محاولةٌ مبدئية لسيرةٍ ذاتية١
هذه المقدمات النظرية العامة عن «التراث والتجديد» تُمثِّل مجرد مقدمة لمشروعٍ متكامل لإعادة بناء تراثنا القديم طبقًا لاحتياجات العصر ولمطالب جماهير الأمة. وهي رسالة جيلنا الذي يُحاول نقل مجتمعنا من مرحلة إلى مرحلة، من مرحلة الإصلاح الديني الذي بدأناه منذ القرن الماضي ابتداءً من الأفغاني والكواكبي، حتَّى إقبال والمودودي وسيد قطب، إلى مرحلة النهضة الشاملة التي بدأناها أيضًا في القرن الماضي، منذ الطهطاوي حتَّى لطفي السيد وطه حسين. مهمة «التراث والتجديد» تطوير الإصلاح الديني ودفعه خطواتٍ أخرى، وجعله أكثر جرأة على الواقع خاصة بعد أن خبا شيئًا فشيئًا على يد محمد عبده ثم رشيد رضا، وارتفاعه إلى حدٍّ ما من جديد على يد حسن البنَّا وسيد قطب. وتظهر هذه الجرأة ليس فقط في الناحية العملية من مواجهة الاستعمار والصهيونية والرأسمالية والرجعية، ولكن أيضًا في الناحية النظرية، فيما يتعلَّق بالعقائد التي تُمد الناس بتصوُّراتهم للعالم وبموجِّهاتهم للسلوك. كما تظهر أيضًا ليس فقط من ناحية التشريع وتطوير قانون الأحوال الشخصية، ولكن أيضًا من ناحية العقيدة، وتحويل عقائد الإيمان التي ورثناها منذ أكثر من ألف عام على يد الأشعرية، وازدواجها بالتصوف، إلى أيديولوجيةٍ ثورية لمجتمعاتنا الحالية، بعد فشل مناهج التحديث العلمانية منذ فجر نهضتنا الحديثة، وأن تمتد جرأتنا في العقيدة ليس فقط في العدل وإعلان استقلال الوعي الإنساني فكرًا وإرادة، وإثبات العقل والحرية كما الحال عند محمد عبده، ولكن أيضًا في التوحيد، والانتقال من التشبيه إلى التنزيه، ومن الله المشخص إلى الله المبدأ العقلي الشامل الذي تتوحَّد أمامه قوى الإنسان الفكرية والقولية والوجدانية والعملية، والذي تتوحَّد أمامه طبقات الأمة، والذي تتوحَّد أمامه جميع الشعوب والأجناس.
(١) بداية الوعي الوطني (١٩٤٨–١٩٥١م)
كنَّا ونحن صغار أثناء الحرب العالمية الثانية، وهي في أواخرها، نفرح برؤية الكشافات وهي تتحرك في السماء المظلمة، وكنَّا نسمع دويَّ المدافع ونحن في المخابئ. وكنتُ في الصيف وأنا في المرحلة الابتدائية أُغادر مع الأسرة إلى بني سويف حمايةً من غارات القاهرة، ولكنَّنا كنَّا معجبين بالمحور، وبشجاعة الطيارين الألمان. وكنَّا على يقين بأنَّ الألمان لا يريدون شرًّا بمصر، ولا يبغون أذى الشعب المصري، ولا يحاربون إلَّا الإنجليز، ولا يدكُّون إلَّا معسكراتهم. وكنَّا أعداء الإنجليز، نبغي التحرُّر منهم، فكان الألمان أصدقاءنا لأنهم أعداء أعدائنا، ولم نكن نعرف شيئًا عن النازية، ولم نقرأ «كفاحي». وكانت صدمةً لنا في النهاية عندما هُزم الألمان، وانتصر الحلفاء، بعد أن أُعجبنا بشجاعة الجندي الألماني، وبقوة السلاح الألماني، وكان روميل بالنسبة لنا بطلًا أسطوريًّا. وربما ظلَّ هذا الإعجاب حتَّى الآن، بالنظام والعسكرية والقوة والصناعة الألمانية بعد أن تعمَّق في سنوات الجامعة، وأصبح إعجابًا بالروح الألمانية، والمثالية الألمانية وبالتوحيد بين الروح والطبيعة. تعلَّمتُ اللغة الألمانية بالجامعة، وأُعجبت بالفتاة الألمانية في فرنسا، وكان أول مقال كتبتُه وأنا في الجامعة عن «الخصائص المشتركة بين الروح العربية والروح الألمانية»؛ فكلاهما دعوة للمثال، والطبيعة، والقوة، والعقل، والدولة، والنظام. وكنتُ أعزو هذه «الألمانية» في نفسي إلى «أمي الألمانية» زعمًا. وقد ظلَّ ذلك حتى الآن، فأصبحتُ «فينومينولوجيًّا» حيث اكتملَت المثالية الألمانية، وأصبح «فشته» فيلسوف الأرض المحتلة، وفيلسوف المقاومة، وفيلسوف البعث القومي، مثلي الأعلى، وأصبح اليسار الهيجلي بعد الكانطيين الجدد بالنسبة لي يُمثِّل المرحلة الحالية التي تعيشها الأمة العربية، والتي يعيشها تراثنا القديم؛ أي الانتقال من الدين إلى الفلسفة على يد هيجل، ثم الانتقال من الفلسفة إلى الطبيعة على يد فيورباخ، وإنقاذ ألمانيا وتوحيد دويلاتها عن طريق «الأيديولوجية الألمانية».
وكنَّا نذهب ونحن في المدارس الابتدائية لميدان عابدين لإطلاق أناشيد «للمليك اهتفوا» في عيد الجلوس الملكي أو عيد الميلاد الملكي. وكان صوت المجموعة في فِناء مدرسة «السلحدار» الأثري هو الذي يُثير نفسي، ولكن لم نفهم ماذا يعني الولاء للملك، ولكنها كانت رحلة يتشوَّق إليها الصغار عبْر القاهرة المُعزِّية إلى ميدان عابدين.
وكانت البداية الحقيقية للوعي الوطني أثناء حرب فلسطين في ١٩٤٨م؛ فقد ذهبنا ونحن في المدارس الثانوية إلى جمعية الشبان المسلمين، وقد كانت أحد مراكز التطوع، لتسجيل أسمائنا كمتطوعين للحرب، ولكنَّهم طلبوا منَّا التوجُّه إلى كتائب أحمد حسين! وانزعجتُ يومها. أليست القضية واحدة؟ أليس الجهاد واحدًا؟ وهل التطوع يتم لحساب فلان أو علان؟ وبدأتُ أشعر أنَّ الخلافات الحزبية كانت لها الأولوية على القضايا الوطنية. وما زالت حتى الآن قضية الوحدة الوطنية بين اتجاهات الأمة المختلفة، والاتفاق على الحد الأدنى من البرامج الوطنية فيما بينها شُغلي الدائم. وكنتُ أرى الأفلام التسجيلية عن جيشنا في فلسطين، والأفلام السينمائية عن معارك البطولة والاستشهاد. وكنَّا نسمع عن أبطال الفالوجة والضبع الأسود عائدين، وكان عزيز المصري بالنسبة لنا بطلًا قوميًّا مثل أحمد عبد العزيز. وكانت الأغاني الوطنية لفلسطين تهزُّ كياني. وحتى الآن وعلم فلسطين لا يبرح مكتبي، والأرض تحوَّلَت بالنسبة لي إلى إلهٍ جديد، ومن حينها بدت لديَّ أفكار «لاهوت الأرض» قبل أن أسمع عن دين الثورة، أو عن «لاهوت الأرض»، فيما بعدُ أثناء إقامتي بالولايات المتحدة الأمريكية. لم نفهم جيدًا الأحاديث عن الأسلحة الفاسدة؛ فلم نكن نتصوَّر ونحن صغار أن يبلغ الأمر بالمسئولين التجارة بدماء الشهداء، وخيانة القضية الوطنية إلى هذا الحد. لم نعِ جيدًا حدَّ الخيانة، والهدنة الأولى والثانية. ولم ندرك أنَّنا هُزمنا في فلسطين؛ فمدفعيتنا وطيراننا دكَّا المستعمرات اليهودية. كل ذلك طغى على الواقع الذي أدركناه الآن، ولما كان باستطاعة إسرائيل المزعومة أو عصابات الأرجون وشترن أن تهزم جيش مصر.
وكنَّا ونحن في المدارس الثانوية، في مدرسة «خليل أغا» نفرح بالمظاهرات. ويقرأ زعماء الطلبة في الصباح الباكر جرائد اليوم للعثور على سبب للمظاهرات قبل أن تبدأ طوابير الصباح في الثامنة. وما أسهل إيجاد الأسباب! تغيير الديوان الملكي، تعيين حافظ عفيفي، إقالة الوزارة الوفدية، تعيين السعديين، فإن لم يتم العثور على الأسباب اليومية ظهرَت الأسباب الدائمة: إلغاء معاهدة ١٩٣٦م، انسحاب جيوش الاحتلال، وحدة وادي النيل، الاستقلال التام أو الموت الزؤام. لم تكن هناك هتافاتٌ ضد الملك، ولكنَّنا كنَّا نسمع أنَّ طلاب الجامعة لا يتورَّعون عن القيام بها. وكنا نخرج ثمَّ نذهب بعدها إلى مدرسة «فاروق» ثمَّ إلى مدرسة «فؤاد». ونذهب إلى الجامعة لمشاركة طلبة الجامعة. وكنتُ قد تعوَّدتُ على ذلك من قبلُ ونحن في المرحلة الابتدائية خاصة في ١٩٤٧م. وكنَّا نهتف «عاش الطلبة مع العُمَّال» وذلك أثناء تكوين «لجنة العُمَّال والطلبة» في الجامعة. ولم نكن نعلم بالواقعة؛ فكنَّا صغارًا لا نعرف أين الجامعة، كما عرفناها بعد ذلك في المرحلة الثانوية. وكنَّا فخورين أنَّنا نخرج بأنفسنا، ونُخرِج المدارس، ولا تأتي المدارس لتُخرِجنا؛ فكانت لمدرستنا الزعامة باستثناء مرات قليلة كانت بعض المدارس الابتدائية مثل الجمَّالية أو الخرنفش أو باب الشعرية تأتي لمدرسة السلحدار. ومرةً رأيتُ صبيًّا محمولًا على الأعناق يُطالب الناظر بخروج مدرسة السلحدار ومعه مئات الصبية. وما إن انطلق الطوب من فوق الأسوار حتى استسلم الناظر. ويومها فرحتُ بانتصار التلاميذ على الإدارة. وحتَّى الآن وهمِّي تحريك الشعوب، وفرض إرادتها على الحكام. كنَّا نسمع بعد ذلك القنابل، ومذابح كوبري عباس، والشهيد الحي، ولكنَّنا لم نشاهد ذلك بأعيننا، ولكنَّها كانت مرحلةً ما زلنا نعتز بها حتى الآن. وأنا أمرُّ على مدرسة السلحدار ومدرسة خليل أغا وأراهم صبيةً في قبضة موظفين فأنعَى حظهم وأتحسَّر على مصر.
وكانت القيادة لمظاهرات المدارس إمَّا للشيوعيين أو للإخوان أو للوفديين. كانت القيادة الشيوعية قادرة ومؤثِّرة، ولكنَّها كانت تظهر إذا ما غابت القيادات الأخرى. وكانت قيادة الإخوان في الخطابة داخل المدرسة، ولكنَّها كانت تنزوي خارج المدرسة في الطريق العام، وتظهر من جديد في آخر المطاف في مسجد للصلاة على الشهداء أو في الجامعة. أمَّا القيادة الوفدية فقد كانت هي العنصر المُحرِّك والدائم. تلقى التأييد من كل الطلاب، وتُسيطر على المظاهرات داخل المدرسة وخارجها. وكنَّا جميعًا من الوفد دون الانتساب إليه؛ فقد كنَّا جميعًا من الوطنيين. وكنَّا نُشارك في انتخابات ١٩٥١م للوفد، وكنَّا نفرح بشد اليد على مصطفى موسى. وما زلت أذكُر يده الرخوة الضخمة وهي في يدي وهو يُقْبِل عليَّ في الطريق للشد على يدي في باب الشعرية. وكنَّا نُخوِّن سيد جلال وجميع مرشَّحي السعديين وجميع الطلبة السعديين الذين يَدْعون له. كنَّا نسمع عن فساد الأحزاب، وكنَّا نسمع لهجوم السعديين ومكرم عبيد على النحَّاس، ومع ذلك فقد كان النحَّاس بالنسبة للجميع بطلًا قوميًّا، تحرسه العناية الإلهية كما قال مدرس اللغة الإنجليزية في مدرسة خليل أغا، والذي كان يدق جرس البيت ثلاث مرات أي «عاش النحَّاس باشا»! وما زلتُ أذكُر المظاهرة الضخمة لاستقباله وهو عائد من باريس مدينة النور. ذهبنا إلى الإسكندرية. وكانت أول مرة أراها وأرى بحرها المرتفع تدريجيًّا حتى يختلط بالأفق. وعُدنا نفس اليوم بجاردن سيتي وهو يخطب في الجموع غاضب من كثرة الاستقبالات قائلًا: «لا مرحبًا بكم، انصرفوا إلى بيوتكم.» والحقيقة لم يكن استقبال الزعماء يُمثِّل عُمقًا وطنيًّا، ولكن عزائي كان في مظاهرة شعبية باسم الوفد.
ثمَّ ازدادت حدَّة الوعي الوطني أثناء معارك الفدائيين في القنال في ١٩٥١م. وكنتُ في السنة الرابعة بمدرسة خليل أغا الثانوية، وكنتُ بفريق الجوَّالة. وكان المتطوعون من الوفديين والإخوان يتدرَّبون على إطلاق النار بكلية الهندسة بالعباسية. وكنَّا نُودِّع الرفاق في المدرسة وهم ذاهبون إلى الجبهة. وكان اللباس الأصفر ونحن في السادسة عشرة يُعطينا الإحساس بالرجولة. وكنَّا نستقبل الشهداء، ونسير بهم من العباسية حتى جامع الكخية بميدان الأوبرا، ونسير أمام النعوش محمولة على الأعناق، ونساء مصر المتلفِّحات بالملاءات السوداء على الصفَّين يباركن شباب مصر، ويدعون لصغار السن، ونحن نسير بخطوة الجنازة. وكنَّا نسمع الزغاريد على قارعتَي الطريق، والخطب الحماسية من رفاق الشهداء أمام باب الجامع. وكانت رابطات العنق الحمراء، لون الجهاد والدماء، ولون الفرح والشهادة في أعناق الرفاق؛ ففيم الحزن والسواد والموعد في الجنة واللقاء عند الله؟ وكنَّا نشعر والعِصِي الطويلة في أيدينا أنَّنا حماة مصر وجندها الأبرار. ولم تكن الحكومة أو الدولة تدور بخلدنا أو تخطر على بالنا؛ فقد كانت معركة الطلاب وحرب الفدائيين وسط التأييد الهائل للشعب.
وسمعنا حينذاك عن معركة نقطة البوليس مع الجيش الإنجليزي في الإسماعيلية، وعن نداء وزير الداخلية المشهور «إلى آخر رجل وإلى آخر رصاصة». ثمَّ سمعنا عن دك نقطة البوليس، واستشهاد حوالي مائة شرطي ببنادقهم دون الاستسلام، وطنية وثبات دون تجنيدٍ فعلي لكل القوى، مسيحية دون إسلام، وشعارات تُلهِب مشاعر الوطنيين ولكن ينقصها المضمون المادي، ونضال الجميع.
ثمَّ اندلع حريق القاهرة في يناير ١٩٥٢م، وشعرتُ بقمة المأساة؛ القاهرة تحترق، ونزول الجيش إلى الشوارع، ونهب المحال التجارية، وإقالة الوزارة الوفدية، ونهاية الفورة الوطنية، وكان حديث الأحزاب وفسادها، والملك ولياليه الحمراء، والإنجليز واستعمارهم لمصر، ومعسكرات قصر النيل بطوبها الأحمر، وميدان قصر الدوبارة، ولكن وعينا السياسي لم يكن قد برز بعدُ. رأيتُ كثيرًا من اللصوص يُقبض عليهم حيث كنتُ أقطن بباب الشعرية. ولم أفهم لماذا كل ذلك، وكأنَّ الوطنية المجردة موضوع مُتشابك الأطراف، وكأنَّ براءة الصبا لا توجد إلَّا مُغلَّفة بمؤامرات الليل، وكأنَّ الطهارة العذرية ما أسهل الفتك بها من قوًى مجهولة كنَّا نجهلها في حداثة العهد. كان هناك حديثٌ عام عن الفساد في البلاد؛ الرشوة، والأحزاب، والملك، والإنجليز، والإقطاع، والاستعمار. وكنَّا دون رؤيةٍ مستقبلية في هذه السن، وكان التغير الاجتماعي أمامنا مسدودًا بالرغم من مظاهر الفساد العام الذي يشهده الجميع.
وفجأة وبلا مقدمات ونحن نستعد لامتحان مسابقة التوجيهية في الفلسفة في ظهر ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، رأينا الدبابات في الشوارع، والناس في دهشة وحَيْرة، تُعطي الجنود المرطبات وتُلقي عليهم فروع الأشجار. وعرفنا أنَّها حركة الجيش، الحركة المُباركة لتطهير البلاد من الفساد. وكان صوت جلال معوَّض وهو يعلن قيام الجيش بحركة مفاجئة يهز مشاعرنا. وفي صبيحة اليوم التالي قرأنا أخبار الانقلاب، وسمعنا البيانات الأولى والثانية. وفي ٢٦ يوليو، غادر الملك في الساعة السادسة مساءً، وتنازل عن العرش. كانت يقظةً داخلية في نفوسنا؛ فما كنَّا نتحدَّث فيه من فساد وملكية قد انتهى إلى غير رجعة؛ فقد تحقَّقت أحلام صبانا. وكانت أيامًا لا نمل فيها من إعادة سماع البيانات العسكرية عشرات المرات، وكانت شعارات الثورة: «الاتحاد والنظام والعمل». «ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد» تُثير فينا الحماس والعزة والكرامة الوطنية. ورأيتُ محمد نجيب في حديقة قصر عابدين وحوله الجنود وحولهم الشعب؛ فقد تحوَّلَت حدائق القصر إلى ساحات شعبية. وسمعنا عن هيئة التحرير ورأينا لأول وهلة مأساتها، وإسراع كل الوصوليين إليها. وأردنا أن نرى مصر، وريف مصر، والإصلاح الزراعي، فسرنا من القاهرة إلى الإسكندرية سيرًا على الأقدام، وبتنا في شُقق هيئة التحرير المغلقة المهجورة، ونمنا في شرفة البورصة في ميدان المنشية، وكنَّا سعداء بامتلاك الشعب زمام الأمر. وحتَّى الآن، والثورة المصرية عالقة بذهني، ومسارها موضوعُ فكري؛ فعليها كانت بدايات وعيي الوطني، وفيها كان اكتماله.
(٢) بداية الوعي الديني (١٩٥٢–١٩٥٦م)
بالرغم من نشأتي في القاهرة المعزِّية بجوار سور صلاح الدين، وبالرغم من قيامي بالشعائر تقليدًا للأسرة أو فرحًا بزهو الصبية الصغار بشهر رمضان، وبصلاة التراويح، وببطولة الصائم، وبخنوع الفاطر، فقد بدأ الوعي الديني على يد «الإخوان المسلمين»؛ فقد تعرَّفت على بعضهم ونحن في الثانوية. وكنتُ قد سمعتُ من أحدهم في التوجيهية عبارة حسن البنَّا واصفًا إياهم بأنَّهم «فرسان بالنهار ورهبان بالليل»، ولكن إحساسي بالعالم في ذلك الوقت وبالثورة وبالتغير الاجتماعي منعَني من أن تُثير الدعوة فيَّ شيئًا، خاصة وأنَّ من تعرَّفتُ عليهم في ذلك الوقت لم يكن وعيهم السياسي واضحًا، وأنا لا أريد جماعة بل أريد الوطن كله.
وفي هذا الصيف، صيف ١٩٥٢م، وقت اندلاع الثورة المصرية دخلتُ جماعة «الإخوان المسلمين». وكانت في البداية مجرد زيارة عابرة مع بعض الأصدقاء لشعبة باب الشعرية، وربما ذهبتُ بأقدامي مع بعض الأصدقاء باحثًا عنهم، وسرعان ما ضمَّني الإخوان إلى أسرة. وهناك بدأَت التعاليم والتوجيهات تتصارع مع إحساسي بالحياة وبالطبيعة، ولكنِّي كنتُ طيعًا أجد في تنفيذ الإرشادات خيرًا. ولمَّا كنتُ أبغي التحديث، كانت أول محاضرة لي أو تعليق على محاضرة عن «الإخوان المسلمين والعصر الحديث». وطالبتُ بتغيير شعار المصحف والسيفَين إلى المصحف والمدفعَين. وكنتُ أخشى الحديث في البداية من وقوع الأنظار عليَّ، ولكن جرأة الموقف جعلَتني أندفع فيه. وكانت سُمعتي الفنية قد وصلَت الشعبة، فأخذ الإخوان عزفي على الكمان كدليلٍ على أنَّ من بين الإخوان يوجد بعض المحدَثين. وكنتُ أتباسط مع أحدهم وأسأله: هل الموسيقى حرام؟ وكان رده: إنْ كانت تُلهي عن الصلاة فهي حرام. وكنت أتساءل: وهل يكون الفن لهوًا؟ وهل الفن يتعارض مع الدين؟ وهل يُحرِّم الدين الفن؟ أليس الإحساس بالجمال هو إحساس فنِّي؟ وماذا عن القرآن ككتاب فني.
وكنتُ أصلي في رمضان الفجر حاضرًا معهم. وكانت برودة الصباح مماثلة ليقظة الشعور الديني، وعمق الإيمان. وكانت حلاوة صلاة الفجر لا تُعادلها حلاوة في صحبة الإخوان. ودخلتُ الجامعة وأنا إخواني، أُشارك معهم في انتخابات الاتحاد. وكنتُ نظرًا لتحرري لا أرى حرجًا في الحديث مع الطالبات، فجعلني الإخوان رسولًا إليهن بغية أصواتهن. وكانوا يتساءلون أحيانًا عن صدق انتسابي إليهم وأنا على هذه الدرجة من التحرُّر أو الفساد في رأيهم، خاصة وأنَّني لم أجد حرجًا في الجلوس بجانب الطالبات والحديث معهن، وهم كانوا يُركِّزون على فصل الطلبة عن الطالبات حتى الآن، ولم يكن الحجاب قد ظهر بعدُ كما هو الحال الآن. وكان نصرًا أن ينجح مرشَّحو الإخوان في انتخابات الاتحاد بما يتجاوز ٩٠٪ من عدد المرشَّحين في كل اتحادات الكليات وفي الاتحاد العام. لم يكن ينافسهم إلَّا الشيوعيون. كنتُ أعي تمامًا هتافات «الله أكبر ولله الحمد» ولكنِّي لم أكن أعي تمامًا هتافات «تحيا مصر» أو «انتصر الشعب». كنتُ أرى الشيوعيين ضالين فاسقين، غرباء خارجين، أصحاب هوًى، بعيدين عن الحق، لا أخلاقيين، تعاونوا مع أحد الفرَّاشين الذي يُساعد في طباعة أسئلة الامتحانات على تسريبها.
وكنتُ مع الإخوان في الجامعة نجلس تحت الساعة نتذاكر، ندرس ونحفظ، ويمُر علينا بعض زعماء الإخوان يُقرِئوننا السلام، والقلوب تتهاوى، والهدف المشترك نصب الأعين. وفي الجامعة كان يأتي محمد نجيب. وفي القاعة الكبرى كان يتحدَّث عن الوحدة الإسلامية، وكانت أصوات التأييد تخرج من القلوب إلى الحناجر، ونحن نشعر أنَّ الوحدة الإسلامية أصبحَت قاب قوسَين أو أدنى، ولكن في الشرفة العليا وعلى اليسار كان الشيوعيون يصيحون: الدستور، الدستور. وكان إحساسي أنَّهم خارج تيار الأمة. وماذا يعني الدستور بجوار الوحدة الإسلامية؟ وكأنَّهم كانوا يريدون وقف مسيرة الأمة الإسلامية. وكان هناك ضابطٌ صغير، مُقوَّس الأنف، واقفًا أمام المنصة مربعًا يديه على صدره، لا يتكلم، ولكن الكل يقول: سيكون لهذا الضابط الصغير شأنٌ يومًا ما. وفي المساء، كل يوم ثلاثاء، كنتُ أذهب إلى المركز العام بالحلمية الذي ذهبتُ إليه أخيرًا وكان قد تحوَّل إلى قسم «الدرب الأحمر». وفي البدروم وجدتُ مساجين بدلًا من طلبة مصر أيام المركز العام. لم أستمع إلى حسن البنَّا ولكنِّي استمعتُ إلى سيد قطب، وعبد القادر عودة، وسعيد رمضان، وعلال الفاسي، وحسن العشماوي، وعبد الحكيم عابدين، وغيرهم من أقطاب الإخوان. وعلى المدخل كانت قراءاتي لرسائل حسن البنَّا وأبي الأعلى المودودي وسيد قطب. وكنتُ أشعر بالوحدة العربية مع الطلبة العرب، والوحدة الإسلامية مع الطلبة المسلمين. وكان في نيتي العمل بقسم الطلاب، أو مع إخوان غزة من أجل فلسطين. وكنتُ أذهب مع الإخوان في رحلاتهم. وأذكُر رحلة المرج حيث ذهبنا بالمئات، وكنتُ أشعر بالأمة الإسلامية المُصغَّرة، وبالجدية في اللعب، وبالمشاركة في الطعام، وبالتنافس على الخير، وببداية الترقب والتوجس والخيفة من الثورة.
ثم حدثَت أزمة مارس ١٩٥٤م، وأنا بالسنة الثالثة في الجامعة. ورأيتُ نواب صفوي، زعيم الجماعة الإسلامية بإيران، محمولًا على الأعناق بعمته الخضراء، وقفطانه الأسود. واحترقَت العربة في فِناء الجامعة، واندلَعت النيران. وخرجَت المظاهرة تأييدًا لنجيب وللديمقراطية ولعودة الجيش إلى الثكنات. ودوَّى إطلاق الرصاص على كوبري قصر النيل بأمرٍ من ناصر وزير الداخلية آنذاك. وذهبَت بقية المظاهرة إلى ميدان عابدين. وسمعنا عبد القادر عودة بجوار محمد نجيب وهو يأمر الإخوان بالانصراف.
ولمَّا وقعَت معاهدة الجلاء في ١٩٥٤م، كنتُ أُوزِّع انتقادات الإخوان لها. وكنتُ أتساءل كيف للثورة أن تعقد هذه المعاهدة التي تسمح للقوات البريطانية بالعودة إلى قناة السويس، واستخدام مطارات مصر ومنشآتها في حالة الحرب؟ كان ما قبلَته الثورة أقل بكثير من البرامج الوطنية لجميع الأحزاب في ذلك الوقت؛ لذلك كانت فرحتنا بتأميم قناة السويس في ١٩٥٦م. حدثَت بعدها المصالحة الوطنية، وظهرَت الثورة المصرية رائدةً للثورات الوطنية في العالم الثالث، وظهر ناصر بطلًا قوميًّا لكل حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا.
ثمَّ كان حادث المنشية، وبدأَت الاعتقالات، وكنَّا نزور الإخوة في معسكرات البوليس الحربي. ثمَّ أصبحَت الدعوة سرية بعد أن تمَّ حل الجماعة. واقتصر نشاطي على جمع التبرعات لأُسر المعتقلين. لم يكن لي أي نشاطٍ سري؛ فقد كان ذلك ضد طبيعتي. كنتُ أُعلن بلساني ما أشعر به في قلبي. وكان هناك ضابطان للحرس بالكلية يقومان بلعبة الصديق والعدو، واحد يقوم بدور الصديق، مبتسم ومنفتح على الطلاب، يأخذ منهم المعلومات ويُحذرهم من زميله، والآخر يقوم بدور العدو، مُكفهِر الوجه، غامض السلوك، ينظر من نوافذ المدرَّجات.
وفي الجامعة كانت بداية أزمتي مع الفلسفة الإسلامية. كنتُ أقرأ خارج الجامعة حسن البنَّا، وسيد قطب، وأبي الحسن الندوي، ومحمد الغزالي، ومعظم المفكِّرين المسلمين المعاصرين فأحسُّ بشيء في نفسي، وأجد نهضة الإسلام والمسلمين، وأشعر بوجودي، وحياتي، وواقعي، وأمتي، ووطني، ومستقبلي، ومشروعي. ثمَّ أسمع في مدرجات الجامعة العقول العشرة، والعقل الفعَّال والمتفعِّل، والذات والصفات، وطبيعيات ابن سينا، فلا أجد فيها شيئًا، وأشعُر بغربة عن هذا التراث وكأنَّه ليس تراثًا إسلاميًّا. كان قلبي مع المحدَثين ولكن ظلَّ عقلي فارغًا يبحث عن قضية إسلامية في الجامعة. انعزلتُ عن الفلسفة الإسلامية كما انعزلتُ عن علم الكلام، مجرد نظرياتٍ افتراضية لا تمسُّ واقع المسلمين ولا حياتهم. هذا بالإضافة إلى مناهج الإملاء والمقررات والكتب المحفوظة أو غياب الأساتذة في الخارج. وكنتُ أعترض على مناهج التلقين في الفلسفة الإسلامية، وعلى مناهج الإملاء والعبارات الإنشائية النمطية. ومرةً أردتُ أن أسأل وأن أُناقش، فقبل الأستاذ حتَّى يثور الطلاب ويُطالبونه بالإملاء، وأكون أنا في موضع الأقلية، وقد كان. وفي دروس التصوُّف شعرتُ لأول مرة بأهمية الرجوع إلى القرآن كمقياس ومعيار، وبأهمية الصلة بين التوحيد الإسلامي وبين ما يقوله الصوفية عن وحدة الشهود ووحدة الوجود. وكنتُ أتمنى كل هذه الطاقة والحياة أن تعود إلى الحياة من جديد، بدلًا من أن تكون فارغةً بلا مضمون، وبدلًا من أن تُبدَّد خارج الحياة بالوهم والخيال. وكنتُ طالبَ امتيازٍ من السنة الثالثة. وفي أبحاثي كنتُ أضع في النهاية رأيي الخاص. وفي بحث امتياز عن «نظرية المعرفة والسعادة عند الغزالي» وأنا في السنة الرابعة عرضتُ في الفصل الختامي لرأيي الخاص وفيه تحليلٌ للتصوُّف كنظرية في الانعراج كرد فعلٍ على السقوط الاجتماعي، وكحركة رد فعلٍ سلبي على تيار البذخ والترف في بداية الدولة الأموية، وأنَّه لا بد للقضاء على الانعراج من أجل العودة إلى العالم وإنقاذه من السقوط، وهو ما لم يُعجب الأستاذ، واعتبره خارج الموضوع. وفي امتحان الشفاهي هذا العام كنتُ أبغي الإجابة من آرائي الخاصة حول التراث، والمنهج الإسلامي، ونهضة المسلمين، وكان الأستاذ يأبَى إلَّا المقرَّرات المحفوظة.
وفي نفس الوقت كنت أسمع إقبال لأول مرة وأنا في الثالثة، وكان حديثًا عن الحياة والخلق والإبداع والقوة والجهاد والذاتية والغائية والأمة، فأحسست بفكر إسلامي يجمع بين الماضي والحاضر، ويُصوِّر واقع المسلمين خلافًا لنظريات العقول العشرة، والذات والصفات، والمقامات والأحوال. وكنت أشعر وكأنَّ قلبي يُنتزع من نفسي؛ فقد كانت هذه الفلسفة التي أبحث عن نوعها. وكنت في بحثي الامتياز وأنا في الثالثة عن جويو، قد أهديته إلى «كل من يتغيَّر، فيتحرَّك، فينطلق، فيُبدع شيئًا جديدًا». فعلَّق أحد الأساتذة العائدين من فرنسا «هذا برجسون». مع أنَّ ذلك كان الإسلام كما كنتُ أشعر به حتَّى قبل سماعي إقبال في السنة الثالثة. أمَّا محمد عبده فلم يكن براقًا ولا جذابًا، ولم يُثر فيَّ أيَّة إيحاءات فلسفية، بل كنَّا ننقد موقفه من الثورة العرابية ومن عبارته المشهورة «لعن الله ساس ويسوس». وكنتُ قد كتبتُ للأستاذ مرة على السبورة «أُحب محمد عبده ولكن حُبي للإسلام أعظم». وكان الموقف الإسلامي الفلسفي قد بدأ يتبلور حتَّى إنَّني في كثيرٍ من الإجابات كنت أُنهي الموضوع بالرأي الخاص عن الموقف الإسلامي المُستنير. وأذكر أنَّه في إجابتي عن الوجودية عقدتُ حوارًا مع وجودي ومسلم ضد التشاؤم، والتناقض، والعبث، واللامعقول، والانتحار، ووضعتُ إقبال في مقابل كيركجارد وسارتر ومارسل وغيرهم من الوجوديين.
ثمَّ حدثَت أول أزمة في عمري وأنا في السنة الرابعة. وقد تعوَّدتُ الآن على مثل هذه الأزمات التي تعرض لي مرة كل عشر سنوات ١٩٥٦م، ثمَّ ١٩٦٦م، ثمَّ ١٩٧٦م. لم أستطع وأنا في الرابعة إلَّا أن أُعبِّر عن الموقف الإسلامي. وبدأ الرأي الخاص يتغلَّب على ورقة الإجابة كلها من الألف إلى الياء؛ ففي إجابة الفلسفة المعاصرة عن «محمد عبده» انطلقتُ أُعبِّر فيها عن رؤيتي في الإصلاح، وعن تطويري له، وعن محاولتي الأولى لإقامة منهج إسلامي عام يقوم على الحسن والقبح العقليَّين، ويُوحِّد بين الحق والخير والجمال، ويكون منهج فكر وحياة، نظر وعمل. وفي عتابي مع الأستاذ بعد أن أعطاني أقل الدرجات قال إنَّ إجابتي كانت غامضة. صحيحٌ أنَّها لم تكن من «رائد الفكر المصري»، ولكنَّها بالنسبة لي كانت واضحة تمامًا. وحتَّى لو كانت غامضة فمن الطبيعي أن تكون كذلك.
وفي مادة «علم الجمال» ذهبتُ أيضًا ضحية إعطاء المادة من أستاذ وتصحيحها من أستاذٍ آخر لم يُعطها كما حدث لطلبتي في ١٩٧٧م؛ فقد أعطى المُصحح جميع الطلَّاب الدرجات الدنيا. وكان السؤال عن مقاييس الجمال في الفن «رابطة العنق وانجذاب المشتري نحوها». وما زلتُ أذكُر عن تحليلي للسؤال لفظًا مهاجمًا الفنون التشكيلية ومدافعًا عن الفنون السمعية، ومبيِّنًا أنَّ الجمال ليس في الشيء بل في النفس، وليس في العين بل في الأذن.
وأخيرًا، ذهبت ضحية الطائفية؛ ففي موضوع «علم النفس الصناعي» وعن سؤال عن مقاييس علم النفس؛ الكم، والموضوعية، والمادية، والعلمية أجبتُ بالرفض في نفس الوقت الذي كنتُ أعيش فيه إقبال والذاتية والفلسفة الوجودية ضد الموضوعية والكم والقياس والعلمية. وبالرغم من تبنِّي الأستاذ علم النفس التكاملي إلَّا أنَّه كان يُعطي علم النفس الفزيولوجي وعلم النفس التجريبي، وعلم النفس الصناعي، وهي العلوم التي أثارت الفكر المعاصر، والتي كانت الفينومينولوجيا رد فعل عليها. وفي عتاب مع الأستاذ قال إنَّ إجابتي كانت ميتافيزيقية وليست علمية. وكان من السهولة معرفة ورقة إجابتي لِما تتسم به من طابعٍ خاص. وكان الأستاذ ورئيس القسم قد سألني مرة عن نيتي بعد التخرُّج فأجبت: فرنسا. وحدَّثتُه عن آمالي في نهضة الإسلام والمسلمين، وعن رغبتي في تكوين منهج إسلامي عام شامل، وغائب عن ذهني داء الطائفية؛ فأستاذ الجامعة في ذهني هو أبعد الناس عن الشبهات، يبغي الحق والخير للناس وللأمة.
وبلغت قمة المأساة في امتحان اللغة الألمانية، لغة طلبة الامتياز. كان يُدرِّس لي أستاذٌ ألماني في الثالثة ثم سافر، ودرَّسَت لي فيما بعدُ أستاذة ألمانية مع قسم الآثار بعد الظهر. ثم جاءت الأسئلة، مع طلبة قسم اللغة العربية مع أستاذ مصري في اليوم التالي. وفوجئتُ بورقة أسئلة في مفردات ونصوص لم أدرسها وإن كنتُ على علم بقواعد اللغة، بعد أن ظلِلتُ ليلةً بأكملها أبحث عن طالب بقسم اللغة العربية لأعرف منه مُقرَّر اللغة. وكانت قمة المأساة وأنا أكتب للعميد طلبًا أشرح له فيه الموقف. ولمَّا كنتُ في قمة المثالية الدينية في هذه الفترة فقد صدَّرته بلقب «الأخ الفاضل». فنهرني ضابط الحرس المسيحي واتهمَني بقلة الأدب والحياء فشرحتُ له أنَّه لا فضل لعربي على عجمي إلَّا بالتقوى، وأنَّ الرسول شهيد على أنَّ عباد الله إخوان، وأنَّه لا سيد إلَّا الله؛ وبالتالي فلا أستطيع أن أُسمِّي أحدًا سيدًا، وكان غائبًا عن ذهني أنَّ لقب الأستاذ الدكتور لقب علمي لا يضر الإيمان في شيء. وكان أول مجلس تأديبٍ لي أمام ستة من أساتذة الجامعات تحت قبة الجامعة شرحتُ لهم رأيي في المساواة المطلَقة بين البشر، وأنَّه لا سيد ولا مسود، وأنَّ كانس الطريق إذا ما أدَّى واجبه خيرٌ من رئيس الجمهورية إذا قصَّر في أداء الواجب. وأخبرتُهم أنِّي في طريقي إلى فرنسا مغادرًا البلاد، فأعلنوا براءتي بعد مناقشاتٍ عن المساواة بين البشر، والأخوة في الدين. ولكن ظلَّت الجامعة بالنسبة لي هي مأساة الإدارة، ومكان الرأي الحر، وأصبحَت جزءًا من تكويني الذهني.
في هذا الجو النفسي؛ اضطهاد الإخوان، أزمة الدراسات الإسلامية، أزمة الحياة الجامعية، ضياع الامتياز وإنْ كنتُ ما زلتُ أول الدفعة، كنت أذهب إلى مسجد عمر مكرم أقرأ القرآن. ولأول مرة كنتُ أشعر بحدوسه الفلسفية، وأهمية عالم الشعور والحواس، وضرورة الاستمرار في النضال. وكان كل من ينظر في عيني يسألني ماذا بي؟ وكانت ساعة الرحيل قد دقَّت لشق طريقي الخاص.
وفي يوليو ١٩٥٦م، حدث تأميم قناة السويس، وفي أغسطس بدأَت مؤتمرات لندن الأولى والثانية. وبدأَت الأساطيل تتجمَّع في البحر المتوسط، وبدأَت العلاقات بيننا وبين فرنسا في الانهيار. وكنتُ آخر طالب خرج من مصر. وأخذتُ تأشيرة خروج ودخول إلى فرنسا. وغادرتُ البلاد في ١١ / ١٠ / ١٩٥٦م، ووصلتُ إلى مرسيليا في ١٧ / ١٠ / ١٩٥٦م، بصفيحة من الجبن وأخرى من اللبن من المعونة الأمريكية التي كانت تُوزَّع في المدارس، وبمخلة من الخبز الجاف، وبعشرة جنيهات أمام بكاء الأهل، ولكن نداء الرحيل كان لا مفر منه. وكنتُ أرى نفسي عائدًا موسيقيًّا فيلسوفًا، مؤلفًا لسمفونية «العودة». وكانت أحلامي في ذلك الوقت كلها وحتى الآن إلى حدٍّ ما الطيران في الهواء. نشأَت كل أفكاري عن المنهاج الإسلامي، والتصوير الفني، والأمة الإسلامية، والإسلام كمركز للثقل في العالم، والأصالة، ونقد الغرب، من الإخوان، وكان لسيد قطب أثرٌ كبير عليَّ، بأسلوبه ووضوحه وبساطته، خاصة مقال «الإسلام حركة إبداعية شاملة في الفن والحياة»، وحتى الآن أجد نفسي فيه. ولو أنَّ الدعوة كانت قد تطوَّرت تطوُّرًا طبيعيًّا، دون هذا الصدام المشئوم بينها وبين الثورة، لتطوَّر سيد قطب أكثر فأكثر في طريق «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وأيضًا «معركة الإسلام والرأسمالية»، ولمَّا كتب «معالم في الطريق»، التي يظهر فيها فكر الدعوة من بين الجدران. وكانت ثورة مصدق وتأميم البترول بالنسبة لي في ١٩٥٣م، وعيًا إسلاميًّا تقدُّميًّا، أحسست بخلافي مع الإخوان فيه، الذين فرحوا بسقوطه لأنَّه مُتعاون مع الشيوعيين، وبعودة الكاشاني آية الله. كانت لجنة الشباب المسلم والمحاولات الاقتصادية الأولى لعمل اقتصادٍ إسلامي لا يقوم على الربا بدايات «اليسار الإسلامي» أو «الإسلام التقدمي» أو «الإسلام الثوري». ولو عاش سيد قطب لكنتُ خير تلميذ له، ولو استمرَّت الدعوة لكنتُ أحد مفكريها. لم أتعلَّم من الجامعة شيئًا إلَّا كرد فعلٍ على أزمة الدراسات الإسلامية. وكنتُ أسمع عن إقبال أيضًا والأفغاني من الإخوان. كثُرت قراءاتي في «الإسلام المعاصر» حتَّى استحوذ الكتاب كل وقتي ولم يعُد هناك وقت للموسيقى والعزف على الكمان. وبدأَت الفكرة الإسلامية المُعاصرة ترنُّ في أذني كاللحن، وكان اللحن الموسيقي خاويًا بلا مضمونٍ فكري، لم أكن أستطيع البقاء في مصر؛ فماذا سأتعلَّم؟ كانت فرنسا بالنسبة لي مكان التكوين ومدرسة المبتدئين. وكان قسمنا بالجامعة، قسم الفلسفة على علاقةٍ وثيقةٍ بالسربون منذ نشأته، أساتذة أجانب ومصريون. كان أملي الوحيد هو الحصول على بعثة، ولكن ضاع الأمل بضياع الامتياز، وبقطع العلاقات الرسمية بيننا وبين فرنسا بعد التأميم. ومع ذلك فالمغادرة الفردية، والغوص في المجهول كان هو المنفذ الوحيد الباقي. وغادرتُ مصر وعمري واحد وعشرون عامًا، ورجعتُ إليها وعمري واحد وثلاثون عامًا.
(٣) بداية الوعي الفلسفي (١٩٥٧–١٩٦٠م)
بالرغم من أنَّ بداية الوعي الفلسفي كانت في معرفتي بالمثالية الألمانية خاصة فشته، وفلسفة المقاومة والأنا التي تضع ذاتها بمقاومة اللاأنا، وسماعي عن الإيحاء المتبادل بين الذات والموضوع والقصدية عند هوسرل، من أحد الأساتذة العائدين حديثًا، فقد اجتمعَت هذه البدايات في الفلسفة الغربية حول المثالية الترنسندنتالية مع فلسفة الذاتية عند إقبال، وأصبح حديث الشعور هو حديث القلب للقلب، وهو ما أصبح فيما بعدُ مستوى الشعور في «التراث والتجديد». وكنتُ قد استمعتُ بدلًا من دروس المنطق درسًا في المصطلحات العلمية، وشدَّ انتباهي مفاهيم الارتقاء والحركة والتطوُّر في علم النفس، فأدركت أهمية الألفاظ ومعانيها في تغيير نظرة الإنسان للعالم. وهو ما أصبح فيما بعدُ التركيز على عملية استبدال الألفاظ من أجل إظهار المعاني وإبراز الأشياء.
ولكن البداية الحقيقية التكوينية للوعي الفلسفي كانت في فرنسا، عندما شرعتُ في كتابة خطة بحث للدكتوراه «المنهاج الإسلامي العام»، أحاول فيه أن أصوغ الإسلام منهاجًا عامًّا شاملًا للحياة الفردية والاجتماعية. وجعلتُه على صورتَين؛ صورة ثابتة من التصوُّر والنظام، وصورة حركية من الطاقة والحركة. ويقوم على التوحيد بين الوحي كنظام مثالي للعالم، والعالم كنظام طبيعي ابتداءً من وحدة الذات حتَّى وحدة الشهود ووحدة الوجود. وكانت الأفكار الأولى عن توجيه الفكر للواقع قد نبتَت من خلال الوعي الديني وأنا بالجامعة. وقيل لي يومئذٍ إنَّ ذلك هو قول كانط في تشريع الفكر للواقع. وكانت المشكلة بالنسبة لي هي مشكلة الجمع بين القَبلي والبَعدي، الوحي كمعطًى سابق والمعرفة الإنسانية أو العالم كمعطًى بعدي. وقد صدَّرتُ الخطة بمقدمة طويلة، عن فكر الإخوان المسلمين، وعقَّبتُها بمراجع عديدة عن الفكر الإسلامي الحديث، ولكن كانت المأساة كالآتي:
رأى المستشرقون أنَّ هذه دراساتٌ عامة للغاية، ولا بد من دراسة شخصيةٍ تاريخية أو مذهبٍ فقهي أو فرقةٍ كلامية. وأنا لم أرغب في التاريخ، بل أردت تجاوز التاريخ وإلَّا عُدت لأزمة الفلسفة الإسلامية وأنا بالجامعة. أردتُ صياغةً جديدة للإسلام كمنهج عام شامل في الفكر والحياة، مشروع سيد قطب، بعد أن تحوَّل لديَّ إلى رؤية مستقبلية وخطة نهضة للأمة الإسلامية. ورأى الفلاسفة الغربيون أن أختار كانط؛ لأنَّه هو الذي وضع مشكلة القَبلي والبَعدي بالرغم من حُبهم للإسلام وتعظيمهم له. كانت المشكلة كالآتي: يقرؤني المستشرقون فيقولون: هذه فلسفة غربية ونحن مؤرخون، ويقرؤني الفلاسفة فيقولون: هذا إسلام ونحن فلاسفةٌ غربيون. وظلَّت الحيرة بين المستشرقين والفلاسفة، وكنتُ في حاجة إلى مستشرقٍ فيلسوف أو إلى فيلسوفٍ مستشرق من نوع رينان. كان كوربان هو الوحيد الموجود في «مدرسة الدراسات العليا التطبيقية» ولكنَّه كان مُوغلًا في الإسماعيلية الباطنية. لمَّا قرأ مشروعي عن «المنهاج الإسلامي العام» اقترح عليَّ موضوع «التأويل» ودراسة «البحر المحيط» للزركشي، ولكن رغبتي كانت في اكتشاف الوعي عند أهل السنة من أجل نهضة الأمة، ومخاطبتي لواقعها وتُراثها الحي في مصر والعالم العربي، ولكن أول أفكاري عن الذات والموضوع والتركيز على القلب الذي يخلق موضوعه كان منه.
وكان لا بد من موضوعٍ ثانٍ للرسالة التكميلية؛ فبعد قراءتي للفلسفة الأوروبية واكتشافي بدايتها في الكوجيتو الديكارتي ونهايتها في الكوجيتو عند هوسرل، ومقارنة العقليين بالوجوديين أردتُ أن أكتب رسالةً في تطور الوعي الأوروبي. ورأيتُ ضرورة دراسة الفلسفة الأوروبية من وعي لا أوروبي حتَّى يُمكن رؤيته عن بُعد بشعورٍ مُحايد يتسم بالموضوعية. وكان الهدف إعلان نهاية الوعي الأوروبي وبداية وعي العالم الثالث مُمثَّلًا في حضارات الشعوب غير الأوروبية، مصر، الصين، الهند؛ فقد كانت مصر في ذلك الوقت تملأ الدنيا تحررًا واشتراكية. وكان العالم كله يتحدَّث عن حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وفي فرنسا كانت حرب التحرُّر الوطني في الجزائر على أشدِّها، وكان الحي اللاتيني بؤرةً ثورية للعالم كله. في هذه الفترة كنتُ أقرأ كل شيء في الفلسفة الأوروبية الفرنسية والألمانية أساسًا، وأجَّلتُ الفلسفة الإنجليزية والأمريكية إلى فيما بعدُ، خاصة وأنَّها لم تُثِر فيَّ أيَّة مشاعر فلسفية حتَّى الآن.
(٤) بداية الوعي بالحياة (١٩٦١–١٩٦٦م)
كنتُ غارقًا في تاريخ الفلسفة من البداية إلى النهاية، أفلاطون وأرسطو. وكنتُ على ولعٍ خاص بكبار الرافضين مثل اسبينوزا وكيركجارد. وبالرغم من وضوح اسبينوزا كنتُ تائهًا مع كيركجارد، أشعر بلحمه وعظمه، ولكنِّي لا أستطيع معرفة بدايته ونهايته. وكان اكتشافًا للفلسفة الأوروبية، اسبينوزا في «رسالة اللاهوت والسياسة»، ثم برجسون؛ أي الخلود والزمان؛ لذلك قال برجسون عن حق «لكل إنسان فلسفتان، فلسفته الخاصة وفلسفة اسبينوزا». بعد ذلك انتظمَت المذاهب الأوروبية في ذهني في مسلسلٍ واحد، ورأيت أنساب الفلاسفة في إطار تصوُّرٍ شامل للوعي الأوروبي.
وقد كان تطوُّر وعيي في ذلك الوقت من الدين والصلاة في المكتبة الأهلية، بجوار دورة المياه الرخامية النظيفة في ١٩٥٧–١٩٥٩م، ثمَّ من الدين إلى المثالية الألمانية في ١٩٥٩–١٩٦٠م. كانت المثالية بالنسبة لي هي الحقيقة. وكان الصراع في السربون في ذلك الوقت بين مركز «ريشيليو»، مركز الطلبة الكاثوليك وبين الطلبة الشيوعيين. كان الكاثوليك يعتنون بالطلبة الأجانب. لم يكن الهدف تحوُّلهم عن دينهم ولو أنَّ ذلك كان واردًا، ولكن استئناسهم وإلَّا وقعوا فريسة التيارات الهدَّامة، وحتَّى يتم الإعجاب بالغرب المسيحي المُتفهِّم للإسلام التقليدي الشائع في قلوب الناس، وحتَّى لا تطغى الثقافة الأوروبية المادية المُلحدة العقلانية على إيمان المسلمين! كنتُ أرى أنَّ كل من يتكلَّم عن الأُسس الاجتماعية أو السياسية للظواهر الإنسانية فهو مادي. ومرةً كنت أسمع تحليلًا لنشأة الإسلام من أحد الطلبة العرب من شمال أفريقيا عن طبقة التجَّار وطبقة العبيد، فكنتُ أرثي في ذلك الوقت لحال الطلبة المسلمين الذين أفسدَتهم الشيوعية؛ لأنَّ الإسلام في رأيي وقتئذٍ كان وحيًا من عند الله. ولم أكن في ذلك الوقت قد فهمتُ دلالة «أسباب النزول» وأنواع العِلل المادية في أصول الفقه؛ أي الأسباب المادية لوقوع الإسلام، وتطوُّر التشريع.
ولكن عددًا من تجارب الحياة اليومية جعلَتني أتحوَّل من المثالية إلى الحياة، تجارب شخصية أدركتُ من خلالها أنَّ المثالية ليست هي الحياة، وأنَّ الحياة أشمل وأعم؛ فلا أستطيع أن أُحب الروح أو أن أعشق الوجود. لم أكن في ذلك الوقت قادرًا على عمل أي شيء إلَّا إذا كان له أساسٌ نظري أولًا. وبعد عديد من الصدمات، بدأتُ بالبداية؛ العالم، الحس، الواقع، الناس، المرئي، الملموس، حب الأشياء العينية لا تجريدها. وكنتُ أتوغَّل أكثر فأكثر في فلسفات العودة إلى الأشياء ذاتها، برجسون، هوسرل، هيدجر، الاتحاد بالأشياء لإدراك ماهياتها، العيش مع الأشياء. واتضحَت أبعاد فلسفة الوجود؛ الإنسان في العالم، الوجود الإنساني، الواقعة الإنسانية، البدن، الزمان، الحياة، الشعور، الوجدان، القلق، والهم، والحصر. كان «الوجود والزمان» لهيدجر يُمثِّل لي شعر الطبيعة وميتافيزيقا الوجود. وكنتُ سعيدًا للغاية بانتهاء مرحلة المثالية إلى الواقعية، هذا التحوُّل الذي نشأ في آخر ١٩٦٠م، والذي بعده بدأتُ في كتابة الصياغات الأولى لرسالتي الأولى «مناهج التفسير»، التي خرجَت مقتضبةً قصيرة النفس؛ مِمَّا دفعني إلى كتابتها ثانية بعدها بأربع سنوات بنفَسٍ أطول وبتحليل مضمونٍ أعمق عام ١٩٦٤م.
أصبحَت لحظتا الشعور الأوروبي عند العقليين أولًا «الأنا أفكر» وعند الوجوديين ثانيًا «الأنا موجود» على مدى أربعة قرون متمثِّلة في حياتي في ثماني سنوات؛ المثالية العقلية في ١٩٥٦–١٩٦٠م، والحياة والواقع والوجود في ١٩٦١–١٩٦٦م، ولكنِّي ظلِلتُ أُحافظ على تفاؤل المثالية، وتركتُ تشاؤم الوجودية، واحتفظتُ بالعقل ودوره في المثالية، وتركتُ اللامعقول في الوجودية، وأبقيتُ على الغائية في المثالية، وأسقطتُ العبث في الوجودية. وكان السؤال: كيف تقول الوجودية بالالتزام والوجود الإنساني كمشروع وفي نفس الوقت نقول باللامعقول وبالعبث؟ كان العقل والواقع بالنسبة لي واجهتَين لعملة واحدة. ولشد ما فرحتُ عندما وجدتُ ذلك في أحد فصول الجزء الأول من «الأفكار» عند هوسرل. ولمَّا كنتُ خارجًا من تراث ديني بؤرته الوحي، اكتملَت لديَّ وحدة الوحي والعقل والواقع، وأصبح آخر فصول رسالتي الأولى عن «مناهج التفسير»، الذي بعده بدأتُ أكتب وأترجم لأعمال في دين العقل «كانط» ودين الطبيعة «لسنج».
كنتُ أقرب إلى وحدة الوجود في ذلك الوقت، ولكن بالمعنى الذاتي الإرادي، كما هو الحال عند فشته، وليس بالمعنى المجرد عند شلنج. كنت أقرأ وأعيش، أعقل وأنفعل. وقد تجلَّى ذلك في رحلاتي إلى كل بلاد أوروبا باحثًا عن آثار الشعراء والأدباء والفلاسفة. وكان تعرُّفي على الأصدقاء، أتعلَّم منهم، وأؤثِّر فيهم ويؤثِّرون في. تعلَّمتُ من التجارب روح الكتب ومن الحياة معاني النصوص. كنتُ أشعر بحياة الشعراء، شيلر، وجوته، والموسيقيين وعلى رأسهم بيتهوفن، الذي لم تكن صورته تفارقني وهو يقود الأوركسترا ناكشًا شعره، وتحتها عبارة بخط يدي «عمر بن الخطاب». كانت الرومانسية وحتَّى الآن بالنسبة لي هي التقاء المثالية والوجودية، ونقطة التقاء بين الوعي والحياة. أردتُ أن أكون موسيقيًّا في البداية؛ فأنا من أسرة موسيقية، وكنتُ أريد أن أكون مؤلفًا حتَّى أُحرِّك مشاعر الناس بمارسيلييز جديد. ولمَّا كان «المعهد العالي للموسيقى» أقرب إلى تخريج أساتذة للموسيقى أو عازفين فإنَّني أجَّلتُ ذلك حتَّى فرنسا. وهناك كنت في معهد الموسيقى بالصباح، وفي الجامعة بعد الظهر، وفي المساء كان عليَّ إمَّا أن أعزف وإمَّا أن أقرأ. ومتى أُؤلف السمفونيات؟ ومتى أكتب رسائلي الفلسفية؟ وبعد عامَين دخلتُ المستشفى باشتباه السل. وكانت نصيحة الأطباء عليَّ أن أختار بين إحدى المهنتَين؛ الموسيقى أم الفلسفة. ولمَّا كان اللحن قد أصبح بالنسبة لي جمالًا دون فكر، وكانت الفلسفة فكرًا دون جمال، وجدتُ في الفلسفة الرومانسية عند هيجل وفشته وشلنج وكيركجارد وبرجسون خاصة وحدة الجمال والفكر. وهو ما أنا عليه الآن. أحيانًا يُصيبني الندم كلما استمعتُ إلى بيتهوفن أو حضرتُ حفلات الموسيقى العربية أو الكلاسيكية، بأنَّني ربما قد أسأتُ الاختيار. وأحيانًا أرضى وأقول: ولكن فيمَ الأسى وأنا أُغني الفلسفة، وأعمالي أقرب إلى الوجدانيات منها إلى التحليل العقلي الرياضي أو العلمي الطبيعي الدقيق؟ وبعد صدور «من العقيدة إلى الثورة» وجدته عن حق سيمفونيةً خماسية الحركات. أمَّا «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» فإنَّها مجرد ثمانية كونشرتات متنوعة.
كانت المعرفة لديَّ تأتي من التجارب المعاشة. وكان اللمس يؤدي دور الحدْس المباشر. وكانت النظرة تُثير من المعاني قدْر الصفحات الرائعة التي كتبها سارتر عن النظرة في «الوجود والعدم». كان الحب والإعجاب، والنجاح والفشل، والفرح والحزن، كان كل شيء يتحوَّل في شعوري إلى معنًى. أصبحتُ أعيش في عالم من المعاني من خلال التجارب. كنت ظاهراتيًّا بالميلاد. كانت الفلسفة عندي طبيعة وعملًا في كل لحظة. كنتُ أُشبِّه نفسي بصاحب المعمل المتنقل والذي يحمل آلاته ومخبارته بين جنبَيه في مقابل عالِم الطبيعة صاحب المعمل الثابت والمخبر الساكن. كنتُ أعمل في الزمان في مقابل عالِم الطبيعة الذي يعمل في المكان. كان عالمي بين جنبي أصاحبه أينما حللتُ.
كانت الرحلة إلى روما عام ١٩٦٤م، بمثابة إعلان العودة النهائية إلى أرض الوطن؛ فقد أحسستُ بأنَّ نهاية مرحلة وبداية مرحلةٍ أخرى قد حانت. كنتُ أرى مراحل تطوري بوضوحٍ تام. وقد آن وقتُ الرحيل. وقبل المناقشة بأيام كنت أسير في شوارع الحي اللاتيني وكأنِّي أودعه، ولستُ جالسًا على مكتبي. وكانت مناقشة رسالة بمعنى رسالة؛ أي قضية ورأي، وأنا أعلن بداية وعيٍ جديد في «مناهج التفسير» ونهاية وعيٍ قديم في «من تفسير الظاهريات إلى ظاهريات التفسير»، وأعلن في سري عن بداية الشرق ومصر في مركزه ونهاية الغرب. وقد شعر رئيس اللجنة بخبثي، وأراد أن يردَّ إليَّ الطعنة فقال: هل تسمح جامعاتكم بمثل هذه الحرية التي تنعم بها الآن في هذه الجامعة؟ لم أرد لأنِّي كنتُ على وعي بأنَّ ذلك الحوار إنَّما يدل على صراعٍ تاريخي طويل بين الأنا والآخر، لا يحسمه جدال قولي على منصة خارج الوطن.
ثمَّ جاءت مشكلة نقل مكتبتي؛ فقد طرتُ في أغسطس ١٩٦٦م، إلى القاهرة مع وفد مؤتمر المبعوثين إلى الإسكندرية، وتركتُ مكتبتي ورائي. يكفيني أنَّني كوَّنتُها وعلى الدولة نقلها. ليس لي عربة أريد إعفاءً من جماركها، ولكن لي مكتبة أريد الدولة أن تُساعد في نقلها. وقد تمَّ ذلك بالفعل، ووصلَت مكتبتي بحرًا بعد وصولي بستة أشهر، وأنا لا أكاد أُصدِّق عيني أنَّ مرحلةً قد انتهت وأنَّ مرحلةً أخرى قد بدأَت. انتهى الجهاد الأصغر، وبدأ الجهاد الأكبر.
(٥) بداية الوعي السياسي (١٩٦٧–١٩٧١م)
لم أعمل بالسياسة عملًا مباشرًا، بل كان مدخلي لها منذ البداية إمَّا تحرير فلسطين في ١٩٤٨م، وأنا في الثالثة عشرة، أو كفاحًا ضد الإنجليز في قناة السويس في ١٩٥١م، أو نقدًا للفساد الحزبي ولانحلال الملك وللاستعمار. وبعد اندلاع الثورة في ١٩٥٢م، شعرتُ ببداية عصرٍ جديد من الكرامة الوطنية ووحدة أراضي الأمة، العربية أو الإسلامية، وتحرير أراضي المسلمين في «حفني» بالمغرب، والظهران بالسعودية، وحيد أباد بالهند، وكشمير بباكستان. وكان إغراقي في الفكر وحماسي للحضارة هو السياسة عندي حتَّى تأميم القناة في ١٩٥٦م، ثمَّ ثورة يوليو في العراق في ١٩٥٨م، ورؤية ناصر جديد في عبد السلام عارف، وثورة الشعب اللبناني في ١٩٥٨م، ووحدة مصر وسوريا في ١٩٥٨–١٩٦١م، لتحقيق الوحدة الثورية في المنطقة. وكان وعيي بالثورة والوحدة أسبق من وعيي بالتغير الاجتماعي.
ولكن حدث أن زار المشير «عبد الحكيم عامر» باريس في ١٩٦٥م، فأُعدَّت لافتات الترحاب، ودُبجَت خطب المدح والثناء، وأتت الوفود من جميع بلاد أوروبا ممثِّلة للطلاب المصريين الدارسين في الخارج لتحيته. وكنت أرى النفاق مجسدًا في هذا المشهد، وقد راجع السفير بنفسه الخطب قبل إلقائها. ومنذ البداية، أخذتُ الميكروفون، وبدافعٍ من الصدق التام سألتُه عن حوادث التعذيب في مصر للإخوان، وعن الاتحاد الاشتراكي الذي بلغ عدده أكثر من مليون، وعمَّن يلتفُّون حول الرئيس ويمنعون الاتصال بينه وبين الشعب، ويُزيفون له المعلومات. حاول الرد، ولكن كانت الأسئلة الثلاثة فاتحة بركان. فطُويَت أعلام الترحيب، ووُضعَت الخطب المنمَّقة في الجيوب، وانطلق ممثلو الطلاب في تحليل الأوضاع في مصر، ونقد الثورة وما آلت إليه؛ الحرية، أجهزة الإعلام، البيروقراطية، الفساد، الطبقات الجديدة، الإثراء على حساب الثورة. وكان رئيس الوزراء «د. محمود فوزي» مبتسمًا وهو يسمع، يشعر أنَّ مصر ما زالت بخير ما دام فيها هؤلاء الشباب. استدعى المشير أحد الصحفيين للدفاع عن الثورة بأنَّنا أهل نظر ولسنا أهل ممارسة، وأنَّ الثورة حدثٌ في تاريخ. غادر المشير بعدها، وأخبر الرئيس بأنَّا لسنا على وعي بما يدور في مجتمعنا، وأنَّنا ليست لدينا معلوماتٌ كافية عن الإنجازات الثورية؛ وبالتالي لا بد من استدعاء الطلبة إلى مصر في صيف ١٩٦٦م، حتَّى يرَوا مصر بأعينهم بعدما طال غيابهم.
وبعد رجوعي بدأ تعييني بالجامعة. وقد استغرق عامًا بأكمله انتظارًا لتوفير درجة بجامعة القاهرة؛ لأنَّ الأمر كان يتطلَّب لنقل درجة من قسم إلى قسم موافقة وزير المالية! كنتُ قد غادرتُ الجامعة بمجلس تأديبٍ غاضبًا في ١٩٥٦م، وعدتُ إليها بعد عشر سنواتٍ أستاذًا بعد رفضي تعييني في جامعةٍ أخرى ليس لي بها ذكريات، فلم يكن المكان أو الحوائط أو البشر يوحي إليَّ بشيء.
وإذا غلبَ على مجموعة مجلة «الفكر المعاصر»، الطابعُ الفردي، مناقشة رئيس التحرير للكاتب فيما يكتب، فإنَّ مجموعة «الكاتب» غلب عليها الطابعُ الجماعي؛ فقد كانت تعقد اجتماعًا أول كل شهر لمناقشة العدد الصادر في نفس اليوم ونقده، والإعداد لعدد الشهر القادم وتخطيطه. وكانت مدرسةً تعلَّمت منها التحليل السياسي. وقد استغرق العمل في المجلتَين معًا سنتَين أو أكثر حتَّى استهلكتُ وكرَّرتُ نفسي، ولكنَّها كانت شهادتي الأولى على عصري بعد الهزيمة لمعرفة أسبابها، والبحث عن مُقومات النصر، اعتمادًا على التنظير المباشر للواقع. ازداد وعيي بمسئولية المعارك اليومية والنضال المباشر من أجل تحليل أسباب الهزيمة، وتقوية روح الصمود، تحليلًا للوعي القومي، وأخذ موقف بالنسبة للغرب. وكان ذلك أيضًا هو لُب مشروع «التراث والتجديد» بجبهاته الثلاث؛ موقفنا من التراث القديم وهو «الأنا»، وموقفنا من التراث الغربي وهو «الآخر»، وموقفنا من الواقع بما فيه من هزيمة ونصر وتفسيرنا للنصوص.
(٦) بداية الدين الثوري (١٩٧٢–١٩٧٥م)
ولمَّا ارتبط «لاهوت التحرر» بالعلوم الإنسانية، بالاجتماع، والسياسة والاقتصاد وكان من عيوبي أثناء تكوين وعيي السياسي نقص خبرتي في العلوم الإنسانية، فقد حاولتُ إكمال هذا النقص في هذه الفترة، وكوَّنتُ مكتبتي فيها. وما زلنا نحن ندرس الآداب بمفردها دون علومٍ إنسانية، وكما هو واضح من اسم كليتنا «كلية الآداب» ولم نُغيِّرها بعد إلى «كلية الآداب والعلوم الإنسانية». وركَّزتُ بوجهٍ خاص على علم الاجتماع الديني، وعلى التيارات الأساسية في علم الاجتماع الأمريكي، الذي حمله كثير من المهاجرين الألمان، وأكملتُ نقص علمي بالمذاهب السياسية والاقتصادية، مثل الاشتراكية والرأسمالية القومية، وبتاريخ الغرب سواء في نشأته إبَّان «الكشوف الجغرافية»، أو في ذروته إبَّان الاستعمار، أو في نهايته كما يُعلن عن ذلك فلاسفة التاريخ المُعاصرون الذين يتشاءمون حول مستقبله. وأصبح حديثي الفلسفي دائمًا قائمًا على العلوم الاجتماعية ومؤسِّسًا فيها؛ لذلك شعرتُ بقربٍ شديد لدراسة «فرنكفورت».
كما اعتنيتُ بالفلسفة الأنجلو سكسونية والأمريكية، وكنتُ قد تركتُها وأنا في فرنسا إلى مرحلةٍ لاحقة، أولًا لأنَّني لا أتذوَّقها لإيغالها في تحليلات الحس، وتصوُّرها العقل مجرد حاوٍ لإحساسات، ولبُعدها عن الميتافيزيقا وفلسفات الفعل، وثانيًا لأنَّني لستُ بحاجة إلى ترجماتٍ فرنسية لنصوصها، والأفضل قراءتها بلغتها الأصلية. ومع ذلك فإنَّني في دراستي لنشأة الوعي الأوروبي وتطوُّره أنسى دائمًا أخذ الفلسفة الإنجليزية في الاعتبار إلَّا أن يُذكِّرني بها أحد؛ إذ إنَّها لا تخطر لي على بال.
(٧) بداية النضال الفكري (١٩٧٦–١٩٨١م)
ولكن بعد تكشُّف بدايات الثورة المضادة في مصر شيئًا فشيئًا، ابتداءً من مايو ١٩٧١م حتَّى قوانين الاستثمار في ١٩٧٤م، والتفريط في نتائج حرب أكتوبر ١٩٧٣م، ثمَّ إنشاء الأحزاب الثلاثة؛ اليمين واليسار والوسط، انضمَمتُ بطبيعة الحال إلى حزب اليسار «التجمع الوطني التقدمي الوحدوي»؛ لِمَا كان يُمثِّله من استمرار لثورة ٢٣ يوليو كما جسَّدَتها الناصرية، فكان تجمُّعًا للناصريين، والقوميين، والشيوعيين، والتيار الديني المُستنير الذي كُنتُ أحد مُمثِّليه. وفي انتخابات ١٩٧٦م، التي دخل فيها اليسار مجلس الأمة بدأتُ الكتابة الصحفية دفاعًا عن اليسار بوجهٍ عام، وإعلانًا عن التيار الديني المستنير بوجهٍ خاص، ولكن بعد انتفاضة يناير ١٩٧٧م، ثمَّ زيارة القدس في نوفمبر من نفس العام، بدأتُ الشهادة الثانية على عصري بعد الشهادة الأولى إثر هزيمة ١٩٦٧م. وتركتُ مشروع «التراث والتجديد» لأضع كل طاقاتي في إيقاف الثورة المضادة، حمايةً لإنجازات الثورة، ومكاسب الشعب؛ فما كان يُعقل والمنزل يحترق، والبلاد تخرج عن مسارها الطبيعي وأنا أنظِّر للثورة الدائمة دون المساهمة الفعلية الآنيَّة والتفاعل مع أحداث العصر. وكنتُ أنتهي من مقالٍ لأبدأ آخر على مدى خمس سنوات ١٩٧٦–١٩٨١م، وهي المقالات التي جمعتُها بعد ذلك وأشرتُ إليها على أنَّها قضايا معاصرة، الجزءان الثالث والرابع؛ الثالث «في الثقافة الوطنية»، والرابع «في اليسار الديني»، ولكن تضخَّما إلى حد يصعُب تناولهما. كما أنَّهما يُمثِّلان كتاباتي الشعبية الآنيَّة التي أود أن تكون على قارعة الطريق، وفي أكشاك الصحف، أستردُّ بهما جماهير سيد قطب والمتولي الشعراوي. فتركتُ اسم «قضايا معاصرة» للشهادة الأولى بعد هزيمة ١٩٦٧م، وآثرتُ الاسم الثاني «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» للشهادة الثانية، ونشرتُه في ثمانية أجزاء حتَّى يكون سهل الحمل، ميسور الاقتناء. ظهَرَت مآسينا في هذه الفترة، وتبدَّت هزائمنا في الروح وليس على الأرض، في الإرادة الوطنية وليس في ساحة القتال. شاركتُ في الصراع الفكري مُساهمةً مني لإيقاف انتكاسات الثورة العربية، والمُحافظة على الثورة. وكلما اشتدَّت الأزمة السياسية في مصر مع الانفراجة الديمقراطية التي بدأَت في هذه الفترة، وتكوين الأحزاب السياسية، ساهمتُ بفكري في الحركة الوطنية المصرية؛ فالتقدم ليس مسألةً نظرية فحسب، بل موضوع ممارسة. وقد يكون دفع البلاد خطوةً نحو التقدم أفضل من عشرات النظريات في التقدم، «أعوذ بالله من علمٍ لا ينفع».
وكان لا بد أن يحدث الصدام مع الجامعة عندما كانت الثورة المضادة في عنفوانها. وبينما أنا مخفف من أعباء التدريس عام ١٩٧٨م، إثر إصراري على قبول جميع طلبة الدراسات العليا دون تمييز بينهم، وبصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية، كتبتُ عدة دراسات في علم الأصول بشقَّيه «علم أصول الفقه»، «علم أصول الدين»، «العقل والنقل»، وفي علوم الحكمة «الفارابي شارحًا أرسطو»، «ابن رشد شارحًا أرسطو»، وفي علوم التصوُّف «حكمة الإشراق والفينومينولوجيا»، وفي الفكر الإسلامي الحديث «من الوعي الفردي إلى الوعي الاجتماعي» (دراسة في الجوَّانية)، جُمعَت بعد ذلك عام ١٩٨١م، في «دراسات إسلامية».
ولمَّا شاركتُ في عدة مشاريع للبحث عن التنمية في مصر، فقد ساهمتُ بدراسات عدة عن «الدين والتنمية في مصر» و«أثر العامل الديني في توزيع الدخل القومي في مصر»، خلال عام ١٩٧٩م، عن طريق تحليل مضمون الخطاب للقيادة السياسية في مصر، إبَّان الفترتَين الرئيسيتَين في الثورة المصرية. وكان النضال الفكري الآني المباشر قد خفَّت حدَّته نظرًا لتوقُّفي عن التعامل مع الصحافة اليومية، ولكن ظلَّ الالتزام بالنضال الفكري خلال المجلات الثقافية العربية، سواء في موضوعات الدين والثقافة الوطنية مثل: مخاطر في فكرنا القومي، المسئوليات الراهنة للثقافة العربية، أو في الدين والتحرُّر الثقافي مثل: الإبداع الفكري الذاتي، الأصالة والمعاصرة، نحن والتنوير، من التراث إلى التحرُّر، الضباط الأحرار أم المفكِّرون الأحرار، أو في الدين والنضال الوطني مثل: هل يجوز شرعًا الصلح مع بني إسرائيل؟ عبد الناصر وقضية الصلح مع إسرائيل، مخاطر السلام، عبد الناصر والدين، عبد الناصر والحلف الإسلامي، عبد الناصر والشاه، الدين والثورة في الثورة العرابية. كما ساهمتُ في عدة مشاريع بمراكز البحوث في مصر عن الحركات الدينية المعاصرة، وكتبتُ عدة دراساتٍ طويلة مثل: أثر أبي الأعلى المودودي في الحركات الإسلامية المعاصرة، أثر سيد قطب في الحركات الإسلامية المعاصرة.
وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، في فبراير ١٩٧٩م، وفي عنفوان نقد النظام السياسي في مصر لها، نشرتُ «الحكومة الإسلامية» و«جهاد النفس» للإمام الخميني، حتَّى يعلم الناس نصوص الثورة قبل الحكم عليها. وأنشأتُ مجلة «اليسار الإسلامي» بعد التردُّد كثيرًا في استعمال الاسم. وأصدرتُ العدد الأول والوحيد حتى الآن عام ١٩٨١م، وبه «المسلمون في آسيا في مطلع القرن الخامس عشر»، «ماذا يعني اليسار الإسلامي؟». وحاولتُ إبراز مفهوم اليسار الإسلامي، وبيان معاركه الرئيسية في عدة مقالات؛ مثل: اليمين واليسار في الفكر الديني، الدين والرأسمالية، ماذا تعني أسباب النزول؟ مناهج التفسير ومصالح الأمة، المال في القرآن. كما حاولتُ بيان كيف يكون اليسار الإسلامي بوتقةً للوحدة الوطنية في عدة دراسات؛ مثل: اليسار الإسلامي ومستقبل مصر، ضرورة الحوار، دعوة إلى الحوار، التنوير الديني والتنظيم السياسي، مأساة الأحزاب التقدمية في البلاد المتخلِّفة. وهي التي تكوِّن المادة لكبرى لهذه الأجزاء الثمانية «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م».
ثمَّ وقعَت مذبحة سبتمبر ١٩٨١م، لأتفرَّغ لمدة عامٍ كامل للبحث العلمي وأنا خارج الجامعة. وهنا بدأتُ أُفكِّر جديًّا في أن أعود إلى صياغة «من العقيدة إلى الثورة» بعد أن جمعتُ المادة العلمية أعوام ١٩٧٢–١٩٧٤م، ويكون ذلك أكبر رد على الثورة المضادة. وبالفعل بدأتُ في الصياغات الأولى، تخلَّلها فقط انقطاع شهرٍ لكتابة دراسة عن تحقيقات الاغتيال، بعد أن عادت مصر إلى روحها، وبعد أن أخذ خالد الإسلامبولي ورفاقه نوعًا من التعاطف الشعبي العام، وهي الدراسة السابقة «الأصولية الإسلامية».
وخلال عام ١٩٨٢م، وأنا أكتب هذه الصياغة الأولى، أدركتُ أنَّني أضعتُ الوقت كثيرًا، وأنِّي قد انشغلتُ عن مشروعي الأول «التراث والتجديد» في زحمة الأحداث، وأنَّني شهدتُ على أحداث العصر بما فيه الكفاية، وأنَّني أكتسب من التجارب المعاشة من أحوال الوطن ما يجعلني صادقًا في التعبير عنها، فعقدتُ العزم على أن أُنهي مرحلة العمل المباشر، وأن أبدأ في تأصيل الثورة من خلال التراث، الذي ما زال هو المكوِّن الرئيسي لثقافة الناس الوطنية. وتطلَّب ذلك مغادرة الوطن مرةً ثانية إلى حين.
(٨) بداية الوعي بالشرق (١٩٨٢–١٩٨٧م)
وبدأَت رحلتي الثالثة خارج الوطن، بعد رحلتي الأولى كأستاذ إلى فرنسا ١٩٦٥–١٩٦٦م، ورحلتي الثانية كأستاذ إلى الولايات المتحدة ١٩٧١–١٩٧٥م، وهذه المرة إلى المغرب العربي ١٩٨٢–١٩٨٤م. وكنتُ قد عرفت المغرب من قبلُ عام ١٩٧٩م، أثناء انعقاد الجمعية الفلسفية المغربية في إحدى دوراتها عن «نحن والتنوير». وهناك أدركتُ أنَّ مكاني الطبيعي بين طلبة المغرب، ثقافةً وحماسًا، علمًا ووطنية، عمقًا والتزامًا. تعرَّفتُ على عميد آداب فاس الذي طلب مني البقاء، ولكن لم يكن الأوان قد حان بعدُ، فلمَّا حان الوقت ذهبتُ إلى هناك وأنا أجد بيئتي الطبيعية، الجمع بين العلم والوطن، بين الثقافة والالتزام، بين التراث القديم والتراث الغربي المعاصر. كان معظم الطلبة والأساتذة يسارًا؛ ومن ثمَّ وجدتُ نفسي بين أهلي وعشيرتي. خاصة وأنَّ أصولي مغربية؛ فجد جدي من البربر، رحل من المغرب إلى الحجاز سيرًا على الأقدام كعادة المغاربة. وأثناء عودته عن طريق مصر الوسطى استقرَّ في بني سويف، وتزَّوج بدوية من قبيلة بني مُر، وهي القبيلة التي ينتسب إليها عبد الناصر؛ لذلك كانت عيون جدي من جهة أبي خضراء.
لم أُدرِّس فقط لطلبة المغرب في كل السنوات، بل أيضًا شاركتُ في معظم المنتديات الثقافية المغربية، وما أكثرها في كل مدنها؛ فاس، مكناس، الرباط، مراكش … إلخ! بل واتصلتُ بأحزابها. وكنتُ وأنا جزء من المعارضة المصرية أجد نفسي في المعارضة المغربية. وجُلت في أنحاء المغرب جنوبًا حتَّى مراكش وشمالًا حتَّى طنجة، وديانًا وسهولة الحياة، ورخص المعيشة. وستظل هاتان السنتان لي وللأسرة أنعم سنتَين في عمرنا الطويل. رأيتُ عشق المثقف المغربي لحرية الفكر وبحث المغربي الفقير عن لقمة العيش. عشقتُ العروبة من هناك، ورأيتُ بقايا الأندلس، وقصر الحمراء، وجامع قرطبة. وكنَّا نعبُر مضيق جبل طارق بعد سبتة أو إلى إسبانيا من مليلية إلى ربوع الأندلس أكثر من مرة في العام. وأدركتُ أنَّ القرن الأفريقي في الشمال ما زال مُحتلًّا في مدينتَين؛ سبتة ومليلية، وأنا الساعي إلى تحرير الأرض، والذي أسَّس لذلك لاهوت الأرض، يربط فيه بين الله والأرض. رأيتُ جمال العمارة العربية، والملابس العربية، والزخرفة العربية، وسمعتُ اللغة العربية الفصحى بلا لحن، وطربتُ للموسيقى الأندلسية، وفرحتُ بزينة المرأة المغربية، وأدركتُ أهمية الإسلام الطبيعي في المغرب، الذي لم يقع في ثنائية الحلال والحرام، كما هو الحال في الإسلام في المشرق، تحت أثر إيران والديانات الثنوية القديمة. كما أنَّ اليهودية دينٌ طبيعي في المغرب. الإسلام واليهودية دينان قوميان. أمَّا المسيحية فلم تنتشر في المغرب لأنَّ المغربي لا يُدرك ملكوت السماوات إنَّما يعيش في ملكوت الأرض. وبالرغم مِمَّا كان للتبشير في المغرب من حرية أثناء الاستعمار الفرنسي ولكن الكنائس مهجورة. كانت أفكاري قد سبقَتني إلى المغرب من خلال المجلات الثقافية المصرية «الفكر المعاصر»، «الكاتب» … إلخ، ورأيتُ جيلًا من الطلاب والمعيدين كانوا يقرَءون لي منذ الإعدادية والثانوية؛ فالطالب في المغرب يتكوَّن حتَّى الثانوية علمًا ولغة وثقافة، وفي الجامعة يُمارس السياسة. يتعلَّم من أجل العلم وليس للحصول على شهادة أو وظيفة. وقد تكون أعلى شهادة حصل عليها رئيس القسم أو العميد أو رئيس الجامعة هي الماجستير، ولا يشعر أيٌّ منهم بنقص، ولكنَّه يعلم كل شيء. كان المغاربة يعلمون كل شيء عنَّا ونحن لا نعلم شيئًا عنهم. يصفون القاهرة وأحياءها ولم تطأها أقدامهم. إنَّما عرفوها من خلال الأدب الحديث. يُحبون اقتناء الكتب، والمجموعات الكاملة. تربَّوا على «الرسالة» و«الثقافة». هم حفَظة العلم بعد سقوط الأندلس، في الصدور وفي العقول وفي الخزائن العامة والمكتبات الخاصة.
وخلال سنتَين ١٩٨٢–١٩٨٤م، والجامعة مضربة طول الوقت، وأيام العطلة أكثر من أيام العمل، دوَّنتُ الصياغة الثانية لكتابي «من العقيدة إلى الثورة» وأنا في هدوء وعمل يومي يصل إلى خمس عشرة ساعة. كنتُ أكتب ما بين العشرة والخمس عشرة صفحةً يوميًّا، وكما هي العادة حتَّى الآن من قبيل الفجر حتَّى المساء، مع راحة بعد الغذاء لا تتجاوز الساعة. كتبتُ المجلدات الخمس باستثناء خاتمة المجلد الخامس «من الفرقة العقائدية إلى الوحدة الوطنية» كتبتُها في صيف ١٩٨٤م، بعد تركي المغرب وقبل السفر إلى اليابان بأيام في سبتمبر من نفس العام. وأنا أدوِّن السطر الأخير «ونحن إنَّما نُقدِّم «من العقيدة إلى الثورة» اجتهادًا منَّا، واستئنافًا لعلم أصول الدين بعد أن توقَّف منذ سبعة قرون، وتطويرًا له بعد «المواقف»، «ورسالة التوحيد» في عصر التحرُّر من الاستعمار في الخارج، والقهر في الداخل، وفي فترة الردة من قلب مصر المحمية.» أحسستُ وكأنَّني تخلَّصتُ من حملٍ ثقيل، وأنَّ مرحلةً قد انتهت تتلوها مرحلةٌ أخرى.
كنتُ أريد الاستمرار في العالم العربي. فكَّرتُ في صنعاء. وكنتُ أسمع أنَّ طلبة اليمن لا يقلون ثقافة والتزامًا عن طلبة البحرين. وكان الزملاء يعرفونني، فإذا ما أمكن السيطرة على الأهواء البشرية في القواعد الجامعية، فسرعان ما تعصف الأجهزة العليا الاستشارية أو الأمنية بالنوايا الطيبة. ولمَّا كانت الجماعات الإسلامية تملأ الجو صخبًا كنتُ بطبيعة الحال شيوعيًّا ملحدًا. والدولة تبغي الأمان، ولا تريد كبَّ الزيت على النار ولا حتَّى إشعال الفتيل.
وكانت تجربتي في جامعة طوكيو وفي المجتمع الياباني جديدة وفريدة. رأيتُ الطالب الياباني الصامت الذي لا يتكلَّم، لا يدخل في معركة أو نقاش، يأخذ ولا يُعطي، يسمع ولا يتكلَّم، يستدل ويتعلم، ويحتفظ بنتائجه لنفسه أو لرئيسه أو لحكومته إذا كان موظفًا. كنتُ كمن يُغنِّي ويردُّ على نفسه. قدَّرتُ الطالب الأوروبي، والحياة الجامعية الأوروبية؛ حيث صراع الآراء والخلاف بين وجهات النظر إلى حد التناطح. رأيتُ الأدب الجم، والانحناء إلى الأرض، والحفاظ على الأشكال والرسوم. رأيتُ احترام كبر السن. وعرفتُ الجديد، نموذجًا ثالثًا من العلاقة بين القديم والجديد، بالإضافة إلى نموذج الانقطاع الغربي ونموذج التواصل والتجديد لدينا، وهو نموذج التجاور، لكلٍّ ميدانه، القديم للحياة الخاصة والأعياد واللباس والمعابد والأفراح والأحزان، والجديد للعمل وللمعمل وللشركة وللمصنع وللإدارة. وينقل الياباني نفسه من مستوًى إلى آخر دون أي إحساسٍ بالتناقض أو التعارض. ونحن الذين قتلنا أنفسنا منذ مائتَي عام في موضوعات الأصالة والمعاصرة، التقليد والحداثة، التراث والتجديد. إمَّا أنَّنا في وهم وإمَّا أنَّهم سذَّج طيبون. حاضرتُ في الجمعيات العلمية، وجُبت ربوع اليابان غربًا وشمالًا، ورأيتُ آثار القنبلة الذرية في هيروشيما. رأيتُ النظام، والنظافة، وحب العمل، والولاء للجماعة، والإخلاص لقضية، والإحساس بالواجب إلى حد الانتحار. ما نُنادي به منذ فجر النهضة الحديثة يعملون هم به. يوجد قطاعٌ غربي مستغرب، الأكثر من الشباب والأقل من الشيوخ. الغرب وأمريكا مثلٌ أعلى يُمكن تجاوزه بعد تعلُّمه وتمثُّله. يبدو أنَّ الهزيمة العسكرية قد تحوَّلَت إلى نصرٍ اقتصادي، وأنَّ المجال الحيوي الياباني الذي ظلَّ مجموع دول شرق آسيا بما في ذلك سيبيريا والصين، والمحيط الهادي حتَّى سواحل أمريكا الغربية، ظلَّ هو كذلك تجارةً واقتصادًا واستثمارًا.
وكان عليَّ الخيار بعد ذلك إمَّا البقاء في اليابان في جامعة الأمم المتحدة في طوكيو، أو عائدًا إلى العالم العربي الذي أحن إليه، والذي يحل أيضًا مشكلة تعليم أولادي الثلاثة، لمَّا كان التعليم الخاص في اليابان لا يقوى على مصروفاته أحد. قلتُ أجرِّب فصلًا دراسيًّا واحدًا في جامعة الإمارات العربية المتحدة. وكنتُ قد راسلتُها منذ عام، وطلبوا مقابلةً في لندن أثناء وجودي في المغرب في أواخر يونيو ١٩٨٤م، ووصلتُ متأخرًا إلى لندن من جبل طارق، ولم أستطع الانتظار يومًا واحدًا؛ فقد أزف موعد الرحيل من المغرب في ٣٠ يونيو ١٩٨٤م، فاعتذرتُ عن المقابلة، وطلبتُ تأجيل النظر في أمري ستة أشهر على الأقل حتَّى أعود من اليابان في ربيع ١٩٨٥م. ذهبتُ أستاذًا زائرًا إلى جامعة الإمارات العربية المتحدة في الفصل الدراسي الثاني. وكانت تجربةً ثانية جديدة وفريدة؛ فقد عشتُ في الخليج الأسطوري حيث توجد عوائد النفط ولو نظريًّا. ورأيتُ الجامعة والشعب والدولة. الجامعة أقرب إلى المعسكر للتدريب، فصل الطلبة عن الطالبات، وعزل عن المجتمع والوطن والدولة. المرتب الكبير يُغري أن يتحوَّل التدريس إلى تلقين مِمَّن يعلم لمِن لا يعلم. تُسيطر على الجامعة التياراتُ الإيمانية التي تُزايد في الإيمان تقربًا إلى السلطة. أمَّا النشاط العام فلا وجود له إلَّا في إطار الدعوات الرسمية، كل فكرة يحملها طالب أو طالبة عن الفرد أو التاريخ أو المجتمع أو أي ذكر لماركس أو هيجل يكون من هذا الأستاذ الزائر. وفي المقابلة في نهاية الفصل الدراسي سألني الأعضاء عن أشياء نسأل نحن عنها طلبتنا في الثانوية العامة. كان المعروض أكثر من المطلوب. ولماذا الصداع؟ وأدركتُ مأساة الخليج؛ عصابة كبرى، وهي الغرب والولايات المتحدة، بيدها كل شيء، المال والاقتصاد والأمن والمصير، وعصبة أصغر بيدها أمور الحكم. هؤلاء هم الحكام. أمَّا المحكومون فالمهاجرون طلاب الرزق، العرب من الشام ومن مصر يُسيطرون على الإدارة وجهاز الحكم، والآسيويون الذين بيدهم الأسواق، ويقومون بشتَّى الأعمال اليدوية. لا يتكلمون العربية، هم «البيتان» المهاجرون من الساحل الشرقي للخليج، مجتمع رجالي بالأصالة، يعيشون بلا أُسر، ذلك شرط العقد حتى لا يستوطنوا. يُرسلون الأجور لذويهم. هم ملك اليمين، مستأجَرون، يفسخ السيد عقودهم في أيَّة لحظة. نُعارض العنصرية في جنوب أفريقيا، والعنصرية ضاربةٌ فينا، ونحن له مسلمون.
كان عيب الجامعة بالنسبة لي، بالإضافة إلى الصراعات الداخلية، بين الإدارة والعلماء، هو اليوم الكامل في العمل. وكنتُ قد بدأت وأنا أستاذٌ زائر في جامعة طوكيو، ثمَّ في الإمارات العربية المتحدة، جمع مادة محاولتي الثانية «من النقل إلى الإبداع»، لإعادة بناء علوم الحكمة. كنتُ أعمل بعد منتصف الليل بقليل حتَّى الساعة التاسعة صباحًا قبل الذهاب إلى الجامعة. ويبدأ نومي في السابعة مساءً. وأعمل في علوم الحكمة يومَي السبت والأحد والعطلات الرسمية وما أقلَّها. ومع ذلك، على مدى ثلاث سنوات في طوكيو (١٩٨٥–١٩٨٧م) أنهيتُ جمع المادة، كما فعلتُ بالنسبة لمحاولتي الأولى لجمع مادة علم أصول الدين في الولايات المتحدة على مدى ثلاث سنوات كذلك (١٩٧٢–١٩٧٤م). وكنتُ توَّاقًا إلى العودة إلى أرض الوطن إلى جامعتي، خاصة وأنَّ محاولتي الأولى كانت على وشك الظهور، ومحاولتي الثانية كانت في الإعداد حتَّى أبدأ حياة استقرار وتعليم وإعداد لمجموعة من الباحثين. أدركتُ أنَّ مشروع «التراث والتجديد» هو مشروع جيلٍ بأكمله يحتاج إلى فريقٍ من الباحثين. طُوي أكثر العمر وما زلتُ في المحاولة الثانية من الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم»، التي تشمل سبع محاولات. ومتى لي بالمحاولات الثلاث في الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي»، والمحاولات الثلاث للجبهة الثالثة «موقفنا من الواقع أو نظرية التفسير»؟
(٩) بداية التأسيس العلمي (١٩٨٨–؟)
وبالرغم أنَّ السيرة الذاتية لا تتعلَّق بالمستقبل، بل بمراحل ولَّت وانقضت، إلَّا أنَّه يُمكن استقراء المرحلة الحالية، التي أرجو أن تكون الأخيرة من المراحل الماضية؛ فمنذ عودتي من الشرق في صيف ١٩٨٧م، وكان همي إصدار طبعة مصرية شعبية لمحاولتي الأولى «من العقيدة إلى الثورة»، بعد أن تأخَّرَت الطبعة البيروتية. وقد تمَّ ذلك بالفعل واستغرق ما يقرب من ثلاثة أرباع العام، لطبع مُجلداتٍ خمسة في ظروف النشر في مصر. ولما خاف الناشر اللبناني سرقة السوق منه، أسرع في إصدار الطبعة البيروتية في نفس العام.
ولمَّا كانت هذه المحاولة الأولى أقرب إلى العقيدة منها إلى الثورة، وأقرب إلى التراث منه إلى التجديد، قرَّرتُ أن أجمع نشاطاتي الفكرية الصحفية العامة من ١٩٧٦–١٩٨١م، وهي شهادتي الثانية على أحداث العصر، الثورة المضادة في مصر. وكنتُ قد أعلنتُ أنَّها ستكون «قضايا معاصرة» الجزءان الثالث والرابع؛ الثالث «في الثقافة الوطنية»، والرابع «في اليسار الديني». ولكنِّي خشيتُ من تضخُّم كل جزء مِمَّا يصعُب معه حمله. وكنتُ أريد أن أجعله شعبيًّا يُنافس مشايخنا الأجلاء، وموجَّهًا إلى جماهير سيد قطب والمتولي الشعراوي على نواحي الطرق ولدى باعة الصحف، فقرَّرتُ إصداره في ثمانية أجزاء على هذا النحو الذي تمَّ به، وجعلتُ عنوانه «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» مصنفًا موادَّه قدْر الإمكان طبقًا لموضوعاتٍ متمايزة. وقد استغرق ذلك أيضًا حوالي ثلاثة أرباع العام؛ وبالتالي أكون قد شهدتُ على عصرَين مرتَين؛ الأولى بعد الهزيمة (١٩٦٧–١٩٧١م)، والثانية إبَّان الثورة المضادة (١٩٧٦–١٩٨١م)، أخاطب الجمهور العريض حوالي عشر سنوات من العمر على هامش «التراث والتجديد» الموجَّه للخاصة. لم أكن أستطيع إلَّا هذا، ولم يكن بوسعي إلَّا ما فعلتُ، وكأنَّ الأحداث تسيِّرني وأنا الذي طالما أثبت خلق الأفعال؛ لذلك لا أريد صحفيًّا يسأل حديثًا، ولا باحثًا يطلب بحثًا. اللهم إلَّا إذا تم بيع الوطن من جديد، أو حاقت به الأخطار التي تُهدِّد حاضره ومستقبله، أو ضاقت عليه الأرض بما رحُبَت، وأرجو ألَّا يكون.
وقبل أن أتفرَّغ إلى مرحلة التأسيس العلمي بقي لديَّ عدة مساهماتٍ جانبية، مثل البيان النظري الثاني عن الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي»، بعنوان «مقدمة في علم الاستغراب»، أُحاول فيه تحديد موقفي بالنسبة للغرب؛ فيبدو أنَّه ما زال هو الإطار المرجعي ونقطة الأصالة الدائمة في مناقشات المُثقَّفين والعلماء لمحاولتي الأولى؛ تكرارًا لِما حدث مع القدماء بجعل اليونان نقطة إحالةٍ مستمرةٍ لفهم المسلمين، الأنا من خلال الآخر. وسيصدر ذلك خلال هذا العام ١٩٨٩م؛ فلقد تتأخَّر أجزاء الجبهة الثانية ريثما أنتهي من أجزاء الجبهة الأولى.
وقد أعددتُ أيضًا كتابًا عن «فشته، فيلسوف المقاومة» بمناسبة مرور أربعين عامًا على احتلال فلسطين ١٩٤٨–١٩٨٨م، وبمناسبة مرور عشرة أعوام على كامب دافيد ١٩٧٨–١٩٨٨م، والآن ربما يكون له دلالة أكثر بمناسبة مرور عام على الانتفاضة، وإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة. أُبيِّن للناس كيف يكون عليه الفيلسوف، كيف يجسِّد روح أمة، ويُعبِّر عن مطالب شعب، يُصوغ كل فلسفته طبقًا لمطالب العصر؛ نظرية في الوحي باعتباره أخلاقًا، ونظرية في الثورة باعتبارها دفاعًا عن حرية الفكر، ونظرية في العلم باعتباره تحررًا، ونظرية في المقاومة، ونظرية في الأخلاق، ونظرية في القانون … إلخ، إلخ، حتَّى تتجسَّد الفلسفة أمام الطلاب، وتخرج عن نطاق الكُتب المقرَّرة والعبارات المحفوظة. وسيصدر أيضًا هذا العام.
سأنتبه إلى تكوين الباحثين الشبان؛ فمشروع «التراث والتجديد» أقرب إلى عمل الفريق والدراسات الموازية منه إلى عمل فردٍ واحد، وتأسيس «الجمعية الفلسفية المصرية»، وإنشاء «مركز الدراسات الفلسفية» لتخريج باحثين متمكنين هادفين متجردين للبحث العلمي، وإنشاء «مجلة الجمعية الفلسفية المصرية» لتكون منبرًا للحوار الفلسفي. يبدو أنَّ مرحلة التأسيس العلمي لا تبدأ إلَّا بعد الخمسين، وربما الستين، عندما يتفرَّغ الإنسان من هموم الدنيا، ويتجرَّد عن الأهواء، ليتجه إلى البحث العلمي الرصين، بأعمال تأسيسية تكوينية، تصبح علامات على مسار التاريخ.
وعلى هذا أصف مشروع «التراث والتجديد»، وهو كما وصفتُ منذ عشر سنوات، على النحو الآتي:
القسم الأول «الجبهة الأولى»: موقفنا من التراث القديم «البيان النظري الأول»
- الجزء الأول: من العقيدة إلى الثورة، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين «خمسة مجلدات».
- الجزء الثاني: من النقل إلى الإبداع، محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة «مجلدان».
- الجزء الثالث: من الفناء إلى البقاء، محاولة لإعادة بناء علوم التصوُّف «مجلدان».
- الجزء الرابع: من النص إلى الواقع، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه «مجلدان».
- الجزء الخامس: من النقل إلى العقل، محاولة لإعادة بناء العلوم النقلية «خمسة مجلدات».
- الجزء السادس: الإنسان والتاريخ، محاولة لإعادة بناء العلوم الإنسانية «مجلدان».
القسم الثاني «الجبهة الثانية»: موقفنا من التراث الغربي «البيان النظري الثاني»
- الجزء الأول: مصادر الوعي الأوروبي.
- الجزء الثاني: بداية الوعي الأوروبي.
- الجزء الثالث: نهاية الوعي الأوروبي.
القسم الثالث «الجبهة الثالثة»: موقفنا من الواقع أو نظرية التفسير «البيان النظري الثالث»
- الجزء الأول: المنهاج.٤٦
- الجزء الثاني: العهد الجديد.
- الجزء الثالث: العهد القديم.
ويبدو المشروع على هذا النحو غير متساوي الأضلاع؛ إذ ترجح الجبهة الأولى الجبهتَين الثانية والثالثة؛ مِمَّا يدل على أنَّ إعادة بناء الأنا هو الأساس، قبل إعادة تكوين الآخر، أو أنَّ فسحة العمر في البداية تضيق في النهاية.
وعلى هذا النحو تنتهي هذه المحاولة المبدئية لسيرة ذاتية، بعد أن انقضى من العمر أعظمه، وبعد اتضاح معالم المشروع، وبعد أن تم انكشاف المصير، مجرد نواة طبقًا لمقتضى الحال، وقبل السيرة الذاتية الأخيرة بعد انتهاء المشروع. كل مراحلها بداية؛ فالحياة تبدأ، ثمَّ تبدأ من جديد إلى ما لا نهاية؛ فأنا ابن الأصولية الإسلامية، تاريخها الموضوعي هو سيرتي الذاتية. قد لا تتوازن السيرة بين العام والخاص، بين الموضوعي والذاتي، بين غير الدال والدال، بين الدلالة والحدث، بين التطوُّر والبناء، بين السرد والمعنى، بين السند والمتن، بين الواقع والحُلم، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين التجلِّي والخفاء، بدافع الحياء خاصةً وأنَّ المعاصرين ما زالوا أحياء، بين الواقع التاريخي والأدب الإنشائي. كما أنِّي لا أرسم صورةً مثالية لي؛ فبي عيوب البشر جميعًا. إنَّما حاولتُ أن أترك سيرة للناس؛ فربما يُصيبني مكروه إرادي أو غير إرادي، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.
ولم تكن السيرة قد اكتملَت بعدُ نظرًا لإحساسي بذاتيتها، كمقدمة مقترحة لعمل موضوعي، فآثرتُ التوقف حتى ثالثًا: بداية الوعي الفلسفي (١٩٦١–١٩٦٦م). والآن أكملها حتَّى تاسعًا: بداية التأسيس العلمي (١٩٨٨–؟) بنفس الروح القديمة وبنفس الأسلوب القديم الذي كتبت به الأجزاء الأولى عام ١٩٨٠م. ووجدتُها قريبة من دراسة «الأصولية الإسلامية» التي تقص الصراع بين الإخوان والثورة على مدى ثلاثين عامًا؛ فسيرتي الذاتية هي نفس الموضوع، ولكن كحالةٍ فردية؛ فأنا جزء من الأصولية الإسلامية في تفاعلها مع الثورة المصرية، لم أدخل السجن ولم أُعذَّب بدنًا ولكني مارستُ الفكر والسياسة على نحوٍ طبيعي وعلني، فوق الأرض وليس تحت الأرض. ولو سُجنتُ وعُذبت لربما كتبتُ «معالم في الطريق» ولكني أُكمل سيد قطب الأول صاحب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، «معركة الإسلام والرأسمالية»، «السلام العالمي والإسلام»، الذي كان بداية اليسار الإسلامي، وبوتقة للوحدة الوطنية، واضعًا مرحلة «معالم في الطريق» بين قوسَين في حياة المفكِّر الشهيد، وفي حياة الأمة وشباب الجماعات الإسلامية كلها.
وبالرغم من أنَّ السيرة الذاتية فن وُجِد في تراثنا القديم وفي التراث الغربي، إلَّا أنَّني لم أشأ صياغة ذلك الآن. وإنَّما نشرتُ هذه المحاولة لدافع ثانٍ، وهو الإجابة على السؤال المُستمر من أنا؟ إخواني كما تقول الحركة التقدمية، شيوعي كما تقول الحركة الإسلامية، إخواني شيوعي كما تقول أجهزة الأمن؟ وهو رد أيضًا على ما يُقال من وقوعي في تناقض بين «التراث والتجديد»، وهو الصياغة العلمية لمشروعي الفلسفي لنهضة الأمة، ومُوجَّه لعلماء الأمة وبين «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، وهي كتاباتي الصحفية الموجَّهة للجمهور العريض. الأول قول برهاني وإن لم يخلُ من بعض الأقاويل الجدلية والخطابية. والثاني قولٌ خطابي وإن لم يخلُ من بعض الأقاويل الجدلية والبرهانية. وكلاهما تعبيرٌ عن قضايا العلم والوطن، وهموم العالم والمواطن، وضعتُ حياتي مع مؤلفاتي، ومؤلفاتي في حياتي. كل مرحلة بين الأربع والست سنوات، ولا أدري ما هي مراحلي القادمة، تركتُها مفتوحة ابتداءً من بداية التأسيس العلمي عام ١٩٨٨م، وأرجو أن تكون المرحلة الأخيرة (انظر أيضًا هامش (٥٢) من مقدمة «من العقيدة إلى الثورة»، المجلد الأول، «المقدمات النظرية» مقدمة: من الدعاء إلى السلاطين إلى الدفاع عن الشعوب، ص٤٩–٥١).
Islam, Religion, Ideologie and Development, Anglo-Egyptian Bookshop, Cairo, 1989 (In print).
وجدير بالذكر دور الباحثين المصريين في الجامعة، وفي مقدمتهم د. أنور عبد الملك منسق مشروع «البدائل الاجتماعية والحضارية في عالم متغير»، ومشروع «الفكر الاجتماعي الجديد»، وأيضًا د. إسماعيل صبري عبد الله، منسق مشروع «المستقبلات العربية البديلة»، د. سمير أمين، منسق مشروع «الرؤية الأفريقية».