محاولةٌ مبدئية لسيرةٍ ذاتية١

هذه المقدمات النظرية العامة عن «التراث والتجديد» تُمثِّل مجرد مقدمة لمشروعٍ متكامل لإعادة بناء تراثنا القديم طبقًا لاحتياجات العصر ولمطالب جماهير الأمة. وهي رسالة جيلنا الذي يُحاول نقل مجتمعنا من مرحلة إلى مرحلة، من مرحلة الإصلاح الديني الذي بدأناه منذ القرن الماضي ابتداءً من الأفغاني والكواكبي، حتَّى إقبال والمودودي وسيد قطب، إلى مرحلة النهضة الشاملة التي بدأناها أيضًا في القرن الماضي، منذ الطهطاوي حتَّى لطفي السيد وطه حسين. مهمة «التراث والتجديد» تطوير الإصلاح الديني ودفعه خطواتٍ أخرى، وجعله أكثر جرأة على الواقع خاصة بعد أن خبا شيئًا فشيئًا على يد محمد عبده ثم رشيد رضا، وارتفاعه إلى حدٍّ ما من جديد على يد حسن البنَّا وسيد قطب. وتظهر هذه الجرأة ليس فقط في الناحية العملية من مواجهة الاستعمار والصهيونية والرأسمالية والرجعية، ولكن أيضًا في الناحية النظرية، فيما يتعلَّق بالعقائد التي تُمد الناس بتصوُّراتهم للعالم وبموجِّهاتهم للسلوك. كما تظهر أيضًا ليس فقط من ناحية التشريع وتطوير قانون الأحوال الشخصية، ولكن أيضًا من ناحية العقيدة، وتحويل عقائد الإيمان التي ورثناها منذ أكثر من ألف عام على يد الأشعرية، وازدواجها بالتصوف، إلى أيديولوجيةٍ ثورية لمجتمعاتنا الحالية، بعد فشل مناهج التحديث العلمانية منذ فجر نهضتنا الحديثة، وأن تمتد جرأتنا في العقيدة ليس فقط في العدل وإعلان استقلال الوعي الإنساني فكرًا وإرادة، وإثبات العقل والحرية كما الحال عند محمد عبده، ولكن أيضًا في التوحيد، والانتقال من التشبيه إلى التنزيه، ومن الله المشخص إلى الله المبدأ العقلي الشامل الذي تتوحَّد أمامه قوى الإنسان الفكرية والقولية والوجدانية والعملية، والذي تتوحَّد أمامه طبقات الأمة، والذي تتوحَّد أمامه جميع الشعوب والأجناس.

وقد ارتبط «التراث والتجديد» بالتطور الطبيعي لكل مفكر في أمتنا.٢ ولقد تأخَّر ظهوره حتى الآن لعدة أسباب منها ما يتعلق بمراحل تطور المفكِّر، ومنها ما يتعلق بأشكال التعبير عنه. ويمكن تتبُّع نشأته وتكوينه خلال تسع مراحل، التاسعة منها قد لا تكون الأخيرة.

(١) بداية الوعي الوطني (١٩٤٨–١٩٥١م)

كنَّا ونحن صغار أثناء الحرب العالمية الثانية، وهي في أواخرها، نفرح برؤية الكشافات وهي تتحرك في السماء المظلمة، وكنَّا نسمع دويَّ المدافع ونحن في المخابئ. وكنتُ في الصيف وأنا في المرحلة الابتدائية أُغادر مع الأسرة إلى بني سويف حمايةً من غارات القاهرة، ولكنَّنا كنَّا معجبين بالمحور، وبشجاعة الطيارين الألمان. وكنَّا على يقين بأنَّ الألمان لا يريدون شرًّا بمصر، ولا يبغون أذى الشعب المصري، ولا يحاربون إلَّا الإنجليز، ولا يدكُّون إلَّا معسكراتهم. وكنَّا أعداء الإنجليز، نبغي التحرُّر منهم، فكان الألمان أصدقاءنا لأنهم أعداء أعدائنا، ولم نكن نعرف شيئًا عن النازية، ولم نقرأ «كفاحي». وكانت صدمةً لنا في النهاية عندما هُزم الألمان، وانتصر الحلفاء، بعد أن أُعجبنا بشجاعة الجندي الألماني، وبقوة السلاح الألماني، وكان روميل بالنسبة لنا بطلًا أسطوريًّا. وربما ظلَّ هذا الإعجاب حتَّى الآن، بالنظام والعسكرية والقوة والصناعة الألمانية بعد أن تعمَّق في سنوات الجامعة، وأصبح إعجابًا بالروح الألمانية، والمثالية الألمانية وبالتوحيد بين الروح والطبيعة. تعلَّمتُ اللغة الألمانية بالجامعة، وأُعجبت بالفتاة الألمانية في فرنسا، وكان أول مقال كتبتُه وأنا في الجامعة عن «الخصائص المشتركة بين الروح العربية والروح الألمانية»؛ فكلاهما دعوة للمثال، والطبيعة، والقوة، والعقل، والدولة، والنظام. وكنتُ أعزو هذه «الألمانية» في نفسي إلى «أمي الألمانية» زعمًا. وقد ظلَّ ذلك حتى الآن، فأصبحتُ «فينومينولوجيًّا» حيث اكتملَت المثالية الألمانية، وأصبح «فشته» فيلسوف الأرض المحتلة، وفيلسوف المقاومة، وفيلسوف البعث القومي، مثلي الأعلى، وأصبح اليسار الهيجلي بعد الكانطيين الجدد بالنسبة لي يُمثِّل المرحلة الحالية التي تعيشها الأمة العربية، والتي يعيشها تراثنا القديم؛ أي الانتقال من الدين إلى الفلسفة على يد هيجل، ثم الانتقال من الفلسفة إلى الطبيعة على يد فيورباخ، وإنقاذ ألمانيا وتوحيد دويلاتها عن طريق «الأيديولوجية الألمانية».

وكنَّا نذهب ونحن في المدارس الابتدائية لميدان عابدين لإطلاق أناشيد «للمليك اهتفوا» في عيد الجلوس الملكي أو عيد الميلاد الملكي. وكان صوت المجموعة في فِناء مدرسة «السلحدار» الأثري هو الذي يُثير نفسي، ولكن لم نفهم ماذا يعني الولاء للملك، ولكنها كانت رحلة يتشوَّق إليها الصغار عبْر القاهرة المُعزِّية إلى ميدان عابدين.

وكانت البداية الحقيقية للوعي الوطني أثناء حرب فلسطين في ١٩٤٨م؛ فقد ذهبنا ونحن في المدارس الثانوية إلى جمعية الشبان المسلمين، وقد كانت أحد مراكز التطوع، لتسجيل أسمائنا كمتطوعين للحرب، ولكنَّهم طلبوا منَّا التوجُّه إلى كتائب أحمد حسين! وانزعجتُ يومها. أليست القضية واحدة؟ أليس الجهاد واحدًا؟ وهل التطوع يتم لحساب فلان أو علان؟ وبدأتُ أشعر أنَّ الخلافات الحزبية كانت لها الأولوية على القضايا الوطنية. وما زالت حتى الآن قضية الوحدة الوطنية بين اتجاهات الأمة المختلفة، والاتفاق على الحد الأدنى من البرامج الوطنية فيما بينها شُغلي الدائم. وكنتُ أرى الأفلام التسجيلية عن جيشنا في فلسطين، والأفلام السينمائية عن معارك البطولة والاستشهاد. وكنَّا نسمع عن أبطال الفالوجة والضبع الأسود عائدين، وكان عزيز المصري بالنسبة لنا بطلًا قوميًّا مثل أحمد عبد العزيز. وكانت الأغاني الوطنية لفلسطين تهزُّ كياني. وحتى الآن وعلم فلسطين لا يبرح مكتبي، والأرض تحوَّلَت بالنسبة لي إلى إلهٍ جديد، ومن حينها بدت لديَّ أفكار «لاهوت الأرض» قبل أن أسمع عن دين الثورة، أو عن «لاهوت الأرض»، فيما بعدُ أثناء إقامتي بالولايات المتحدة الأمريكية. لم نفهم جيدًا الأحاديث عن الأسلحة الفاسدة؛ فلم نكن نتصوَّر ونحن صغار أن يبلغ الأمر بالمسئولين التجارة بدماء الشهداء، وخيانة القضية الوطنية إلى هذا الحد. لم نعِ جيدًا حدَّ الخيانة، والهدنة الأولى والثانية. ولم ندرك أنَّنا هُزمنا في فلسطين؛ فمدفعيتنا وطيراننا دكَّا المستعمرات اليهودية. كل ذلك طغى على الواقع الذي أدركناه الآن، ولما كان باستطاعة إسرائيل المزعومة أو عصابات الأرجون وشترن أن تهزم جيش مصر.

وكنَّا ونحن في المدارس الثانوية، في مدرسة «خليل أغا» نفرح بالمظاهرات. ويقرأ زعماء الطلبة في الصباح الباكر جرائد اليوم للعثور على سبب للمظاهرات قبل أن تبدأ طوابير الصباح في الثامنة. وما أسهل إيجاد الأسباب! تغيير الديوان الملكي، تعيين حافظ عفيفي، إقالة الوزارة الوفدية، تعيين السعديين، فإن لم يتم العثور على الأسباب اليومية ظهرَت الأسباب الدائمة: إلغاء معاهدة ١٩٣٦م، انسحاب جيوش الاحتلال، وحدة وادي النيل، الاستقلال التام أو الموت الزؤام. لم تكن هناك هتافاتٌ ضد الملك، ولكنَّنا كنَّا نسمع أنَّ طلاب الجامعة لا يتورَّعون عن القيام بها. وكنا نخرج ثمَّ نذهب بعدها إلى مدرسة «فاروق» ثمَّ إلى مدرسة «فؤاد». ونذهب إلى الجامعة لمشاركة طلبة الجامعة. وكنتُ قد تعوَّدتُ على ذلك من قبلُ ونحن في المرحلة الابتدائية خاصة في ١٩٤٧م. وكنَّا نهتف «عاش الطلبة مع العُمَّال» وذلك أثناء تكوين «لجنة العُمَّال والطلبة» في الجامعة. ولم نكن نعلم بالواقعة؛ فكنَّا صغارًا لا نعرف أين الجامعة، كما عرفناها بعد ذلك في المرحلة الثانوية. وكنَّا فخورين أنَّنا نخرج بأنفسنا، ونُخرِج المدارس، ولا تأتي المدارس لتُخرِجنا؛ فكانت لمدرستنا الزعامة باستثناء مرات قليلة كانت بعض المدارس الابتدائية مثل الجمَّالية أو الخرنفش أو باب الشعرية تأتي لمدرسة السلحدار. ومرةً رأيتُ صبيًّا محمولًا على الأعناق يُطالب الناظر بخروج مدرسة السلحدار ومعه مئات الصبية. وما إن انطلق الطوب من فوق الأسوار حتى استسلم الناظر. ويومها فرحتُ بانتصار التلاميذ على الإدارة. وحتَّى الآن وهمِّي تحريك الشعوب، وفرض إرادتها على الحكام. كنَّا نسمع بعد ذلك القنابل، ومذابح كوبري عباس، والشهيد الحي، ولكنَّنا لم نشاهد ذلك بأعيننا، ولكنَّها كانت مرحلةً ما زلنا نعتز بها حتى الآن. وأنا أمرُّ على مدرسة السلحدار ومدرسة خليل أغا وأراهم صبيةً في قبضة موظفين فأنعَى حظهم وأتحسَّر على مصر.

وكانت القيادة لمظاهرات المدارس إمَّا للشيوعيين أو للإخوان أو للوفديين. كانت القيادة الشيوعية قادرة ومؤثِّرة، ولكنَّها كانت تظهر إذا ما غابت القيادات الأخرى. وكانت قيادة الإخوان في الخطابة داخل المدرسة، ولكنَّها كانت تنزوي خارج المدرسة في الطريق العام، وتظهر من جديد في آخر المطاف في مسجد للصلاة على الشهداء أو في الجامعة. أمَّا القيادة الوفدية فقد كانت هي العنصر المُحرِّك والدائم. تلقى التأييد من كل الطلاب، وتُسيطر على المظاهرات داخل المدرسة وخارجها. وكنَّا جميعًا من الوفد دون الانتساب إليه؛ فقد كنَّا جميعًا من الوطنيين. وكنَّا نُشارك في انتخابات ١٩٥١م للوفد، وكنَّا نفرح بشد اليد على مصطفى موسى. وما زلت أذكُر يده الرخوة الضخمة وهي في يدي وهو يُقْبِل عليَّ في الطريق للشد على يدي في باب الشعرية. وكنَّا نُخوِّن سيد جلال وجميع مرشَّحي السعديين وجميع الطلبة السعديين الذين يَدْعون له. كنَّا نسمع عن فساد الأحزاب، وكنَّا نسمع لهجوم السعديين ومكرم عبيد على النحَّاس، ومع ذلك فقد كان النحَّاس بالنسبة للجميع بطلًا قوميًّا، تحرسه العناية الإلهية كما قال مدرس اللغة الإنجليزية في مدرسة خليل أغا، والذي كان يدق جرس البيت ثلاث مرات أي «عاش النحَّاس باشا»! وما زلتُ أذكُر المظاهرة الضخمة لاستقباله وهو عائد من باريس مدينة النور. ذهبنا إلى الإسكندرية. وكانت أول مرة أراها وأرى بحرها المرتفع تدريجيًّا حتى يختلط بالأفق. وعُدنا نفس اليوم بجاردن سيتي وهو يخطب في الجموع غاضب من كثرة الاستقبالات قائلًا: «لا مرحبًا بكم، انصرفوا إلى بيوتكم.» والحقيقة لم يكن استقبال الزعماء يُمثِّل عُمقًا وطنيًّا، ولكن عزائي كان في مظاهرة شعبية باسم الوفد.

ثمَّ ازدادت حدَّة الوعي الوطني أثناء معارك الفدائيين في القنال في ١٩٥١م. وكنتُ في السنة الرابعة بمدرسة خليل أغا الثانوية، وكنتُ بفريق الجوَّالة. وكان المتطوعون من الوفديين والإخوان يتدرَّبون على إطلاق النار بكلية الهندسة بالعباسية. وكنَّا نُودِّع الرفاق في المدرسة وهم ذاهبون إلى الجبهة. وكان اللباس الأصفر ونحن في السادسة عشرة يُعطينا الإحساس بالرجولة. وكنَّا نستقبل الشهداء، ونسير بهم من العباسية حتى جامع الكخية بميدان الأوبرا، ونسير أمام النعوش محمولة على الأعناق، ونساء مصر المتلفِّحات بالملاءات السوداء على الصفَّين يباركن شباب مصر، ويدعون لصغار السن، ونحن نسير بخطوة الجنازة. وكنَّا نسمع الزغاريد على قارعتَي الطريق، والخطب الحماسية من رفاق الشهداء أمام باب الجامع. وكانت رابطات العنق الحمراء، لون الجهاد والدماء، ولون الفرح والشهادة في أعناق الرفاق؛ ففيم الحزن والسواد والموعد في الجنة واللقاء عند الله؟ وكنَّا نشعر والعِصِي الطويلة في أيدينا أنَّنا حماة مصر وجندها الأبرار. ولم تكن الحكومة أو الدولة تدور بخلدنا أو تخطر على بالنا؛ فقد كانت معركة الطلاب وحرب الفدائيين وسط التأييد الهائل للشعب.

وسمعنا حينذاك عن معركة نقطة البوليس مع الجيش الإنجليزي في الإسماعيلية، وعن نداء وزير الداخلية المشهور «إلى آخر رجل وإلى آخر رصاصة». ثمَّ سمعنا عن دك نقطة البوليس، واستشهاد حوالي مائة شرطي ببنادقهم دون الاستسلام، وطنية وثبات دون تجنيدٍ فعلي لكل القوى، مسيحية دون إسلام، وشعارات تُلهِب مشاعر الوطنيين ولكن ينقصها المضمون المادي، ونضال الجميع.

ثمَّ اندلع حريق القاهرة في يناير ١٩٥٢م، وشعرتُ بقمة المأساة؛ القاهرة تحترق، ونزول الجيش إلى الشوارع، ونهب المحال التجارية، وإقالة الوزارة الوفدية، ونهاية الفورة الوطنية، وكان حديث الأحزاب وفسادها، والملك ولياليه الحمراء، والإنجليز واستعمارهم لمصر، ومعسكرات قصر النيل بطوبها الأحمر، وميدان قصر الدوبارة، ولكن وعينا السياسي لم يكن قد برز بعدُ. رأيتُ كثيرًا من اللصوص يُقبض عليهم حيث كنتُ أقطن بباب الشعرية. ولم أفهم لماذا كل ذلك، وكأنَّ الوطنية المجردة موضوع مُتشابك الأطراف، وكأنَّ براءة الصبا لا توجد إلَّا مُغلَّفة بمؤامرات الليل، وكأنَّ الطهارة العذرية ما أسهل الفتك بها من قوًى مجهولة كنَّا نجهلها في حداثة العهد. كان هناك حديثٌ عام عن الفساد في البلاد؛ الرشوة، والأحزاب، والملك، والإنجليز، والإقطاع، والاستعمار. وكنَّا دون رؤيةٍ مستقبلية في هذه السن، وكان التغير الاجتماعي أمامنا مسدودًا بالرغم من مظاهر الفساد العام الذي يشهده الجميع.

وفجأة وبلا مقدمات ونحن نستعد لامتحان مسابقة التوجيهية في الفلسفة في ظهر ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، رأينا الدبابات في الشوارع، والناس في دهشة وحَيْرة، تُعطي الجنود المرطبات وتُلقي عليهم فروع الأشجار. وعرفنا أنَّها حركة الجيش، الحركة المُباركة لتطهير البلاد من الفساد. وكان صوت جلال معوَّض وهو يعلن قيام الجيش بحركة مفاجئة يهز مشاعرنا. وفي صبيحة اليوم التالي قرأنا أخبار الانقلاب، وسمعنا البيانات الأولى والثانية. وفي ٢٦ يوليو، غادر الملك في الساعة السادسة مساءً، وتنازل عن العرش. كانت يقظةً داخلية في نفوسنا؛ فما كنَّا نتحدَّث فيه من فساد وملكية قد انتهى إلى غير رجعة؛ فقد تحقَّقت أحلام صبانا. وكانت أيامًا لا نمل فيها من إعادة سماع البيانات العسكرية عشرات المرات، وكانت شعارات الثورة: «الاتحاد والنظام والعمل». «ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد» تُثير فينا الحماس والعزة والكرامة الوطنية. ورأيتُ محمد نجيب في حديقة قصر عابدين وحوله الجنود وحولهم الشعب؛ فقد تحوَّلَت حدائق القصر إلى ساحات شعبية. وسمعنا عن هيئة التحرير ورأينا لأول وهلة مأساتها، وإسراع كل الوصوليين إليها. وأردنا أن نرى مصر، وريف مصر، والإصلاح الزراعي، فسرنا من القاهرة إلى الإسكندرية سيرًا على الأقدام، وبتنا في شُقق هيئة التحرير المغلقة المهجورة، ونمنا في شرفة البورصة في ميدان المنشية، وكنَّا سعداء بامتلاك الشعب زمام الأمر. وحتَّى الآن، والثورة المصرية عالقة بذهني، ومسارها موضوعُ فكري؛ فعليها كانت بدايات وعيي الوطني، وفيها كان اكتماله.

(٢) بداية الوعي الديني (١٩٥٢–١٩٥٦م)

بالرغم من نشأتي في القاهرة المعزِّية بجوار سور صلاح الدين، وبالرغم من قيامي بالشعائر تقليدًا للأسرة أو فرحًا بزهو الصبية الصغار بشهر رمضان، وبصلاة التراويح، وببطولة الصائم، وبخنوع الفاطر، فقد بدأ الوعي الديني على يد «الإخوان المسلمين»؛ فقد تعرَّفت على بعضهم ونحن في الثانوية. وكنتُ قد سمعتُ من أحدهم في التوجيهية عبارة حسن البنَّا واصفًا إياهم بأنَّهم «فرسان بالنهار ورهبان بالليل»، ولكن إحساسي بالعالم في ذلك الوقت وبالثورة وبالتغير الاجتماعي منعَني من أن تُثير الدعوة فيَّ شيئًا، خاصة وأنَّ من تعرَّفتُ عليهم في ذلك الوقت لم يكن وعيهم السياسي واضحًا، وأنا لا أريد جماعة بل أريد الوطن كله.

وفي هذا الصيف، صيف ١٩٥٢م، وقت اندلاع الثورة المصرية دخلتُ جماعة «الإخوان المسلمين». وكانت في البداية مجرد زيارة عابرة مع بعض الأصدقاء لشعبة باب الشعرية، وربما ذهبتُ بأقدامي مع بعض الأصدقاء باحثًا عنهم، وسرعان ما ضمَّني الإخوان إلى أسرة. وهناك بدأَت التعاليم والتوجيهات تتصارع مع إحساسي بالحياة وبالطبيعة، ولكنِّي كنتُ طيعًا أجد في تنفيذ الإرشادات خيرًا. ولمَّا كنتُ أبغي التحديث، كانت أول محاضرة لي أو تعليق على محاضرة عن «الإخوان المسلمين والعصر الحديث». وطالبتُ بتغيير شعار المصحف والسيفَين إلى المصحف والمدفعَين. وكنتُ أخشى الحديث في البداية من وقوع الأنظار عليَّ، ولكن جرأة الموقف جعلَتني أندفع فيه. وكانت سُمعتي الفنية قد وصلَت الشعبة، فأخذ الإخوان عزفي على الكمان كدليلٍ على أنَّ من بين الإخوان يوجد بعض المحدَثين. وكنتُ أتباسط مع أحدهم وأسأله: هل الموسيقى حرام؟ وكان رده: إنْ كانت تُلهي عن الصلاة فهي حرام. وكنت أتساءل: وهل يكون الفن لهوًا؟ وهل الفن يتعارض مع الدين؟ وهل يُحرِّم الدين الفن؟ أليس الإحساس بالجمال هو إحساس فنِّي؟ وماذا عن القرآن ككتاب فني.

وكنتُ أصلي في رمضان الفجر حاضرًا معهم. وكانت برودة الصباح مماثلة ليقظة الشعور الديني، وعمق الإيمان. وكانت حلاوة صلاة الفجر لا تُعادلها حلاوة في صحبة الإخوان. ودخلتُ الجامعة وأنا إخواني، أُشارك معهم في انتخابات الاتحاد. وكنتُ نظرًا لتحرري لا أرى حرجًا في الحديث مع الطالبات، فجعلني الإخوان رسولًا إليهن بغية أصواتهن. وكانوا يتساءلون أحيانًا عن صدق انتسابي إليهم وأنا على هذه الدرجة من التحرُّر أو الفساد في رأيهم، خاصة وأنَّني لم أجد حرجًا في الجلوس بجانب الطالبات والحديث معهن، وهم كانوا يُركِّزون على فصل الطلبة عن الطالبات حتى الآن، ولم يكن الحجاب قد ظهر بعدُ كما هو الحال الآن. وكان نصرًا أن ينجح مرشَّحو الإخوان في انتخابات الاتحاد بما يتجاوز ٩٠٪ من عدد المرشَّحين في كل اتحادات الكليات وفي الاتحاد العام. لم يكن ينافسهم إلَّا الشيوعيون. كنتُ أعي تمامًا هتافات «الله أكبر ولله الحمد» ولكنِّي لم أكن أعي تمامًا هتافات «تحيا مصر» أو «انتصر الشعب». كنتُ أرى الشيوعيين ضالين فاسقين، غرباء خارجين، أصحاب هوًى، بعيدين عن الحق، لا أخلاقيين، تعاونوا مع أحد الفرَّاشين الذي يُساعد في طباعة أسئلة الامتحانات على تسريبها.

وكنتُ مع الإخوان في الجامعة نجلس تحت الساعة نتذاكر، ندرس ونحفظ، ويمُر علينا بعض زعماء الإخوان يُقرِئوننا السلام، والقلوب تتهاوى، والهدف المشترك نصب الأعين. وفي الجامعة كان يأتي محمد نجيب. وفي القاعة الكبرى كان يتحدَّث عن الوحدة الإسلامية، وكانت أصوات التأييد تخرج من القلوب إلى الحناجر، ونحن نشعر أنَّ الوحدة الإسلامية أصبحَت قاب قوسَين أو أدنى، ولكن في الشرفة العليا وعلى اليسار كان الشيوعيون يصيحون: الدستور، الدستور. وكان إحساسي أنَّهم خارج تيار الأمة. وماذا يعني الدستور بجوار الوحدة الإسلامية؟ وكأنَّهم كانوا يريدون وقف مسيرة الأمة الإسلامية. وكان هناك ضابطٌ صغير، مُقوَّس الأنف، واقفًا أمام المنصة مربعًا يديه على صدره، لا يتكلم، ولكن الكل يقول: سيكون لهذا الضابط الصغير شأنٌ يومًا ما. وفي المساء، كل يوم ثلاثاء، كنتُ أذهب إلى المركز العام بالحلمية الذي ذهبتُ إليه أخيرًا وكان قد تحوَّل إلى قسم «الدرب الأحمر». وفي البدروم وجدتُ مساجين بدلًا من طلبة مصر أيام المركز العام. لم أستمع إلى حسن البنَّا ولكنِّي استمعتُ إلى سيد قطب، وعبد القادر عودة، وسعيد رمضان، وعلال الفاسي، وحسن العشماوي، وعبد الحكيم عابدين، وغيرهم من أقطاب الإخوان. وعلى المدخل كانت قراءاتي لرسائل حسن البنَّا وأبي الأعلى المودودي وسيد قطب. وكنتُ أشعر بالوحدة العربية مع الطلبة العرب، والوحدة الإسلامية مع الطلبة المسلمين. وكان في نيتي العمل بقسم الطلاب، أو مع إخوان غزة من أجل فلسطين. وكنتُ أذهب مع الإخوان في رحلاتهم. وأذكُر رحلة المرج حيث ذهبنا بالمئات، وكنتُ أشعر بالأمة الإسلامية المُصغَّرة، وبالجدية في اللعب، وبالمشاركة في الطعام، وبالتنافس على الخير، وببداية الترقب والتوجس والخيفة من الثورة.

ثم حدثَت أزمة مارس ١٩٥٤م، وأنا بالسنة الثالثة في الجامعة. ورأيتُ نواب صفوي، زعيم الجماعة الإسلامية بإيران، محمولًا على الأعناق بعمته الخضراء، وقفطانه الأسود. واحترقَت العربة في فِناء الجامعة، واندلَعت النيران. وخرجَت المظاهرة تأييدًا لنجيب وللديمقراطية ولعودة الجيش إلى الثكنات. ودوَّى إطلاق الرصاص على كوبري قصر النيل بأمرٍ من ناصر وزير الداخلية آنذاك. وذهبَت بقية المظاهرة إلى ميدان عابدين. وسمعنا عبد القادر عودة بجوار محمد نجيب وهو يأمر الإخوان بالانصراف.

ولمَّا وقعَت معاهدة الجلاء في ١٩٥٤م، كنتُ أُوزِّع انتقادات الإخوان لها. وكنتُ أتساءل كيف للثورة أن تعقد هذه المعاهدة التي تسمح للقوات البريطانية بالعودة إلى قناة السويس، واستخدام مطارات مصر ومنشآتها في حالة الحرب؟ كان ما قبلَته الثورة أقل بكثير من البرامج الوطنية لجميع الأحزاب في ذلك الوقت؛ لذلك كانت فرحتنا بتأميم قناة السويس في ١٩٥٦م. حدثَت بعدها المصالحة الوطنية، وظهرَت الثورة المصرية رائدةً للثورات الوطنية في العالم الثالث، وظهر ناصر بطلًا قوميًّا لكل حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا.

ثمَّ كان حادث المنشية، وبدأَت الاعتقالات، وكنَّا نزور الإخوة في معسكرات البوليس الحربي. ثمَّ أصبحَت الدعوة سرية بعد أن تمَّ حل الجماعة. واقتصر نشاطي على جمع التبرعات لأُسر المعتقلين. لم يكن لي أي نشاطٍ سري؛ فقد كان ذلك ضد طبيعتي. كنتُ أُعلن بلساني ما أشعر به في قلبي. وكان هناك ضابطان للحرس بالكلية يقومان بلعبة الصديق والعدو، واحد يقوم بدور الصديق، مبتسم ومنفتح على الطلاب، يأخذ منهم المعلومات ويُحذرهم من زميله، والآخر يقوم بدور العدو، مُكفهِر الوجه، غامض السلوك، ينظر من نوافذ المدرَّجات.

وفي الجامعة كانت بداية أزمتي مع الفلسفة الإسلامية. كنتُ أقرأ خارج الجامعة حسن البنَّا، وسيد قطب، وأبي الحسن الندوي، ومحمد الغزالي، ومعظم المفكِّرين المسلمين المعاصرين فأحسُّ بشيء في نفسي، وأجد نهضة الإسلام والمسلمين، وأشعر بوجودي، وحياتي، وواقعي، وأمتي، ووطني، ومستقبلي، ومشروعي. ثمَّ أسمع في مدرجات الجامعة العقول العشرة، والعقل الفعَّال والمتفعِّل، والذات والصفات، وطبيعيات ابن سينا، فلا أجد فيها شيئًا، وأشعُر بغربة عن هذا التراث وكأنَّه ليس تراثًا إسلاميًّا. كان قلبي مع المحدَثين ولكن ظلَّ عقلي فارغًا يبحث عن قضية إسلامية في الجامعة. انعزلتُ عن الفلسفة الإسلامية كما انعزلتُ عن علم الكلام، مجرد نظرياتٍ افتراضية لا تمسُّ واقع المسلمين ولا حياتهم. هذا بالإضافة إلى مناهج الإملاء والمقررات والكتب المحفوظة أو غياب الأساتذة في الخارج. وكنتُ أعترض على مناهج التلقين في الفلسفة الإسلامية، وعلى مناهج الإملاء والعبارات الإنشائية النمطية. ومرةً أردتُ أن أسأل وأن أُناقش، فقبل الأستاذ حتَّى يثور الطلاب ويُطالبونه بالإملاء، وأكون أنا في موضع الأقلية، وقد كان. وفي دروس التصوُّف شعرتُ لأول مرة بأهمية الرجوع إلى القرآن كمقياس ومعيار، وبأهمية الصلة بين التوحيد الإسلامي وبين ما يقوله الصوفية عن وحدة الشهود ووحدة الوجود. وكنتُ أتمنى كل هذه الطاقة والحياة أن تعود إلى الحياة من جديد، بدلًا من أن تكون فارغةً بلا مضمون، وبدلًا من أن تُبدَّد خارج الحياة بالوهم والخيال. وكنتُ طالبَ امتيازٍ من السنة الثالثة. وفي أبحاثي كنتُ أضع في النهاية رأيي الخاص. وفي بحث امتياز عن «نظرية المعرفة والسعادة عند الغزالي» وأنا في السنة الرابعة عرضتُ في الفصل الختامي لرأيي الخاص وفيه تحليلٌ للتصوُّف كنظرية في الانعراج كرد فعلٍ على السقوط الاجتماعي، وكحركة رد فعلٍ سلبي على تيار البذخ والترف في بداية الدولة الأموية، وأنَّه لا بد للقضاء على الانعراج من أجل العودة إلى العالم وإنقاذه من السقوط، وهو ما لم يُعجب الأستاذ، واعتبره خارج الموضوع. وفي امتحان الشفاهي هذا العام كنتُ أبغي الإجابة من آرائي الخاصة حول التراث، والمنهج الإسلامي، ونهضة المسلمين، وكان الأستاذ يأبَى إلَّا المقرَّرات المحفوظة.

وفي نفس الوقت كنت أسمع إقبال لأول مرة وأنا في الثالثة، وكان حديثًا عن الحياة والخلق والإبداع والقوة والجهاد والذاتية والغائية والأمة، فأحسست بفكر إسلامي يجمع بين الماضي والحاضر، ويُصوِّر واقع المسلمين خلافًا لنظريات العقول العشرة، والذات والصفات، والمقامات والأحوال. وكنت أشعر وكأنَّ قلبي يُنتزع من نفسي؛ فقد كانت هذه الفلسفة التي أبحث عن نوعها. وكنت في بحثي الامتياز وأنا في الثالثة عن جويو، قد أهديته إلى «كل من يتغيَّر، فيتحرَّك، فينطلق، فيُبدع شيئًا جديدًا». فعلَّق أحد الأساتذة العائدين من فرنسا «هذا برجسون». مع أنَّ ذلك كان الإسلام كما كنتُ أشعر به حتَّى قبل سماعي إقبال في السنة الثالثة. أمَّا محمد عبده فلم يكن براقًا ولا جذابًا، ولم يُثر فيَّ أيَّة إيحاءات فلسفية، بل كنَّا ننقد موقفه من الثورة العرابية ومن عبارته المشهورة «لعن الله ساس ويسوس». وكنتُ قد كتبتُ للأستاذ مرة على السبورة «أُحب محمد عبده ولكن حُبي للإسلام أعظم». وكان الموقف الإسلامي الفلسفي قد بدأ يتبلور حتَّى إنَّني في كثيرٍ من الإجابات كنت أُنهي الموضوع بالرأي الخاص عن الموقف الإسلامي المُستنير. وأذكر أنَّه في إجابتي عن الوجودية عقدتُ حوارًا مع وجودي ومسلم ضد التشاؤم، والتناقض، والعبث، واللامعقول، والانتحار، ووضعتُ إقبال في مقابل كيركجارد وسارتر ومارسل وغيرهم من الوجوديين.

ثمَّ حدثَت أول أزمة في عمري وأنا في السنة الرابعة. وقد تعوَّدتُ الآن على مثل هذه الأزمات التي تعرض لي مرة كل عشر سنوات ١٩٥٦م، ثمَّ ١٩٦٦م، ثمَّ ١٩٧٦م. لم أستطع وأنا في الرابعة إلَّا أن أُعبِّر عن الموقف الإسلامي. وبدأ الرأي الخاص يتغلَّب على ورقة الإجابة كلها من الألف إلى الياء؛ ففي إجابة الفلسفة المعاصرة عن «محمد عبده» انطلقتُ أُعبِّر فيها عن رؤيتي في الإصلاح، وعن تطويري له، وعن محاولتي الأولى لإقامة منهج إسلامي عام يقوم على الحسن والقبح العقليَّين، ويُوحِّد بين الحق والخير والجمال، ويكون منهج فكر وحياة، نظر وعمل. وفي عتابي مع الأستاذ بعد أن أعطاني أقل الدرجات قال إنَّ إجابتي كانت غامضة. صحيحٌ أنَّها لم تكن من «رائد الفكر المصري»، ولكنَّها بالنسبة لي كانت واضحة تمامًا. وحتَّى لو كانت غامضة فمن الطبيعي أن تكون كذلك.

وفي مادة «علم الجمال» ذهبتُ أيضًا ضحية إعطاء المادة من أستاذ وتصحيحها من أستاذٍ آخر لم يُعطها كما حدث لطلبتي في ١٩٧٧م؛ فقد أعطى المُصحح جميع الطلَّاب الدرجات الدنيا. وكان السؤال عن مقاييس الجمال في الفن «رابطة العنق وانجذاب المشتري نحوها». وما زلتُ أذكُر عن تحليلي للسؤال لفظًا مهاجمًا الفنون التشكيلية ومدافعًا عن الفنون السمعية، ومبيِّنًا أنَّ الجمال ليس في الشيء بل في النفس، وليس في العين بل في الأذن.

وأخيرًا، ذهبت ضحية الطائفية؛ ففي موضوع «علم النفس الصناعي» وعن سؤال عن مقاييس علم النفس؛ الكم، والموضوعية، والمادية، والعلمية أجبتُ بالرفض في نفس الوقت الذي كنتُ أعيش فيه إقبال والذاتية والفلسفة الوجودية ضد الموضوعية والكم والقياس والعلمية. وبالرغم من تبنِّي الأستاذ علم النفس التكاملي إلَّا أنَّه كان يُعطي علم النفس الفزيولوجي وعلم النفس التجريبي، وعلم النفس الصناعي، وهي العلوم التي أثارت الفكر المعاصر، والتي كانت الفينومينولوجيا رد فعل عليها. وفي عتاب مع الأستاذ قال إنَّ إجابتي كانت ميتافيزيقية وليست علمية. وكان من السهولة معرفة ورقة إجابتي لِما تتسم به من طابعٍ خاص. وكان الأستاذ ورئيس القسم قد سألني مرة عن نيتي بعد التخرُّج فأجبت: فرنسا. وحدَّثتُه عن آمالي في نهضة الإسلام والمسلمين، وعن رغبتي في تكوين منهج إسلامي عام شامل، وغائب عن ذهني داء الطائفية؛ فأستاذ الجامعة في ذهني هو أبعد الناس عن الشبهات، يبغي الحق والخير للناس وللأمة.

وبلغت قمة المأساة في امتحان اللغة الألمانية، لغة طلبة الامتياز. كان يُدرِّس لي أستاذٌ ألماني في الثالثة ثم سافر، ودرَّسَت لي فيما بعدُ أستاذة ألمانية مع قسم الآثار بعد الظهر. ثم جاءت الأسئلة، مع طلبة قسم اللغة العربية مع أستاذ مصري في اليوم التالي. وفوجئتُ بورقة أسئلة في مفردات ونصوص لم أدرسها وإن كنتُ على علم بقواعد اللغة، بعد أن ظلِلتُ ليلةً بأكملها أبحث عن طالب بقسم اللغة العربية لأعرف منه مُقرَّر اللغة. وكانت قمة المأساة وأنا أكتب للعميد طلبًا أشرح له فيه الموقف. ولمَّا كنتُ في قمة المثالية الدينية في هذه الفترة فقد صدَّرته بلقب «الأخ الفاضل». فنهرني ضابط الحرس المسيحي واتهمَني بقلة الأدب والحياء فشرحتُ له أنَّه لا فضل لعربي على عجمي إلَّا بالتقوى، وأنَّ الرسول شهيد على أنَّ عباد الله إخوان، وأنَّه لا سيد إلَّا الله؛ وبالتالي فلا أستطيع أن أُسمِّي أحدًا سيدًا، وكان غائبًا عن ذهني أنَّ لقب الأستاذ الدكتور لقب علمي لا يضر الإيمان في شيء. وكان أول مجلس تأديبٍ لي أمام ستة من أساتذة الجامعات تحت قبة الجامعة شرحتُ لهم رأيي في المساواة المطلَقة بين البشر، وأنَّه لا سيد ولا مسود، وأنَّ كانس الطريق إذا ما أدَّى واجبه خيرٌ من رئيس الجمهورية إذا قصَّر في أداء الواجب. وأخبرتُهم أنِّي في طريقي إلى فرنسا مغادرًا البلاد، فأعلنوا براءتي بعد مناقشاتٍ عن المساواة بين البشر، والأخوة في الدين. ولكن ظلَّت الجامعة بالنسبة لي هي مأساة الإدارة، ومكان الرأي الحر، وأصبحَت جزءًا من تكويني الذهني.

في هذا الجو النفسي؛ اضطهاد الإخوان، أزمة الدراسات الإسلامية، أزمة الحياة الجامعية، ضياع الامتياز وإنْ كنتُ ما زلتُ أول الدفعة، كنت أذهب إلى مسجد عمر مكرم أقرأ القرآن. ولأول مرة كنتُ أشعر بحدوسه الفلسفية، وأهمية عالم الشعور والحواس، وضرورة الاستمرار في النضال. وكان كل من ينظر في عيني يسألني ماذا بي؟ وكانت ساعة الرحيل قد دقَّت لشق طريقي الخاص.

وفي يوليو ١٩٥٦م، حدث تأميم قناة السويس، وفي أغسطس بدأَت مؤتمرات لندن الأولى والثانية. وبدأَت الأساطيل تتجمَّع في البحر المتوسط، وبدأَت العلاقات بيننا وبين فرنسا في الانهيار. وكنتُ آخر طالب خرج من مصر. وأخذتُ تأشيرة خروج ودخول إلى فرنسا. وغادرتُ البلاد في ١١ / ١٠ / ١٩٥٦م، ووصلتُ إلى مرسيليا في ١٧ / ١٠ / ١٩٥٦م، بصفيحة من الجبن وأخرى من اللبن من المعونة الأمريكية التي كانت تُوزَّع في المدارس، وبمخلة من الخبز الجاف، وبعشرة جنيهات أمام بكاء الأهل، ولكن نداء الرحيل كان لا مفر منه. وكنتُ أرى نفسي عائدًا موسيقيًّا فيلسوفًا، مؤلفًا لسمفونية «العودة». وكانت أحلامي في ذلك الوقت كلها وحتى الآن إلى حدٍّ ما الطيران في الهواء. نشأَت كل أفكاري عن المنهاج الإسلامي، والتصوير الفني، والأمة الإسلامية، والإسلام كمركز للثقل في العالم، والأصالة، ونقد الغرب، من الإخوان، وكان لسيد قطب أثرٌ كبير عليَّ، بأسلوبه ووضوحه وبساطته، خاصة مقال «الإسلام حركة إبداعية شاملة في الفن والحياة»، وحتى الآن أجد نفسي فيه. ولو أنَّ الدعوة كانت قد تطوَّرت تطوُّرًا طبيعيًّا، دون هذا الصدام المشئوم بينها وبين الثورة، لتطوَّر سيد قطب أكثر فأكثر في طريق «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وأيضًا «معركة الإسلام والرأسمالية»، ولمَّا كتب «معالم في الطريق»، التي يظهر فيها فكر الدعوة من بين الجدران. وكانت ثورة مصدق وتأميم البترول بالنسبة لي في ١٩٥٣م، وعيًا إسلاميًّا تقدُّميًّا، أحسست بخلافي مع الإخوان فيه، الذين فرحوا بسقوطه لأنَّه مُتعاون مع الشيوعيين، وبعودة الكاشاني آية الله. كانت لجنة الشباب المسلم والمحاولات الاقتصادية الأولى لعمل اقتصادٍ إسلامي لا يقوم على الربا بدايات «اليسار الإسلامي» أو «الإسلام التقدمي» أو «الإسلام الثوري». ولو عاش سيد قطب لكنتُ خير تلميذ له، ولو استمرَّت الدعوة لكنتُ أحد مفكريها. لم أتعلَّم من الجامعة شيئًا إلَّا كرد فعلٍ على أزمة الدراسات الإسلامية. وكنتُ أسمع عن إقبال أيضًا والأفغاني من الإخوان. كثُرت قراءاتي في «الإسلام المعاصر» حتَّى استحوذ الكتاب كل وقتي ولم يعُد هناك وقت للموسيقى والعزف على الكمان. وبدأَت الفكرة الإسلامية المُعاصرة ترنُّ في أذني كاللحن، وكان اللحن الموسيقي خاويًا بلا مضمونٍ فكري، لم أكن أستطيع البقاء في مصر؛ فماذا سأتعلَّم؟ كانت فرنسا بالنسبة لي مكان التكوين ومدرسة المبتدئين. وكان قسمنا بالجامعة، قسم الفلسفة على علاقةٍ وثيقةٍ بالسربون منذ نشأته، أساتذة أجانب ومصريون. كان أملي الوحيد هو الحصول على بعثة، ولكن ضاع الأمل بضياع الامتياز، وبقطع العلاقات الرسمية بيننا وبين فرنسا بعد التأميم. ومع ذلك فالمغادرة الفردية، والغوص في المجهول كان هو المنفذ الوحيد الباقي. وغادرتُ مصر وعمري واحد وعشرون عامًا، ورجعتُ إليها وعمري واحد وثلاثون عامًا.

(٣) بداية الوعي الفلسفي (١٩٥٧–١٩٦٠م)

بالرغم من أنَّ بداية الوعي الفلسفي كانت في معرفتي بالمثالية الألمانية خاصة فشته، وفلسفة المقاومة والأنا التي تضع ذاتها بمقاومة اللاأنا، وسماعي عن الإيحاء المتبادل بين الذات والموضوع والقصدية عند هوسرل، من أحد الأساتذة العائدين حديثًا، فقد اجتمعَت هذه البدايات في الفلسفة الغربية حول المثالية الترنسندنتالية مع فلسفة الذاتية عند إقبال، وأصبح حديث الشعور هو حديث القلب للقلب، وهو ما أصبح فيما بعدُ مستوى الشعور في «التراث والتجديد». وكنتُ قد استمعتُ بدلًا من دروس المنطق درسًا في المصطلحات العلمية، وشدَّ انتباهي مفاهيم الارتقاء والحركة والتطوُّر في علم النفس، فأدركت أهمية الألفاظ ومعانيها في تغيير نظرة الإنسان للعالم. وهو ما أصبح فيما بعدُ التركيز على عملية استبدال الألفاظ من أجل إظهار المعاني وإبراز الأشياء.

ولكن البداية الحقيقية التكوينية للوعي الفلسفي كانت في فرنسا، عندما شرعتُ في كتابة خطة بحث للدكتوراه «المنهاج الإسلامي العام»، أحاول فيه أن أصوغ الإسلام منهاجًا عامًّا شاملًا للحياة الفردية والاجتماعية. وجعلتُه على صورتَين؛ صورة ثابتة من التصوُّر والنظام، وصورة حركية من الطاقة والحركة. ويقوم على التوحيد بين الوحي كنظام مثالي للعالم، والعالم كنظام طبيعي ابتداءً من وحدة الذات حتَّى وحدة الشهود ووحدة الوجود. وكانت الأفكار الأولى عن توجيه الفكر للواقع قد نبتَت من خلال الوعي الديني وأنا بالجامعة. وقيل لي يومئذٍ إنَّ ذلك هو قول كانط في تشريع الفكر للواقع. وكانت المشكلة بالنسبة لي هي مشكلة الجمع بين القَبلي والبَعدي، الوحي كمعطًى سابق والمعرفة الإنسانية أو العالم كمعطًى بعدي. وقد صدَّرتُ الخطة بمقدمة طويلة، عن فكر الإخوان المسلمين، وعقَّبتُها بمراجع عديدة عن الفكر الإسلامي الحديث، ولكن كانت المأساة كالآتي:

رأى المستشرقون أنَّ هذه دراساتٌ عامة للغاية، ولا بد من دراسة شخصيةٍ تاريخية أو مذهبٍ فقهي أو فرقةٍ كلامية. وأنا لم أرغب في التاريخ، بل أردت تجاوز التاريخ وإلَّا عُدت لأزمة الفلسفة الإسلامية وأنا بالجامعة. أردتُ صياغةً جديدة للإسلام كمنهج عام شامل في الفكر والحياة، مشروع سيد قطب، بعد أن تحوَّل لديَّ إلى رؤية مستقبلية وخطة نهضة للأمة الإسلامية. ورأى الفلاسفة الغربيون أن أختار كانط؛ لأنَّه هو الذي وضع مشكلة القَبلي والبَعدي بالرغم من حُبهم للإسلام وتعظيمهم له. كانت المشكلة كالآتي: يقرؤني المستشرقون فيقولون: هذه فلسفة غربية ونحن مؤرخون، ويقرؤني الفلاسفة فيقولون: هذا إسلام ونحن فلاسفةٌ غربيون. وظلَّت الحيرة بين المستشرقين والفلاسفة، وكنتُ في حاجة إلى مستشرقٍ فيلسوف أو إلى فيلسوفٍ مستشرق من نوع رينان. كان كوربان هو الوحيد الموجود في «مدرسة الدراسات العليا التطبيقية» ولكنَّه كان مُوغلًا في الإسماعيلية الباطنية. لمَّا قرأ مشروعي عن «المنهاج الإسلامي العام» اقترح عليَّ موضوع «التأويل» ودراسة «البحر المحيط» للزركشي، ولكن رغبتي كانت في اكتشاف الوعي عند أهل السنة من أجل نهضة الأمة، ومخاطبتي لواقعها وتُراثها الحي في مصر والعالم العربي، ولكن أول أفكاري عن الذات والموضوع والتركيز على القلب الذي يخلق موضوعه كان منه.

ولمَّا قرأ ماسنيون خطة البحث وشرحتُ له رغبتي في إقامة منهاجٍ إسلامي عام في الفكر والحياة للفرد وللمجتمع، سألني عن سني فقلتُ: اثنان وعشرون عامًا فقال: لماذا تتكلَّم إذن وكأنَّك ثمانون عامًا؟ إنَّ المشروع الذي تقترح لا يقدر عليه إلَّا من بلغ هذه السن، بعد أن يكون قد عرف مناهج المسلمين ومناهج الغربيين، وبعد أن تكون لديه حصيلةٌ كبيرة من التجارب. أبدأ بالبحث عن كيفية صياغة هذه المناهج عند علماء أصول الفقه. أبدَأ منها، طوِّرها، انقُدها، غيرها، ولكن لا بد من البداية بنقطةٍ معينة في التاريخ حتى ترتبط بالتراث، وتكون جزءًا منه. وقد أوصى مصطفى عبد الرازق بذلك من قبلُ، فكيف لم يُوجِّهك أساتذتك إلى هذا العلم وأنت معك مثل هذا المشروع؟ وهنا أدركتُ مأساة الجامعة من جديد. كان الجميع لدينا يتشدَّقون بأنَّهم تلاميذه، وكانوا يدعون له، ويستغفرون على الملأ، ولكن لم يُحاول أحد تنفيذ وصيته باستثناء أحد تلاميذه وهو على قيد الحياة في «مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ونقد المسلمين للمنطق الأرسطاليسي». وقد حاولتُ منذ رجوعي أستاذًا بالجامعة إدخال علم أصول الفقه حتَّى تكتمل صورة التراث لدى الطالب، دون الاقتصار على الكلام والفلسفة والتصوُّف، ولكنِّي لم أنجح حتَّى الآن لمعارضة تلاميذ تلاميذ مصطفى عبد الرازق. وما زلتُ أحاول حشره حشرًا في قاعة البحث، أو في علم النقد التاريخي للكتب المقدسة، فيما يتعلَّق بمناهج الرواية في الفلسفة الغربية في العصور الوسطى، أو في العصر الحديث بعد نشأة هذا العلم، أو في الفلسفة المعاصرة بعد ظهور موضوع التأويل كعلمٍ فلسفي مستقل. وعندما كان يُتاح لي تدريس التصوُّف فكنتُ أتناوله من خلال معركة الفقهاء والصوفية. كان علم أصول الفقه اكتشافًا وأنا في بداية الوعي الفلسفي، وانفتح عليَّ التراث بعد أن كان مغلقًا، واتصل القديم بالجديد، ورأيتُ من خلاله ماضي المسلمين وحاضرهم ومستقبلهم. واكتشفتُ نظرية الشعور الثلاثي؛ الشعور التاريخي لمعرفة صحة النصوص التاريخية عن طريق مناهج الرواية، والشعور التأمُّلي لتفسير النصوص وفهمها عن طريق تحليل الألفاظ، والشعور العملي لتطبيق الأحكام في الحياة العملية؛ وبالتالي يتحوَّل الوحي إلى نظام مثالي للعالم من خلال جهد الإنسان وفعله، ويتم التوحيد كعملية في النهاية وليست في البداية، ويصبح الله أقرب إلى الصيرورة منه إلى الكينونة.٣ كتبتُه مرتين؛ الأولى موجزة، والثانية مسهبة. وكان يُمكنني كتابتُه للمرة الثالثة، ولكن كان ذلك يحتاج إلى عشر سنوات أُخرى كي أبدأ من جديد. وكان يكفيني معرفة أخطائي. وكانت أول محاولة لإعادة بناء الحضارة الإسلامية على مستوى الشعور من أجل اكتشاف الذاتية حتَّى نُعيد بناء حضارتنا، ونُعيد اختيار محاورها وبؤرها، بدل أن تكون مُركَّزة حول الله تُصبح مُركَّزة حول الإنسان. وكانت المقدمة التي كتبتُها هي البدايات الأولى ﻟ «التراث والتجديد» حول نقد مناهج المستشرقين والإسلاميين في دراسة التراث، وحول وضع منهج تحليل الخبرات الشعورية، ووصف عمليات التشكُّل اللغوي. وقد تناوله عديدٌ من المقالات خارج مصر بالدراسة والتحليل، وتُقام عليه حاليًّا بعض الرسائل العلمية في الجامعات الأجنبية، وأصبح يُمثِّل أحد معالم «علم أصول الفقه» عند المعاصرين. وأثناء هذه الفترة أيضًا ضمن إحدى حلقات البحث في السربون قمتُ بإعداد «المعتمد في أصول الفقه» لأبي الحسين البصري، أستاذ القاضي عبد الجبَّار، وهو الوحيد في أصول الفقه الاعتزالي. بدأتُه بالتعاون مع أحد الزملاء بإشراف الأستاذ برنشفيج، ثمَّ أخيرًا بإشراف الأستاذ حميد الله الذي كان يقوم بنفس المشروع.٤

وكان لا بد من موضوعٍ ثانٍ للرسالة التكميلية؛ فبعد قراءتي للفلسفة الأوروبية واكتشافي بدايتها في الكوجيتو الديكارتي ونهايتها في الكوجيتو عند هوسرل، ومقارنة العقليين بالوجوديين أردتُ أن أكتب رسالةً في تطور الوعي الأوروبي. ورأيتُ ضرورة دراسة الفلسفة الأوروبية من وعي لا أوروبي حتَّى يُمكن رؤيته عن بُعد بشعورٍ مُحايد يتسم بالموضوعية. وكان الهدف إعلان نهاية الوعي الأوروبي وبداية وعي العالم الثالث مُمثَّلًا في حضارات الشعوب غير الأوروبية، مصر، الصين، الهند؛ فقد كانت مصر في ذلك الوقت تملأ الدنيا تحررًا واشتراكية. وكان العالم كله يتحدَّث عن حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وفي فرنسا كانت حرب التحرُّر الوطني في الجزائر على أشدِّها، وكان الحي اللاتيني بؤرةً ثورية للعالم كله. في هذه الفترة كنتُ أقرأ كل شيء في الفلسفة الأوروبية الفرنسية والألمانية أساسًا، وأجَّلتُ الفلسفة الإنجليزية والأمريكية إلى فيما بعدُ، خاصة وأنَّها لم تُثِر فيَّ أيَّة مشاعر فلسفية حتَّى الآن.

اتضحَت المذاهب الأوروبية، وارتبطَت فيما بينها بقانون الفعل ورد الفعل. واتضح لي بناء الشعور الأوروبي، تيار نازل مُمثَّل في التجريبية وتيار صاعد مُمثَّل في العقلانية، ومذاهب حياة وإرادة تتأرجح بين التيارَين. وتجسَّدَت أمامي ثلاث فلسفات؛ فلسفة الطبيعة، وفلسفة الروح، وفلسفة الوجود. عرفتُ تطور الوعي الأوروبي من مصادره الأولى في أصولٍ ثلاثة؛ الأصل اليوناني الروماني، والأصل اليهودي المسيحي، وكلاهما عرفتُهما من السربون، ثم البيئة الأوروبية نفسها، التي عرفتُها بنفسي، بعد اكتشاف محلية الفلسفة الأوروبية، وخضوعها لظروفها الخاصة، بالرغم مِمَّا تدعيه من عالمية وشمول، ولكن لمَّا كان الموضوع في حاجة إلى نقطة بداية، فقد سجَّلت أولًا موضوع «الدين العقلي والدين الوجودي عند كانط وكيركجارد» ليسمح لي بمقارنة هاتَين اللحظتَين في الوعي الأوروبي؛ البداية والنهاية، ولكن بعد قراءتي لهوسرل وتعرُّفي على الفينومينولوجيا والبداية بالوعي الفردي والحضاري، وحتَّى أكون أكثر دقةً في البحث عن نظرية للبداية، أصبح الموضوع «تفسير الفينومينولوجيا، الحالة الراهنة للمنهج الفينومينولوجي وتطبيقه في ظاهرة الدين».٥ وقد حاولتُ استعمال مناهج التفسير لفهم الفينومينولوجيا، وتحويلها إلى فينومينولوجيا تطبيقية وحركية، وتفسيرها على أنَّها حدْسٌ ديني مثالي، ومراجعة تطبيقاتها في ظاهرة الدين، في فلسفة الدين، فلسفة التوسط وفلسفة التصوُّرات، وفي فينومينولوجيا الدين، فينومينولوجيا الموضوع أو الفعل أو التفسير.
ثمَّ تطوَّر الموضوع أكبر وأكبر، فعقدتُ جزءًا ثانيًا لتطبيقي الخاص للمنهج الفينومينولوجي في ظاهرة التفسير، وأخذتُ العهد الجديد كنقطة بداية مع تطبيق نظرية الشعور الثلاثي؛ الشعور التاريخي، والشعور التأمُّلي، والشعور العملي في العهد الجديد، فخرج الجزء الثاني «فينومينولوجيا التفسير، محاولة في التفسير الوجودي ابتداءً من العهد الجديد»،٦ حوارًا بين الأديان، وحوارًا بين الحضارات ليكشف عن نصوص العهد الجديد من خلال علم أصول الفقه، آخذًا أحكام القرآن على الإنجيل بالتحريف والتبديل والتغيير على أنَّها افتراضاتٌ علمية في حاجة إلى التحقُّق من صدقها في التاريخ. وكنتُ قد عرفتُ علم «النقد التاريخي للكتب المقدسة» وأنا بصدد الاطلاع على الفلسفة الحديثة، اسبينوزا خاصة، ثمَّ أثر الفلسفة الهيجلية ومناهج النقد التاريخي ورينان على علم النقد، فكانت معرفتي به حدثًا واكتشافًا، وأضفتُ نتائج المدارس الليبرالية والتقدمية في البحث والاعتماد على «مدرسة الأشكال الأدبية» عند بولتمان ودبليوس، واكتشاف الوجود الإنساني عند هيدجر والبناء الشعوري للجماعة المسيحية الأولى. وقد أجَّلتُ اليهودية فيما بعدُ، وأجَّلتُ التطبيق على العهد القديم لفترة لاحقة.
وكان من أدين له بكل شيء في تكويني الفلسفي هو جان جيتون، أستاذ الفلسفة، وتلميذ برجسون، ومُجدِّد الكاثوليكية، وأول علماني يدخل المجمع المسكوني في تاريخه على الإطلاق، صديق يوحنا الثالث والعشرين ثمَّ بولس السادس، وعضو الأكاديمية الفرنسية، أطال الله في عمره، هو أُستاذي ومُعلِّمي كما أُسمِّيه باسم المسيح. ويُسمِّيني تلميذي الحبيب كما سمَّى المسيح يوحنا الحبيب. لقد استمعتُ إلى كل أساتذة السربون من ١٩٥٦م إلى ١٩٥٨م، في المنطق والفلسفة والأخلاق والجمال وعلم النفس، ولكنَّه هو الذي استمر معي، فكان فيه الروح والحدْس، وكان فيه العلم والفلسفة، والإيمان والتجديد، والموضوعية والذاتية. تعلَّمتُ منه الكثير. تعلَّمتُ منه أهمية نقطة البداية في الفلسفة؛ فالفلسفة تحتاج إلى نقطة بداية يتعمَّقها الفيلسوف، ثمَّ يُعمِّم منها بعد ذلك ما يشاء حتَّى يصل إلى الميتافيزيقا الخالصة؛ فقد بدأ ديكارت بالكوجيتو، وبسكال بالإيمان، وبرجسون بالإحساس أو التذكُّر أو التطوُّر أو الإيمان الباطني، ومين دي بيران بالجهد، ورافيسون بالعادة، وميرلوبونتي بالجسم والإدراك الحسي؛ فذلك خير من أن أبدأ بالعام ولا أصل إلى شيء. وأن أصعد الجبل من الوادي خيرٌ من أن أقفز فوق قمته من طائرة. تعلَّمتُ منه مناهج البحث في قاعات بحث الدراسات العليا، والإعداد لامتحان المسابقة «الأجوجاسيون»، وكيفية كتابة البحث وإلقاء المحاضرة؛ المقدمة، أقسام الموضوع الثلاثة، الخاتمة، الزمان، الحدْس، النفي والإثبات، اللغة، التأثير على الناس. تعلَّمتُ منه المُصالحة بين الاتجاهات المتعارضة، والمقارنة بين الفلاسفة على اختلاف مذاهبهم؛ فهو فيلسوف المجامع المسكونية، والبحث عن الحد الأدنى من الاتفاق بين المذاهب Solvitur in Eccelsis، ودعوة الفِرق المسيحية إلى الفرقة الأم Le Christ Ecartlé وهو ما يُوجد عندي في صورة وحدة العلوم الإسلامية، والوحدة الوطنية. تعلَّمتُ منه تاريخ الفلسفة الأوروبية كلها، بداية ونهاية، مصادر وأصولًا، فلسفة الطبيعة وفلسفة الروح وفلسفة الوجود، مراحل الفكر الأوروبي. تعلَّمتُ منه أفلاطون وأرسطو، وأوغسطين وتوما الأكويني، وبسكال وليبنتز، وبرجسون وبلوندل، وكانط واسبينوزا، وأدين له بتكويني في تاريخ الفلسفة الأوروبية. تعلَّمتُ منه الأنطولوجيا العيانية وهي خلاصة فكره، واكتشاف حقائق الوحي في الطبيعة والوجود، وهو ما حاوله كل الوجوديين المؤمنين. عرفتُ أهمية الوجود الزماني، والفكر والحياة، والبناء والتطوُّر، والواقع والحس، والوجدان والذوق. وكان له أبلغ الأثر على وعيي بالحياة، والانتقال من المثالية إلى الواقعية، ومن الفكر إلى الوجود. تعلَّمتُ منه المحاضرات العامة وكيفية مخاطبة الجماهير ليس فقط في السربون بل في ميدان السربون؛ فالفيلسوف هو القادر على مخاطبة الخاصة والعامة، دفاعًا عن إيمان العوام وخلاصهم من مآسيهم. ومع ذلك فعلاقتي بالأستاذ علاقة أرسطو بأفلاطون، وماركس بفيورباخ، وفيورباخ بهيجل. أطوِّره من المثال إلى الواقع، ومن الروح إلى الطبيعة، ومن الوعي الفردي إلى الوعي الاجتماعي، ومن اليمين إلى اليسار، ومن الدين إلى الثورة، ومن الغرب إلى الشرق، ومن المسيحية إلى الإسلام، وأستعمل النقد استعمالًا سلبيًّا وهو يريد المُحافظة على قواعد الإيمان، أُقيم لاهوت الثورة وهو يخشى أن يصبح ماركسية وعنفًا، وأن يدخل في الإيمان ما ليس منه. أرجو ألَّا يكون قد خاب ظنه فيَّ؛ فالمدارس الفلسفية تتباين وتتطوَّر بالاختلاف وتموت وتنتهي بالاتفاق. لم أُفارقه لحظة، وفي كل مكان، سمعتُه في باريس أو وسط فرنسا أو في روما وحتَّى الآن. لقد عرف طه حسين، وأتى إلى مصر في أوائل الثلاثينيات، ورأى الأهرام، ومكث في دير الدومينيكان. وها هو يعود إلى مصر بعد حوالي نصف قرن من خلالي. أطال الله في عمر الأستاذ، وجعلني قادرًا على تبليغ الرسالة إلى أجيالٍ قادمة من الطلاب.٧

(٤) بداية الوعي بالحياة (١٩٦١–١٩٦٦م)

منذ بداية وعيي وكان إحساسي بالحياة غامرًا، حتى في اللعب في المدارس الابتدائية. ومن هنا جاء اهتمامي بالفن، الرسم أولًا ثمَّ الموسيقى ثانيًا في المدارس الثانوية. وكان إحساسي بالدين هو إحساس بالحياة أثناء انتسابي لدعوة الإخوان. وكان مقال سيد قطب «الإسلام حركة إبداعية في الفن والحياة» يُعبِّر عمَّا في نفسي تمامًا، وربما كان إعجابي بإقبال، وبرجسون، وجويو، ونيتشه، وفيما بعد دلتاي، ودريش، وهوسرل هو لأنَّهم فلاسفة حياة. وهذا ما انصبَّ في النهاية في علوم التفسير ابتداءً من التجربة الحية، وإعجابي بالرومانسيين الألمان الذين خرجوا من هيجل وضده في آنٍ واحد، مثل شليرماخر وكيركجارد، وكل مؤسِّسي الهرمنيطيقا المعاصرة.٨

كنتُ غارقًا في تاريخ الفلسفة من البداية إلى النهاية، أفلاطون وأرسطو. وكنتُ على ولعٍ خاص بكبار الرافضين مثل اسبينوزا وكيركجارد. وبالرغم من وضوح اسبينوزا كنتُ تائهًا مع كيركجارد، أشعر بلحمه وعظمه، ولكنِّي لا أستطيع معرفة بدايته ونهايته. وكان اكتشافًا للفلسفة الأوروبية، اسبينوزا في «رسالة اللاهوت والسياسة»، ثم برجسون؛ أي الخلود والزمان؛ لذلك قال برجسون عن حق «لكل إنسان فلسفتان، فلسفته الخاصة وفلسفة اسبينوزا». بعد ذلك انتظمَت المذاهب الأوروبية في ذهني في مسلسلٍ واحد، ورأيت أنساب الفلاسفة في إطار تصوُّرٍ شامل للوعي الأوروبي.

وكانت قراءة أفلاطون وأرسطو بمستشفى الجامعة في صيف ١٩٥٩م، عندما بدأَت شبهات السل نظرًا لسوء التغذية على مدى ثلاثة أعوام، وجبة واحدة كل يوم في مطاعم الجامعة في أول سنتَين لضيق ذات اليد قسرًا، ولشراء النصوص الفلسفية اختيارًا. لم يكن لي دخل عضو بعثة أو إجازة دراسية. ومع ذلك من دخلي المحدود عشتُ وكوَّنتُ مكتبة في النصوص الفلسفية وتاريخ الأديان والعلوم الإنسانية.٩ استغرقَت قراءة مؤلفات هوسرل الكاملة بالألمانية عامي ١٩٥٩–١٩٦٠م، وأنا بالبيت الألماني بالمدينة الجامعية، وكنتُ قد اشتريتُها من هولندا، مكتشفًا عالم الشعور ومُطبِّقًا إيَّاه بطريقة تلقائية طبيعية، ومُحوِّلًا الوقائع أمامي إلى تجارب مُعاشة. ووجدتُ نفسي وما كنتُ أبحث عنه؛ رفض التجريد والصورية؛ لذلك لم أستطع الاستمرار في شعبة الرياضيات في الثانوية العامة كي أكون مهندسًا، ويبدو أنَّني بدلًا من أن أبني المنازل والعمارات قد أعدتُ بناء العلوم القديمة، وأصبحتُ مهندس آثار وترميم، ورفض المادية الطبيعية؛ لذلك لم أفهم من دروس الكيمياء والمعادلات شيئًا وأنا في الثانوية العامة أُجرِّب بين الشعب، حتَّى استقر بي المطاف في شعبة الفلسفة، التي كنتُ أخشى من كونها شعبة آداب دون علوم. ويبدو أنَّني قد استطعتُ تحويل الآداب إلى علمٍ دقيق.

وقد كان تطوُّر وعيي في ذلك الوقت من الدين والصلاة في المكتبة الأهلية، بجوار دورة المياه الرخامية النظيفة في ١٩٥٧–١٩٥٩م، ثمَّ من الدين إلى المثالية الألمانية في ١٩٥٩–١٩٦٠م. كانت المثالية بالنسبة لي هي الحقيقة. وكان الصراع في السربون في ذلك الوقت بين مركز «ريشيليو»، مركز الطلبة الكاثوليك وبين الطلبة الشيوعيين. كان الكاثوليك يعتنون بالطلبة الأجانب. لم يكن الهدف تحوُّلهم عن دينهم ولو أنَّ ذلك كان واردًا، ولكن استئناسهم وإلَّا وقعوا فريسة التيارات الهدَّامة، وحتَّى يتم الإعجاب بالغرب المسيحي المُتفهِّم للإسلام التقليدي الشائع في قلوب الناس، وحتَّى لا تطغى الثقافة الأوروبية المادية المُلحدة العقلانية على إيمان المسلمين! كنتُ أرى أنَّ كل من يتكلَّم عن الأُسس الاجتماعية أو السياسية للظواهر الإنسانية فهو مادي. ومرةً كنت أسمع تحليلًا لنشأة الإسلام من أحد الطلبة العرب من شمال أفريقيا عن طبقة التجَّار وطبقة العبيد، فكنتُ أرثي في ذلك الوقت لحال الطلبة المسلمين الذين أفسدَتهم الشيوعية؛ لأنَّ الإسلام في رأيي وقتئذٍ كان وحيًا من عند الله. ولم أكن في ذلك الوقت قد فهمتُ دلالة «أسباب النزول» وأنواع العِلل المادية في أصول الفقه؛ أي الأسباب المادية لوقوع الإسلام، وتطوُّر التشريع.

ولكن عددًا من تجارب الحياة اليومية جعلَتني أتحوَّل من المثالية إلى الحياة، تجارب شخصية أدركتُ من خلالها أنَّ المثالية ليست هي الحياة، وأنَّ الحياة أشمل وأعم؛ فلا أستطيع أن أُحب الروح أو أن أعشق الوجود. لم أكن في ذلك الوقت قادرًا على عمل أي شيء إلَّا إذا كان له أساسٌ نظري أولًا. وبعد عديد من الصدمات، بدأتُ بالبداية؛ العالم، الحس، الواقع، الناس، المرئي، الملموس، حب الأشياء العينية لا تجريدها. وكنتُ أتوغَّل أكثر فأكثر في فلسفات العودة إلى الأشياء ذاتها، برجسون، هوسرل، هيدجر، الاتحاد بالأشياء لإدراك ماهياتها، العيش مع الأشياء. واتضحَت أبعاد فلسفة الوجود؛ الإنسان في العالم، الوجود الإنساني، الواقعة الإنسانية، البدن، الزمان، الحياة، الشعور، الوجدان، القلق، والهم، والحصر. كان «الوجود والزمان» لهيدجر يُمثِّل لي شعر الطبيعة وميتافيزيقا الوجود. وكنتُ سعيدًا للغاية بانتهاء مرحلة المثالية إلى الواقعية، هذا التحوُّل الذي نشأ في آخر ١٩٦٠م، والذي بعده بدأتُ في كتابة الصياغات الأولى لرسالتي الأولى «مناهج التفسير»، التي خرجَت مقتضبةً قصيرة النفس؛ مِمَّا دفعني إلى كتابتها ثانية بعدها بأربع سنوات بنفَسٍ أطول وبتحليل مضمونٍ أعمق عام ١٩٦٤م.

أصبحَت لحظتا الشعور الأوروبي عند العقليين أولًا «الأنا أفكر» وعند الوجوديين ثانيًا «الأنا موجود» على مدى أربعة قرون متمثِّلة في حياتي في ثماني سنوات؛ المثالية العقلية في ١٩٥٦–١٩٦٠م، والحياة والواقع والوجود في ١٩٦١–١٩٦٦م، ولكنِّي ظلِلتُ أُحافظ على تفاؤل المثالية، وتركتُ تشاؤم الوجودية، واحتفظتُ بالعقل ودوره في المثالية، وتركتُ اللامعقول في الوجودية، وأبقيتُ على الغائية في المثالية، وأسقطتُ العبث في الوجودية. وكان السؤال: كيف تقول الوجودية بالالتزام والوجود الإنساني كمشروع وفي نفس الوقت نقول باللامعقول وبالعبث؟ كان العقل والواقع بالنسبة لي واجهتَين لعملة واحدة. ولشد ما فرحتُ عندما وجدتُ ذلك في أحد فصول الجزء الأول من «الأفكار» عند هوسرل. ولمَّا كنتُ خارجًا من تراث ديني بؤرته الوحي، اكتملَت لديَّ وحدة الوحي والعقل والواقع، وأصبح آخر فصول رسالتي الأولى عن «مناهج التفسير»، الذي بعده بدأتُ أكتب وأترجم لأعمال في دين العقل «كانط» ودين الطبيعة «لسنج».

كنتُ أقرب إلى وحدة الوجود في ذلك الوقت، ولكن بالمعنى الذاتي الإرادي، كما هو الحال عند فشته، وليس بالمعنى المجرد عند شلنج. كنت أقرأ وأعيش، أعقل وأنفعل. وقد تجلَّى ذلك في رحلاتي إلى كل بلاد أوروبا باحثًا عن آثار الشعراء والأدباء والفلاسفة. وكان تعرُّفي على الأصدقاء، أتعلَّم منهم، وأؤثِّر فيهم ويؤثِّرون في. تعلَّمتُ من التجارب روح الكتب ومن الحياة معاني النصوص. كنتُ أشعر بحياة الشعراء، شيلر، وجوته، والموسيقيين وعلى رأسهم بيتهوفن، الذي لم تكن صورته تفارقني وهو يقود الأوركسترا ناكشًا شعره، وتحتها عبارة بخط يدي «عمر بن الخطاب». كانت الرومانسية وحتَّى الآن بالنسبة لي هي التقاء المثالية والوجودية، ونقطة التقاء بين الوعي والحياة. أردتُ أن أكون موسيقيًّا في البداية؛ فأنا من أسرة موسيقية، وكنتُ أريد أن أكون مؤلفًا حتَّى أُحرِّك مشاعر الناس بمارسيلييز جديد. ولمَّا كان «المعهد العالي للموسيقى» أقرب إلى تخريج أساتذة للموسيقى أو عازفين فإنَّني أجَّلتُ ذلك حتَّى فرنسا. وهناك كنت في معهد الموسيقى بالصباح، وفي الجامعة بعد الظهر، وفي المساء كان عليَّ إمَّا أن أعزف وإمَّا أن أقرأ. ومتى أُؤلف السمفونيات؟ ومتى أكتب رسائلي الفلسفية؟ وبعد عامَين دخلتُ المستشفى باشتباه السل. وكانت نصيحة الأطباء عليَّ أن أختار بين إحدى المهنتَين؛ الموسيقى أم الفلسفة. ولمَّا كان اللحن قد أصبح بالنسبة لي جمالًا دون فكر، وكانت الفلسفة فكرًا دون جمال، وجدتُ في الفلسفة الرومانسية عند هيجل وفشته وشلنج وكيركجارد وبرجسون خاصة وحدة الجمال والفكر. وهو ما أنا عليه الآن. أحيانًا يُصيبني الندم كلما استمعتُ إلى بيتهوفن أو حضرتُ حفلات الموسيقى العربية أو الكلاسيكية، بأنَّني ربما قد أسأتُ الاختيار. وأحيانًا أرضى وأقول: ولكن فيمَ الأسى وأنا أُغني الفلسفة، وأعمالي أقرب إلى الوجدانيات منها إلى التحليل العقلي الرياضي أو العلمي الطبيعي الدقيق؟ وبعد صدور «من العقيدة إلى الثورة» وجدته عن حق سيمفونيةً خماسية الحركات. أمَّا «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» فإنَّها مجرد ثمانية كونشرتات متنوعة.

كانت المعرفة لديَّ تأتي من التجارب المعاشة. وكان اللمس يؤدي دور الحدْس المباشر. وكانت النظرة تُثير من المعاني قدْر الصفحات الرائعة التي كتبها سارتر عن النظرة في «الوجود والعدم». كان الحب والإعجاب، والنجاح والفشل، والفرح والحزن، كان كل شيء يتحوَّل في شعوري إلى معنًى. أصبحتُ أعيش في عالم من المعاني من خلال التجارب. كنت ظاهراتيًّا بالميلاد. كانت الفلسفة عندي طبيعة وعملًا في كل لحظة. كنتُ أُشبِّه نفسي بصاحب المعمل المتنقل والذي يحمل آلاته ومخبارته بين جنبَيه في مقابل عالِم الطبيعة صاحب المعمل الثابت والمخبر الساكن. كنتُ أعمل في الزمان في مقابل عالِم الطبيعة الذي يعمل في المكان. كان عالمي بين جنبي أصاحبه أينما حللتُ.

وقد ساعدني على ذلك سكناي في المدينة الجامعية معظم السنوات.١٠ كنتُ أعيش حياة الطلاب بين الشعر والثورة، العلم والحياة، العقل والبدن، الفلسفة والفن، المعنى والتجربة. وقد تأثَّرتُ بهم كثيرًا في حياتي العامة وحياتي الخاصة. وفي شهور الصيف كنتُ أجوب أنحاء أوروبا، وفي معظم الوقت على دراجة خاصة، في ألمانيا والبلاد الواطئة، وأقضي الليل في بيوت الشباب. عرفتُ الغرب فكرًا وواقعًا، حضارة وشعبًا، وأنا أُعِد نفسي لتأسيس علم جديد وهو علم «الاستغراب».
ولمَّا كنتُ قد درستُ «النقد التاريخي للكتب المقدَّسة» وأنا أكتب الجزء الثاني من رسالتي الثانية «ظاهريات التفسير، محاولة لتفسيرٍ وجودي ابتداءً من العهد الجديد» وكنتُ على علم بكل آية في الأناجيل كيف تكوَّنت، وعن أي عقيدة تُعبِّر، وأنا في ذلك أثبت النظريات القرآنية عن التغيير والتحريف والتبديل اعتمادًا على علم النقد الحديث، وكما فعل ابن حزم والغزالي وابن تيمية ابتداءً من علم النقد القديم، قدَّمني جان جيتون Jean Guitton إلى بولس السادس بابا روما في ذلك الوقت، ودعاني إلى حضور الدورة الرابعة عام ١٩٦٤م، للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الذي عُقد بمبادرة من يوحنا الثالث والعشرين عام ١٩٦١م. ورأيتُ نفسي بين آلاف من الكرادلة باللباس الأقحواني في كنيسة القديس بطرس وهم يُصوِّتون على عقائد ونصوص لا يعلمون كيف نشأَت وتكوَّنَت ودُوِّنَت. ووجدتُ أنَّ حول كل منهم خبراء في النقد التاريخي من أساتذة الجامعات والباحثين العلمانيين أو الرهبان يمدُّونهم بما يُصوِّتون عليه. وكثيرًا ما كنتُ أشعر بخطأ التصويت مثل ذلك الذي تمَّ حول «الرهبنة» والكنيسة، والذي ورد في متَّى (١٦: ١٧–١٩). ولمَّا كنتُ أناقش بعض الكرادلة على أنَّه لو كان الأمر بيدي لصوَّتُّ على نحوٍ آخر، قالوا: لا تستطيع؛ فنحن لدينا الروح القدس، وهي التي تصوِّت فينا، وهي معصومة من الخطأ. أمَّا أنت فبالرغم من علمك فإنَّك قد تُخطئ. هنا أدركتُ الفرق بين الهوى والعقل، بين الإيمان والعلم. واعتززتُ بنفسي عالمًا. وفي الوقت الذي أشعر فيه بأي تعارضٍ بين اللاهوت والعلم فإنِّي أُوثِر العلم. وكما قال القدماء العقل أساس النقل. ومن يقدح في العقل فإنَّه يقدح في النقل.

كانت الرحلة إلى روما عام ١٩٦٤م، بمثابة إعلان العودة النهائية إلى أرض الوطن؛ فقد أحسستُ بأنَّ نهاية مرحلة وبداية مرحلةٍ أخرى قد حانت. كنتُ أرى مراحل تطوري بوضوحٍ تام. وقد آن وقتُ الرحيل. وقبل المناقشة بأيام كنت أسير في شوارع الحي اللاتيني وكأنِّي أودعه، ولستُ جالسًا على مكتبي. وكانت مناقشة رسالة بمعنى رسالة؛ أي قضية ورأي، وأنا أعلن بداية وعيٍ جديد في «مناهج التفسير» ونهاية وعيٍ قديم في «من تفسير الظاهريات إلى ظاهريات التفسير»، وأعلن في سري عن بداية الشرق ومصر في مركزه ونهاية الغرب. وقد شعر رئيس اللجنة بخبثي، وأراد أن يردَّ إليَّ الطعنة فقال: هل تسمح جامعاتكم بمثل هذه الحرية التي تنعم بها الآن في هذه الجامعة؟ لم أرد لأنِّي كنتُ على وعي بأنَّ ذلك الحوار إنَّما يدل على صراعٍ تاريخي طويل بين الأنا والآخر، لا يحسمه جدال قولي على منصة خارج الوطن.

ثمَّ جاءت مشكلة نقل مكتبتي؛ فقد طرتُ في أغسطس ١٩٦٦م، إلى القاهرة مع وفد مؤتمر المبعوثين إلى الإسكندرية، وتركتُ مكتبتي ورائي. يكفيني أنَّني كوَّنتُها وعلى الدولة نقلها. ليس لي عربة أريد إعفاءً من جماركها، ولكن لي مكتبة أريد الدولة أن تُساعد في نقلها. وقد تمَّ ذلك بالفعل، ووصلَت مكتبتي بحرًا بعد وصولي بستة أشهر، وأنا لا أكاد أُصدِّق عيني أنَّ مرحلةً قد انتهت وأنَّ مرحلةً أخرى قد بدأَت. انتهى الجهاد الأصغر، وبدأ الجهاد الأكبر.

(٥) بداية الوعي السياسي (١٩٦٧–١٩٧١م)

لم أعمل بالسياسة عملًا مباشرًا، بل كان مدخلي لها منذ البداية إمَّا تحرير فلسطين في ١٩٤٨م، وأنا في الثالثة عشرة، أو كفاحًا ضد الإنجليز في قناة السويس في ١٩٥١م، أو نقدًا للفساد الحزبي ولانحلال الملك وللاستعمار. وبعد اندلاع الثورة في ١٩٥٢م، شعرتُ ببداية عصرٍ جديد من الكرامة الوطنية ووحدة أراضي الأمة، العربية أو الإسلامية، وتحرير أراضي المسلمين في «حفني» بالمغرب، والظهران بالسعودية، وحيد أباد بالهند، وكشمير بباكستان. وكان إغراقي في الفكر وحماسي للحضارة هو السياسة عندي حتَّى تأميم القناة في ١٩٥٦م، ثمَّ ثورة يوليو في العراق في ١٩٥٨م، ورؤية ناصر جديد في عبد السلام عارف، وثورة الشعب اللبناني في ١٩٥٨م، ووحدة مصر وسوريا في ١٩٥٨–١٩٦١م، لتحقيق الوحدة الثورية في المنطقة. وكان وعيي بالثورة والوحدة أسبق من وعيي بالتغير الاجتماعي.

ولكن حدث أن زار المشير «عبد الحكيم عامر» باريس في ١٩٦٥م، فأُعدَّت لافتات الترحاب، ودُبجَت خطب المدح والثناء، وأتت الوفود من جميع بلاد أوروبا ممثِّلة للطلاب المصريين الدارسين في الخارج لتحيته. وكنت أرى النفاق مجسدًا في هذا المشهد، وقد راجع السفير بنفسه الخطب قبل إلقائها. ومنذ البداية، أخذتُ الميكروفون، وبدافعٍ من الصدق التام سألتُه عن حوادث التعذيب في مصر للإخوان، وعن الاتحاد الاشتراكي الذي بلغ عدده أكثر من مليون، وعمَّن يلتفُّون حول الرئيس ويمنعون الاتصال بينه وبين الشعب، ويُزيفون له المعلومات. حاول الرد، ولكن كانت الأسئلة الثلاثة فاتحة بركان. فطُويَت أعلام الترحيب، ووُضعَت الخطب المنمَّقة في الجيوب، وانطلق ممثلو الطلاب في تحليل الأوضاع في مصر، ونقد الثورة وما آلت إليه؛ الحرية، أجهزة الإعلام، البيروقراطية، الفساد، الطبقات الجديدة، الإثراء على حساب الثورة. وكان رئيس الوزراء «د. محمود فوزي» مبتسمًا وهو يسمع، يشعر أنَّ مصر ما زالت بخير ما دام فيها هؤلاء الشباب. استدعى المشير أحد الصحفيين للدفاع عن الثورة بأنَّنا أهل نظر ولسنا أهل ممارسة، وأنَّ الثورة حدثٌ في تاريخ. غادر المشير بعدها، وأخبر الرئيس بأنَّا لسنا على وعي بما يدور في مجتمعنا، وأنَّنا ليست لدينا معلوماتٌ كافية عن الإنجازات الثورية؛ وبالتالي لا بد من استدعاء الطلبة إلى مصر في صيف ١٩٦٦م، حتَّى يرَوا مصر بأعينهم بعدما طال غيابهم.

وبدأَت الانتخابات في عواصم الدول الأوروبية لتمثيل الطلاب. وبدأنا في فرنسا. وظهر لأول مرة اتجاهان رئيسيان في البلاد؛ التقدم والمحافظة أو اليسار واليمين أو المعارضة والسلطة. ونجح اثنا عشر، منهم ثمانية من التقدميين. وقمنا بإعداد ملفٍّ كامل لمؤتمر المبعوثين، دراسات عن الجامعة والسياسة والاقتصاد والاجتماع والأجور. كان بحثي حول «الإصلاح الجامعي».١١ وكنَّا في هذا العام قد بدأنا نشاطًا طلابيًّا مستقلًّا عن السفارة، محاضرات وندوات، مع التنسيق مع الاتحادات الطلابية العربية. وكان أكبرها اتحاد الطلبة المسلمين بشمال أفريقيا. كانت السفارة تُريد السيطرة على النشاط، وكنَّا نبغي الاستقلال التام. كانت تأتي الوفود أو يأتي الزوَّار من مصر في مهام رسمية. وكنَّا نريد مقابلتهم مع جماهير الطلاب، وكانت السفارة تُريد فقط ممثلي الطلاب حتَّي يُمكن احتواؤهم، وحتَّى لا تظهر القواعد الشعبية بثقلها ومعارضتها. بدأ وعيي السياسي، واتضحَت اتجاهاتي الإسلامية الثورية، ولكن بدأت أخطائي أيضًا في الحديث. كنتُ أستعمل «قال الله» و«قال الرسول»، وأعتمد في نقد التبذير في الدولة خاصة في الخارجية على ما كنَّا نرى في حياة الموظفين في السفارة ابتداءً من السفير حتَّى الفرَّاش، على عمر بن الخطَّاب النائم تحت جذع شجرة، خُفه تحت رأسه، دون قصر أو سيارة وقول رسول فارس له: «حكمتَ، فعدلتَ، فأمنتَ، فنمتَ.» فما كان من الوزير الزائر القادم من مصر إلَّا أن ربَّت على كتف السفير قائلًا: إذن سنختار له شجرة في باريس ينام تحتها. ضجَّ الجميع بالضحك، وخسرتُ المعركة بسبب عدم وجود منهجٍ مُحكم عندي. في حين قام زملائي طلبة الاقتصاد والسياسة، وأساتذة اليوم ومن قادة المعارضة بعرض نظرية الأجور، وسياسة مضاعفة الإنتاج القومي بالأرقام والإحصائيات.١٢ أدركت أنَّ الوعي الثوري عن طريق الأمثلة التاريخية والقدوة الحسنة أقل بكثير من الوعي الثوري القائم على العلوم السياسية والاجتماعية. تعلَّمتُ أولًا عن طريق المحاولة والخطأ في أشكال التعبير، ولكن كان الوقت متأخرًا للتعليم الدقيق وإعادة الاختيار بين الفلسفة والعلوم الإنسانية. وظلَّت الفلسفة مهنتي، والسياسة هوايتي.

وبعد رجوعي بدأ تعييني بالجامعة. وقد استغرق عامًا بأكمله انتظارًا لتوفير درجة بجامعة القاهرة؛ لأنَّ الأمر كان يتطلَّب لنقل درجة من قسم إلى قسم موافقة وزير المالية! كنتُ قد غادرتُ الجامعة بمجلس تأديبٍ غاضبًا في ١٩٥٦م، وعدتُ إليها بعد عشر سنواتٍ أستاذًا بعد رفضي تعييني في جامعةٍ أخرى ليس لي بها ذكريات، فلم يكن المكان أو الحوائط أو البشر يوحي إليَّ بشيء.

وبدأتُ الإعداد لمشروع «التراث والتجديد»، وبدأتُ بالكتابة في مناهج الدراسة للفلسفة الإسلامية، وهي الأزمة التي عشتها في الجامعة، وانفرجَت أثناء دراستي في باريس. بدأتُ في إعداد بحث لإحياء التراث وإعادة بناء علومه، كما فعل هوسرل لإحياء الفلسفة الأوروبية وإعادة بناء علومها، ولكن تدريسي للفلسفة المسيحية في عامي الجامعي الأول ١٩٦٦–١٩٦٧م، وعدم وجود نصوصٍ بها جعلني أُخصِّص عام ١٩٦٧م، كله لإعداد نصوصٍ مختارة من الفكر الغربي في العصر الوسيط. فأصدرتُ «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط» لأُعطي نماذج من الفكر الديني على اختلاف أنواعها، كي نقضي على أحادية الطرف في فكرنا الديني؛ فالله يُشرق في النفس كما هو الحال عند القديس أوغسطين والصوفية بوجه عام، أو هو ماهية الكمال كما هو الحال عند القديس أنسيلم، أو هو وجود كما هو الحال عند توما الأكويني.١٣ وهو أيضًا مطلبٌ إنساني كما هو الحال في العصور الحديثة عند كانط وفشته، وقانونٌ تاريخي عند هردر؛ فالتصوُّرات الدينية مختلفة متباينة، كلها اجتهاداتٌ إنسانية تدل على روح العصر، يُساهم في صياغتها الفكر الديني.
ثمَّ عدت من جديد إلى مشروع «التراث والتجديد» لأكتب البيان النظري الأول، الذي نُشر فيما بعدُ عام ١٩٨٠م، بعنوان «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، كخطة بحث يُساعد في تدريسي لمواد الفلسفة الإسلامية، التي كنت أقوم بها في هذه الفترة ١٩٦٧–١٩٧١م، وكي أعرض بالعربية أهم النتائج التي توصَّلتُ إليها في «مناهج التفسير» بالفرنسية، الذي حاولتُ فيه إعادة بناء علم أصول الفقه، واكتشاف نظرية الشعور الثلاثي؛ الشعور التاريخي، والشعور التأملي، والشعور العملي، من أجل إعادة بناء الحضارة الإسلامية على مستوى الشعور، واكتشاف الذاتية وتغيير محاورها وبؤرها بدلًا من أن تكون مركَّزة حول الله تكون مركَّزة حول الإنسان.١٤ بدأت المحاولة بهذه المقدمات النظرية عن «التراث والتجديد» منذ رجوعي من فرنسا في صيف ١٩٦٦م، فكتبتُ أزمة الدراسات الإسلامية، مستعينًا بما كُتب في مقدمة الرسالة عن نقد النزعة العلمية في الاستشراق، والنعرة الخطابية عند الباحثين العرب، واضعًا أُسس منهج تحليل الخبرات حتَّى يتطابق النص مع التجربة، المنهج النازل والمنهج الصاعد أي «التنزيل» و«التأويل».
ثمَّ وقعت عليَّ هزيمة ١٩٦٧م، وقع الصاعقة، ورأيتُ كل شيء ينهار، والحلم يُجهض، ورأيتُ نفسي عاريًا من أي فكر، ورأيتُ عِرض الأمة مستباحًا، فما كان يُعقل والمنزل يحترق إلَّا أن أُساهم في إطفاء النار. ولينتظر التاريخ حتَّى يُمكن استرداد اللحظة الراهنة. والسير أميالًا يقتضي أولًا السير خطوة. وماذا يعني الإعداد للمستقبل ونحن بلا حاضر؟ وهنا توقَّف مشروع «التراث والتجديد» مرةً ثانية، اليوم أمرٌ، وغدًا أمرٌ آخر. وبدأتُ سلسلة من المقالات الشهرية في «الفكر المعاصر» و«الكاتب» أُحاول بها أن أُساعد الأمة على عبور الهزيمة، عن رسالة الفكر، ودور المُفكِّر في البلاد النامية، وموقفنا الحضاري، والأصالة والمعاصرة، والأصالة والتقليد، والأفغاني، والترديد والتجديد في الفكر الديني، والتفكير الديني وازدواجية الشخصية، ونظرية التفسير، والأيديولوجية والدين، واللامبالاة، والقرف، ورسالة الجامعة، ومناهج التدريس، والطلبة والعمل الوطني، والشعب ومؤسساته، والفلاح والأمثال العامية، والدين والثورة عند كاميلو توريز في أمريكا اللاتينية. وكان ذلك كله حول تحديد «الأنا»! لماذا انهارت وكيف تنهض من جديد؟ وكانت هناك مقالاتٌ أخرى لتحديد «الآخر»، لماذا انتصر علينا وكيف يُمكن مقاومته؟ مثل: موقفنا من التراث الغربي، أزمة العقل أم انتصار العقل؟ وضربتُ نماذج من فلسفة التنوير عند اسبينوزا وفولتير وكانط، وحاولتُ نقل هيجل إلى حياتنا المعاصرة، مدافعًا عنه لعله يستطيع أن يُنقذ الروح والتاريخ والدولة. وعرضتُ الظاهريات منهجًا وفلسفة، فردًا وجماعة لأُبيِّن أهمية الذاتية لنا عائدًا إلى إقبال، وفي نفس الوقت مُعلنًا بداية الوعي الأوروبي ونهايته. وبيَّنتُ اليمين واليسار في الفكر الغربي، ضاربًا أمثلة من ياسبرز وأونامونو وماركوز. وقد تمَّ جمع ذلك كله عامَي ١٩٧٦–١٩٧٧م، في جزأَين «في فكرنا المعاصر» و«في الفكر الغربي المعاصر» واضعًا أُسس الجدل بين الأنا والآخر.١٥

وإذا غلبَ على مجموعة مجلة «الفكر المعاصر»، الطابعُ الفردي، مناقشة رئيس التحرير للكاتب فيما يكتب، فإنَّ مجموعة «الكاتب» غلب عليها الطابعُ الجماعي؛ فقد كانت تعقد اجتماعًا أول كل شهر لمناقشة العدد الصادر في نفس اليوم ونقده، والإعداد لعدد الشهر القادم وتخطيطه. وكانت مدرسةً تعلَّمت منها التحليل السياسي. وقد استغرق العمل في المجلتَين معًا سنتَين أو أكثر حتَّى استهلكتُ وكرَّرتُ نفسي، ولكنَّها كانت شهادتي الأولى على عصري بعد الهزيمة لمعرفة أسبابها، والبحث عن مُقومات النصر، اعتمادًا على التنظير المباشر للواقع. ازداد وعيي بمسئولية المعارك اليومية والنضال المباشر من أجل تحليل أسباب الهزيمة، وتقوية روح الصمود، تحليلًا للوعي القومي، وأخذ موقف بالنسبة للغرب. وكان ذلك أيضًا هو لُب مشروع «التراث والتجديد» بجبهاته الثلاث؛ موقفنا من التراث القديم وهو «الأنا»، وموقفنا من التراث الغربي وهو «الآخر»، وموقفنا من الواقع بما فيه من هزيمة ونصر وتفسيرنا للنصوص.

ومن أجل الاستقرار، ظنًّا مني أنَّ العمل الفلسفي قادر على أن يُساعد الإنسان على أن يؤسِّس أسرة أو يُقيم منزلًا قمتُ بترجمة «رسالة في اللاهوت والسياسة» لاسبينوزا، وفي نفس الوقت لإعطاء نموذج لعمل العقل في الدين والسياسة، واكتشاف التواطؤ بين السلطتَين، ولإثبات أنَّ حرية الفكر ليست خطرًا على التقوى ولا على سلامة الدولة، بل إنَّ القضاء على حرية الفكر فيه تهديد للتقوى ولسلامة الدولة، ولتأسيس علم النقد التاريخي للكتب المقدسة، ورفض الثيوقراطية، والإعلان عن الأمل المنشود؛ مُواطن حر في دولة حرة. وقد كان من نتيجة النقد الذاتي بعد الهزيمة هو الدعوة لإقامة مجتمعاتنا على العقل والعلم، وكان اسبينوزا خير مُساعد على ذلك. واستمر ذلك طوال عام ١٩٦٨م؛١٦ فالترجمة عندي عمل هادف، تأليفٌ غير مباشر كما كان الحال عند المُترجمين القدماء عن اليونان. وقد اتبعتُ الأسلوب غير المباشر نظرًا لِمَا نحن فيه من عدم تعوُّد على نقد الموروث، أو نقد الواقع، أو تحليل الوجدان القومي، ونظرًا لسيطرة المحرَّمات الثلاثة؛ الدين، والسلطة، والجنس، واستمرار الرقابة على الفكر.١٧ كان الأجدى أولًا تمهيد وجداننا القومي، وإعداده بالترجمات الهادفة، واختيار النصوص الفلسفية التي تُساهم في حل مشاكلنا القومية، التي تقع مسئوليتها على الفلاسفة أنفسهم. وما على الرسول إلَّا البلاغ، وناقل الكفر ليس بكافر. وإذا كان جيلٌ سابق قد نقل ديكارت؛ لأنَّ العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، فجيلنا ينقل اسبينوزا لبيان كيفية إعمال العقل في الاستثناءات التي تركها ديكارت خارج الشك، مثل العقائد، والكتب المقدسة، ورجال الدين والكهنوت، والعادات والتقاليد ونُظم الحكم، كي نعلم ماذا يكون عليه حال الأمة إذا ما وجَّه العقل حياتها الخاصة والعامة.
ولما اكتشفتُ دور الأفكار في تغيير حياة الشعوب، وكنتُ قد استهلكتُ في هذه الشهادات الآنية على العصر، وبدأ التكرار يظهر في تحليلاتي؛ فالخارج أكثر من الداخل، والكتابة أكثر من القراءة، وقبل أن يفرغ الخزان، انقطعتُ عن الكتابة عام ١٩٧١م، وعكفتُ على قراءة ماركس الشاب والهيجليين اليساريين، استعدادًا لمرحلة قادمة.١٨ وفي هذه المرحلة لم تكن لي أيَّة ممارسة سياسية حزبية أو خلافها. كان كل نشاطي في التعليم والتثقيف من داخل الجامعة ومن خلال المقال الشهري. كان وعيي السياسي الذي تكوَّن في هذه الفترة وعيًا سياسيًّا فلسفيًّا خالصًا يقوم على تحليل التجارب الحية ووصف ماهياتها. كنتُ مثاليًّا بهذا المعنى وواقعيًّا بمعنًى آخر. وبدأَت بعض الشبهات في ذلك الوقت، ولكن استطاعت الجامعة أن تضعها في حدودها.١٩ ومع ذلك فقد آثرتُ الرحيل بعض الوقت حتَّى تخفَّ الشبهات، وتموت الشائعات، وتنتهي الأقاويل. فغادرتُ في سبتمبر ١٩٧١م، إلى الولايات المتحدة أستاذًا زائرًا، كي تنتهي مرحلة وتبدأ مرحلةٌ أخرى.

(٦) بداية الدين الثوري (١٩٧٢–١٩٧٥م)

وفي الولايات المتحدة الأمريكية بدأتُ التعرُّف على الدين الثوري، الذي كنتُ أقوم بتأسيسه تلقائيًّا، ودون اطلاعٍ على الإسهامات الأخرى فيه. قرأتُ «لاهوت الثورة» و«لاهوت التحرر» و«لاهوت التقدم» و«اللاهوت العلماني» و«اللاهوت السياسي»، «لاهوت موت الإله» و«لاهوت الألم» … إلخ. وكنتُ قد تعرَّفت على بعضٍ منه في أمريكا اللاتينية وحركة الرهبان الشُّبَّان أو يسار الكنيسة في لوفان ببلجيكا، أثناء زيارتي لجامعة لوفان أستاذًا زائرًا في أكتوبر ١٩٧٠م، ورأيتُ صور كاميلو توريز وجيفارا في أروقة الجامعة ترفعها اتحادات الطلاب. وقد أحضرتُ معي أعمال توريز الكاملة، وكتبتُ دراستي عن «كاميلو توريز، القديس الثائر» مُحلِّلًا أعماله والتركيز على أنَّ الثورة أمرٌ مسيحي، وتأسيس علم الاجتماع الوطني، والتحليل الطبقي، والتخطيط، والعنف والتغير الاجتماعي، والثقافة والوعي الطبقي، والدين والثورة، ووحدة القوى الثورية.٢٠ وعرفتُ جواتيريز Guatirez، وكامارا H. V. Camara … إلخ. وما زلت أتابع هذا الفرع في اللاهوت المسيحي حتَّى بوف Boff. وقد بلغَت أهمية التيار إلى حد تخصيص قسمٍ كبير من المكتبات العامة والمكتبات التجارية للاهوت التحرُّر مع اللاهوت العقائدي واللاهوت الأخلاقي. بل لقد تأسَّسَت داران للنشر خاصتان لذلك؛ الأولى في فرنسا، والثانية في أمريكا، من الرهبان الذين عاشوا في العالم الثالث وعادوا إلى الغرب كي يُعبِّروا عن مأساة شعوبه باسم الله؛٢١ فاللاهوت أيضًا تعبيرٌ إنساني عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمستوى الحضاري للشعوب. ولقد عُرفَت مؤلفاتي منذ ثلاثية الشباب حتَّى الآن بأنَّها أول مُحاولة لتأسيس لاهوت التحرُّر في الإسلام. وقد أخذَت محور رسالة دكتوراه لأحد الأساتذة الهولنديين في جامعة أمستردام الحرة عام ١٩٨٤م، بعنوان «تحرير الإنسان من وجهة النظر الإسلامية، محمد عزيز الحبابي، حسن حنفي فيلسوفان من العالم العربي الإسلامي».٢٢ ورسالة أخرى في الجامعة الأردنية بعنوان «التراث، الغرب، الثورة، بحث حول الأصالة والمعاصرة في فكر حسن حنفي»،٢٣ وكتاب آخر في تونس بعنوان «ظاهرة اليسار الإسلامي».٢٤ وما زلت أعزم على إخراج دراسة عن «لاهوت التحرُّر» هدية لإخوتنا أقباط مصر، حتَّى أُشارك في إعلامهم بآخر تطورات اللاهوت المسيحي؛ فمأساة التقليد في المجتمعات النامية واحدة بصرف النظر عن الدين، وكأنَّ الدين الشعبي هو الذي يوحِّد الأديان جميعًا.
كما تعرَّفتُ في الولايات المتحدة على اليهوديات، وكنتُ قد أجَّلتُها إلى حين أثناء دراستي في فرنسا حين الانشغال بالمسيحيات أساسًا. ولم يكن ذلك الأمر ببعيد أيضًا عن «لاهوت التحرُّر» نظرًا لأنَّ الصهيونية تحرُّر مضاد، أو تحرُّر سياسي لطائفة على حساب طائفةٍ أخرى، ودرستُ التيارات اليهودية المعاصرة، الإصلاحية والأرثوذكسية؛ فالصهيونية ما هي إلَّا أحد التيارات من ثلاثة في اليهودية المعاصرة، وتمتد جذورها في اليهودية القديمة، بل إنَّ الصهيونية السياسية «هرتزل» ما هي إلَّا تطوير للصهيونية الروحية «الخالي». وما زالت عيني على الصهيونية الآن وهي تُراجع نفسها.٢٥ بل إنَّ مشروع «التراث والتجديد» كله إنَّما تمَّت صياغته في أتون معركة تحرير الأرض. وإنشاء «لاهوت الأرض» إنَّما هو صياغةٌ صهيونية مضادة ومقابلة «لاهوت الأرض» و«لاهوت الاختيار» وما به من ميثاق ووعد وشعب بلاهوت أرض آخر يقوم على قطع الميثاق وجعله عامًّا فرديًّا تعاقديًّا أخلاقيًّا؛ لذلك أبرز دائمًا كحُجج نقلية «إله السموات والأرض»، «رب السماوات والأرض» وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ. وكانت أوراقي العلمية في المؤتمرات العلمية بالولايات المتحدة سواء «الأكاديمية الأمريكية للدين» AAR أو «جمعية الدراسة العلمية للدين» SSSR أو رابطة الخريجين العرب الأمريكيين AAUG في هذا الموضوع. وقد جمعتُها بعد عودتي إلى مصر في كتاب باللغة الإنجليزية هو «الحوار الديني والثورة».٢٦

ولمَّا ارتبط «لاهوت التحرر» بالعلوم الإنسانية، بالاجتماع، والسياسة والاقتصاد وكان من عيوبي أثناء تكوين وعيي السياسي نقص خبرتي في العلوم الإنسانية، فقد حاولتُ إكمال هذا النقص في هذه الفترة، وكوَّنتُ مكتبتي فيها. وما زلنا نحن ندرس الآداب بمفردها دون علومٍ إنسانية، وكما هو واضح من اسم كليتنا «كلية الآداب» ولم نُغيِّرها بعد إلى «كلية الآداب والعلوم الإنسانية». وركَّزتُ بوجهٍ خاص على علم الاجتماع الديني، وعلى التيارات الأساسية في علم الاجتماع الأمريكي، الذي حمله كثير من المهاجرين الألمان، وأكملتُ نقص علمي بالمذاهب السياسية والاقتصادية، مثل الاشتراكية والرأسمالية القومية، وبتاريخ الغرب سواء في نشأته إبَّان «الكشوف الجغرافية»، أو في ذروته إبَّان الاستعمار، أو في نهايته كما يُعلن عن ذلك فلاسفة التاريخ المُعاصرون الذين يتشاءمون حول مستقبله. وأصبح حديثي الفلسفي دائمًا قائمًا على العلوم الاجتماعية ومؤسِّسًا فيها؛ لذلك شعرتُ بقربٍ شديد لدراسة «فرنكفورت».

كما اعتنيتُ بالفلسفة الأنجلو سكسونية والأمريكية، وكنتُ قد تركتُها وأنا في فرنسا إلى مرحلةٍ لاحقة، أولًا لأنَّني لا أتذوَّقها لإيغالها في تحليلات الحس، وتصوُّرها العقل مجرد حاوٍ لإحساسات، ولبُعدها عن الميتافيزيقا وفلسفات الفعل، وثانيًا لأنَّني لستُ بحاجة إلى ترجماتٍ فرنسية لنصوصها، والأفضل قراءتها بلغتها الأصلية. ومع ذلك فإنَّني في دراستي لنشأة الوعي الأوروبي وتطوُّره أنسى دائمًا أخذ الفلسفة الإنجليزية في الاعتبار إلَّا أن يُذكِّرني بها أحد؛ إذ إنَّها لا تخطر لي على بال.

كما عرفت المجتمع الأمريكي عن كثَب، وزرت الولايات كلها من الشرق إلى الغرب ذهابًا وإيابًا، ومن الشرق إلى الشمال حتَّى كندا ذهابًا وإيابًا، ومن الشرق حتَّى الجنوب حتَّى المكسيك ذهابًا وإيابًا. وجمعتُ كل ما كُتب عن المجتمع الأمريكي ومشاكله، خاصة الجوانب المجهولة لدينا من هذا المجتمع، مثل الفقر، والتسلُّط، والجريمة، والرشوة، والنساء، وغياب الشخصية القومية، والعنصرية، والعنف. ولولا انشغالي بعد العودة بالقضايا العامة في الفترة (١٩٧٦–١٩٨١م) ثمَّ بكتابة «من العقيدة إلى الثورة» الصيغة النهائية (١٩٨٢–١٩٨٤م)، وبداية وعيي بالشرق والإعداد لمحاولتي الثانية «من النقل إلى الإبداع» (١٩٨٥–١٩٨٧م) لكنتُ قد أنهيت كتابي «أمريكا، الأسطورة والحقيقة»، أو «أمريكا، الحقيقة والقناع»، حتَّى يعلم كل من يبغي الهجرة إلى أمريكا إلى أين هو ذاهب، وحتَّى نُعيد الولاء القومي من جديد إلى أنفسنا، بدلًا من اتجاهه نحو الغير، أو على الأقل حتَّى يُعاد إلى وعينا القومي ميزان التعادل بين الغرب والشرق، خاصة وأنَّ الكفة راجحة الآن لصالح الغرب، وما زال الشرق في وعينا القومي غائبًا إلَّا من بعض المنتجات الإلكترونية الحديثة، ونساء الشرق للملوك والأمراء والأغنياء الجُدد، وفي الوقت الذي ما زال يُقال فيه بالنسبة لقضية تحرير الأرض، ولو أنَّ ذلك خفَّت حدَّته بعد ١٩٨١م، أنَّ ٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد أمريكا! وقد رأيتُ تفسُّخ المجتمع الأمريكي أمامي في ١٩٧٥م، على مستوًى عام وأنا أشاهد جلسات الاستماع على مدى شهورٍ كاملة على الشاشة الصغيرة، وخلال النهار، وهو وقت عملي الرسمي للكتابة لفضيحة «ووترجيت» Watergate، سوء استغلال السلطة التنفيذية، عصابات البيت الأبيض، التجسُّس على أحزاب المعارضة، سرقة الوثائق، السطو ليلًا على مقار الأحزاب، الجماعات الضاغطة في الكونجرس، والولاءات الجزئية للمصالح والأهواء. وفي نفس الوقت رأيت حُرية أجهزة الإعلام، وجرأة الصحافة، وشجاعة النواب، والنظام الذي يفضح نفسه بنفسه. وكان ماركوز يقفز إلى ذهني دائمًا في تحليله لعيوب النظام الرأسمالي وأثر أجهزة الإعلام في صنع الحقيقة في «الإنسان ذو البعد الواحد». رأيتُ مساوئ النظام الرأسمالي وفي نفس الوقت مزايا الحرية. خسرتُ عامًا بأكمله في جلسات الاستماع وأنا أُعِد نفسي لإعادة التوازن لوعينا القومي، لولا أنَّ الوقت ينقُصني، وأريد أن أُعطي مشروع «التراث والتجديد» الأولوية المطلقة. ولو أنَّ الشهادة على عصري ما زالت تُمثِّل لي مطلبًا قوميًّا. ليت الإنسان يستطيع أن يعيش مرتَين، عالم يكتب للعلماء مرة ويُخاطب المواطنين مرة أخرى، مرةً للخاصة وللجمهور الصغير، ومرةً للعامة وللجمهور العريض. ومسئولية جيلنا تفرض علينا المهمتَين معًا. وذلك هو التقابل بين «من العقيدة إلى الثورة» و«الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م».
ولكن المكسب الأعظم في هذه الفترة كان هو جمع المادة لمحاولتي الأولى باللغة العربية لإعادة بناء العلوم القديمة في علم الكلام، وهو «من العقيدة إلى الثورة»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، وقد كانت مُحاولتي الأولى هي رسالتي الأولى للدكتوراه «مناهج التفسير، ومحاولة في علم أصول الفقه» باللغة الفرنسية، والتي طُبعت في ١٩٦٥م، ونُوقشت في ١٩٦٦م. كنتُ قد أخذت معي كل نصوص علم الكلام من مكتبتي الخاصة أو من مكتبة الجامعة وصوَّرتُها ثم أرجعتُها بعد أشهر. كنتُ أجمع المادة أكثر مِمَّا أُحلِّل أو أصُف أو أكتب. كنتُ ضحية بعض ما تعلَّمتُه في مصر أثناء دراستي الجامعية، أنَّ الطبيعيات تأتي في نهاية العلم كشيء زائد إضافي، وربما تحت تأثير ابن حزم في «الفِصل» عندما عقد ضميمة في «اللطائف» في آخر مجلده. وسرعان ما أدركتُ أنَّها تأتي في مقدمة العلم وليس في نهايته، وأنَّها هي نظرية الوجود؛ أي المعلوم. كما اكتشفتُ أنَّ العلم لا يبدأ بالذات والصفات، بل يبدأ بنظرية العلم أولًا، ثم بنظرية الوجود ثانيًا. ثم انكشف لي بناء العلم كله وقسَّمته إلى عقلياتٍ يقينية وسمعياتٍ ظنية، وأنَّ جوهر العقليات هو الذات والصفات والأفعال، أنَّ الذات موجود له صفات، وأنَّ الإنسان حرٌّ عاقل، وأنَّ السمعيات هي الماضي «النبوة» والمستقبل «المعاد»، ثم الفرد «الإيمان والعمل»، والدولة «الإمامة»؛ وبالتالي أكون قد اكتشفتُ الإنسان في الإلهيات والتاريخ في السمعيات، والإنسان والتاريخ هما ما أبحث عنهما دائمًا، وما ينقصاننا في وعينا الحالي، وما يزهو به الغرب علينا دائمًا؛ فهو الذي اكتشف الإنسان والتاريخ في عصوره الحديثة.٢٧ كما آلمني حديث الفرقة الناجية، وانتهاء بعض المصنَّفات الكلامية بتكفير الفرق، أو انهيار التاريخ، وضياع الخلافة في الملك، وأنَّ خير القرون هي القرون السالفة، وأنَّ الفضل يقلُّ كلَّما مرَّ الزمان؛ فكيف أبني نهضةً بهذا التصوُّر المُنهار؟ وأدركتُ أنَّه آن الأوان ليظهر ابن خلدون جديد يضع شروط النهضة، كما وصف أسباب الانهيار. وكان ذلك آخر عبارة في آخر هامش في «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم».٢٨ كان تسميته في ذهني «علم الإنسان» كما أعلنتُ عنه في آخر وصفي لأجزاء المشروع في «التراث والتجديد».٢٩ ولكن فكرة الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، كما هو الحال في «التراث والتجديد»، من أجل إعادة بناء العلوم، هي التي جعلَتني أختار عنوانًا يُعبِّر عن هذا الانتقال من العقيدة إلى الثورة، ولو أنَّ زملاء آخرين سبقوني إلى الإعلان عن هذا الانتقال في «من التراث إلى الثورة»،٣٠ ولكن غياب التجارب الوطنية الجديدة، ونُقصان الخبرات الاجتماعية جعلَت تحليلاتي مُستمَدَّة من الخبرات القديمة، فخرجَت نمطيةً تقليدية، بالإضافة إلى طغيان التراث على التجديد، وتغلُّب الأكاديمية على روح العصر، فتوقَّفتُ عن إعادة بناء علم أصول الدين من علم اللاهوت Theology إلى علم الإنسان Anthropology مُعيدًا بناء العقائد الإسلامية بحيث تكون أيديولوجيةً ثوريةً للشعوب الإسلامية. وقد قمتُ بصياغة بعض أفكاره بالإنجليزية في مناسباتٍ عدة في مؤتمراتٍ دولية، نُشر البعض منه في «الحوار الديني والثورة»، عام ١٩٧٧م، والجزء الثاني بالفرنسية ما زال ماثلًا للطبع.٣١ وكان استئنافًا لمقال سابق كُتب بالفرنسية عام ١٩٧٠م، بعنوان علم لاهوت أم علم إنسان؟
Théologie ou Anthropo logie?
ونُشر في أعمال مؤتمر «نهضة العالم العربي»، عام ١٩٧٢م.٣٢ وبعد إنهاء الكتاب في ١٩٨٤م، أعددتُ عرضًا له ثالثًا بالإنجليزية، بعنوان «من العقيدة إلى الثورة» From Dogma To Revolution في المجلد الثاني لمشروع «الفكر الاجتماعي الجديد».٣٣

(٧) بداية النضال الفكري (١٩٧٦–١٩٨١م)

بعد عودتي من الولايات المتحدة الأمريكية في صيف ١٩٧٥م، بدأتُ في «التراث والتجديد»، البيان النظري الأول، موقفنا من التراث القديم، واستأنفتُه في الخرطوم في يناير ١٩٧٦م. وكنتُ أنوي إخراج الجزء الأول كله عن علم أصول الدين، بعد إعادة بنائه كعلم للإنسان، كما حاول فيورباخ ذلك من قبلُ، بعد أن مهَّدتُ له بالكتابة عن الاغتراب الديني عند فيورباخ عارضًا «جوهر المسيحية».٣٤ ولمَّا كان علم اللاهوت في مقابل علم الإنسان مصطلحاتٍ غربية وغريبة على الثقافة الأصلية آثرتُ «من العقيدة إلى الثورة»، العقيدة تُعبِّر عن جوهر فكر القدماء، والثورة تُعبِّر عن مطلب عصرنا.
ولكن مقتضيات التدريس بالجامعة للفلسفة الحديثة والمُعاصرة ولفلسفة التاريخ اقتضت تجميع كل دراساتي السابقة بعد الهزيمة حول «الأنا» و«الآخر» في قضايا مُعاصرة بجزأَيه «في فكرنا المعاصر»، و«في الفكر الغربي المعاصر»، في عام ١٩٧٦م، تمَّ إعداد نصوصٍ جديدة للفلسفة الحديثة والمُعاصرة، كما أعدَدتُ نصوصًا من قبلُ بعد الهزيمة. وكانت عيني هذه المرة على «تربية الجنس البشري» للِسِنج، و«تعالي الأنا موجود» لجان بول سارتر. كان الهدف من النص الأول استعماله في فلسفة التاريخ، وتقديم مفهوم التقدم في فكرنا القومي. كيف تتقدَّم الشعوب وطبقًا لأي قانون من أجل معرفة في أيَّة مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ كما ترجمتُ باقي أعمال لسنج اللاهوتية الأخرى من أجل تأسيس دين العقل، ودين الطبيعة، ودين الحرية، ودين الإنسانية المكتملة القادرة على الاستمرار دون وصايا خارجية، بل بالاعتماد على العقل والطبيعة وحرية الإرادة؛ فإذا كان الوحي هو التقدُّم وإذا كان الأنبياء قد ساهموا في تقدُّم البشرية فإنَّه من التناقض أن تكون أُمة الوحي خارجةً على قانون التقدم، ليس لها تاريخ، ولا تدري في أيَّة مرحلة من التاريخ هي تعيش.٣٥ وكنتُ قد شعَرتُ وأنا أقرأ هذا النص لأول مرة في باريس بأنَّ المرحلة الثالثة التي يصفها لسنج، والتي اكتملَت الإنسانية فيها، وهي مرحلة التنوير، بعد اليهودية «الطفولة»، والمسيحية «الصبا»، هي مرحلة ظهور الإسلام قبل لسنج بألف عام. وهنا ارتبطتُ بفلسفة التنوير التي ظلَّت مُلازمة لي من البداية إلى النهاية عبْر اسبينوزا، فولتير، فيكو، كانط، هردر … إلخ.
وكنتُ أُزمع إصدار ترجمةٍ عربية لنص سارتر الفلسفي الأول «تعالي الأنا موجود» قبل «الوجود والعدم» تحيةً له بمناسبة زيارته لمصر بعد هزيمة ١٩٦٧م، في يناير ١٩٦٨م. وجاء سارتر وغادر البلاد بعد أن تحوَّلَت زيارته إلى فرجة على صديق سيمون دي بوفوار، أو طلب شهرة من مسئول أو عميد أو أستاذ أو مُمثِّل أو أديب أو سياسي لالتقاط الصور التذكارية معه، أو لإطعامه «وكسر عينه» حتَّى يُصدر بيانًا لصالح فلسطين، في مقابل زيارته إلى إسرائيل بعدنا، التي تمَّت فيها مناقشة فلسفته، والتي صرَّح بعدها بتعاطفه مع الشعب اليهودي. ظلَّت الترجمة في الأدراج إلى أن عزمتُ على تقديم نص في الفلسفة المُعاصرة، فأعدتُ ترجمة «تعالي الأنا موجود» من أجل بيان نُقطتَي البداية والنهاية في الوعي الأوروبي، من «الأنا أُفكِّر» عند ديكارت إلى «الأنا موجود» عند هوسرل؛ فإذا كان الوعي الأوروبي قد شارف على النهاية، وأكمل دورته، فإنَّ السؤال يكون: وأي وعيٍ حضاري قادر الآن على أخذ زمام الريادة للبشرية بعد نهضة شعوب الشرق، وحركات التحرر العربي، والثورات العربية، والثورة الإسلامية في إيران لإفساح المجال للوعي الحضاري الإسلامي، مُمثِّل وعي العالم الثالث، وقلبه في أفريقيا وآسيا، كخليفة للوعي الأوروبي في القرون الخمسة القادمة؟ وكنتُ قد حاولتُ من قبلُ عام ١٩٦٧م، بعد رجوعي من فرنسا بعامٍ واحد، الكتابة في «الفكر المُعاصر» مقالًا عن «سارتر وهوسرل»، فجاء تحليلًا علميًّا لنصوص سارتر عن هوسرل؛ لأنِّي لم أكن قد تملَّكتُ بعد ملَكَة الكتابة للمجلات الثقافية، تحليلًا نصيًّا جافًّا لا يعلمه إلَّا المتخصِّصون، وكأنَّه فصل من كتاب علمي عن «الفينومينولوجيا» أقرب إلى الفِقرات التي كتبتُها في الجزء الأول من رسالتي الثانية «من تفسير الظاهريات إلى ظاهريات التفسير»، عن تطوُّر المنهج الظاهرياتي على أيدي تلاميذ هوسرل. فأخذتُ المقال وجعلتُه مقدمة لنص «تعالي الأنا موجود».٣٦

ولكن بعد تكشُّف بدايات الثورة المضادة في مصر شيئًا فشيئًا، ابتداءً من مايو ١٩٧١م حتَّى قوانين الاستثمار في ١٩٧٤م، والتفريط في نتائج حرب أكتوبر ١٩٧٣م، ثمَّ إنشاء الأحزاب الثلاثة؛ اليمين واليسار والوسط، انضمَمتُ بطبيعة الحال إلى حزب اليسار «التجمع الوطني التقدمي الوحدوي»؛ لِمَا كان يُمثِّله من استمرار لثورة ٢٣ يوليو كما جسَّدَتها الناصرية، فكان تجمُّعًا للناصريين، والقوميين، والشيوعيين، والتيار الديني المُستنير الذي كُنتُ أحد مُمثِّليه. وفي انتخابات ١٩٧٦م، التي دخل فيها اليسار مجلس الأمة بدأتُ الكتابة الصحفية دفاعًا عن اليسار بوجهٍ عام، وإعلانًا عن التيار الديني المستنير بوجهٍ خاص، ولكن بعد انتفاضة يناير ١٩٧٧م، ثمَّ زيارة القدس في نوفمبر من نفس العام، بدأتُ الشهادة الثانية على عصري بعد الشهادة الأولى إثر هزيمة ١٩٦٧م. وتركتُ مشروع «التراث والتجديد» لأضع كل طاقاتي في إيقاف الثورة المضادة، حمايةً لإنجازات الثورة، ومكاسب الشعب؛ فما كان يُعقل والمنزل يحترق، والبلاد تخرج عن مسارها الطبيعي وأنا أنظِّر للثورة الدائمة دون المساهمة الفعلية الآنيَّة والتفاعل مع أحداث العصر. وكنتُ أنتهي من مقالٍ لأبدأ آخر على مدى خمس سنوات ١٩٧٦–١٩٨١م، وهي المقالات التي جمعتُها بعد ذلك وأشرتُ إليها على أنَّها قضايا معاصرة، الجزءان الثالث والرابع؛ الثالث «في الثقافة الوطنية»، والرابع «في اليسار الديني»، ولكن تضخَّما إلى حد يصعُب تناولهما. كما أنَّهما يُمثِّلان كتاباتي الشعبية الآنيَّة التي أود أن تكون على قارعة الطريق، وفي أكشاك الصحف، أستردُّ بهما جماهير سيد قطب والمتولي الشعراوي. فتركتُ اسم «قضايا معاصرة» للشهادة الأولى بعد هزيمة ١٩٦٧م، وآثرتُ الاسم الثاني «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» للشهادة الثانية، ونشرتُه في ثمانية أجزاء حتَّى يكون سهل الحمل، ميسور الاقتناء. ظهَرَت مآسينا في هذه الفترة، وتبدَّت هزائمنا في الروح وليس على الأرض، في الإرادة الوطنية وليس في ساحة القتال. شاركتُ في الصراع الفكري مُساهمةً مني لإيقاف انتكاسات الثورة العربية، والمُحافظة على الثورة. وكلما اشتدَّت الأزمة السياسية في مصر مع الانفراجة الديمقراطية التي بدأَت في هذه الفترة، وتكوين الأحزاب السياسية، ساهمتُ بفكري في الحركة الوطنية المصرية؛ فالتقدم ليس مسألةً نظرية فحسب، بل موضوع ممارسة. وقد يكون دفع البلاد خطوةً نحو التقدم أفضل من عشرات النظريات في التقدم، «أعوذ بالله من علمٍ لا ينفع».

وكان لا بد أن يحدث الصدام مع الجامعة عندما كانت الثورة المضادة في عنفوانها. وبينما أنا مخفف من أعباء التدريس عام ١٩٧٨م، إثر إصراري على قبول جميع طلبة الدراسات العليا دون تمييز بينهم، وبصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية، كتبتُ عدة دراسات في علم الأصول بشقَّيه «علم أصول الفقه»، «علم أصول الدين»، «العقل والنقل»، وفي علوم الحكمة «الفارابي شارحًا أرسطو»، «ابن رشد شارحًا أرسطو»، وفي علوم التصوُّف «حكمة الإشراق والفينومينولوجيا»، وفي الفكر الإسلامي الحديث «من الوعي الفردي إلى الوعي الاجتماعي» (دراسة في الجوَّانية)، جُمعَت بعد ذلك عام ١٩٨١م، في «دراسات إسلامية».

ولمَّا شاركتُ في عدة مشاريع للبحث عن التنمية في مصر، فقد ساهمتُ بدراسات عدة عن «الدين والتنمية في مصر» و«أثر العامل الديني في توزيع الدخل القومي في مصر»، خلال عام ١٩٧٩م، عن طريق تحليل مضمون الخطاب للقيادة السياسية في مصر، إبَّان الفترتَين الرئيسيتَين في الثورة المصرية. وكان النضال الفكري الآني المباشر قد خفَّت حدَّته نظرًا لتوقُّفي عن التعامل مع الصحافة اليومية، ولكن ظلَّ الالتزام بالنضال الفكري خلال المجلات الثقافية العربية، سواء في موضوعات الدين والثقافة الوطنية مثل: مخاطر في فكرنا القومي، المسئوليات الراهنة للثقافة العربية، أو في الدين والتحرُّر الثقافي مثل: الإبداع الفكري الذاتي، الأصالة والمعاصرة، نحن والتنوير، من التراث إلى التحرُّر، الضباط الأحرار أم المفكِّرون الأحرار، أو في الدين والنضال الوطني مثل: هل يجوز شرعًا الصلح مع بني إسرائيل؟ عبد الناصر وقضية الصلح مع إسرائيل، مخاطر السلام، عبد الناصر والدين، عبد الناصر والحلف الإسلامي، عبد الناصر والشاه، الدين والثورة في الثورة العرابية. كما ساهمتُ في عدة مشاريع بمراكز البحوث في مصر عن الحركات الدينية المعاصرة، وكتبتُ عدة دراساتٍ طويلة مثل: أثر أبي الأعلى المودودي في الحركات الإسلامية المعاصرة، أثر سيد قطب في الحركات الإسلامية المعاصرة.

وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، في فبراير ١٩٧٩م، وفي عنفوان نقد النظام السياسي في مصر لها، نشرتُ «الحكومة الإسلامية» و«جهاد النفس» للإمام الخميني، حتَّى يعلم الناس نصوص الثورة قبل الحكم عليها. وأنشأتُ مجلة «اليسار الإسلامي» بعد التردُّد كثيرًا في استعمال الاسم. وأصدرتُ العدد الأول والوحيد حتى الآن عام ١٩٨١م، وبه «المسلمون في آسيا في مطلع القرن الخامس عشر»، «ماذا يعني اليسار الإسلامي؟». وحاولتُ إبراز مفهوم اليسار الإسلامي، وبيان معاركه الرئيسية في عدة مقالات؛ مثل: اليمين واليسار في الفكر الديني، الدين والرأسمالية، ماذا تعني أسباب النزول؟ مناهج التفسير ومصالح الأمة، المال في القرآن. كما حاولتُ بيان كيف يكون اليسار الإسلامي بوتقةً للوحدة الوطنية في عدة دراسات؛ مثل: اليسار الإسلامي ومستقبل مصر، ضرورة الحوار، دعوة إلى الحوار، التنوير الديني والتنظيم السياسي، مأساة الأحزاب التقدمية في البلاد المتخلِّفة. وهي التي تكوِّن المادة لكبرى لهذه الأجزاء الثمانية «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م».

ثمَّ وقعَت مذبحة سبتمبر ١٩٨١م، لأتفرَّغ لمدة عامٍ كامل للبحث العلمي وأنا خارج الجامعة. وهنا بدأتُ أُفكِّر جديًّا في أن أعود إلى صياغة «من العقيدة إلى الثورة» بعد أن جمعتُ المادة العلمية أعوام ١٩٧٢–١٩٧٤م، ويكون ذلك أكبر رد على الثورة المضادة. وبالفعل بدأتُ في الصياغات الأولى، تخلَّلها فقط انقطاع شهرٍ لكتابة دراسة عن تحقيقات الاغتيال، بعد أن عادت مصر إلى روحها، وبعد أن أخذ خالد الإسلامبولي ورفاقه نوعًا من التعاطف الشعبي العام، وهي الدراسة السابقة «الأصولية الإسلامية».

وخلال عام ١٩٨٢م، وأنا أكتب هذه الصياغة الأولى، أدركتُ أنَّني أضعتُ الوقت كثيرًا، وأنِّي قد انشغلتُ عن مشروعي الأول «التراث والتجديد» في زحمة الأحداث، وأنَّني شهدتُ على أحداث العصر بما فيه الكفاية، وأنَّني أكتسب من التجارب المعاشة من أحوال الوطن ما يجعلني صادقًا في التعبير عنها، فعقدتُ العزم على أن أُنهي مرحلة العمل المباشر، وأن أبدأ في تأصيل الثورة من خلال التراث، الذي ما زال هو المكوِّن الرئيسي لثقافة الناس الوطنية. وتطلَّب ذلك مغادرة الوطن مرةً ثانية إلى حين.

(٨) بداية الوعي بالشرق (١٩٨٢–١٩٨٧م)

وبدأَت رحلتي الثالثة خارج الوطن، بعد رحلتي الأولى كأستاذ إلى فرنسا ١٩٦٥–١٩٦٦م، ورحلتي الثانية كأستاذ إلى الولايات المتحدة ١٩٧١–١٩٧٥م، وهذه المرة إلى المغرب العربي ١٩٨٢–١٩٨٤م. وكنتُ قد عرفت المغرب من قبلُ عام ١٩٧٩م، أثناء انعقاد الجمعية الفلسفية المغربية في إحدى دوراتها عن «نحن والتنوير». وهناك أدركتُ أنَّ مكاني الطبيعي بين طلبة المغرب، ثقافةً وحماسًا، علمًا ووطنية، عمقًا والتزامًا. تعرَّفتُ على عميد آداب فاس الذي طلب مني البقاء، ولكن لم يكن الأوان قد حان بعدُ، فلمَّا حان الوقت ذهبتُ إلى هناك وأنا أجد بيئتي الطبيعية، الجمع بين العلم والوطن، بين الثقافة والالتزام، بين التراث القديم والتراث الغربي المعاصر. كان معظم الطلبة والأساتذة يسارًا؛ ومن ثمَّ وجدتُ نفسي بين أهلي وعشيرتي. خاصة وأنَّ أصولي مغربية؛ فجد جدي من البربر، رحل من المغرب إلى الحجاز سيرًا على الأقدام كعادة المغاربة. وأثناء عودته عن طريق مصر الوسطى استقرَّ في بني سويف، وتزَّوج بدوية من قبيلة بني مُر، وهي القبيلة التي ينتسب إليها عبد الناصر؛ لذلك كانت عيون جدي من جهة أبي خضراء.

لم أُدرِّس فقط لطلبة المغرب في كل السنوات، بل أيضًا شاركتُ في معظم المنتديات الثقافية المغربية، وما أكثرها في كل مدنها؛ فاس، مكناس، الرباط، مراكش … إلخ! بل واتصلتُ بأحزابها. وكنتُ وأنا جزء من المعارضة المصرية أجد نفسي في المعارضة المغربية. وجُلت في أنحاء المغرب جنوبًا حتَّى مراكش وشمالًا حتَّى طنجة، وديانًا وسهولة الحياة، ورخص المعيشة. وستظل هاتان السنتان لي وللأسرة أنعم سنتَين في عمرنا الطويل. رأيتُ عشق المثقف المغربي لحرية الفكر وبحث المغربي الفقير عن لقمة العيش. عشقتُ العروبة من هناك، ورأيتُ بقايا الأندلس، وقصر الحمراء، وجامع قرطبة. وكنَّا نعبُر مضيق جبل طارق بعد سبتة أو إلى إسبانيا من مليلية إلى ربوع الأندلس أكثر من مرة في العام. وأدركتُ أنَّ القرن الأفريقي في الشمال ما زال مُحتلًّا في مدينتَين؛ سبتة ومليلية، وأنا الساعي إلى تحرير الأرض، والذي أسَّس لذلك لاهوت الأرض، يربط فيه بين الله والأرض. رأيتُ جمال العمارة العربية، والملابس العربية، والزخرفة العربية، وسمعتُ اللغة العربية الفصحى بلا لحن، وطربتُ للموسيقى الأندلسية، وفرحتُ بزينة المرأة المغربية، وأدركتُ أهمية الإسلام الطبيعي في المغرب، الذي لم يقع في ثنائية الحلال والحرام، كما هو الحال في الإسلام في المشرق، تحت أثر إيران والديانات الثنوية القديمة. كما أنَّ اليهودية دينٌ طبيعي في المغرب. الإسلام واليهودية دينان قوميان. أمَّا المسيحية فلم تنتشر في المغرب لأنَّ المغربي لا يُدرك ملكوت السماوات إنَّما يعيش في ملكوت الأرض. وبالرغم مِمَّا كان للتبشير في المغرب من حرية أثناء الاستعمار الفرنسي ولكن الكنائس مهجورة. كانت أفكاري قد سبقَتني إلى المغرب من خلال المجلات الثقافية المصرية «الفكر المعاصر»، «الكاتب» … إلخ، ورأيتُ جيلًا من الطلاب والمعيدين كانوا يقرَءون لي منذ الإعدادية والثانوية؛ فالطالب في المغرب يتكوَّن حتَّى الثانوية علمًا ولغة وثقافة، وفي الجامعة يُمارس السياسة. يتعلَّم من أجل العلم وليس للحصول على شهادة أو وظيفة. وقد تكون أعلى شهادة حصل عليها رئيس القسم أو العميد أو رئيس الجامعة هي الماجستير، ولا يشعر أيٌّ منهم بنقص، ولكنَّه يعلم كل شيء. كان المغاربة يعلمون كل شيء عنَّا ونحن لا نعلم شيئًا عنهم. يصفون القاهرة وأحياءها ولم تطأها أقدامهم. إنَّما عرفوها من خلال الأدب الحديث. يُحبون اقتناء الكتب، والمجموعات الكاملة. تربَّوا على «الرسالة» و«الثقافة». هم حفَظة العلم بعد سقوط الأندلس، في الصدور وفي العقول وفي الخزائن العامة والمكتبات الخاصة.

وخلال سنتَين ١٩٨٢–١٩٨٤م، والجامعة مضربة طول الوقت، وأيام العطلة أكثر من أيام العمل، دوَّنتُ الصياغة الثانية لكتابي «من العقيدة إلى الثورة» وأنا في هدوء وعمل يومي يصل إلى خمس عشرة ساعة. كنتُ أكتب ما بين العشرة والخمس عشرة صفحةً يوميًّا، وكما هي العادة حتَّى الآن من قبيل الفجر حتَّى المساء، مع راحة بعد الغذاء لا تتجاوز الساعة. كتبتُ المجلدات الخمس باستثناء خاتمة المجلد الخامس «من الفرقة العقائدية إلى الوحدة الوطنية» كتبتُها في صيف ١٩٨٤م، بعد تركي المغرب وقبل السفر إلى اليابان بأيام في سبتمبر من نفس العام. وأنا أدوِّن السطر الأخير «ونحن إنَّما نُقدِّم «من العقيدة إلى الثورة» اجتهادًا منَّا، واستئنافًا لعلم أصول الدين بعد أن توقَّف منذ سبعة قرون، وتطويرًا له بعد «المواقف»، «ورسالة التوحيد» في عصر التحرُّر من الاستعمار في الخارج، والقهر في الداخل، وفي فترة الردة من قلب مصر المحمية.» أحسستُ وكأنَّني تخلَّصتُ من حملٍ ثقيل، وأنَّ مرحلةً قد انتهت تتلوها مرحلةٌ أخرى.

كنتُ سعيدًا بالمغرب. ولو كنتُ مكثت بها مدةً أطول لكنتُ قد أنهيتُ محاولتي الثانية «من النقل إلى الإبداع»، محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة، بالرغم من أنَّني كنتُ أعمل تقريبًا بلا أجر، فكان مُرتبي خمس ما يأخذه الزميل في الخليج. ومع ذلك وقع ما لم يكن في الحسبان؛ فقد دُعيت في ديسمبر ١٩٨٣م، إلى إلقاء محاضرة عامة في فندق فاس يُنظِّمها حزب الشورى والاستقلال، وهو من أحزاب المعارضة المغربية، الجناح المعارض في حزب الاستقلال، عن نظام الحكم في الإسلام.٣٧ وقلتُ في المحاضرة ما يعرفه كل الناس خاصةً وعامة من أنَّ الإمامة عقد وبيعة واختيار، وأنَّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأنَّ الإمام آخر من يأكل، وآخر من يشرب، وآخر من يلبس، وآخر من يسكن، وأنَّه لا يجوز تقبيل يدَيه أو كتفَيه أو وجنتَيه. واستشهدتُ بقول أبي بكر يوم السقيفة والذي يحفظه كل طفل «أيها الناس، إنِّي وُلِّيت عليكم ولستُ بخيركم. إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني، أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيتُه فلا طاعة لي عليكم.» وفي اليوم الثاني استدعَتْني الشرطة وأبقَتْني في الحجز حتَّى المساء وهم يُحقِّقون معي: من أقصد؟ هل في ذهني شخصٌ معيَّن؟ نظامُ حكمٍ بعينه، ملكٌ بعينه؟ قلتُ لا، ولكن هذا هو نظام الحكم في الإسلام. وسألوا: ألا تُقبِّل يدَي والدك؟ ألا تسجد وتُقبِّل قدمي أمك؟ قلتُ لا. حاولتُ الاتصال تليفونيًّا بالأسرة أُطمئِنها عليَّ، وأن أقول لها أين أنا. وظلِلتُ في الحجز حتَّى يأتي أمرٌ من السلطات العليا. وفي المساء أتى الأمر بالإفراج على ألَّا أعود إلى ذلك من جديد، وأنِّي أستاذ في الجامعة فقط، ولستُ مواطنًا مغربيًّا، بالرغم من أنَّ المغرب وطني الثاني، ولا أتصل بالجمعيات العامة أو الأحزاب السياسية. بيَّنتُ للضابط أنَّني لستُ نصفَ عالم ولا نصف مواطن، وأنَّ هذه الحدود بيننا من صُنع الاستعمار، وأنَّ هذا وطني كله من المحيط إلى الخليج، ومن أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وأنَّني فقيهٌ من فقهاء الأمة، وعالم من عُلمائها، ضد الرشوة لدى موظفي الوزارة بالعاصمة. قلبَت الأسرة عليَّ فاس وسجونها. واستدعت الأصدقاء والزملاء، خاصة وأنَّ اغتيال بن بركة بنفس الطريقة ما زال ماثلًا للأذهان. وعلمتُ فيما بعدُ أنَّ وزير الداخلية أيقظ العميد ليلًا، الذي هُرع إلى القصر، وأخذ عهدًا على عاتقه بأن يتدبَّر الأمر. وبدلًا من أمري بمغادرة البلاد في أربع وعشرين ساعة رجا تأجيل الأمر ولو إلى آخر العام الدراسي حتى ٣٠ يونيو ١٩٨٤م؛ فأنا عالم ومفكِّر مرموق من مصر. وطلب مني التوبة والاعتذار عن طريق أحد الفلاسفة المرموقين حتَّى يتم تسوية الأمر نهائيًّا فرفضتُ. وبالفعل أُمرت بمغادرة البلاد في هذا الموعد، وطُلب من زوجتي الاستقالة؛ فقد كانت تعمل أيضًا أستاذةً للغة الإنجليزية. غادر أولادي الثلاثة بالطائرة، وأنا خوفًا على كُتبي غادرت برًّا عبر مضيق جبل طارق، وأنا لا أكاد أُصدِّق عيني بعبور الحدود، بعد أن طلب أحد المعاونين رشوةً مني في مقابل عدم التفتيش فرفضتُ. ثمَّ طلب الضابط إنزال الحقائب للتفتيش فقبلتُ. ثم استحى بعد تفتيش أول حقيبة وطلب مني إرجاعها كلها فتنهدتُ. وما أن عَبرتُ الحدود إلى سبتة ثمَّ إلى الأندلس حتَّى تنفستُ الصُّعداء. وسرتُ عبْر جنوب أوروبا، إسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، ويوغوسلافيا، واليونان. وأخذتُ الباخرة من أثينا إلى الإسكندرية. ومع ذلك يظلُّ المغرب هو البلد العربي الوحيد الذي تحمَّلني سنتَين؛ فما زلت لا أدخل السعودية أو العراق نظرًا لما يُعرف عني من أنَّني من مُنظِّري الثورة الإسلامية. وأنا أُعِد العدة للرحيل في العاصمة الإدارية كان في ذهني «نداء إلى شعب المغرب» أو «وداع إلى شعب المغرب». وانتهزتُ فرصة إجراء جريدة أنوال حديثًا معي عن كبوة الإصلاح، فضمَّنتُه ندائي المشهور الذي تناقلَه كل طلاب المغرب «أتيت المغرب طائعًا، وأتركه مُكرهًا».٣٨
وطلبني أحد الأصدقاء كي أُساعده في «كلية البحرين الجامعية»، في قسم الدراسات الإسلامية.٣٩ وذهبتُ لمقابلة رئيس الجامعة أثناء انعقاد جلسات «التخطيط المستقبلي للفكر الإسلامي» بالكويت، ولم تكن المسافة بينهما ببعيدة. وبعد عقد الاتفاق جاءتني برقية تأسف لإلغائه؛ لأنَّ أجهزة الأمن بالبحرين رفضت دخولي البلاد. وكنتُ أثناء إقامتي بالبحرين لمدة يومَين أدركتُ المأساة، منطقة خدمات بين الشرق والغرب، فنادق أوروبية ضخمة، وطرق سريعة، وطيران وبواخر، ونفط واستثمار، وشركات أجنبية ورءوس أموال. أجد الآسيويين، وأبحث عن الشعب العربي فلا أكاد أجد. أسمع أنَّ وزير التعليم كان ناصريًّا، ولكنَّه لم يستطع شيئًا أمام أجهزة الأمن والمخابرات العامة. وتأسَّفتُ لذلك لأنَّني كنتُ أسمع عن تحرُّر طلبة البحرين، وعن مثقفيها، وعن تراثها المستمد من بابل وآشور منذ ملحمة جلجامش، وأنَّ أطراف الجزيرة كانت تضم المعارضين لنجد في وسطها. وما زال الطريق الرئيسي في المنامة عالقًا بذهني وعلى صفَّيه النخيل الجاف، وكأنَّها أعجازٌ خاوية.

كنتُ أريد الاستمرار في العالم العربي. فكَّرتُ في صنعاء. وكنتُ أسمع أنَّ طلبة اليمن لا يقلون ثقافة والتزامًا عن طلبة البحرين. وكان الزملاء يعرفونني، فإذا ما أمكن السيطرة على الأهواء البشرية في القواعد الجامعية، فسرعان ما تعصف الأجهزة العليا الاستشارية أو الأمنية بالنوايا الطيبة. ولمَّا كانت الجماعات الإسلامية تملأ الجو صخبًا كنتُ بطبيعة الحال شيوعيًّا ملحدًا. والدولة تبغي الأمان، ولا تريد كبَّ الزيت على النار ولا حتَّى إشعال الفتيل.

وكنتُ قد زرتُ طوكيو أول مرة في أواخر ديسمبر ١٩٨٢م، وأوائل يناير ١٩٨٣م، لإلقاء بحث باسم جامعة الأمم المتحدة في جامعة تسوكوبا في مؤتمر دولي عن «أزمة القيم» بعنوان «أزمة القيم والرد الإسلامي»، وتعرَّفتُ على اليابان لأول مرة.٤٠ وعندما دعيتُ ثاني مرة لحضور مؤتمر المستشرقين عام ١٩٨١م، لم أستطع الذهاب.٤١ ثمَّ دعتني جامعة طوكيو أن أكون أستاذًا زائرًا ابتداءً من أول مايو ١٩٨٤م، لمدة عام. ولمَّا كنتُ لا أستطيع في هذا الوقت نظرًا لامتحانات الطلاب في المغرب في يونيو، واحتمال عودتي النهائية في الصيف، أرجأتُ القبول حتَّى أول أكتوبر ١٩٨٤م، ولمدة نصف عام فقط؛ لأنَّ العام الدراسي في اليابان من مايو إلى مايو كل عام، وليس من أكتوبر إلى أكتوبر، كما هو الحال في باقي جامعاتنا وجامعات المغرب. قبلتُ الدعوة حتَّى أرى الشرق.
كنتُ أعلم الغرب جيدًا؛ فقد قضيتُ فيه أربعة عشر عامًا. وكانت تنقصني معرفة الشرق خاصةً بعدما كنَّا نسمع عن نهضته الحديثة، ثورة الصين الكبرى، نهضة اليابان، كوريا، انتصار فيتنام، استقلال الهند. كنتُ أريد وعيي بالعالم أن يكون متوازنًا بين الشرق والغرب. وغادرتُ في أواخر أغسطس إلى اليابان مع أسرتي. وأنا أرى الشرق لأول مرة. كان آخر وصولي إلى الشرق زيارتي لإيران بعد الثورة بشهرَين في آخر أبريل ١٩٧٩م، بعد زيارتي للكويت أستاذًا زائرًا لمدة أسبوعَين. قابلتُ الإمام الخميني، وناقشتُ علماء قم، ورأيتُ جماهير طهران.٤٢ وفي آخر العام في نوفمبر ذهبتُ ضمن وفدٍ من منظمة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا إلى أفغانستان، في بعثة لتقصي الحقائق. ووصلنا كابول عن طريق موسكو ذهابًا وإيابًا. كانت المقاومة الأفغانية في بدايتها. وكان حفيظ الله أمين هو رئيسها. وأثناء العودة زُرتُ بُخارى وسمرقند وطشقند، وخاطبتُ أئمة المساجد، وخطبتُ في جماهير المصلين المعمرين واستثرتُ نخوة الوحدة الإسلامية الأولى حيث لا حدود. ورأيتُ كيف يعيش المسلمون في ثقافةٍ تحتية فيما بينهم بالرغم من وجودهم في روسيا القيصرية.٤٣ ولكن هذه أول مرة أذهب إلى الشرق الأقصى عن طريق جنوب شرق آسيا. وكانت دهشتي وأنا أتوقَّف في بانجوك-تايلاند أن أرى مطارًا لا يقل عن أي مطار أوروبي، وكذلك في مانيلا-الفلبين، وأخيرًا في طوكيو-اليابان. ها هو الشرق مثل الغرب إن لم يتجاوزه، فلماذا كان الغرب إذن نمطًا للتحديث لدينا؟ هل لأنَّنا قريبون جغرافيًّا منه؟ هل بسبب الاستعمار وتحرُّرنا منه؟ ولكن الإسلام أول ما انتشر اتجه شرقًا. وهناك الصحابة الأوائل أشبه بالقديسين في سهول آسيا الوسطى، وأهل السنة والحديث وعلماء المسلمين هم الثقافة الوطنية للجمهوريات الإسلامية.

وكانت تجربتي في جامعة طوكيو وفي المجتمع الياباني جديدة وفريدة. رأيتُ الطالب الياباني الصامت الذي لا يتكلَّم، لا يدخل في معركة أو نقاش، يأخذ ولا يُعطي، يسمع ولا يتكلَّم، يستدل ويتعلم، ويحتفظ بنتائجه لنفسه أو لرئيسه أو لحكومته إذا كان موظفًا. كنتُ كمن يُغنِّي ويردُّ على نفسه. قدَّرتُ الطالب الأوروبي، والحياة الجامعية الأوروبية؛ حيث صراع الآراء والخلاف بين وجهات النظر إلى حد التناطح. رأيتُ الأدب الجم، والانحناء إلى الأرض، والحفاظ على الأشكال والرسوم. رأيتُ احترام كبر السن. وعرفتُ الجديد، نموذجًا ثالثًا من العلاقة بين القديم والجديد، بالإضافة إلى نموذج الانقطاع الغربي ونموذج التواصل والتجديد لدينا، وهو نموذج التجاور، لكلٍّ ميدانه، القديم للحياة الخاصة والأعياد واللباس والمعابد والأفراح والأحزان، والجديد للعمل وللمعمل وللشركة وللمصنع وللإدارة. وينقل الياباني نفسه من مستوًى إلى آخر دون أي إحساسٍ بالتناقض أو التعارض. ونحن الذين قتلنا أنفسنا منذ مائتَي عام في موضوعات الأصالة والمعاصرة، التقليد والحداثة، التراث والتجديد. إمَّا أنَّنا في وهم وإمَّا أنَّهم سذَّج طيبون. حاضرتُ في الجمعيات العلمية، وجُبت ربوع اليابان غربًا وشمالًا، ورأيتُ آثار القنبلة الذرية في هيروشيما. رأيتُ النظام، والنظافة، وحب العمل، والولاء للجماعة، والإخلاص لقضية، والإحساس بالواجب إلى حد الانتحار. ما نُنادي به منذ فجر النهضة الحديثة يعملون هم به. يوجد قطاعٌ غربي مستغرب، الأكثر من الشباب والأقل من الشيوخ. الغرب وأمريكا مثلٌ أعلى يُمكن تجاوزه بعد تعلُّمه وتمثُّله. يبدو أنَّ الهزيمة العسكرية قد تحوَّلَت إلى نصرٍ اقتصادي، وأنَّ المجال الحيوي الياباني الذي ظلَّ مجموع دول شرق آسيا بما في ذلك سيبيريا والصين، والمحيط الهادي حتَّى سواحل أمريكا الغربية، ظلَّ هو كذلك تجارةً واقتصادًا واستثمارًا.

وكان عليَّ الخيار بعد ذلك إمَّا البقاء في اليابان في جامعة الأمم المتحدة في طوكيو، أو عائدًا إلى العالم العربي الذي أحن إليه، والذي يحل أيضًا مشكلة تعليم أولادي الثلاثة، لمَّا كان التعليم الخاص في اليابان لا يقوى على مصروفاته أحد. قلتُ أجرِّب فصلًا دراسيًّا واحدًا في جامعة الإمارات العربية المتحدة. وكنتُ قد راسلتُها منذ عام، وطلبوا مقابلةً في لندن أثناء وجودي في المغرب في أواخر يونيو ١٩٨٤م، ووصلتُ متأخرًا إلى لندن من جبل طارق، ولم أستطع الانتظار يومًا واحدًا؛ فقد أزف موعد الرحيل من المغرب في ٣٠ يونيو ١٩٨٤م، فاعتذرتُ عن المقابلة، وطلبتُ تأجيل النظر في أمري ستة أشهر على الأقل حتَّى أعود من اليابان في ربيع ١٩٨٥م. ذهبتُ أستاذًا زائرًا إلى جامعة الإمارات العربية المتحدة في الفصل الدراسي الثاني. وكانت تجربةً ثانية جديدة وفريدة؛ فقد عشتُ في الخليج الأسطوري حيث توجد عوائد النفط ولو نظريًّا. ورأيتُ الجامعة والشعب والدولة. الجامعة أقرب إلى المعسكر للتدريب، فصل الطلبة عن الطالبات، وعزل عن المجتمع والوطن والدولة. المرتب الكبير يُغري أن يتحوَّل التدريس إلى تلقين مِمَّن يعلم لمِن لا يعلم. تُسيطر على الجامعة التياراتُ الإيمانية التي تُزايد في الإيمان تقربًا إلى السلطة. أمَّا النشاط العام فلا وجود له إلَّا في إطار الدعوات الرسمية، كل فكرة يحملها طالب أو طالبة عن الفرد أو التاريخ أو المجتمع أو أي ذكر لماركس أو هيجل يكون من هذا الأستاذ الزائر. وفي المقابلة في نهاية الفصل الدراسي سألني الأعضاء عن أشياء نسأل نحن عنها طلبتنا في الثانوية العامة. كان المعروض أكثر من المطلوب. ولماذا الصداع؟ وأدركتُ مأساة الخليج؛ عصابة كبرى، وهي الغرب والولايات المتحدة، بيدها كل شيء، المال والاقتصاد والأمن والمصير، وعصبة أصغر بيدها أمور الحكم. هؤلاء هم الحكام. أمَّا المحكومون فالمهاجرون طلاب الرزق، العرب من الشام ومن مصر يُسيطرون على الإدارة وجهاز الحكم، والآسيويون الذين بيدهم الأسواق، ويقومون بشتَّى الأعمال اليدوية. لا يتكلمون العربية، هم «البيتان» المهاجرون من الساحل الشرقي للخليج، مجتمع رجالي بالأصالة، يعيشون بلا أُسر، ذلك شرط العقد حتى لا يستوطنوا. يُرسلون الأجور لذويهم. هم ملك اليمين، مستأجَرون، يفسخ السيد عقودهم في أيَّة لحظة. نُعارض العنصرية في جنوب أفريقيا، والعنصرية ضاربةٌ فينا، ونحن له مسلمون.

عدتُ إلى طوكيو مستشارًا علميًّا لجامعة الأمم المتحدة على مدى عامَين ١٩٨٥–١٩٨٧م، وهناك عرفتُ المجتمع الدولي، وتعاملتُ مع الباحثين الدوليين، وتمرَّنتُ على مصطلحات العلوم الإنسانية، وعرفتُ موازين القوى الدولية، وأشرفتُ على مشروع «رؤية الأديان والمذاهب الأخلاقية للمجتمعات المثالية» وطبَّقتُه على الإسلام، والمسيحية، والبوذية، والهندوكية. وعشتُ صراع الجامعة بين الإداريين والعلماء، بين الإدارة والبحث العلمي. حاولتُ أن أُحوِّل إدارة الجامعة إلى مكان للبحث العلمي، وأن أربط باحثيها بالجامعات اليابانية التي ما زال نظام التعليم فيها يرفض التعليم الأجنبي الدخيل. حاولتُ عقد حلقات بحث أسبوعية لقسم العلوم الإنسانية، واستضافة الزوَّار. كانت شبكة العلوم الإنسانية معظمها من العالم الثالث؛ لأنَّ الجامعة كانت فكرة السكرتير العام السابق للأمم المتحدة يوثانت، من أجل التقاء المفكرين والعلماء من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. كان معظمها يسارًا حول نائب رئيس الجامعة الياباني، المتعاطف مع قضايا العالم الثالث، ولكن الغرب بوجه عام وأمريكا بوجه خاص كانت واقفة بالمرصاد، ضد مجموعة اليونسكو التي بدأَت تعصي الغرب بإعلانها عن «النظام الإعلامي الجديد»، وبقرارها اعتبار الصهيونية حركةً عنصرية. انسحبَت أمريكا من اليونسكو وأرادت إملاء شروطها بإبعادها عن السياسة. وأملت نفس الشروط على جامعة الأمم المتحدة تدريجيًّا حتَّى انفضَّ القسم، وتبعثَرت الشبكة، وأصبحَت الجامعة في طريقها إلى أن تكون مركز تدريب للمهنيين من العالم الثالث، لمواجهة قضايا الجوع والطاقة والإسكان. أمَّا الأفكار، والمذاهب، والأيديولوجيات فهذا كلامٌ لا يأتي منه إلَّا الصداع، يُحسنه الغرب ويُطنطِن به العالم الثالث، والأفضل أن يبقى المركز مركزًا والمحيط محيطًا، السيد سيدًا، والعبد عبدًا. زرتُ أرجاء آسيا وأفريقيا اتصالًا بالعلماء والباحثين وفي مؤتمرات الجامعة الدولية؛ الهند، إندونيسيا، الملايو، سنغافورة، الفلبين، السنغال … إلخ. وكتبتُ عدة دراسات ألقيتُها فيها، وكان من أشهرها «العلم الاجتماعي الجديد»، الذي كنتُ أنوي تقديمه كمشروع بحثٍ علمي لقسم الدراسات الإنسانية عامَي ١٩٨٨–١٩٩٠م، وهو يُعادل الجبهة الثانية من مشروع «التراث والتجديد»، وهو «موقفنا من التراث الغربي»، من أجل القضاء على المركزية الأوروبية، وإفساح المجال للإبداع الذاتي، من أجل إعادة التوازن بين المركز والأطراف، ولتأسيس «علم الاستغراب».٤٤

كان عيب الجامعة بالنسبة لي، بالإضافة إلى الصراعات الداخلية، بين الإدارة والعلماء، هو اليوم الكامل في العمل. وكنتُ قد بدأت وأنا أستاذٌ زائر في جامعة طوكيو، ثمَّ في الإمارات العربية المتحدة، جمع مادة محاولتي الثانية «من النقل إلى الإبداع»، لإعادة بناء علوم الحكمة. كنتُ أعمل بعد منتصف الليل بقليل حتَّى الساعة التاسعة صباحًا قبل الذهاب إلى الجامعة. ويبدأ نومي في السابعة مساءً. وأعمل في علوم الحكمة يومَي السبت والأحد والعطلات الرسمية وما أقلَّها. ومع ذلك، على مدى ثلاث سنوات في طوكيو (١٩٨٥–١٩٨٧م) أنهيتُ جمع المادة، كما فعلتُ بالنسبة لمحاولتي الأولى لجمع مادة علم أصول الدين في الولايات المتحدة على مدى ثلاث سنوات كذلك (١٩٧٢–١٩٧٤م). وكنتُ توَّاقًا إلى العودة إلى أرض الوطن إلى جامعتي، خاصة وأنَّ محاولتي الأولى كانت على وشك الظهور، ومحاولتي الثانية كانت في الإعداد حتَّى أبدأ حياة استقرار وتعليم وإعداد لمجموعة من الباحثين. أدركتُ أنَّ مشروع «التراث والتجديد» هو مشروع جيلٍ بأكمله يحتاج إلى فريقٍ من الباحثين. طُوي أكثر العمر وما زلتُ في المحاولة الثانية من الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم»، التي تشمل سبع محاولات. ومتى لي بالمحاولات الثلاث في الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي»، والمحاولات الثلاث للجبهة الثالثة «موقفنا من الواقع أو نظرية التفسير»؟

(٩) بداية التأسيس العلمي (١٩٨٨–؟)

وبالرغم أنَّ السيرة الذاتية لا تتعلَّق بالمستقبل، بل بمراحل ولَّت وانقضت، إلَّا أنَّه يُمكن استقراء المرحلة الحالية، التي أرجو أن تكون الأخيرة من المراحل الماضية؛ فمنذ عودتي من الشرق في صيف ١٩٨٧م، وكان همي إصدار طبعة مصرية شعبية لمحاولتي الأولى «من العقيدة إلى الثورة»، بعد أن تأخَّرَت الطبعة البيروتية. وقد تمَّ ذلك بالفعل واستغرق ما يقرب من ثلاثة أرباع العام، لطبع مُجلداتٍ خمسة في ظروف النشر في مصر. ولما خاف الناشر اللبناني سرقة السوق منه، أسرع في إصدار الطبعة البيروتية في نفس العام.

ولمَّا كانت هذه المحاولة الأولى أقرب إلى العقيدة منها إلى الثورة، وأقرب إلى التراث منه إلى التجديد، قرَّرتُ أن أجمع نشاطاتي الفكرية الصحفية العامة من ١٩٧٦–١٩٨١م، وهي شهادتي الثانية على أحداث العصر، الثورة المضادة في مصر. وكنتُ قد أعلنتُ أنَّها ستكون «قضايا معاصرة» الجزءان الثالث والرابع؛ الثالث «في الثقافة الوطنية»، والرابع «في اليسار الديني». ولكنِّي خشيتُ من تضخُّم كل جزء مِمَّا يصعُب معه حمله. وكنتُ أريد أن أجعله شعبيًّا يُنافس مشايخنا الأجلاء، وموجَّهًا إلى جماهير سيد قطب والمتولي الشعراوي على نواحي الطرق ولدى باعة الصحف، فقرَّرتُ إصداره في ثمانية أجزاء على هذا النحو الذي تمَّ به، وجعلتُ عنوانه «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» مصنفًا موادَّه قدْر الإمكان طبقًا لموضوعاتٍ متمايزة. وقد استغرق ذلك أيضًا حوالي ثلاثة أرباع العام؛ وبالتالي أكون قد شهدتُ على عصرَين مرتَين؛ الأولى بعد الهزيمة (١٩٦٧–١٩٧١م)، والثانية إبَّان الثورة المضادة (١٩٧٦–١٩٨١م)، أخاطب الجمهور العريض حوالي عشر سنوات من العمر على هامش «التراث والتجديد» الموجَّه للخاصة. لم أكن أستطيع إلَّا هذا، ولم يكن بوسعي إلَّا ما فعلتُ، وكأنَّ الأحداث تسيِّرني وأنا الذي طالما أثبت خلق الأفعال؛ لذلك لا أريد صحفيًّا يسأل حديثًا، ولا باحثًا يطلب بحثًا. اللهم إلَّا إذا تم بيع الوطن من جديد، أو حاقت به الأخطار التي تُهدِّد حاضره ومستقبله، أو ضاقت عليه الأرض بما رحُبَت، وأرجو ألَّا يكون.

وقبل أن أتفرَّغ إلى مرحلة التأسيس العلمي بقي لديَّ عدة مساهماتٍ جانبية، مثل البيان النظري الثاني عن الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي»، بعنوان «مقدمة في علم الاستغراب»، أُحاول فيه تحديد موقفي بالنسبة للغرب؛ فيبدو أنَّه ما زال هو الإطار المرجعي ونقطة الأصالة الدائمة في مناقشات المُثقَّفين والعلماء لمحاولتي الأولى؛ تكرارًا لِما حدث مع القدماء بجعل اليونان نقطة إحالةٍ مستمرةٍ لفهم المسلمين، الأنا من خلال الآخر. وسيصدر ذلك خلال هذا العام ١٩٨٩م؛ فلقد تتأخَّر أجزاء الجبهة الثانية ريثما أنتهي من أجزاء الجبهة الأولى.

وقد أعددتُ أيضًا كتابًا عن «فشته، فيلسوف المقاومة» بمناسبة مرور أربعين عامًا على احتلال فلسطين ١٩٤٨–١٩٨٨م، وبمناسبة مرور عشرة أعوام على كامب دافيد ١٩٧٨–١٩٨٨م، والآن ربما يكون له دلالة أكثر بمناسبة مرور عام على الانتفاضة، وإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة. أُبيِّن للناس كيف يكون عليه الفيلسوف، كيف يجسِّد روح أمة، ويُعبِّر عن مطالب شعب، يُصوغ كل فلسفته طبقًا لمطالب العصر؛ نظرية في الوحي باعتباره أخلاقًا، ونظرية في الثورة باعتبارها دفاعًا عن حرية الفكر، ونظرية في العلم باعتباره تحررًا، ونظرية في المقاومة، ونظرية في الأخلاق، ونظرية في القانون … إلخ، إلخ، حتَّى تتجسَّد الفلسفة أمام الطلاب، وتخرج عن نطاق الكُتب المقرَّرة والعبارات المحفوظة. وسيصدر أيضًا هذا العام.

بعد ذلك تأتي مرحلة التأسيس العلمي من أوسع أبوابها باعتبارها المرحلة الأخيرة. وسأُدخِل المواطنة داخل العلم لينتهي التجاور بين العلم والمواطنة. لقد أحسستُ بعد انتهاء مُحاولتي الأولى بما نقدني به الزملاء، شيوخًا وشبانًا، الخطاب المزدوج، القفز من مستوًى إلى آخر، وصف نشأة النص تاريخيًّا أو إعادة قراءته دلاليًّا، الحقيقة العلمية أم الأثر العملي. عابت مُحاولتي الأولى أنَّني كتبتُها على فترات مُتقطِّعة على مدى اثنَي عشر عامًا، فخرجَت غير متوازنة بين المطلبَين. ولقد تعلَّمتُ الآن؛ لذلك أقوم في مقدمة محاولتي الثانية «من النقل إلى الإبداع» بنقد ذاتي لمحاولتي الأولى كنوعٍ من الاستدراك، وكنوع من السيرة الذاتية أيضًا داخل العلم، خاصة في أولى مراحل بنائه.٤٥

سأنتبه إلى تكوين الباحثين الشبان؛ فمشروع «التراث والتجديد» أقرب إلى عمل الفريق والدراسات الموازية منه إلى عمل فردٍ واحد، وتأسيس «الجمعية الفلسفية المصرية»، وإنشاء «مركز الدراسات الفلسفية» لتخريج باحثين متمكنين هادفين متجردين للبحث العلمي، وإنشاء «مجلة الجمعية الفلسفية المصرية» لتكون منبرًا للحوار الفلسفي. يبدو أنَّ مرحلة التأسيس العلمي لا تبدأ إلَّا بعد الخمسين، وربما الستين، عندما يتفرَّغ الإنسان من هموم الدنيا، ويتجرَّد عن الأهواء، ليتجه إلى البحث العلمي الرصين، بأعمال تأسيسية تكوينية، تصبح علامات على مسار التاريخ.

وعلى هذا أصف مشروع «التراث والتجديد»، وهو كما وصفتُ منذ عشر سنوات، على النحو الآتي:

القسم الأول «الجبهة الأولى»: موقفنا من التراث القديم «البيان النظري الأول»

  • الجزء الأول: من العقيدة إلى الثورة، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين «خمسة مجلدات».
  • الجزء الثاني: من النقل إلى الإبداع، محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة «مجلدان».
  • الجزء الثالث: من الفناء إلى البقاء، محاولة لإعادة بناء علوم التصوُّف «مجلدان».
  • الجزء الرابع: من النص إلى الواقع، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه «مجلدان».
  • الجزء الخامس: من النقل إلى العقل، محاولة لإعادة بناء العلوم النقلية «خمسة مجلدات».
  • الجزء السادس: الإنسان والتاريخ، محاولة لإعادة بناء العلوم الإنسانية «مجلدان».

القسم الثاني «الجبهة الثانية»: موقفنا من التراث الغربي «البيان النظري الثاني»

  • الجزء الأول: مصادر الوعي الأوروبي.
  • الجزء الثاني: بداية الوعي الأوروبي.
  • الجزء الثالث: نهاية الوعي الأوروبي.

القسم الثالث «الجبهة الثالثة»: موقفنا من الواقع أو نظرية التفسير «البيان النظري الثالث»

  • الجزء الأول: المنهاج.٤٦
  • الجزء الثاني: العهد الجديد.
  • الجزء الثالث: العهد القديم.

ويبدو المشروع على هذا النحو غير متساوي الأضلاع؛ إذ ترجح الجبهة الأولى الجبهتَين الثانية والثالثة؛ مِمَّا يدل على أنَّ إعادة بناء الأنا هو الأساس، قبل إعادة تكوين الآخر، أو أنَّ فسحة العمر في البداية تضيق في النهاية.

وعلى هذا النحو تنتهي هذه المحاولة المبدئية لسيرة ذاتية، بعد أن انقضى من العمر أعظمه، وبعد اتضاح معالم المشروع، وبعد أن تم انكشاف المصير، مجرد نواة طبقًا لمقتضى الحال، وقبل السيرة الذاتية الأخيرة بعد انتهاء المشروع. كل مراحلها بداية؛ فالحياة تبدأ، ثمَّ تبدأ من جديد إلى ما لا نهاية؛ فأنا ابن الأصولية الإسلامية، تاريخها الموضوعي هو سيرتي الذاتية. قد لا تتوازن السيرة بين العام والخاص، بين الموضوعي والذاتي، بين غير الدال والدال، بين الدلالة والحدث، بين التطوُّر والبناء، بين السرد والمعنى، بين السند والمتن، بين الواقع والحُلم، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين التجلِّي والخفاء، بدافع الحياء خاصةً وأنَّ المعاصرين ما زالوا أحياء، بين الواقع التاريخي والأدب الإنشائي. كما أنِّي لا أرسم صورةً مثالية لي؛ فبي عيوب البشر جميعًا. إنَّما حاولتُ أن أترك سيرة للناس؛ فربما يُصيبني مكروه إرادي أو غير إرادي، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.

١  لم يكن في الحسبان نشر أيَّة سيرة ذاتية لي قبل الثمانين — لو عشنا — حتَّى يكتمل مشروع «التراث والتجديد» أولَّا، وحتَّى لا تطغي السيرة الذاتية الشخصية على الأعمال الفلسفية الموضوعية، فيقع القُرَّاء والباحثون في خطأ رد الموضوع إلى الذات والقضاء على استقلال الموضوع، ولكن لمَّا نقص الجزء السادس «الأصولية الإسلامية» عن الكم المُقرَّر له بحثتُ في أوراقي القديمة عن نصوص تتصل بالموضوع لإكمال هذا الجزء، فوجدت هذه السيرة الذاتية التي كتبتُها كمقدمة للبيان النظري الأول «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم» الذي نُشر عام ١٩٨٠م، والذي كان بمثابة المقدمة النظرية لأولى مُحاولاتي في إعادة بناء العلوم القديمة، علم أصول الدين وهي «من العقيدة إلى الثورة» الذي نُشر عام ١٩٨٨م، ولما أتت هذه السيرة ذاتية جدًّا خطابية وجدانية، آنية لا تتفق مع الطابع العلمي التحليلي الصارم لهذا الكُتيب النظري «التراث والتجديد» آثرتُ عدم نشرها (انظر باقي الظروف في هامش (۲)).
ولم تكن السيرة قد اكتملَت بعدُ نظرًا لإحساسي بذاتيتها، كمقدمة مقترحة لعمل موضوعي، فآثرتُ التوقف حتى ثالثًا: بداية الوعي الفلسفي (١٩٦١–١٩٦٦م). والآن أكملها حتَّى تاسعًا: بداية التأسيس العلمي (١٩٨٨–؟) بنفس الروح القديمة وبنفس الأسلوب القديم الذي كتبت به الأجزاء الأولى عام ١٩٨٠م. ووجدتُها قريبة من دراسة «الأصولية الإسلامية» التي تقص الصراع بين الإخوان والثورة على مدى ثلاثين عامًا؛ فسيرتي الذاتية هي نفس الموضوع، ولكن كحالةٍ فردية؛ فأنا جزء من الأصولية الإسلامية في تفاعلها مع الثورة المصرية، لم أدخل السجن ولم أُعذَّب بدنًا ولكني مارستُ الفكر والسياسة على نحوٍ طبيعي وعلني، فوق الأرض وليس تحت الأرض. ولو سُجنتُ وعُذبت لربما كتبتُ «معالم في الطريق» ولكني أُكمل سيد قطب الأول صاحب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، «معركة الإسلام والرأسمالية»، «السلام العالمي والإسلام»، الذي كان بداية اليسار الإسلامي، وبوتقة للوحدة الوطنية، واضعًا مرحلة «معالم في الطريق» بين قوسَين في حياة المفكِّر الشهيد، وفي حياة الأمة وشباب الجماعات الإسلامية كلها.
وبالرغم من أنَّ السيرة الذاتية فن وُجِد في تراثنا القديم وفي التراث الغربي، إلَّا أنَّني لم أشأ صياغة ذلك الآن. وإنَّما نشرتُ هذه المحاولة لدافع ثانٍ، وهو الإجابة على السؤال المُستمر من أنا؟ إخواني كما تقول الحركة التقدمية، شيوعي كما تقول الحركة الإسلامية، إخواني شيوعي كما تقول أجهزة الأمن؟ وهو رد أيضًا على ما يُقال من وقوعي في تناقض بين «التراث والتجديد»، وهو الصياغة العلمية لمشروعي الفلسفي لنهضة الأمة، ومُوجَّه لعلماء الأمة وبين «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، وهي كتاباتي الصحفية الموجَّهة للجمهور العريض. الأول قول برهاني وإن لم يخلُ من بعض الأقاويل الجدلية والخطابية. والثاني قولٌ خطابي وإن لم يخلُ من بعض الأقاويل الجدلية والبرهانية. وكلاهما تعبيرٌ عن قضايا العلم والوطن، وهموم العالم والمواطن، وضعتُ حياتي مع مؤلفاتي، ومؤلفاتي في حياتي. كل مرحلة بين الأربع والست سنوات، ولا أدري ما هي مراحلي القادمة، تركتُها مفتوحة ابتداءً من بداية التأسيس العلمي عام ١٩٨٨م، وأرجو أن تكون المرحلة الأخيرة (انظر أيضًا هامش (٥٢) من مقدمة «من العقيدة إلى الثورة»، المجلد الأول، «المقدمات النظرية» مقدمة: من الدعاء إلى السلاطين إلى الدفاع عن الشعوب، ص٤٩–٥١).
٢  لم أشأ أن أكتب هذه المقدمة «التراث والتجديد» وهو نفسه مقدمة المشروع كله، كما لم أشأ أن أربطه بالسيرة الذاتية لصاحبه حرصًا على موضوعية الفكر، ولعدم استباق الأحداث؛ فالسيرة الذاتية تكون في النهاية وليست في البداية. وقد اختار كانط وبرجسون الطريق الأول الموضوعي، بينما اختار كيركجارد وجابريل مارسل وعثمان أمين الطريق الثاني الذاتي، ولكن نزولًا على رغبة الدكتور محمود الشنطي رئيس «المركز العربي للبحث والنشر» بعمل مقدمةٍ شبيهةٍ بمقدمتي لرسالتي بالفرنسية «مناهج التفسير في علم أصول الفقه» التي أقصُّ فيها نشأة الموضوع في شعوري كتبتُ هذه المقدمة، وما زلتُ أتحرَّج منها نظرًا لأنَّها قد تكون في رأي البعض تعريةً ذاتيةً مجانية، واستعراضًا نفسيًّا لا لزوم له في موضوعٍ علمي. ولو أنَّني تركتُ إلى نفسي الخيار لأخذتُ الطريق الموضوعي الصِّرف، والفصل بين العلم وحياة صاحبه حرصًا على موضوعية العلم، وحتى لا يُؤَوَّل العلم، ويُقضى على موضوعيته، ويصبح مجرد تجارب ذاتية لصاحبه وكفى.
٣  Les Méthodes d’Exégèse, esrsai sur la science des Fondements de la Compréhension, ilm Usul al-Fiqh, Le Caire, Impremerie Nationale, 1965.
٤  أبو الحسين البصري، كتاب المعتمد في أصول الفقه، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، دمشق، الجزء الأول ١٩٦٤م، الجزء الثاني ١٩٦٥م.
٥  L’Exégèse de la Phénoménologie, L’ Etat actuel de la Méthode Phénoménologique et son application au phénomène religieux, (Thèse de 1966), Dar al-Fikr al-Arabi, Le Caire, 1980.
٦  La Phénoménologie de L’Exégèse, Essai d’une Herméneutiqne existentielle à partior du Nouveau Testament (Thèse de 1966), (sous pness) Anglo-Egyptian Bookshop, Le Caire, 1989.
٧  تمَّت كتابة هذا الجزء عام ١٩٨٠م. وابتداءً من الجزء القادم بعد العزم على نشر هذه السيرة الذاتية فقد كُتب في أوائل يناير ١٩٨٩م، وابتداءً من المسوَّدات الأولى مُحافظًا على نفس الروح ونفس الأسلوب.
٨  يُلاحَظ في بداية كل فترة من تطوُّر الوعي وتكوينه نوعٌ من الاستدراك على المراحل السابقة، واكتشاف جذور هذه المرحلة وبداياتها في المراحل السابقة لها، أو كونها هي جذور للمراحل اللاحقة.
٩  خرجتُ من مصر بعشرة جنيهات، واقترضتُ ثمن تذكرة من مارسيليا إلى باريس من سيدة فرنسية على الباخرة، أرجعتها إليها في ظرف عام. قضيتُ أول ليلة في محطة مترو مونبرناس مع المتسولين والشحاذين. وثاني ليلة أردتُ أن أقضيها في مسجد باريس فأخذني فرَّاش المسجد وسلَّمني لجزائري، الذي أخذني بدوره إلى غرفة في فندق من فنادق الجزائريين، كل عشرة في حجرة، وكل أربعة على سرير لمدة شهرَين حتَّى بدأتُ إعطاء بعض الدروس بالعربية لهم أو للطلبة الأجانب حتَّى يناير ١٩٥٨م. عندئذٍ كتب ماسنيون إلى إدارة الثقافة بوزارة الخارجية الفرنسية عن هذا الطالب الجاد. ولمَّا كانت العلاقة بين مصر وفرنسا مقطوعة فقد قررَت لي نصف منحة «٢٠ جنيهًا» كانت فتحًا لي. قطنتُ في غرفة في بدرون بجوار المدفأة الرئيسية لمنزل في الحي السادس عشر حتَّى ١٩٥٨م. وبعد أن عادت العلاقات بين مصر وفرنسا عام ١٩٦٠م تحوَّلَت إلى منحة «٤٠ جنيهًا» حتَّى عام ١٩٦٥م، ثم إعانة من مصر «٢٠ جنيهًا» بعد زيارة المشير عبد الحكيم عامر إلى باريس لمدة ستة أشهر، ولكن ابتداءً من عام ١٩٥٩م، عملت عدة ساعاتٍ أسبوعيًّا في المكتبة الأهلية لتصنيف الدوريات. ومنها خرج أول عملٍ لي عن التصنيف البيبليوجرافي للدوريات، والذي طبعَتْه المكتبة الأهلية فيما بعدُ. وكنتُ قد جمعتُ المادة أولًا من القاهرة أثناء زيارتي لها في صيف ١٩٦٠م. ثمَّ عملتُ بمدرسة اللغات الشرقية في الدروس المسائية لتعليم العربية حتى عام ١٩٦٦م، وأحيانًا بالمدرسة الصباحية عامَي ١٩٦٥–١٩٦٦م. ومن هذا الدخل كله كوَّنتُ مكتبتي.
١٠  بعد أول ليلة لي في مونبرناس ١٨ / ١٠ / ١٩٥٦م، ثمَّ سكني مع الجزائريين لمدة شهر أو شهرَين في الحي العشرين، ثمَّ لمدة شهرَين لدى أسرة فرنسية في الحي الثامن «محطة شارون Charonne» التي بحجرتها جاء حدْسي الثلاثي عن الوعي التاريخي والوعي التأملي والوعي العملي، وأنا أدرس علم أصول الفقه، وهي الأقسام الثلاثة لرسالتي الأولى «مناهج التفسير، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه» ثمَّ في حجرة فوق السطح لمدة شهرَين في الحي الثالث عشر «محطة أليزيا Alésia» بعدها طردني صاحب المنزل لمَّا طردَت مصر أخاه بعد تمصير الشركات الأجنبية بعد التأميم، ثمَّ لمدة عامَين تقريبًا في الحي السادس عشر في حجرة تدفئة الفحم «محطة موليير Moliére» ثمَّ أربعة أعوام ١٩٥٩–١٩٦٣م، في المدينة الجامعية بالحي الثالث عشر «محطة المدينة الجامعية Cité Universitare» عامًا في منزل الولايات المتحدة وثلاثة أعوام في منزل ألمانيا، ثمَّ عامَين في منزل الطلبة الرياضيين ١٩٦٤–١٩٦٥م، بالحي الخامس «محطة بور رويال Port-Royal» ثمَّ العام الأخير ١٩٦٦م، في حجرة فوق السطح في الحي الثالث عشر «محطة دانفر روشيرو Danfert-Roucherot».
١١  انظر الجزء الأول «الدين والثقافة الوطنية»، الإصلاح الجامعي، ص٢٠٩–٢٢٣.
١٢  هو زميلي وصديقي د. حسام عيسى، أستاذ الاقتصاد بكلية الحقوق جامعة عين شمس، وعضو اللجنة المركزية للحزب الناصري «تحت التأسيس».
١٣  «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط» المعلم «لأوغسطين»، الإيمان باحثًا عن العقل «لأنسيلم»، الوجود والماهية «لتوما الأكويني»، الطبعة الأولى، دار الكتب الجامعية، الإسكندرية، ١٩٦٨م، الطبعة الثانية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٧٨م، الطبعة الثالثة، دار التنوير، بيروت، ١٩٨١م. ويرجع الفضل إلى المرحوم الأستاذ الدكتور علي سامي النشار بتقديمي إلى دار الكتب الجامعية بالإسكندرية.
١٤  كنتُ قد عرفت الشعور التاريخي «الأخبار»، والشعور التأمُّلي «مباحث الألفاظ والعِلل»، ثمَّ جاءني حدْس الشعور العملي وأنا مستلقٍ في أحد أيام الأحد في يناير ١٩٥٧م، وأنا أُركز جهدي في موضوع أين أضع الأحكام الشرعية؟
١٥  «قضايا معاصرة»، الجزء الأول «في فكرنا المعاصر»، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثانية، دار التنوير، بيروت ١٩٨١م، الطبعة الثالثة، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٨٧م، الجزء الثاني «في الفكر الغربي المعاصر»، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٧م، الطبعة الثانية، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٢م، الطبعة الثالثة، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٨٨م. وقد قدَّمني للدار أخي وصديقي د. أبو زيد رضوان، أستاذ القانون التجاري بكلية الحقوق، جامعة عين شمس.
١٦  اسبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، الطبعة الأولى، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٧٣م، الطبعة الثانية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٧٨م، الطبعة الثالثة، دار الطليعة، بيروت، ١٩٨١م.
١٧  الجزء الأول، الدين والثقافة الوطنية، المُحرمات الثلاثة، ص٢٦٧–٢٦٩.
١٨  كانت ملاحظة التكرار من أ. د. جمال حمدان.
١٩  استدعاني أ. د. مرسي أحمد رئيس الجامعة في ذلك الوقت لإبلاغي بأنَّ محاضراتي مُسجَّلة في قسم شرطة الدقي، ولديه نُسخ منها، وأنَّه قد لا يستطيع حمايتي لو استمر الأمر على هذا الحال. والأفضل أن أصمتَ بعض الوقت، وأن أقبل دعوتي أستاذًا زائرًا بالولايات المتحدة. وهي نفس الرسالة التي تمَّ إبلاغي بها بعد عشر سنوات عام ١٩٨٠م، من أ. د. إبراهيم بدران خلال د. عبد الملك عودة، بالامتناع عن إعطاء أيَّة تصريحات صحفية على الأقل حتَّى تتم ترقيتي.
٢٠  «كاميلو توريز، القديس الثائر»، قضايا معاصرة، الجزء الأول «في فكرنا المعاصر»، ص٢٨١–٣١٨، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦م.
٢١  في فرنسا دار نشر لوفان «الريح» Le Vent وفي أمريكا دار نشر أورييس «دورات الأفلاك»، نيويورك.
٢٢  Mareen Van den Boom: Bevrijding Van de Men in Islamitisch Perspectief, Vu uitgeverij, Amesterdam, 1984.
٢٣  ناهض حتر، التراث، الغرب، الثورة، بحث حول الأصالة والمعاصرة في فكر حسن حنفي، عمان، ١٩٨٦م.
٢٤  محسن الميلي، ظاهرة اليسار الإسلامي، تونس، ١٩٨٣م.
٢٥  لذلك شمل الجزء الثالث «الدين والنضال الوطني» موضوع الصهيونية مثل: الجذور التاريخية للغزو الصهيوني في التراث الإسلامي، هل يجوز شرعًا الصلح مع بني إسرائيل؟ عبد الناصر وقضية الصلح مع إسرائيل، مخاطر السلام، لا مفر من الصمود والحوار، قبل الانتفاضة وبعدها … إلخ.
٢٦  Religious Dialogue and Revolution, Anglo-Egyptian Bookshop, Cairo, 1977.
٢٧  انظر: «لماذا غاب مبحث الإنسان في تُراثنا القديم؟» وأيضًا «لماذا غاب مبحث التاريخ في تراثنا القديم؟» في «دراسات إسلامية»، ص٣٩٢–٤٥٦، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨١م.
٢٨  التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، ص٢١٦، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ١٩٨٠م.
٢٩  المصدر السابق، الخطة العامة لمشروع «التراث والتجديد»، ص٢٠٣.
٣٠  الطيب تيزيني، من التراث إلى الثورة، حول نظرية مفترضة في التراث العربي، الجزء الأول، دار ابن خلدون، بيروت، ١٩٧٦م، وهو نفسه في طبعة مُوسَّعة، دار دمشق، دمشق، دار الجيل، بيروت، بدون تاريخ، وكتب مقدمة المؤلف الثانية بتاريخ ١٩٧٩م.
٣١  Religion and Revolution, An Islamic Model, in: Religious Dialogue and Revolution PP. 202–12, Anglo-Egyptian Bookshop, Cairo, 1977.
٣٢  Théologie ou Anthropo logie? dons: La Renaissance du Monde Arabe, PP. 233–64, Duclot, Bélgique, 1972.
٣٣  From Dogma to Revolution, in Islam, Religion Ideology and Development, Anglo-Egyptian Bookshop Cairo, 19889 (In print).
٣٤  الاغتراب الديني عند فيورباخ، عالم الفكر، الكويت، أبريل، ١٩٧٩م، وأيضًا «دراسات فلسفية»، ص٤٠٠–٤٤٥، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٨م.
٣٥  لسنج، تربية الجنس البشري وأعمال أخرى، الطبعة الأولى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ١٩٧٧م، الطبعة الثانية، دار التنوير، بيروت، ١٩٨١م.
٣٦  جان بول سارتر، تعالي الأنا موجود، الطبعة الأولى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ١٩٧٧م، الطبعة الثانية، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٢م.
٣٧  دُعي معي أخي وصديقي أ. د. محمود إسماعيل، الذي كان بالمغرب حوالي عشر سنوات أستاذًا للتاريخ الإسلامي، وهو الآن أستاذ بكلية الآداب، جامعة عين شمس.
٣٨  الجزء السابع: اليمين واليسار في الفكر الديني. وقيل أيضًا فيما بعد إنَّ ما زاد الطين بِلَّة هو محاضرةٌ عامة ألقيتُها في جامعة الزيتونة في تونس في آخر ديسمبر ١٩٨٣م، بدعوة من اتحاد الطلاب عن الحركة الإسلامية المعاصرة، تعطَّلَت الدراسة يومها في الجامعة وحضر الطلاب جميعًا، ودخلتُ في حوارٍ مع كل التيارات. وكان عميد كلية الشريعة تلميذًا لي، د. عبد الله الوصيف، هو المستقبِل والمُودِّع، بعدها لم يستمر عميدًا. وكان معي محسن الميلي، الذي كتب «ظاهرة اليسار الإسلامي» ينقدني فيه، فشكرتُه، وقدَّمتُه للطلاب، وطلبتُ منه الحديث لأُعطي الجميع نموذجًا لأدبيات الحوار. وقيل إنَّ تسجيل هذه الندوة التي استغرقَت ثلاث ساعات تمَّ إرساله إلى المغرب مع سؤال التوانسة للمغاربة: كيف يُدرِّس هذا الأستاذ عندكم؟
٣٩  هو الصديق د. سامي البدراوي.
٤٠  Value Crisis and Islamic Response, in: Islam, Religion Ideology and Development, Anglo-Egyptian Bookshop, Cairo, 1989 (In print).
٤١  تأخر إرسال بطاقة الطائرة حتَّى قبل موعد انعقاد المؤتمر بأسبوع. ولمَّا وصلَت أخطرتني شركة مصر للطيران بخطابٍ عادي، فأخذ أسبوعًا من شارع عدلي بميدان الأوبرا حتَّى شارع الحجاز بمصر الجديدة.
٤٢  الثورة الإيرانية والثورة العربية، الجزء الثالث: الدين والنضال الوطني، ص٣٠٧–٣٣٩.
٤٣  المسلمون في آسيا في مطلع القرن الخامس عشر الهجري، الجزء الخامس، الحركات الدينية المعاصرة، ص٣–٨٩.
٤٤  أجمع معظم هذه الدراسات في مجموعتي الإنجليزية الثانية بعنوان:
Islam, Religion, Ideologie and Development, Anglo-Egyptian Bookshop, Cairo, 1989 (In print).
وجدير بالذكر دور الباحثين المصريين في الجامعة، وفي مقدمتهم د. أنور عبد الملك منسق مشروع «البدائل الاجتماعية والحضارية في عالم متغير»، ومشروع «الفكر الاجتماعي الجديد»، وأيضًا د. إسماعيل صبري عبد الله، منسق مشروع «المستقبلات العربية البديلة»، د. سمير أمين، منسق مشروع «الرؤية الأفريقية».
٤٥  «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، ص٢٠٣–٢١٦، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ١٩٨٠م.
٤٦  المنهاج هو تفسير موضوعي للقرآن الكريم عن طريق تحليل المضمون ابتداءً من الوعي الفردي، ثمَّ الإنسان مع الآخرين، ثمَّ الإنسان في العالم في بؤرٍ ثلاث متداخلة. وقد بدأتُ به خشية أن ينقضي العمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥