر على أن يعيشوا تحت حكم الإيمان والعدل، ولا يعني ذلك التوقُّف عن الدعوة، دعوة الناس إلى الإسلام؛ لأنَّ الأساس هو أخذ الإسلام ككل، إنَّما الحذر مِمَّن يُريدون أخذ جزء من الإسلام وهو الدعوة، دون الجزء الآخر وهو الجهاد.

    ويذكُر المؤلف بعض آيات تؤيِّد الكيف على الكم مثل وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وكذلك يذكُر حديث الرسول «ولينزعنَّ الله الهيبة من قلوب أعدائكم وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن.» فلما سُئِل: أوَمن قِلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! أجاب «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل». ويستشهد على إمكان قيام الدعوة بعد الوصول إلى السلطة بسورة إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا. ولتحديد أنواع الهجرة يستشهد المؤلف بالحديث المشهور، «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.» ويستشهد بوجوب القتال كطريقٍ لإقامة الدولة الإسلامية بآيتين كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ.
  • (٦)

    أمَّا الهجرة إلى بلد آخر، وإقامة الدولة هناك، ثم العودة مرة أخرى فاتحين، فإنَّ الأقرب أن يُقيموا الدولة الإسلامية في بلدهم، ثمَّ يُهاجروا إلى غيرها غازين، خارجين من بلدهم فاتحين. إنَّ الهجرة من بلاد المسلمين غير شرعية لأنَّ الهجرة لغة هي ترك الشيء إلى غيره، واصطلاحًا ترك ما نهى الله عنه، والهجرة في الإسلام على نوعين؛ الأول، الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمان، كهجرة المسلمين إلى الحبشة وهجرتهم من مكة إلى المدينة في بداية الإسلام. والثاني، الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان مثل استقرار الرسول في المدينة وهجرة المسلمين إليه، وهو النموذج الذي أخذه البعض «التكفير والهجرة» بالهجرة إلى الجبل ثم العودة إلى الوادي، وكلقاء فرعون كما التقى به موسى من قبلُ ثمَّ يخسف الله بفرعون وجنوده الأرض، وكلها شطحاتٌ ناتجة عن ترك الأسلوب الصحيح لإقامة الدولة الإسلامية وهو أسلوب القتال.

  • (٧)

    والانشغال بطلب العلم كطريق لإقامة الدولة الإسلامية؛ فالعلم أساس الجهاد ولا يُمكن الجهاد على غير علم، والعلم فريضة على أيَّة حال لا يعني ترك أمرٍ شرعي من أجل أمرٍ شرعي آخر؛ فالجهاد كالعلم، كلاهما أمران شرعيان، وكيف يُمكن ترك فرض العين وهو الجهاد من أجل فرض كفاية وهو العلم؟ وكيف يُمكن التمسُّك بالسنن أو الدعوة إليها وترك فرض الجهاد؟ وكيف لا يُدْرِك من يتعمَّق في العلم فريضة الجهاد وعقوبة تأخيره أو التقصير فيه؟! لا يُمكن أن يكون العلم جهادًا أو بديلًا عن الجهاد؛ لأنَّ الجهاد هو القتال، بل يُمكن أن يتم الجهاد دون علم وتفقه إذا ما نوى الإنسان الشهادة، واستُشْهِد قبل أن تُتاح له الفرصة ويسنح له الوقت للعلم. ولمَّا كان العلم يقتضي العمل فإنَّه لا يُمكن العلم بفريضة الجهاد دون العمل بها، كالعلم بالصلاة يقتضي الصلاة، والعلم بالصيام يقتضي الصيام. وليست أحكام الجهاد صعبة الفهم؛ لأنَّ كل أحكام الإسلام سهلة المنال، ومنها أحكام الجهاد، والعلم بها مُمْكِن في وقتٍ قصير، ومن أراد أن يزداد فله ما أراد، العلم مُتاح للجميع في أي وقت يشاء العالم. أمَّا الجهاد فلا يحتاج إلى تأخير بحجة طلب العلم؛ فالعلم لا مدة له، وتأخير الجهاد بحجة طلب العلم هو في حد ذاته جهل، لم يكن المجاهدون الأوائل الذين فتحوا البلاد علماء، ولم يحتجُّوا بطلب العلم على تأخير الجهاد، ولكن العلم لديهم علم الحديث وعلم الفقه وأصوله، ولقد انتصر الإسلام على أيديهم ولم ينتصر على أيدي علماء الأزهر، حمَلَة العلم يوم أن دخل نابليون وجنوده صحن الأزهر وداسه بالخيل والنعال ولم يستطع علماء العلم أمام ذلك شيئًا! فالعلم ليس هو السلاح الذي يواجه به المسلمون الكُفَّار بل القتال، وذلك لا يعني تحقير العلم، بل يعني أنَّه لا يُمكن استبدال القتال به، والقتال في الإسلام تنفيذ لشرع الله؛ فقد كان العذاب ينزل على الأمم السابقة مباشرةً من الله، في حين أنَّه ينزل على الكفار بقتال المسلمين لهم، دون أن يتدخل الله في السنن الكونية كما كان الحال قبل الإسلام. والقتال ضد الكفار، والإمام الكافر أولى بالقتال؛ فالكفر هنا يعني المعصية، وإلَّا فإنَّه لا ينعقد لكافر، ولو طرأ على الإمام الكفر وجب عزله، وكذلك لو ترك إقامة الصلوات أو الدعاء إليها «لو طرأ عليه كفر أو تغير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطَت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه وتنصيب إمام عادل إن أمكنهم.»

    ويستشهد المؤلف لإثبات القتال كفرض بآية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ، وكذلك قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. كما يستشهد على وجوب الخروج على الحاكم بحديث «أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان». ويستشهد برأي القاضي عياض في قوله بإجماع العلماء على أنَّ الإمامة لا تنعقد لكافر، وينتهي بنص لابن تيمية مؤداه أنَّ كل طائفة خرجَت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنَّه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلَّمت بالشهادتين.
  • (٨)

    أمَّا تحديد ميدان الجهاد ببقعة مُعيَّنة يحتلها العدو، مثل القدس كأرض مقدسة، فهو في حقيقة الأمر صحيح؛ لأنَّ تحرير الأراضي المقدسة أمر شرعي واجب على كل مسلم ومسلمة، ولكن لمَّا كان المؤمن «كيسًا فطنًا» طبقًا لحديث الرسول، ويعلم ما ينفعه وما يضره، فإنَّ تحرير بقعة من الأرض تحت أقدام العدو قد لا يكون الحل الجذري لتحرير أراضي المسلمين لثلاثة أسباب: الأول، أنَّ قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد، وكأنَّ قتال الحُكَّام العرب أولى من قتال إسرائيل! والثاني، أنَّ النصر الذي سيُدفع ثمنه من دماء المسلمين لن يكون لصالح الدولة الإسلامية التي لم تقم بعدُ، بل لصالح حُكَّام الكفر، وتثبيت لأركان دولتهم الخارجة عن شرع الله، بل ينتهز الحُكَّام اتجاهات المسلمين وعواطفهم الوطنية لتحقيق أغراضهم غير الإسلامية، وإن كان ظاهرها الإسلام؛ فالقتال يجب أن يكون تحت رايةٍ مُسلمة وقيادةٍ مُسلمة وبهدفٍ إسلامي. والثالث، أنَّ هؤلاء الحُكَّام هم السبب في وجود الاستعمار في البلاد، وأنَّ القضاء على الاستعمار قضاءً جذريًّا إنَّما يتطلَّب القضاء على أعوانه في الداخل. وهذا لن يتم إلَّا بقيام الدولة الإسلامية، وتطبيق الشرع الإسلامي، وجعل كلمة الله هي العليا؛ فميدان الجهاد ليس إذن تحرير الأرض المحتلة والقدس، بل «اقتلاع تلك القيادات، واستبدالها بالنظام الإسلامي الكامل، ومن هنا تكون الانطلاقة»، وكأنَّ تحرير العرب أولًا هو الطريق إلى تحرير فلسطين!

  • (٩)
    أمَّا القول بأنَّ الجهاد في الإسلام للدفاع فقط، وأنَّ الإسلام لم ينتشر بالسيف، فهو قول باطل تردُّ عليه آيات القرآن وأحاديث الرسول. القتال في الإسلام لرفع كلمة الله في الأرض، سواء هجومًا أو دفاعًا. وقد انتشر الإسلام بالسيف ولكن في مواجهة أنظمة الكفر وحُكَّام الجاهلية دون أن يُكره أحدًا؛ فواجب المسلمين رفع السيوف في وجه كل من يحجُب الحق ويُظهر الباطل حتى يصل الحق للناس. وفي هذا المعنى كتب الرسول رسائله لحُكَّام عصره وملوكه كما هو معروف في تاريخ الدعوة الأولى، وفي عصر الفتوح؛ لذلك نسخَت آية السيف آيات الدعوة حتَّى لم يبقَ لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ أن نزلَت سورة براءة. نسخَت آية السيف كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء، وأصبحَت كل هذه الآيات منسوخةً بآية السيف؛ وبالتالي لا يُمكن الاستدلال بها على ترك القتال والجهاد. وعلى هذا أجمع فقهاء المسلمين، ولم يشذَّ عنهم إلَّا الإمام السيوطي. وتعطيل الجهاد بحجة النَّسْء ليس إيقافًا للغزو فقط بل لنية الغزو، وهو مُعارض لآيات القرآن وأحاديث الرسول. والأمر المتفَق عليه أنَّ الجهاد يستلزم القوة، وأنَّ الحصول على القوة لا يتأتَّى إلَّا بفرض الجهاد الذي يتطلَّب الأخذ بأسباب القوة. ويستشهد المؤلف بحديث الرسول: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.» كما يذكر رسالةً من الرسول إلى هرقل «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلامٌ على من اتبع الهدى، أمَّا بعدُ، فإنِّي أدعوك بدعوة الإسلام. أسلِم تسلَم يُؤتِكَ الله أجركَ مرتَين فإن تولَّيتَ فإنِّي أدعوك …»، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. كما يذكُر رسالة الرسول إلى كسرى «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أنْ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمدًا عبده ورسوله. وأدعوك بدعاء الله فإنِّي أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، أَسلِم تَسلَم، فإن أبيتَ فعليك إثم المجوس.» وكذلك رسالة الرسول إلى أهل نجران «باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران. سلم أنتم؛ فإنِّي أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أمَّا بعد، فإنِّي أدعوك إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتُكم بحرب، والسلام.» أمَّا آية السيف فهي فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ قال الضحَّاك بن مزاحم إنَّها نسخت كل عهد بين النبي وبين أحد المشركين وكل عقد ومدة. وقد تم نسخ كل آيات الدعوة، وهي حوالي ١١٤ آية، بآية فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ. وهو رأي الإمامين ابن حزم وابن سلامة، بل إنَّها نسخت أولها وهي فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، بل إنَّ الضحَّاك يرى أنَّ آية السيف منسوخة بآية أخرى أشد هي: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً، وهي أشد على المشركين من آية السيف. وأمَّا السيوطي فإنَّه جعل آيات الدعوة من المُنسَأ أي من المؤجَّل تطبيقه وليس من المنسوخ، حين كان المسلمون ضعفاء وإلى أن يقوَوا، وتوقيت الآيات معلوم في القرآن مثل فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ؛ فالجهاد فريضة بآيات القرآن مثل وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ. وبأحاديث الرسول مثل: «إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعِينة، وتركوا الجهاد في سبيل الله، وأخذوا أذناب البقر أنزل الله عليهم من السماء بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يُراجعوا دينهم.» ويستشهد المؤلف بعدة آيات قرآنية مثل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ لإثبات النقطة الأولى، وبآيتَي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وبحديث الرسول: «إذا استُنفرتم فانفروا.» لإثبات النقطة الثالثة.
  • (١٠)

    أمَّا القول بأنَّ جيوش المسلمين على مر العصور كانت قليلة العدد والعدة، وواجهَت جيوشًا بأضعاف حجمها، وبأنَّ ذلك كان خصوصية للرسول وصحابته، وليس لغيره أو لغيرهم، حادثة فريدة في التاريخ لا تتكرر، فإنَّه إنكار لقوانين التاريخ وبوعد الله النصر للمؤمنين، وطالما انتصر المسلمون في تاريخهم بالكيف لا بالكم؛ فالجهاد قائم، والنصر قادم ما دام المسلمون قد أخذوا بأسباب القوة، وأعدُّوا العدَّة، ولا يصلح هذه الأمة إلَّا ما صلح به أولها.

  • (١١)
    أمَّا القول بأنَّنا اليوم نعيش في مجتمع مكي؛ أي في بداية الدعوة، فإنَّ المقصود بهذا القول ترك الجهاد في سبيل الله، ويعني هذا القول أيضًا لو كان المقصود به إسقاط الجهاد كفريضة ترك الصوم والصلاة والتعامل بالربا؛ فإنَّ كل هذه التشريعات إنَّما سُنَّت في المدينة. وقد اكتمل الدين الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا. ولا يُمكن أن نبدأ من جديد كما بدأ الإسلام في مكة والمسلمون ضعاف، إنَّما نأخذ الآن بما انتهى إليه الشرع؛ فنحن لسنا في مجتمع مكي، أو في مجتمع مدني، بل في مجتمع مسلم يحكمه مُسلمون لا يحكمون بشرع الله؛ وبالتالي يكون حكمه حكم دار الكفر.
  • (١٢)
    أمَّا القول بأنَّ الفرض هو الصلاة والصيام والحج إلى آخر الفروض دون الجهاد، فذاك أيضًا مخالف لنص القرآن الذي قال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كما قال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ. إنَّ الجهاد فرضٌ كالصلاة والصيام سواء بسواء. الجهاد فرض بنصٍّ من القرآن، والقتال يعني المواجهة والدم. وهو فرضُ عين وليس فرضَ كفاية، يتعيَّن في ثلاثة مواضع؛ الأول، إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفَّان، حرم الانصراف على المسلمين، والتراجع عن القتال؛ فالقتال فرض عليهم بالمواجهة. والثاني، إذا نزل الكُفَّار ببلد تعيَّن على أهله قتالهم، وهو القتال ضد الاعتداء والغزو الأجنبي. والثالث، إذا ما استنفر الإمامُ القومَ للقتال، وأعد العدة، وآذن للجهاد. وهذا هو حال المسلمين اليوم بعد أن غزاهم العدو واستباح ديارهم واحتلَّهم، بل وأصبح يملك زمام الأمور من خلال حُكَّام المسلمين الذين انتزعوا القيادة منهم؛ وبالتالي فجهادهم فرض عين، يُعد له كل مسلم ومسلمة بكل حبة عرق. ولا حاجة لاستئذان الوالدين فيه؛ لأنَّ مثله كالصوم والصلاة.
  • (١٣)

    أمَّا القول بأنَّ الجهاد مراحل، ابتداءً من جهاد النفس إلى جهاد الشيطان ثم جهاد الكُفَّار والمنافقين في النهاية، اعتمادًا على تقسيم ابن القيم، فهذا جهل بالدين، أو جُبن وخوف في الدنيا؛ فابن القيم قسَّم الجهاد إلى مراتب أو أنواع، وليس إلى مراحل، وإلَّا توقَّفنا عن مُجاهدة الشيطان حتى ننتهي من مجاهدة النفس. والحقيقة أنَّ هذه المراتب الثلاث تسير في خطوطٍ متوازية، مع العلم بأنَّ مجاهدة النفس ومجاهدة الشيطان تجعلنا أكثر ثباتًا في الجهاد مع العدو. وعندما كان يؤذَّن للجهاد، كان المسلمون جميعًا يخرجون بمن فيهم مُرتكب الكبيرة وحديث العهد بالإسلام، أمَّا الحديث المشهور: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» فإنَّه حديث موضوع، كما نبَّه إلى ذلك رشيد رضا وحسن البنَّا وسيد قطب، الغرض منه إبعاد المسلمين عن قتال الكُفَّار.

  • (١٤)
    أمَّا خشية الفشل؛ أي أن تُقام الدولة ثمَّ يحدث بعد يوم أو يومَين رد فعلٍ مضاد يقضي عليها، فلا أساس له؛ لأنَّ المُهم هو قيام الدولة الإسلامية تنفيذًا لأمر الله بصرف النظر عن النتائج! والهدف من هذا التخوُّف هو تثبيط المسلمين عن تأدية واجبهم الشرعي وإقامة شريعة الله على الأرض دون العلم بأنَّ قيام الدولة الإسلامية مستحيل. وقوانين الإسلام قادرة على القضاء على كل مفسدة، وإنَّ قوانين الإسلام وكلها عدل تجد ترحيبًا عامًّا بها من غير المسلمين قبل المسلمين؛ فلا يتخوَّف من ذلك إلَّا المنافقون! وواضح أنَّ التفاؤل هو الذي يسود دون مراعاة لقوى المعارضة والفساد في التاريخ. ويستشهد المؤلف في ذلك بآية من سورة الحشر أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ، وكذلك آية إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ.
  • (١٥)
    أمَّا غياب القيادة الإسلامية لعملية الجهاد، وعدم وجود أمير يقود الناس، فإنَّه قول يُردِّده مَن بيدهم السلطة الذين ضيَّعوا القيادة ثم يبكون عليها بعد أن أوقفوا مسيرة الجهاد. صحيحٌ أنَّ الرسول قد أوصى بضرورة الإمارة، ولكنَّه جعلها بأيدي المسلمين دون غيرهم، وتُعقد للأحسن إسلامًا وللأقوى، وهي صفات مُكتسبة يُمكن للمسلمين تحقيقها والسعي لها. قد يوجد فقيه دون أن يكون عالمًا بأحوال الزمان، أو العكس؛ فقد يوجد عالم بأحوال الزمان ولا يكون فقيهًا. ومع ذلك فالقيادة واجبة ويُمكن استكمال نواقصها بالشورى؛ وبالتالي تسقط كل حجج ترك الجهاد. ويجب تنظيم عملية الجهاد لإعادة الإسلام، وإقامة الدولة، واستئصال طواغيت الكفر؛ فهم في نهاية الأمر بشر لم يجدوا من يقنعهم بأمر الله. وقد بايع المُسلمون الرسول على القتال والموت وهي خلاف البيعة المطلَقة للخليفة، الأولى أمام الله والثانية أمام الناس. الاستعداد للجهاد هو واجب المسلم، والتحريض على القتال في سبيل الله واجب الأئمة والأمة، ولا شيء يعدل فريضة الجهاد من صوم أو صلاة. وترك الجهاد اليوم هو سبب ما يُعانيه المسلمون من ذلة ومهانة وتفرُّق وتمزُّق، عقوبة على تركه حتى أصبح المسلمون كلهم كالنساء جهادهم في الحج والعمرة. ويستشهد المؤلف في الإمارة بأحاديث: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم»، وأيضًا: «من استعْمل على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين.» وقد قال الرسول لأبي ذر: «إنَّك ضعيف وإنَّها أمانة.» وبالنسبة لضرورة البيعة ذكر حديث البخاري «بايعتُ النبي ، ثم عدلتُ إلى ظل الشجرة، فلما خف الناس قال «يا ابن الأكوع ألا تُبايع؟» قلتُ بايعتُ يا رسول الله، قال «أيضًا» وكانت البيعة على الموت.» وللتفرقة بين البيعة على الموت والبيعة المطلَقة للخليفة يذكُر حديث «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يُطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني»، وآية أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. وللتحريض على القتال يذكُر عدة أحاديث منها «انتدب الله لمن خرج في سبيل الله لا يُخرجه إلَّا الجهاد في سبيل الله وإيمان بي وتصديق برسولي فهو عليَّ ضامن أن أُدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلًا ما نال من أجرٍ أو غنيمة.» وأيضًا «من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه.» وحديث ثالث يدل على أنَّه لا يعدل الجهاد أي عمل آخر من صلاة أو صوم. وحديث رابع «للشهيد عند الله ست خصال؛ يُغفر له من أول دفقة دم، ويرى مقعده من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويُحلَّى حلية الإيمان، ويُزوَّج من الحور العين، ويشفع في تسعين من أقاربه» (الترمذي). ولعقوبة ترك الجهاد نذكُر آيات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (التوبة) وبحديث الرسول «إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايَعوا بالعِينة، وتركوا الجهاد في سبيل الله، وأخذوا أذناب البقر أنزل عليهم من السماء بلاء فلا يرفعه عنهم حتَّى يراجعوا دينهم.»
  • (١٦)
    أمَّا التخوُّف من الدخول في القتال بحجة أنَّ أعداء المسلمين فيهم الكفار وفيهم المؤمنون المصلون، واستحالة قتال المؤمنين، ولأنَّ القاتل والمقتول في النار طبقًا لحديث الرسول، فقد أفتى ابن تيمية في هؤلاء المتخوفين بأنَّهم أجهل الناس بدين الإسلام؛ فقتال الأعداء واجب وفرض حتَّى ولو كان فيهم المسلم والمؤمن، كما هو الحال في تترُّس الكُفَّار بالمسلمين، واحتمال قتل المسلمين حماية لمجموعهم، ويكون المسلمون شهداء؛ فالمهم هو مصلحة الأمة ودفع الضرر عنها، يبقَون على نياتهم سواء كانوا مُكْرَهِين أو لا إذ تصعب التفرقة. أمَّا الممتنعون عن القتال فهم من البغاة المُتأوِّلين انقسم فيهم العلماء، وهم في حقيقة الأمر من جنس الخوارج الذين يجب قتالهم. وللتمييز بين السرائر يذكُر حديث الرسول: «أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله.» ردًّا على اعتذار العباس يوم بدر أنَّه خرج مكرهًا. كما يذكُر حديث: ««يَغزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فإذا كانوا بِبَيْدَاءَ من الأرضِ يُخْسَفُ بأَوَّلِهِم وَآخِرِهِم» فقيل يا رسول الله وفيهم المكره فقال: «يُبعثون على نياتهم.» وعذاب الكفار واقع على أيدي المؤمنين بدليل قوله تعالى قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا.

ثمَّ يُنهي صاحب «الفريضة الغائبة» كُتيِّبه بذكر أساليب القتال وفنونه في الإسلام، كحجة لإثبات أنَّ القتال مُمكن، وأنَّ القتال في العصر الحديث رغم تغير أساليب القتال وفنونه عمَّا كانت عليه في الماضي أيام النبي، فالقتال يعتمد على العقل والرأي وليس فنًّا ثابتًا لا يتغيَّر، ويذكُر أربعة عشر فنًّا هي:

  • (١)

    الحرب خدعة طبقًا لحديث الرسول. وقد اتفق العلماء على جواز خداع الكفار إلَّا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان، ولا يُوجد عهد بين المسلمين والكفار لأنَّهم محارِبون لدين الله. والحكمة من الخدعة هي تحقيق أكبر قدْر من الانتصارات بأقل قدْر من الخسائر.

  • (٢)

    لمَّا كان أسلوب القتال ليس وحيًا من عند الله، بل يعتمد على الرأي والمشورة، فإنَّ من الممكن إبداع أساليب للقتال لم يعرفها العالم القديم أو الجديد بعدُ، كما حفر المسلمون قديمًا خندقًا حول المدينة ويفصل بين المُهاجمين والمُدافعين، وذلك بعد أن ألَّب اليهود القبائل ضد الرسول، وكما يفعلونه هذه الأيام، وهي واقعة «الخندق»، التي غيَّرت أساليب الحرب في الميادين المكشوفة إلى أسلوبٍ جديد أشار به الفارسي.

  • (٣)

    الكذب على الأعداء؛ فقد صحَّ في الحديث الكذب في ثلاثة أشياء منها الحرب المعارضة. وليس حقيقة الكذب في ذاته، وذلك نتيجة لأنَّ الحرب خدعة.

  • (٤)

    استخراج التخطيطات الإسلامية والخدع القتالية من سرايا الرسول؛ لأنَّها ما زالت قائمة حتى اليوم، مثل إظهار الموالاة للعدو في الحرب، ولو اقتضى الأمر إظهار الشرك والكفر، بالرغم من تسمية المستشرقين لذلك غدرًا وخيانة، وجواز انغماس المسلم في صفوف الكفار إن كان في ذلك مصلحة للمسلمين، حتَّى وإن أدَّى ذلك إلى قتله، قبل أن يرى تحقُّق المصلحة.

  • (٥)

    الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام دون إنذار، قول بعض الأئمة بوجوب الإنذار «مالك» أو بتحريم ذلك على الإطلاق، وكلاهما رأيان ضعيفان والأول هو الرأي الصحيح. وكان ذلك في أول الإسلام فقد أغار الرسول على بني المصطلق طبقًا لرواية الإمام مسلم عن عدي، وقال بالمذهب الثالث الصحيح نافع مولى بن عمر والحسن البصري والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر والجمهور، وهو قول أكثر أهل العلم.

  • (٦)

    الإغارة ليلًا على المشركين حتَّى ولو أُصيب نساؤهم وصبيانهم؛ لأنَّ حكمهم حكم آبائهم، وإذا لم يعتدوا وبدون ضرورة. والاعتماد على حديث لمسلم عندما سُئل عن حكم صبيان المشركين الذين يبقَون فيُصاب من نسائهم وصبيانهم بالقتل.

  • (٧)

    الكف عن قصد النساء والرهبان والشيوخ بالقتل، وهذا لا يتعارض مع الحكم السابق نظرًا لاختلاف الحالتَين عن حديث رواه الجماعة إلَّا النسائي وقول الرسول «ما كانت هذه لتُقاتل» وقال لأحدهم: «الحق خالدًا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا.»

  • (٨)

    الاستعانة بمشرك حسن الرأي إذا دعَت الحاجة إليه، وأن يكون المسلمون قلة والمشركون كثرة؛ فقد استعان الرسول بصفوان بن أمية قبل إسلامه، في حين قال الرسول عندما طلب من أحد الأعراب «تؤمن بالله ورسوله» ورفضه ذلك: ارجع فلن نستعين بمشرك. أخذ الشافعي بالرأي الأول، وأخذ العلماء بالحديث الثاني إطلاقًا. ويُشارك الشافعي في الرأي أبو حنيفة والجمهور.

  • (٩)
    جواز قطع أشجار الكُفَّار وتحريقها حرمانًا لهم من سُبل العيش ومقومات الحياة وحتَّى يسهل قتالهم. وفي ذلك نزلت آية مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ.
  • (١٠)

    تنظيم الجيش المسلم مثل قتال المسلم تحت راية قومه، واتخاذ المسلمين شعار النصر، وكراهية الموت عند القتال، والخروج في وقتٍ معين، وإلقاء أدعية معينة.

  • (١١)

    الإخلاص في الجهاد في سبيل الله؛ أي بتجريد القصد، وهو التقرب إلى الله، لا طلبًا للمباهاة أو الغنيمة بل لتكون كلمة الله هي العليا.

  • (١٢)

    يتم استبعاد المتخلفين عن الطريق؛ فللشدائد أهلها، من يذرون الأهواء، ومن يتركون حب الراحة وتجنُّب المشقة، ضعفاء الهمة، وأطرياء الإرادة، الخائفين من المتاعب، النافرين من الجد، المُؤثِرين للراحة على الكدح الكريم، المفضِّلين للسلامة الذليلة على الخطر العزيز؛ فالجهاد طريقٌ محفوف بالمخاطر، مملوءٌ بالأشواك، تكتنفه العقبات، ولكنَّه على النفس أجمل وأحلى من القعود والتخلف والبلادة.

  • (١٣)

    تنقية الصف من المنافقين والمثبِّطين والقاعدين، فلا يخرجون لقتال، ولا يصطحبون أميرًا؛ فقد يتجسَّسون لحساب الكفار بعد أن يطَّلِعوا على أسرار المسلمين.

  • (١٤)

    غرور الفقير يمنع تأميره، سدًّا للذريعة وصيانةً للمسلمين من الافتتان به، كما يحدث لدعاة اليوم من التطلع للسمعة والجاه والمكانة الاجتماعية.

ومن هذا العرض التفصيلي لإنجيل الجماعة «الفريضة الغائبة» يتبيَّن الآتي:

  • (١)

    سيادة النصوص الخام، سواء من الكتاب أو السنة أو من فقهاء المسلمين وأئمتهم، خاصة ابن تيمية، ومن المحدثين سيد قطب، في التحليل النظري، أو وصف الواقع الحالي للمسلمين؛ مِمَّا يدل على عزلة الجماعة عن واقع القدماء؛ مِمَّا جعلهم يُسقِطون عامل التاريخ والزمن من الحساب.

  • (٢)

    سيادة الماضي على الحاضر، والعيش في الفترة الزمنية الأولى التي انتصرت فيها الدولة الإسلامية، وأنشأت حضارة المنتصرين، والانسلاخ كلية عن الفترة الزمنية الثانية، التي انهزمت فيها الدولة الإسلامية، ونشأ فيها فكر المستضعَفين.

  • (٣)

    سيادة فكر الإمامة والإمارة الناتجة عن فكرة الحاكمية، الموجَّهة مباشرة ضد السلطة السياسية القائمة لتقويضها وقيام السلطة الشرعية محلها، مِمَّا يجعل فكر الجماعة أقرب إلى عقائد الشيعة؛ فالإمامة عند أهل السنة في نهاية الأمر من الفروع وليست من الأصول، وإن كانت محور الفكر الفقهي ودُعامة النظم الإسلامية.

  • (٤)

    وجوب قتال أعداء الأمة في الداخل قبل أعدائها في الخارج؛ لأنَّ العدوان الخارجي؛ أي الاستعمار، نتيجة للعدوان الداخلي من أعوان الاستعمار على الشرعية الإسلامية والحاكمية الإلهية؛ وبالتالي تأتي الانقلابات في الداخل قبل مواجهة العدو في الخارج، وإنَّ تحرير العرب من الغرب يأتي قبل تحرير فلسطين من الصهيونية، وهو ما يُشابه تصوُّر بعض المُنظَّمات اليسارية في العالم العربي، ويُغْفِل قضية الجبهة الوطنية في الداخل ضد العدو في الخارج، كما يُغْفِل التمايز بين التناقضات الجوهرية والتناقضات الثانوية.

  • (٥)

    أولوية الكيف على الكم، والقلة على الكثرة؛ مِمَّا يجعل التغير الاجتماعي مرهونًا بالصفوة المؤمنة، دون حاجة إلى قاعدةٍ شعبيةٍ عريضة، ومن هنا تأتي أهمية الجماعات الإسلامية، واستعدادها للحركة والنضال.

  • (٦)

    ظهور مشروعٍ إسلامي نضالي يقوم على القضاء على نظم الجاهلية وحكومات الكفر، كبديل عن غياب مشروع قومي مُماثِل في السبعينيات، بعد انتهاء المعارك الوطنية، وجعل حرب أكتوبر آخر الحروب، وسيادة السلام، وأنَّ الرأسمالية لم تعُد جريمة، وأنَّ الغرب صديق، وأمريكا حليف، وتلبية الشباب لمثل هذا المشروع النضالي الإسلامي نظرًا لغياب أي مشروعٍ آخر كما كان موجودًا في الستينيات.

  • (٧)

    ظهور نوعٍ من الراديكالية في الممارسة ضد أساليب التمييع السائدة، ورفض الانتظار لعملياتٍ تربوية طويلة تقوم على الأخلاق، أو تكوين الحزب السياسي الطليعي، أو الهجرة كرد فعلٍ على أمثال هذه الدعوات في السبعينيات.

  • (٨)

    ظهور الجهاد كهجوم لا كدفاع، وكمبادرة لا كرد فعل، وبداية الانطلاق، وكان الاستعداد قد تمَّ بالرغم من بدائية فنون القتال وأساليبه المقترحة والمأخوذة من معارك المسلمين.

(١١) الأصولية الإسلامية وحاضر مصر٢٣

قد يظن البعض أنَّ اغتيال الرئيس الراحل على يد «جماعة الجهاد»، إحدى الجماعات الإسلامية المعاصرة، قد وضع حدًّا للحركة الإسلامية، وعجَّل بنهاية الجماعات، خاصةً بعد أن قامت أجهزة الأمن بتعقُّب الجماعات فقبضت على أعضائها، وحاكمَتْهم، فاستُشهد منهم من استُشهد، وسُجن منهم من سُجن، وهرب منهم من هرب، وهو التقليد الشائع في مصر منذ الثورة المصرية. وقد يظن أيضًا أنَّ ما وقع في ٦ أكتوبر ١٩٨١م، قد شوَّه اسم الجماعات الإسلامية، وقضى على مستقبلها في مصر؛ فقد أساءت إلى الإسلام، ولطَّخَت أيديها بالدماء، وقتلَت الأبرياء، وأخافت الناس، وأرهبَت المؤمنين، خاصة والشعب في مصر مُسالِمٌ آمنٌ يكره الدم، ولا يُحب العنف، ولكن هذا كله غير صحيح على الإطلاق؛ فقد فرضَت الأصولية الإسلامية نفسها على حاضر مصر على النحو الآتي:

  • (١)

    إنَّ خلاص مصر الأخير، ونهاية حكم العمالة والخيانة والنهب، وانتظار الناس له، إنَّما حدث باسم الإسلام وتحت لوائه؛ فالإسلام هو الدرع الواقي للشعب، وهو الحامي لمكاسبه، والمُحافظ على هُويته، والوعاء لمطالبه، والبوتقة لعواطفه الوطنية. ظهر الإسلام في مواجهة العمالة والخيانة، وسبق كل الأيديولوجيات العلمانية التقدمية والتحررية والثورية والاشتراكية والقومية. لم يتمَّ خلاص مصر باسم الليبرالية أو التقدمية أو الاشتراكية أو القومية، بل باسم الإسلام، وبفضل عقائد الإسلام، وعلى رأسها لا شرعية لحكم البشر مهما كان، وضرورة مواجهة الحاكم الظالم المتسلط على رقاب الناس باسم الحاكمية والشرعية، وأنَّ كل حكمٍ بشري يأتي خارج الحاكمية والشرعية فإنَّه يكون حُكمًا معتديًا آثمًا يجب الخروج عليه. والوعي بالفكر، والالتزام بالمبدأ، وثبات العقيدة في المجتمعات الإسلامية يقوم بدور الوعي السياسي أو الوعي الطبقي أو الروح الوطنية في المجتمعات العلمانية. ومن هنا جاءت أهمية الجانب العقائدي في التوحيد، والحاكمية، وفريضة الجهاد، والشهادة؛ وبالتالي سيتعمَّق الوعي الإسلامي أكثر فأكثر، وسيتمسَّك الناس بالإسلام أكثر فأكثر. بعد أن شاهدوا الدليل العملي على أنَّ الإسلام قادرٌ على تخليصهم من الظلم والطغيان، والعودة بالبلاد إلى خطها الطبيعي ونضالها القومي في مواجهة الاستعمار والصهيونية.

    ويزداد هذا التعمُّق في الوجدان القومي ليس فقط من ناحية الفكرة أو المبدأ أو العقيدة، بل أيضًا من ناحية الحركة الإسلامية؛ فلولا وجود حركة إسلامية مُنظَّمة لما أمكن للمبدأ أن يتحقَّق، أو للفكرة أن تتحوَّل إلى سلوك، أو للعقيدة أن تحيا في المجتمع. وإنَّ غياب «الإخوان المسلمين» عن الساحة المصرية على مدى ربع قرن قد أضرَّ بالحركة الإسلامية كطليعةٍ لنضال الأمة وقيادة حركتها الوطنية. وها هي الحركة الإسلامية تعود من جديد في صياغةٍ جديدة من أجل أن تتصدى للحاكم الظالم، بعد أن عجزت قوى المعارضة الأخرى باستثناء بعض الكلمات المتناثرة هنا أو هناك؛ وبالتالي لن يتورَّع الشعب عن الانضمام للحركة الإسلامية المنظَّمة بعد أن أثبتَت جدارتها وقدرتها على الفعل. ولقد أُصيب الشعب بالوجوم والدهشة عندما كان يُقبض على كل ذي لحية في الطرقات العامة؛ مِمَّا زاد الشعب تمسكًا بسنته وتقاليده، وجعل الحركة الإسلامية في وجدانه تتعمَّق أكثر فأكثر على مستوى التوحيد، وإن لم يكن على مستوى العضوية، ولكن أي إعلانٍ يتم في الحاضر أو في المستقبل عن حركةٍ إسلاميةٍ عامة ستنضم إليها جموع الشعب، سواء تمَّ هذا الإعلان بالقيادات القديمة أو بقياداتٍ جديدة.

    ولمَّا كان الخلاص قد تمَّ على أيدي الجماعات الإسلامية، وجماعة الجهاد بوجه خاص، فإنَّها قد كوَّنَت لها رصيدًا في قلوب الناس، بصرف النظر عمَّا يُقال عنها من استعمالٍ لوسائل العنف والاغتيال، وما يسود عقائدها وممارساتها من «تطرف». ولو كان للحركة الإسلامية صحفها، ولو كان للجماعة الإسلامية لسان حالها، ولو نُشرَت كتابات الجماعة على أوسع نطاق، بل لو كانت الصحف القومية تتمتَّع بحرية أكثر في التعبير والكتابة لظهر هذا الإجماع الشعبي العام على تأييد الجماعة الإسلامية لتصديها للحاكم الظالم، وقدرتها على النضال السياسي، بل إنَّ الجانب المظهري فيها لا يُضايق جموع الشعب لمَّا كان فهم الإسلام عند كليهما يغلب عليه المحافظة والتقليد، ولا يُضايق إلَّا الأقلية المستنيرة من العلمانيين والمسلمين التقدميين. وستظل جماعة «الجهاد» بوجهٍ خاص في وجدان الناس على أنَّها المُخلِّص لمصر من كبوتها الأخيرة، وسيتحوَّل خالد ورفاقه إلى أبطالٍ شعبيين مثل أبي زيد الهلالي، وعنترة بن شداد، وسيف بن ذي يزن، وسيكون من زينة شباب أهل الجنة مثل الحسين وأئمة آل البيت.

  • (٢)

    وسيزداد الرصيد الإسلامي أكثر فأكثر في وجدان الشعب، بعد أن توارت المنظمات اليسارية التي كان لها الشرف باستمرار في تاريخ مصر، في ممارسة أعمال العنف السياسي من أجل تخليص البلاد من الطغيان والظلم والعمالة، حتَّى إنَّ العنف السياسي كان قد ارتبط باليسار أكثر من ارتباطه بالحركة الإسلامية في وجدان الناس، بل إنَّ صورة التنظيمات اليسارية في عمر الثورة المصرية قد شابها بعض الظلال نظرًا لتبريرها أخطاء الثورة المصرية، كثمنٍ مدفوع مؤخرًا لإضفاء الشرعية على هذه التنظيمات، واعتراف الدولة بها، وإدخالها كجزء من أجهزة الدولة الرسمية، أو في بيوت الثقافة وإداراتها، فتخلَّت عن دورها في قيادة الحركة الوطنية، وتصديها لنظم التسلط والعمالة، والاكتفاء في أحسن الأحوال بالمنشورات السرية، والتثقيف السياسي للأعضاء، فازدادت صعوباتها، وازدادت عزلتها عن قيادة الجماهير، وأضافت العجز الفعلي إلى العُزلة العقائدية عن التراث الوطني والتاريخي والديني للبلاد. وأصبح الشاب الوطني المتحمس المرتبط بتراث الأمة يجد نفسه وهويته في الجماعات الإسلامية أكثر مِمَّا يجد نفسه في التنظيمات اليسارية.

    كما توارت الجبهات الوطنية والتنظيمات الشعبية والأحزاب السياسية بالرغم من مشاركتها الفعَّالة لتقوية المعارضة بالقول والكلمة والخطاب، وتجاوزها الجماعة الإسلامية بالانتقال من القول إلى الفعل، ومن النقد إلى التغيير، ومن الشهادة على العصر إلى تقديم الشهداء من أجله. كانت الحركة الإسلامية جزءًا من جبهة الائتلاف الوطني، وكان الوطنيون يخطبون في المساجد الأهلية وعند الأئمة الوطنيين، ولكن الحركة الإسلامية هي التي أخذت زمام المبادرة، وانتقلَت إلى الفعل، فارتبط تاريخ مصر بها، وأصبحَت هي المسئولة عن تحوُّل التاريخ، تضع علامةً جديدة باسمها على مساره؛ وبالتالي قدَّمَت الأصولية الإسلامية نفسها على أنَّها القادرة على قيادة الشعب، وعلى الوقوف في وجه السلطان الجائر.

  • (٣)

    وسيشتد ظهور الأصولية الإسلامية في وجدان الناس، بل وفي القوات المسلحة؛ حيث تظهر وكأنَّ لها الولاء الأول على ولاء الجيش؛ فكما كان الضباط الأحرار في الأربعينات يُمثِّلون طليعة الحركة الوطنية، وولاؤهم الأول لها وليس لنظام الدولة، كذلك سيظهر الضباط المسلمون في الثمانينيات، وولاؤهم الأول للإسلام وليس لنظام الدولة، إلَّا بقدْر التزام الدولة بالإسلام، والحفاظ على استقلال البلاد، والدخول في معاركها الأساسية في مواجهة الاستعمار والصهيونية. إنَّ انقراض تراث الضباط الأحرار داخل الجيش، وتصفية العناصر الوطنية منه في السبعينيات، ساعدا على ظهور الأصولية الإسلامية فيه كبديل عن التراث الأول، بصرف النظر عن عدد الأعضاء، ولكن كاحتمال وبديل قائم.

    وسيلتف الناس حولهم، وستظل صورة ظافر «خالد» ومنصور «عبُّود الزمر» تُلهِب خيال الشباب؛ فقد اجتمعت فيهم الصفات العسكرية والإيمان والوطنية. وسيعود الفخر في النهاية لخلاص مصر إلى جيش مصر، وإيمان الضباط، ووطنية الجنود، وستعود الحياة الوطنية إلى صفوف القوات المسلحة، وسيزداد انتماؤها للقضايا الوطنية للبلاد، وستعود كما كانت الحارسة لمكاسب الشعب ولاستقلال البلاد الوطني، وسيكون أقدر وأقدر على التصدي لنظم الخيانة والعمالة. وقد كان الناس يتساءلون باستمرار في السبعينيات، خاصة بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م، أين جيش مصر؟ وأين تراث الضباط الأحرار؟ وأين جيش عرابي؟

  • (٤)

    وإذا كان صحيحًا أنَّ شعب مصر يكره العنف، ويُحب السلام، ويعشق الطمأنينة والأمان إلَّا أنَّ انفجار أكتوبر ١٩٨١م، جعله لا يرفض العنف السياسي كوسيلة دفاعية تحميه من القهر والظلم والطغيان، وتحمي شرف البلاد من الإهانات المستمرة، وتحمي استقلالها وحيادها من الوقوع في سياسة الأحلاف ومناطق النفوذ؛ فلم يُمانع من أن يُقابل العنف القهري بالعنف الثوري. ورأى جدوى الاغتيال السياسي للحاكم الظالم كطريق للخلاص بعد أن سُدَّت جميع السبل من الجيش والشعب على السواء؛ فقد انتهت مصر إلى طريقٍ مسدود بعد عشر سنوات من التنازلات المستمرة إلى أن وصلَت إلى حد الخيانة الوطنية. وقُبض على روح مصر في سبتمبر التي كانت تبغي الخلاص وتحرير الجسد كله. وكان انفجار أكتوبر ١٩٨١م، بمثابة انتفاضة الروح كي تدب الحياة للجسد من جديد، وتخليص رقبة مصر مِمَّن يقبض عليها كي يخنقها حتَّى تلفظ أنفاسها الأخيرة على يديه، ولكن لفظ أنفاس الفرد وتحرر الجماعة وسير التاريخ هو الأقرب إلى قوانين الحركة الاجتماعية ومسار التاريخ. رأى الشعب نتائج العنف، وأنَّ الاغتيال السياسي، ونهاية السلطان الجائر أحد طرق العنف. وقد يكسب ذلك مناعة للشعب، ويُعطيه الثقة بنفسه على أنَّه قادر على أن يُغيِّر مجرى التاريخ إذا ما عجزَت نظمه السياسية ومؤسساته الدستورية وأحزاب المعارضة ومنابر الرأي الحر، وقواته المسلحة. لقد عرف الشعب طريقه إذا ما انسدَّت جميع السُّبل، وسيظل انفجار أكتوبر ١٩٨١م، قدوة له، ونبراسًا ونموذجًا في المستقبل يلجأ إليه إذا ما تشابهَت الظروف، وتكرَّرَت الأحداث، وعادت المآسي والأحزان. وسيكون ذلك أيضًا درسًا لكل حاكم قادم ألَّا يعود إلى ما كان عليه الحاكم السابق من تسلُّط وقهر وعمالة وخيانة ونفاق ديني، وادعاء وألوهية. الآن صار الشعب يرسم للحاكم خُطاه التي لا يستطيع أن يحيد عنها. ولن يعود إلى مصر على الأقل في جيلنا الحاكم المطلَق الذي يقول «أنا ربكم الأعلى». وسيخشى من انفجار «الأصولية الإسلامية»، ويعمل لحسابها حتَّى لا تأتيه من حيث لا يشعر، حتَّى ولو كان في أبهة المجد، أمام جيشه، ووسط شعبه، وفي مواجهة أجهزة الإعلام كلها. وستكون الهزة أعمق في وجدان الشعب لو تمَّ إعدام خالد ورفاقه، بعد أن تحرَّر شعب مصر بفضل إقدامه وطهارته واستشهاده، وقضاته وجلادوه من أوائل المُتحرِّرين! وسيتحوَّل إلى فكرة الخلاص والاستشهاد، وهو أعظم خُلود يناله بشر. وقد تنفجر الأصولية الإسلامية من جديدٍ في حالة إعدام مَن ثأروا لكرامة مصر حتى تتجاوز مصر أحزانها.

  • (٥)

    لقد عادت إلى مصر روحها بعد انفجار أكتوبر ١٩٨١م، عاد إلى الناس الإحساس بالأمان، وانتهى الكابوس الرهيب الذي كان يكتم الأنفاس، وأُزيح العبء الثقيل الذي كان جاثمًا فوق الصدور، وتنفَّس الناس الصعداء. وانتهى الوجه المُتصلِّب المُتشنِّج الذي كان يُخوِّن كل الناس، ويطعن في ولاء وشرف كل الاتجاهات، ويفتِّش في الضمائر، ويُلقي بتهم الإلحاد والعمالة على الجميع. وبدأ الناس يشعرون بيقظة الوعي الوطني من جديد، وعاد إليهم الإحساس بالولاء والانتساب إلى قضية عامة. وأنَّ الحسابات الصغيرة إنَّما تخضع للحساب العام، وأنَّ المصالح الخاصة إنَّما تُصاغ في إطار المصالح العامة، ونشطَت الحياة العامة، ودبَّت الحياة في الصحف المصرية، واقتربَت كما كانت من قبلُ من صحافة الرأي، وبدأَت محاكمة النظام السابق على الأقل في ضمائر الناس وعلى نطاقٍ واسع، وبصورة أقل في المحاكم وأمام القضاء. ووُضِعَ حد للفساد والخيانة والعمالة كسياساتٍ شرعية للبلاد، وإن بقيَت بؤر منعزلة في الحياة العامة تخشى يقظة الروح الوطنية، أو تتربَّص بها من أجل الانقضاض عليها من جديد. ونشأ عند الناس نوع من الإحساس بالجدية والثقة بالمستقبل وبخدمة البلاد بعد أن انتهت مظاهر البذخ والترف في الحياة العامة، وظهرَت قدوةٌ جديدة ليس لديها جنون الإعلام، وحب المظاهر، ولا تُمارس النفاق الديني، ولا تعرض حياتها الخاصة على الملأ وفوق رءوس الأشهاد. وبدأ نوعٌ من المصالحة الوطنية بين النظام والمعارضة، بعد أن كسبت المعارضة الجولة وربما لأول مرة منذ هزيمة ١٩٦٧م، ومظاهرات الطلاب ضد أحكام الطيران في ١٩٦٨م، التي أدَّت إلى بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨م، وإلى حرب الاستنزاف في ١٩٦٩م، واستمرار المعارضة في السبعينيات خاصة في ١٩٧٢م، ومظاهرات الجامعة ثمَّ انتفاضة يناير ١٩٧٧م، وهبة الشعب حتَّى انتصار المعارضة في أكتوبر ١٩٨١م. وبالرغم من أنَّ المعارضة على مدى عشر سنوات كانت للاتجاهات التقدمية الوطنية التي يُشار إليها عادة باسم الناصرية، إلَّا أنَّ حربتها الرئيسية كانت الحركة الإسلامية بصرف النظر عن اختلاف المتطلبات النظرية؛ وبالتالي استطاعت الحركة الإسلامية رد الاعتبار إلى الليبراليين والناصريين والماركسيين ضحايا سبتمبر ١٩٨١م. كما وحَّدت الحركة بين جدران السجون، فعادت إلى مصر وحدتها الوطنية، وظهر الإسلام كبوتقة طبيعية تنصهر فيها كل الاتجاهات السياسية. وأنَّها مسألة وقت كي تظهر الحركة الإسلامية من جديد مُتوَّجة من الشعب بعد أن قادت كفاحه في أحلك لحظاته، وخلَّصته من الطغيان، وخلَّصَت مصر مِمَّا كان يُراد بها »جثة هامدة» تتكالب عليها الجوارح.

(١٢) الأصولية الإسلامية ومستقبل مصر ٢٤

وإذا كانت «الأصولية الإسلامية» في حاضر مصر تتعمَّق أكثر فأكثر، ويزداد رصيدها الشعبي نظرًا لما حازت عليه من ثقة بها، وقدرتها على الإنجاز، وشرعيتها التاريخية في الماضي والحاضر، فإنَّها أيضًا تُقدِّم نفسها على أنَّها مستقبل مصر الذي لا بديل له، مهما كانت هناك من إنجازاتٍ اجتماعية وسياسية تقوم بها الأيديولوجيات الثورية العلمانية؛ فهي البديل المستقبلي الوحيد بعد أن مرَّت البلاد بعدة تجارب في الماضي، انتهت كلها إلى مثل ما ابتدأَت منه، بل انقلب البعض منها إلى ضده، وظلَّ وجدان الشعب خاويًا ينتظر أيديولوجيةً جديدة تُعبِّر عنه، وتُمثِّل وحدته في التاريخ وتحمل مطالبه، ثم يجدها أخيرًا في «الأصولية الإسلامية»، التي ورثها عن ماضيه وتاريخه، والتي حقَّقَت له مطالب حاضره، ويرجو منها أن تُحقِّق آمال مستقبله.

فقد مرَّ الشعب بعدة تجارب في الحكم ونُظم في السياسة حقَّقت له بعض المكاسب، ولكن مخاسرها كانت أيضًا ظاهرةً للعيان. مَرَّ بالتجربة الليبرالية فيما قبل ١٩٥٣م. وعرف فيها الحرية والديمقراطية، ودافع فيها عن الدستور والنظم البرلمانية. وفيها تكوَّنت روحه الوطنية، وناضل ضد الاستعمار والقصر، ولكنَّه أدرك أيضًا أنَّ الحرية كانت للأقلية، وأنَّ لعبة الأحزاب كانت لباشوات الإقطاع، وأنَّ القصر والاستعمار قد استطاعا خلق أحزابٍ موالية، وأنَّ التعليم كان حكرًا على القادر على دفع ثمنه، وأنَّ الدولة كانت تُمارس شتَّى صنوف القمع والتعذيب ضد المعارضة السياسية، وقد كان المرحوم حسن البنا أحد الضحايا في فبراير ١٩٤٩م، وأنَّه بالرغم من تأجُّج الروح الوطنية إلَّا أنَّ اقتصاد مصر الزراعي كان مرتبطًا بالرأسمالية الغربية، وبالصناعات الغربية، وبخلق طبقة من الرأسماليين موالية للغرب.

ثم عاشت مصر تجربة جديدة بعد ثورة ١٩٥٢م، من أجل القضاء على مثالب النظام السابق، وكما هو معروف في المبادئ الستة المشهورة. وحقَّقَت أعظم إنجاز وطني منذ تأسيس دولة مصر الحديثة سواء في الداخل أم في الخارج سواء الإصلاح الزراعي، واستصلاح الأراضي، وإنشاء السد العالي، وتأميم قناة السويس، وإنشاء القطاع العام، وتصنيع مصر، وحقوق العمال، ومجانية التعليم، وتسليح جيش مصر، ورد العدوان الثلاثي، وبناء مصر الاشتراكي ١٩٦١–١٩٦٤م، والوحدة العربية، وتكوين أول تجربة وحدوية في تاريخ العرب الحديث ١٩٥٨–١٩٦١م، ومساعدة الثورات العربية التحررية في العالم العربي وأفريقيا، وعلى رأسها ثورة اليمن، وثورة الجزائر، وتكوين حركة عدم الانحياز منذ باندونج في ١٩٥٥م، حتى بلجراد ١٩٦٤م، ومواجهة الاستعمار والصهيونية والتخلف والإقطاع والرجعية. ومع ذلك عانى الشعب من غياب الحرية والديمقراطية، ومن غياب أي تنظيمٍ سياسي يحمي مكاسب الشعب، ومن ظهور طبقاتٍ جديدة أثْرَت على حساب الثورة، وعزلَت القيادة الثورية عن الشعب، وأصبحَت تركةً عليها ووريثةً لها بعد أن كانت تحكم باسمها، بل عانت الحركة الإسلامية من الاضطهاد لدرجة أنَّها أصبحَت على عداء تاريخي مع أيَّة نظريةٍ ثورية علمانية، وأصبح بينها وبين الثورة ثأرٌ قد يكون انفجار أكتوبر ١٩٨١م، أحد فصوله.

ثمَّ عاشت مصر تجربة الردَّة، ورأت كيف أنَّه حتى هذه الإنجازات الاجتماعية والسياسية قد تمَّ التراجع عنها شيئًا فشيئًا، حتَّى انتهى النظام السياسي نفسه إلى العمالة والخيانة وإلى القيام بثورة مضادة، وبتحوُّل شامل ١٨٠ درجة عمَّا كان عليه. فانقلبَت الاشتراكية إلى رأسمالية، وعدم الانحياز إلى الانحياز، ومعاداة الغرب إلى التحالف معه، ومواجهة الصهيونية إلى التسليم بها، والقومية العربية إلى العُزلة عنها. ورأت مصر نهاية التصنيع لصالح الاستيراد، ونهاية القطاع العام لصالح القطاع الخاص، وتوارى رأس المال الوطني أمام رأس المال الأجنبي، وبرَزَت زيادة التفاوت بين الطبقات بعد أن كان الهدف هو تذويبها من أجل إزالتها، واستشرى الفساد والثراء السريع من المضاربات والعمولات وشتَّى أنواع السمسرة. وغطَّى ذلك كله نفاقٌ سياسي ديني، وادعاء الحرية والديمقراطية ونهاية المعتقلات والسجون، والتمسُّك بالشرعية الدستورية، ولكنَّه في الوقت نفسه تكبيل للحريات، وزيادة المعتقلات، وصياغة القوانين المقيِّدة للحريات، وسن التشريعات، وإجراء الاستفتاءات على قانون العيب، ومحكمة القيم وكل ما يُكمِّم الأفواه، وأُنشأت المجالس للرقابة على الشعب. وزاد ذلك كله النفاق الديني والتستر بالدين على أفعال الخيانة والعمالة؛ مِمَّا دفع الحركة الإسلامية كوعاء للحركة الوطنية أن تضع لذلك حدًّا بانفجار أكتوبر ١٩٨١م.

بالإضافة إلى هذه التجارب الثلاث التي طرأَت على شعب مصر، وحوَّلَته إلى ميدان للتجربة والخطأ، فما زال هناك قطبا حزبٍ لوجدان مصر للأقليات المضطهدة، وهي التنظيمات اليسارية التي تحمل لواء الاشتراكية العلمية أو الماركسية والجماعات الإسلامية التي تحمل لواء الإسلام، وتُريد إقامة الدولة الإسلامية، وهما الجناحان اللذان يجذبان مصر مرةً إلى اليسار ومرةً إلى اليمين لولا ثقل مصر. وبالرغم من أنَّ التجربتَين لم يُقدَّر لهما أن تحكما حتى الآن إلَّا أنَّهما تسعيان إلى ذلك، وتصطدمان بالسلطة القائمة بين الحين والآخر حين تكتشف التنظيم السري من هذا الجناح أو ذاك. وسيظل هذان الجناحان الشاردان حجر عثرة في مواجهة أيَّة سلطةٍ قائمة ما لم يتم جذبهما إلى قلب الدولة، كتحدٍّ حقيقي للنظام القائم، وكأحد عناصر الرقابة عليه، ولكلٍّ من هاتَين التجربتَين رصيدُهما الوطني والتاريخي.

فالماركسية التقليدية ساهمَت في الحركة الوطنية المصرية، في مقاومة الاستعمار، كما ساهمَت في يقظة الوعي الاجتماعي العُمَّالي والطلابي خاصة، وكان لها الفضل في نشر أفكار العدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق العمال، وتوجيه الثقافة لصالح القضية الاجتماعية، ولكنها كانت محدودة الأثر، لا تتجاوز بعض الحلقات الثقافية والأعمال الفكرية والأدبية. لم تُصبح حركةً شعبيةً عامة، في الريف بين الفلاحين، نظرًا لصعوبة مفاهيمها التي تحتاج إلى قسطٍ أكبر من الثقافة والعلم الغربي. كما أنَّها لم ترتبط بوجدان الأمة، وبتراثها التاريخي. وكان يطغى عليها الانحياز للعلم الغربي والثقافة الأوروبية؛ مِمَّا عزلها عن تيار الثقافة الرئيسي في البلاد، بالرغم من المحاولات التي قامت من أجل هذا التواصل التاريخي بين تراث الأمة ومطالبها الاجتماعية، ولكن الغالب عليها كان العداء للحركة الإسلامية مِمَّا شق الوحدة الوطنية. وتُبُودِلت الاتهامات مثل العمالة والخيانة والرأسمالية؛ ومن ثمَّ لم تستطع مصر النهوض بهذَين الجناحَين المتقاتلَين، كلُّ منها يريد تصفية الآخر والاستئثار بالقلب.

أمَّا الجماعة الإسلامية باعتبارها آخر تشكيل الحركة الإسلامية في مصر، فإنَّ الظروف النفسية التي نشأَت فيها، والتي ورثها أعضاؤها من حمل الماضي وتركته، جعلتها أقرب إلى الانعزال والانغلاق عن جماهير الشعب، تنتقي منه الأعضاء خارجًا عنه بدلًا من أن تضُمَّه كله إليها، وتصبح هي جزءًا لا يتجزأ منه؛ فبالرغم من أنَّ الإسلام في وجدان الناس رصيدها الأول، وأنَّ إنجازها الأخير في خلاص مصر، في أكتوبر ١٩٨١م، قادر على أن يجعل منها بؤرة التفاف للشعب حولها، وأن تكون هي كالسمك في الماء، إلَّا أنَّ ظروفها النفسية والتاريخية جعلتها تتعثَّر في أداء الدور؛ فالحاكمية حتَّى الآن لم تُتَرْجَم على الصعيد السياسي والاجتماعي بالنسبة لمصر بإحصاء كمي دقيق، وبرنامج وطني واضح، حتَّى يتجه الناس إليها. والبداية من المبدأ للواقع، ومن الفكر للعالم جعل منهجها نصيًّا استنباطيًّا، وغاب منها تحليل الواقع، والبداية بالمصلحة، ورعاية الناس، وإكمال الناقص، وتطوير الموجود، وتحقيق الممكن، ورؤية المراحل، وضم الاتجاهات السياسية كلها في حظيرتها، وإرجاعها إليها.

ولمَّا كانت «الناصرية» هي الرغبة المكبوتة على مدى عشر سنوات، وكان الإسلام هو الفكرة المُزاحة على مدى ثلاثة عقود، وكان مستقبل مصر القريب هو التعبير عن هذه الرغبة المكبوتة، وعودًا إلى الناصرية الشعبية، بعد أن علَّمتها التجارب أنَّ الحفاظ على المكاسب الثورية لا يتم إلَّا بالشعب، وبتنظيمه السياسي، وبالحرية والديمقراطية، وكان الإسلام هو مستقبل مصر البعيد، فإنَّ الخشية كل الخشية أن يقع تصادمٌ جديد بين الناصرية التقليدية وبين الحركة الإسلامية التقليدية، المُمثَّلة في الإخوان المسلمين أو في الجماعة الإسلامية؛ وبالتالي يقع الفصام من جديد بين الإسلام والثورة، فلا تتعلَّم الأمة من تجارب الماضي، وتعود كما بدأَت بأحادية الطرف في النظرة، وبالرغبة في الوقوف على قدم واحدة، أو الطيران بجناح واحد، فتقع وتتعثَّر من جديد.

إنَّه لا سبيل إلى وقف الناصرية الشعبية القادمة في المستقبل القريب، وقد بدأَت بشائرها في الظهور، وإرهاصاتها في التحقُّق، وبوادرها تظهر للعيان؛ فاختيار مصر الثوري الذي بدأ في يوليو ١٩٥٢م، ما زال يمثل اختيارها الأول، وما زالت مصالحها مُتمثِّلة في مشروعها القومي كما صاغه ناصر؛ الاشتراكية والاستقلال الوطني في الداخل، والقومية العربية وعدم الانحياز في الخارج، بعد أن عانت مصر في السنوات العشر الأخيرة من مآسي الانفتاح والتبعية الاقتصادية، وأحزان الأحلاف العسكرية والعزلة عن محيطها العربي. ولمَّا كان من السهل ضم جناح مصر الأول، الجناح اليساري الاشتراكي العلمي المُمثَّل في الماركسية، خاصة إذا ارتبطَت بتاريخ مصر الوطني في المشروع الناصري، فإنَّه يبقى ضم الجناح الإسلامي وهو الأصعب؛ نظرًا لوجود تراثٍ تاريخي طويل من المحافظة الدينية قوامه ألف عام، مقابل مائة عام من نهضة إسلامية تعثَّرت بعد بداياتها الأولى عند الأفغاني، وخفَّت حدَّتها من جيل إلى جيل، حتَّى عادت من جديد في تيار المحافظة الدينية الرئيسي الشرعي، وتحوَّلَت إلى سلفية كما ظهرَت في الجماعات الإسلامية الحالية. ليس الهدف هو استقطاب عناصر منها لتبرير المشروع الناصري، كما كان الحال في الستينيات، وكما ظهر في أدبيات «الاشتراكية في الإسلام»، التي اختفت بمجرد اختفاء الناصرية، ولم تظهر على الساحة كعنصر من عناصر المقاومة للردة والثورة المضادة، ولم تعُد تختلف عن المؤسسة الدينية التقليدية التي تضم «فقهاء السلطان» في شيء، بل الهدف هو ضمان أكبر نجاحٍ ممكن لقلب مصر الناصري، بمساعدة جناحيها الرئيسيَّين؛ الماركسي والإسلامي، من خلال تجربتها الليبرالية الطويلة، وميراثها النيابي العريض السبَّاق في المنطقة كلها. الثورة المصرية أحد مكتسبات الجيل، ولعدة أجيال قادمة، والإسلام هو روح الأمة وتاريخها وتراثها وثقافتها؛ وبالتالي يكون التحدي الحقيقي هو معرفة كيف تتم المحافظة على مكاسب الأمة من خلال تراثها وروحها، وصَبِّها كجزء من الرافد التاريخي الأعظم حتى تتأصَّل في وجدانها، ولا تبقى على السطح عُرضة للاستئصال من أيَّة رِدة أو ثورة مضادة، كما حدث في الماضي القريب. إنَّ الوحدة العضوية بين الإسلام والثورة، أو بين الثورة والإسلام، هي خير ضمان لبقاء الثورة وعدم نهش الإسلام فيها، ولاستمرار الحركة الإسلامية ضمن إطار المشروع القومي الحديث، دون أن تشعر بالثأر بينها وبين الثورة، أو تسعى للانقضاض عليها طالما أنَّها خارجها وعلى هامشها، تُخطط لمصر دونها.

الحركة الإسلامية حركةٌ تاريخية شرعية، وتنظيماتها بأشكالها المختلفة حقٌّ شعبي مُكتسَب لا يُمكن التنازل عنه أو إغفاله، بل إنَّ سعيها للحكم أيضًا حق شرعي، ومطلب رئيسي، وليس انقلابًا على النظام أو خروجًا على الدولة، ولكن الثورة أيضًا حقٌّ شعبي، ومطلبٌ جماهيري، ومكسبٌ تاريخي، حقَّقه نضال عدة أجيال. ولا يُمكن أن يتم بعيدًا عن الشرعية التاريخية الأولى التي تُمثِّلها الحركة الإسلامية؛ وبالتالي يكون التحدي الحقيقي هو كيفية المحافظة على وحدة النضال الوطني بين شرعية الماضي وشرعية الحاضر، بين روح الأمة وجسدها.

وذلك لا يتم إلَّا بمصالحةٍ علنيةٍ بين الإخوان والثورة، مصالحةٍ تاريخيةٍ تُحقِّق وحدة الأمة، ومزيجها العضوي. صحيحٌ أنَّ صفحات الماضي قد طُويَت، ولكن ما دامت آثاره قد بقيَت في النفوس، فإنَّ خير وسيلة لطيها هو إعادة البناء النفسي والمصالحة العلنية. وما أسهلَ أن يتم ذلك بعودة الإخوان المسلمين كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة باسم الثورة المصرية وبقرار منها، وعودة «المركز العام» للإخوان المسلمين إليهم بعد أن تحوَّل إلى قسم «الدرب الأحمر» للخارجين على القانون، والعاصين لأوامر الشرطة، والنائمين على الأرصفة، والمتشرِّدين والمتسوِّلين والمجرمين، وقد كان بالأمس القريب تجمعًا للبداية وتربية النشء ولنشر الدعوة ولإعداد الأجيال، وعودة أموالهم وحقوقهم، وعودة جمعيتهم شرعيةً كما كانت، وعودة مجلاتهم وجرائدهم ونشراتهم، وإلغاء قرار حلهم، بل وأكثر من ذلك أن تُوجِّه الثورة المصرية اعتذارًا رسميًّا لهم على صفحات التاريخ، وفي وجدان الأمة على ما حدث لهم من تعذيبٍ واضطهاد. أمَّا الشهداء فأجرهم عند الله، سواء كانوا من علماء الأمة مثل عبد القادر عودة وسيد قطب، أو من شباب الأمة وجندها مثل خالد وصحبه. وعلى هذا النحو تنشأ الحركة الإسلامية في جوٍّ صحي، وفي شرعيةٍ كاملة، وتكون الجماعات الإسلامية أحد روافدها الجذرية، وأحد أجنحتها الأصلية، تتحاور مع التنظيم الأم كما يتحاور التنظيم الأم مع كافة الاتجاهات الوطنية في البلاد، وكما يعمل الجميع في مواجهة التحديات الأساسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، دون أن يبقى أحدها خارجًا عنها، مُتفرِّجًا عليها، منبوذًا منها. وينصهر الجميع في معارك الأمة الرئيسية، مواجهة الاستعمار والصهيونية في الخارج، والتسلط والتخلف في الداخل، في إطارٍ من الاحترام المتبادل للرأي المعارض، وفي تقليد مصر الليبرالي السابق. وعلى هذا النحو تتحقَّق الوحدة الوطنية، ويعود إلى الأمة روحها من خلال قلبها، وهو الثورة المصرية، وجناحَيها وهما الماركسية والجماعات الإسلامية، ورأسها المُمثَّل في تاريخها الليبرالي الطويل. عندئذٍ يُصبح الإسلام وعاءً للوحدة الوطنية، قادرًا على تَمثُّل اتجاهاتها الأساسية؛ فالإسلام ثورة وأكثر، وليبرالية وأكثر، وماركسية وأكثر. وما الجماعة الإسلامية إلَّا التنظيم الاجتماعي الذي يعكس الأوضاع الاجتماعية في مرحلةٍ تاريخيةٍ محددة، وهي المحافظة الدينية الموروثة منذ ألف عام، بعد تعثُّر الحركات الإصلاحية الحديثة. وقد يكون المُعوَّل عليه للقيام بهذه المهمة هو الإسلام الثوري، أو الثورة الإسلامية، من خلال تجربة مصر، دون تقليد لثوراتٍ إسلاميةٍ أخرى معاصرة؛ فالثورات لا تنتقل من مجتمع إلى آخر تقليدًا وتبعية؛ لأنَّ الثورة تعبير عن أصالة شعب وتجربة فريدة لأمة.

١  في غمرة الفرح بانفجار أكتوبر ١٩٨١م، وتخليص مصر من أسوأ عَقْد في تاريخها، الذي ما زلنا نُعاني منه حتى الآن، وبعد التعاطف الكبير الذي وجده خالد الإسلامبولي ورفاقه من جموع الشعب، طلَب مني أحد كبار الصحفيين دراسة عن «ملف القضية»؛ فقمتُ بها وفي ذهني كتابة «مذكرة دفاع» تُقدَّم للمحامين للاستفادة بها في الدفاع عن خالد الإسلامبولي ورفاقه، وحتَّى يتفهَّم القضاة العسكريون حقيقة هذه الجماعة ودوافعها ووضعها في إطارها التاريخي. كانت الغاية التأثير على القضاة من أجل تخفيف الأحكام الصادرة. وقد كُتبَت بأسلوب خطابي جدلي، وإن لم يخلُ من البرهان. كُتبَت وأنا خارج الجامعة بعد مذبحة سبتمبر ١٩٨١م. ونُشرَت في جريدة «الوطن» بعد ذلك بعام.
والمخطوط نفسه لم أستطع استعادته. وإعادة نشر هذه الدراسة إنَّما تمَّت مما نُشر في جريدة «الوطن» في خمس عشرة حلقة. ولمَّا كانت الصحف اليومية لا تتحمَّل الهوامش أسفل الصفحة؛ فقد أدخلتُ بعضَها في صُلب النص، وأُسقط البعض الآخر — على ما أذكر — ومع ذلك يظل المنشور يُعبِّر عن الأصل المخطوط باستثناء هامش هنا وهامش هناك. وقد تمَّ تزويرها في طبعة صدرَت في بيروت بعنوان «الحركات الإسلامية المعاصرة» باستثناء بعض الحلقات الأخيرة التي لم تُنشر وقت الإعلان عن النشر.
ونشكر للأستاذ محمود المراغي، الذي كان مديرًا لتحرير «الوطن» في ذلك الوقت، على قبوله الدراسة للنشر وحسن إخراجه لها.
وقد صدَّرَت جريدة الوطن سلسلة المقالات الخمس عشرة بالفِقرة الآتية: «الحركة الإسلامية المعاصرة ومستقبلها» لأول مرة دراسة علمية للتحقيقات الخطيرة في قضية السادات. ابتداءً من اليوم، تُقدِّم الوطن دراسةً فريدة من نوعها، موضوع الدراسة: الحركة الإسلامية المعاصرة، جذورها التاريخية، وروافدها الفكرية، وانفجاراتها السياسية، سواء في إيران أو مصر أو غيرها.
الدراسة فريدة لأنَّها ترد على أدبيات الغرب التي انتشرَت حول هذا الأمر، ونظَّرت له من زاوية سياسية واحدة، هي زاوية الاستقرار أو عدم الاستقرار السياسي.
الدراسة فريدة؛ لأنَّها تتم بمنهج خاص، لا يعتمد على المادة النظرية، وإنَّما على الواقع والوقائع. والوقائع هنا: ما حدث في مصر، من خلال ملف التحقيق في قضية اغتيال الرئيس السابق أنور السادات.
لقد عكف الدكتور حسن حنفي، المفكر وأستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعتي القاهرة وفاس، لمدة عام كامل، على دراسة أوراق التحقيق. درس أقوال طايل، وحميدة، والإسلامبولي، وغيرهم. ودرس كتاب «الفريضة الغائبة»، وعاد للتاريخ؛ ليُقدِّم دراسة شاملة تُجيب على أسئلة قديمة وجديدة، تمتد من ابن تيمية، إلى الأفغاني ومحمد بن عبد الوهاب وحركة الإخوان المسلمين والجهاد وجماعة الإسلامبولي.
ومن الأسئلة المثارة:
• متى وكيف ازدهرت الحركة الإسلامية المعاصرة؟
• كيف وقع الصراع بين الإخوان المسلمين وثورة يوليو في مصر؟ وما هو موقع الناصرية من الحركة الإسلامية؟
• كيف اتفقَت مصلحة الإخوان والثورة المضادة إبَّان عهد السادات، وكيف وقع التناقض، ثمَّ وقع الانفجار، والاغتيال في ٦ أكتوبر؟
والأهم من ذلك كله، ومصر هي الحالة الماثلة للدراسة، ماذا عن المستقبل؟
إنَّها واحدة من الدراسات التي تجمع بين الرؤية السياسية والإسلامية والفكرية في وقتٍ واحد. وهي لا تتم، كما يقول صاحب الدراسة، من منظور بوليسي، وإنَّما تتم من منظور رصد الحقائق، ومناقشة الأفكار، واستقراء المستقبل، ليس في مصر فقط، وهي نموذج الدراسة، وإنَّما في المنطقة كلها «والحُبْلى بمختلف الاحتمالات».
٢  جريدة «الوطن»، السبت ٢٠ نوفمبر ١٩٨٢م.
ووضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية المعاصرة ومستقبلها، على ضوء قضية السادات. دراسة في التحقيقات يُقدِّمها المفكر الإسلامي دكتور حسن حنفي.
• السلفية لا تعني التخلف ومعاداة المدنية.
• السادات دفع حياته ثمنًا لفهم خاطئ للتيارات الإسلامية.
ووضعَت في برواز، يقول د. حسن حنفي، صاحب هذه الدراسة، إنَّه قد عاش الأحداث المعاصرة منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ويعتبر نفسه أحد روافد الأصولية الإسلامية، «كنتُ عضوًا في جماعة «الإخوان المسلمين»، ثمَّ اشتغَلتُ بالثورة المصرية، وعاصرتُ إنجازاتها، وحاولتُ أن أساهم في وعي جديد بعد الهزيمة عام ١٩٦٧م، ثمَّ تحسَّرتُ على ضياعها في مرحلة الردة، وحاولت المساهمة في إيقاف الردة.»
ويرى د. حسن حنفي أنَّ دوره الرئيسي هو خلق تيار جديد يجمع بين الأصولية الإسلامية والثورة العربية، ومن هذا المنطلق فهو يتبنَّى فكرة «اليسار الإسلامي» كمحاولة لرأب الصدع بين الحركة الإسلامية والثورة العربية.
والدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة بجامعتي القاهرة وفاس. وقد بدا اهتمامه النظري واضحًا في اختياره لموضوع دكتوراه الدولة، التي حصل عليها من السربون في ثلاثية، كان موضوعها «مناهج التفسير»، «تفسير الظاهريات»، «ظاهريات التفسير». وله العديد من الكتب والأبحاث الإسلامية. وهو مؤسس مجلة «اليسار الإسلامي» في القاهرة. وانتهى من الجزء الأول من مشروع «التراث والتجديد»، الذي أصدر منه المقدمات النظرية. ووضعَت الجريدة صور السادات، والإسلامبولي، وحسن البنا. وأعلنَت في آخر الحلقة: غدًا دكتور حسن حنفي يُواصل دراسته بفصل حول: الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي.
٣  جريدة «الوطن»، الأحد ٢١ نوفمبر ١٩٨٢م.
ووضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية المعاصرة ومستقبلها على ضوء قضية السادات (٢).
• لماذا كان العصر الذهبي للحضارة الإسلامية بوصلة الجماعات الجديدة؟
• كيف تحوَّلَت حركة الأفغاني الإصلاحية إلى حركة محافظة قليلة التأثير؟
وصدَّرَت هذه الحلقة الثانية بالآتي:
بدأ أمس د. حسن حنفي، المفكر وأستاذ الفلسفة الإسلامية، دراسته حول الحركة الإسلامية المعاصرة. قال: إنَّه يختار منهجًا يختلف عن السائد في الغرب؛ فهو لا يدرُس من منظور بوليسي، لكنَّه يدرُس، وعلى ضوء الوقائع والنظريات، ما هو حادث في الساحة باستقلال علمي، وإنصاف «مسلم مستنير».
ورغم أنَّ الدراسة، في جزء كبير منها، سوف تعتمد على «حالة مصر»، أو السادات والجماعات الإسلامية، فإنَّه لا مناص من رؤية عامة لهذا التيار، ولا مناص من الرجوع قليلًا للتاريخ لنرى جذور ما يحدث.
وهذا ما يُقدِّمه د. حسن حنفي اليوم. إنَّه يتحدَّث عن الجذور التاريخية، عن الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، وكيف أصبحَت الفترة الذهبية بوصلة الجماعات الإسلامية التي ظهرَت أخيرًا.
وأعلنَت في آخر الحلقة: غدًا يكتب د. حسن حنفي حول ازدهار الحركة الإسلامية المعاصرة «الإخوان المسلمون» ١٩٢٧–١٩٥٢م.
٤  جريدة «الوطن»، الإثنين ٢٢ نوفمبر ١٩٨٢م، ووضَعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية المعاصرة ومستقبلها على ضوء قضية السادات (٣).
• الإخوان المسلمون وازدهار الحركة الإسلامية المعاصرة.
• عشر إيجابيات … وعشر سلبيات في الحركة الإسلامية.
• كيف تحوَّل الدعاة والهداة إلى عصاة للقانون تتعقَّبهم أجهزة الأمن؟ وصدرَت هذه الحلقة الثالثة بالآتي:
• منذ يومَين بدأ الدكتور حسن حنفي دراسته الهامة حول: الحركة الإسلامية المعاصرة، التي يُطلقون عليها في الغرب اسم «الأصولية الإسلامية» كناية عن الفكرة القائلة بالعودة للأصل. شرح د. حسن حنفي منهجه في الدراسة. والحالة التي اختارها هي مصر أو حالة السادات والجماعات الإسلامية، لكنَّه آثر — وهو ما حدث بالأمس — أن يضع مقدمةً تاريخية حول الجذور. وينتقل اليوم لمرحلةٍ ثانيةٍ أسماها مرحلة ازدهار الحركة الإسلامية، وفيها يُركِّز على حركة الإخوان المسلمين ما بين عامَي ١٩٢٧م، و١٩٥١م.
• ووضعَت عناوين فرعية مثل: وطنية وشعبية، الجوانب السلبية.
• ووضعَت الجريدة صورة حسن البنَّا، وجمال الدين الأفغاني، وسيد قطب، والشيخ محمد الغزالي.
• وأعلنَت في نهاية الحلقة: في الحلقة القادمة يُقدِّم د. حسن حنفي الجزء الرابع من دراسته للصراع بين الإخوان المسلمين وثورة يوليو.
٥  جريدة «الوطن» الأربعاء ٢٤ نوفمبر ١٩٨٢م.
ووضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية المعاصرة ومستقبلها على ضوء قضية السادات (٤).
• الإخوان والثورة.
• بداية الخلاف: اختيار ممثل للإخوان في وزارة الثورة؟
• هل هناك علاقة بين حادث المنشية عام ١٩٥٤م، وحادث المنصة عام ١٩٨١م؟
وصدَّرت هذه الحلقة الرابعة بالآتي:
في يوم السبت، بدأ المفكر وأستاذ الفلسفة دكتور حسن حنفي دراسته الهامة حول الحركة الإسلامية المعاصرة ومستقبلها. اتخذ من مصر، وصدام السادات مع التيار الإسلامي، حالة الدراسة، وقال إنَّه لا يُقدِّم دراسةً بوليسية تُعنى بالأشخاص، وإنَّما هي دراسةٌ علمية تُعنى بالأفكار.
ولأنَّ الفكر عمليةٌ متصلة، ولأنَّ الأصولية، أو العودة إلى الأصل، أو السلفية، إلى آخر المرادفات التي يُمكن أن نضعها عنوانًا لهذا التيار، لها تاريخ قديم. بدأَت الدراسة بتناولٍ سريع لهذا التاريخ، وكيف ازدهرَت التيارات الإسلامية مرتَين؛ إبَّان عهد الأفغاني، وفي فترة نشوء «الإخوان المسلمين».
اليوم ينتقل إلى نقطة جديدة، هي العلاقة بين ثورة يوليو والتيار الإسلامي.
ووضعَت الجريدة صورتَي جمال عبد الناصر وسيد قطب.
وأعلنَت في نهاية الحلقة: غدًا، يواصل دكتور حسن حنفي دراسته حول ثورة يوليو والتيار الديني، ويُجيب على السؤال الهام: كيف تحوَّل الصدام إلى وفاق في السبعينيات.
٦  يقول محمد عبد السلام فرج: «منذ قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م، والحركة الإسلامية تُعاني من عداءٍ شديد من قِبل هذه الثورة، ونحن المسلمين قد صبرنا كثيرًا، وثورتنا ليست انتصارًا لأنفسنا، ولكنها تطبيق لأمر الله سبحانه وتعالى» (التحقيقات، ص٢٤٦).
٧  انظر «التراث والتجديد»، موقفنا من التراث القديم، ص٢٠٣–٢١٦، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة ١٩٨٠م. وأيضًا «اليسار الإسلامي»، ص١٣–٣٨، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ١٩٨١م.
٨  سيد قطب، دراسات إسلامية، ص٢٣٧–٢٤٢، دار الشروق، القاهرة، ١٣٩٣ﻫ/١٩٧٣م.
٩  أبو الأعلى المودودي، منهج الانقلاب الإسلامي، دار الفكر العربي، بيروت، بدون تاريخ.
١٠  جاء في التحقيقات الإحالة المستمرة إلى ظروف الإخوان المسلمين إبَّان الثورة، وأنَّ الجماعات الإسلامية الحالية هي ردُّ فعل عليها؛ فينقد محمد عبد السلام فرج، فقيه جماعة الجهاد، أعضاء الجماعة الذين ما زالوا يميلون إلى فكر الإخوان دون الارتفاع إلى مستوى فكر الجهاد. كما يذكر محمد طارق إبراهيم أحد المتهمين أنَّهم يرفضون أن يُقبض عليهم كما قُبض على الإخوان من قبلُ دون مقاومة. كما أنَّ الجماعة الإسلامية بأسيوط كانت تعقد ندوات ومؤتمرات واجتماعات للرد على جماعة التكفير والهجرة وعلى الإخوان المسلمين في آنٍ واحد (التحقيقات ص٣٤٩، ٣٨٠). ولم يتوقف التعذيب حتى الآن؛ إذ تكشف التحقيقات عن الضرب والتعذيب للمتهمين محمد طارق، محمد عبد السلام فرج، علاء الدين، صفوت الأشوح، حسين عباس، صالح جاهين، أسامة محمد وغيرهم (التحقيقات ص١٦٤، ١٧٤، ٣١٥).
١١  وضعَت الجريدة عنوانًا فرعيًّا أول هذه الفِقْرة وهو: الهزيمة والروح الدينية.
١٢  جريدة «الوطن»، الخميس ٢٥ نوفمبر ١٩٨٢م.
ووضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية المعاصرة ومستقبلها على ضوء قضية السادات (٥).
• وكانت النكسة نقطة تحوُّل.
• أضخم مشروع قومي في مصر … تمَّ والإخوان في المعتقلات.
• كان السادات بحاجة إلى شرعية … فلجأ إلى التيار الديني.
• وصدَّرَت هذه الحلقة الخامسة بالآتي:
• ما زال الدكتور حسن حنفي يُواصل بحث العلاقة بين ثورة يوليو والتيار الإسلامي، تحدَّث عن الوفاق بين الثورة والإخوان، ثم الصدام بين الثورة والإخوان، وكيف أصبح كتاب سيد قطب «معالم في الطريق» رد الفعل الممكن والحاد.
• اليوم يواصل قراءته لأحداث مصر والحركة الإسلامية منذ نكسة مصر ١٩٦٧م، ونكستها في السبعينيات على يد القيادة الجديدة، السادات.
• ووضعَت صورة السادات وتحتها: أنور السادات؛ لجأ للتيار الديني بحثًا عن رصيد، وصورة محمد عبد السلام فرج وتحتها: محمد عبد السلام ينتقد فكر الإخوان.
• وأعلنَت في نهاية الحلقة: غدًا، يواصل د. حسن حنفي دراسته، ويجيب على السؤال الهام: كيف استخدم السادات التيار الديني لمواجهة التيار الناصري وتشويه ثورة يوليو؟
١٣  وضعَت الجريدة عنوانًا فرعيًّا أول هذه الفقرة وهو: الإفراج عن الإخوان.
١٤  جريدة «الوطن»، السبت ٢٧ نوفمبر ١٩٨٢م.
ووضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية المعاصرة ومستقبلها على ضوء قضية السادات (٦).
• السلطة استعملَت الدين للمزايدة على الجماعات الإسلامية، وعزل خصومها السياسيين، والحصول على مزيد من الشرعية.
وصدَّرت هذه الحلقة السادسة بالآتي:
يُتابع الدكتور حسن حنفي في هذه الحلقة من الدراسة عرض ورصد تطور العلاقة بين الجماعات الإسلامية والسلطة السياسية في مصر بعد سلسلة التنازلات التي قدَّمتها السلطة على صعيد القضية الوطنية، وبعد أن أدَّت الجماعة الإسلامية الدور الذي رسمته لها السلطة، وانتقال تلك الجماعات إلى موقع تحدِّي السلطة، كما يُلقي الباحث الضوء على استخدام السلطة للدين الإسلامي لتحقيق أهداف ذاتية، ويُركِّز على المضمون الاجتماعي لانتفاضة ١٨، ١٩ يناير، التي أشعلَتها جماهير الشارع المصري، وكانت نقطة تحوُّل توجَّهت السلطة على أثرها لتوجيه ضربتها للقوى الوطنية.
ووضعَت أسفلها في برواز هتافات يناير.
وأعلنَت في نهاية الحلقة: يُتبع غدًا.
١٥  هتافات يناير.
يُمكن معرفة دوافع انتفاضة يناير بتحليل هتافاتها مثل:
• مش كفاية لبسنا الخيش، جايين ياخدوا رغيف العيش.
• يا حكومة الوسط وهز الوسط، كيلو اللحمة بقى بالقسط.
• يا حرامية الانفتاح، الشعب جعان موش مرتاح.
• يشربوا ويسكي وياكلوا فراخ، والشعب من الجوع أهو داخ.
• الصهيوني فوق ترابي، والمباحث على بابي.
• يا أمريكا لمي فلوسك، بكره الشعب العربي يدوسك.
• احنا الطلبة مع العمَّال، ضد تحالف رأس المال.
• عبد الناصر ياما قال، خلو بالكو من العمَّال.
• بالطول بالعرض، حنجيب ممدوح الأرض.
• سيد مرعي يبقى مين، يبقى حرامي الفلَّاحين.
• لِم كلابك يا ممدوح، دم إخوانَّا مش هيروح.
• يا أهالينا يا أهالينا، آدي مطالبنا وآدي أمانينا.
• أول مطلب يا شباب، حق تعدد الأحزاب.
• ثاني مطلب يا جماهير، حق النشر والتعبير.
• ثالث مطلب يا أحرار، ربط الأجر بالأسعار.
• يا حاكمنا من عابدين، باسم الحق وباسم الدين، فين الحق وفين الدين؟
• هوه بيلبس آخر موضة، واحنا بنسكن عشرة في أوضة.
• يا حاكمنا بالمباحث، كل الشعب بظلمك حاسس.
• قولوا للنايم في عابدين، العمال بيباتوا جعانين.
١٦  جريدة «الوطن»، الأحد ٢٨ نوفمبر ١٩٨٢م.
ووضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية المعاصرة ومستقبلها على ضوء قضية السادات.
• سنوات الصدام بين الجماعات الإسلامية ونظام السادات (٧).
• استخدمَت السلطة سلاح التكفير … فأعادت الجماعات الإسلامية استخدامه ضدها.
• بعد كامب دافيد انتقلَت التيارات الإسلامية لمعسكر المعارضة المُعلن.
• حقيقة الفتنة الطائفية … وحقيقة التحالف بين الجماعات الإسلامية والتيارات السياسية الأخرى.
• قبل الاغتيال: تحذير من إسرائيل، وآخر من أمريكا، وثالث من أجهزة الأمن … للسادات.
وصدَّرت هذه الحلقة السابقة بالآتي:
يواصل الدكتور حسن حنفي دراسته الهامة حول الحركة الإسلامية المُعاصرة. على ضوء التحقيقات التي أُجريت حول مقتل السادات يستكمل الدراسة، ويستعرض الأقوال، وينتهي لتشخيص كامل لفترة الصدام التي بدأَت عام ١٩٧٨م، وانتهت باغتيال الرئيس السادات عام ١٩٨١م. ماذا يقول؟
ووضعَت عناوين فرعية مثل: سقطوا في الكمين، بذور الطائفية، خطباء المساجد أيضًا.
ووضعت صورة للسادات وتحتها: السادات نافق التيار الديني لكن ذلك لم يمنع من الصدام. وصورة لجيهان السادات وتحتها: جيهان السادات كانت وراء قانون الأحوال الشخصية. وصورة لحلمي مراد وتحتها: حلمي مراد، لقاء بين اليسار وبين التيار الديني. وصورة لعمر التلمساني وتحتها: عمر التلمساني، الدعوة دخلَت الصدام. وصورة للشيخ المحلاوي وتحتها: الشيخ المحلاوي، المساجد أصبحَت ضد السادات.
وأعلنَت في نهاية الحلقة: غدًا يُتابع د. حسن حنفي دراسته: الانفجار، أكتوبر ١٩٨١م.
١٧  جريدة «الوطن»، الإثنين ٢٩ نوفمبر ١٩٨٢م، ووضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية المعاصرة ومستقبلها على ضوء قضية السادات (٨).
• الانفجار الكبير … أكتوبر ١٩٨١م.
• أسباب حل دم السادات والخطبة التي دقَّت آخر مسمار في نعشه.
• الإسلامبولي ورفاقه كانوا الأداة المنفذة لإرادة شعبية عامة هي روح مصر.
ووضعَت ثلاث صور لخالد الإسلامبولي، والسادات، وحسين عباس وأعلنَت في نهاية الحلقة: الأربعاء، يواصل د. حسن حنفي دراسته «جماعة الجهاد، فكرًا وعقيدة».
١٨  جريدة «الوطن»، الأربعاء ١ ديسمبر ١٩٨٢م، ووضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الجماعة الإسلامية ومستقبلها على ضوء قضية السادات (٩).
• جماعة الجهاد، فكر وعقيدة.
• آية السيف ناسخة لآية الدعوة.
ووضعَت نصًّا من أقوال التحقيقات ونقلَته من الهامش إلى صلب الدراسة. وأعلنَت في نهاية الحلقة: الحلقة القادمة، جماعة الجهاد، طريقًا وممارسة.
١٩  جريدة «الوطن»، السبت ٤ ديسمبر ١٩٨٢م، ووضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية ومستقبلها على ضوء قضية السادات (١٠).
• جماعة الجهاد، طريقًا وممارسة.
• هل كان اغتيال السادات انتقامًا من ثورة يوليو؟
• الاغتيال لم يكن هدفًا بل مقدمة لثورة شعبية على الطريقة الإيرانية.
ووضعَت صورة لاغتيال السادات في المنصة، وثلاث صور لعبُّود الزمر، وخالد الإسلامبولي، ود. عمر عبد الرحمن.
وأعلنَت في نهاية الحلقة: غدًا، يواصل د. حنفي مناقشة جماعة الجهاد، طريقًا وممارسة.
٢٠  جريدة «الوطن»، الأحد ٥ ديسمبر ١٩٨٢م، وقبل هذه العبارة وضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية ومستقبلها على ضوء قضية السادات (١١).
• جماعة الجهاد بين الفكر والممارسة.
• هل ينطفئ الحماس العقائدي بمجرد تحويله إلى فعل؟
ووضعَت ثلاث صور للدكتور عمر عبد الرحمن، ولمحمد عبد السلام فرج، ولعبود الزمر.
وأعلنَت في نهاية الحلقة: يُتبع غدًا.
٢١  جريدة «الوطن»، الإثنين ٦ ديسمبر ١٩٨٢م.
ووضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية مستقبلها على ضوء قضية السادات (١٢).
• الفريضة الغائبة وجدل التاريخ.
• أوجه التشابه بين تتار الأمس وحُكَّام اليوم.
ووضعَت ثلاث صور لحسن البنَّا، وسيد قطب، ومحمد عبد السلام فرج.
وأعلنَت في نهاية الحلقة: الحلقة القادمة، د. حسن حنفي يواصل مناقشة الفريضة الغائبة.
٢٢  جريدة «الوطن»، الأربعاء ٨ ديسمبر ١٩٨٢م.
وقبل هذه الفِقرة وضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية ومستقبلها في ضوء قضية السادات (١٣).
• الفريضة الغائبة وجدل التاريخ.
• الرد على شبهات المعاصرين الداعية لتأجيل الجهاد.
وأعلنَت في نهاية الحلقة: الحلقة القادمة، الأصولية الإسلامية وحاضر مصر.
٢٣  جريدة «الوطن»، السبت ١١ ديسمبر ١٩٨٢م. ووضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية ومستقبلها على ضوء قضية السادات (١٤).
• كيف فرضت الأصولية نفسها على الحاضر.
ووضعَت عنوانًا فرعيًّا: الأصولية الإسلامية وحاضر مصر.
ووضعَت ثلاث صور لخالد الإسلامبولي، والسادات، وعبُّود الزمر.
وأعلنَت في نهاية الحلقة: غدًا الحلقة الأخيرة: الأصولية الإسلامية ومستقبل مصر.
٢٤  جريدة «الوطن»، الأحد ١٢ ديسمبر ١٩٨٢م. ووضعَت الجريدة المانشتات الآتية:
• الحركة الإسلامية ومستقبلها على ضوء قضية السادات (١٥).
• الأصولية الإسلامية ومستقبل مصر.
• الخشية كل الخشية أن يقع تصادم جديد بين الناصرية والإخوان. ووضعَت الصورة الشهيرة لاغتيال السادات في المنصة.
وأعلنَت في نهاية الحلقة: انتهت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥