الإخوان المسلمون: الخسارة والمكسب، والتطوير١

(١) ماذا خسرت مصر بالقضاء على الإخوان المسلمين؟

والحقيقة أنَّ الإخوان المسلمين لم يُقضَ عليهم لأنَّهم جزء أصيل من هذا الشعب فكرًا وقاعدة؛ فالإسلام باقٍ، والجماهير موجودة، وهما ركيزتا الإخوان المسلمين، بل إنَّ نشاطهم لم يتوقَّف علنًا أم سرًّا. وكانت دهشة أجهزة المخابرات عندما تقبض على الكشوف القديمة فتجد بين مَن تعتقلهم شبابًا في سن العشرين، أي إنَّهم وُلِدوا بعد الثورة، ولم يعرفوا نشاط الإخوان الذي توقَّف منذ أزمة الديمقراطية في مصر في مارس ١٩٥٤م «أي إنَّ الفكر والجماهير معًا كانا يولدان نشاط الجماعة، وكان الشباب ينشط تلقائيًّا في فكر الجماعة وتراثها؛ ومن ثمَّ فالقضاء على الإخوان المسلمين أسطورة. وكيف يُقضى على الفكر الإسلامي؟ وكيف يُقضى على جماهير المسلمين؟»

ومع ذلك، لقد خسرت مصر كثيرًا بمحاولة السلطة السياسية القضاء على الجماعة، أو إيقاف نشاطها، في الاثنين والعشرين سنةً الماضية. وأهم هذه الخسائر ما يلي:

  • (١)

    وقف التطوُّر الفكري للجماعة، وهي خسارةٌ كبيرة على مستوى الفكر الإسلامي الحديث. «فقد كان الإخوان المسلمون حركةً إصلاحية أصيلة نابعة من فكرنا الإصلاحي الحديث منذ ابن تيمية، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب، والمدرسة السلفية بوجهٍ عام، ومن خلال الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، ورشيد رضا، وقاسم أمين، وسيد خان، ومحمد إقبال. وامتاز فكر الشهيد حسن البنَّا بالوضوح والإيجاز والتركيز. كما امتاز أسلوبه بالإقناع. ثم تطوَّر فكر الجماعة على يد المُفكر الشهيد سيد قطب. وتحوَّل الإسلام إلى نظرية في العدالة الاجتماعية، والسلام العالمي، والتحرُّر الإنساني. كما أصبح أيديولوجيةً شاملة تُعطي تصورًا فلسفيًّا للعالم، ونظريةً في الفن، ومنهجًا في التفسير. ولسوء الحظ توقَّف هذا التطوُّر الفكري باستشهاد مُفكِّرها الأخير. ومن يدري ماذا يدور في عقول مفكِّري الإسلام الآن؟»

  • (٢)

    نظرًا لغياب التيار الإسلامي الأصيل على مدى العشرين سنةً الماضية، وحضور كل التيارات الفكرية الوارد منها والمحلي، الذي تتأصَّل جذوره في ثقافاتٍ أجنبية، أو الذي يقوم على التسطيح والهراء والكلمات المحفوظة والشعارات الرنَّانة، وكلاهما لم يُفرزا فكرًا، ولم يُجنِّدا شعبًا، نظرًا لهذا الغياب لم ينشأ مُفكِّرون إسلاميون جدد، يُطوِّرون الفكر الإسلامي، ويدفعون حركة الإصلاح الديني الحديث التي لم تُؤتِ بعدُ كلَّ ثمارها «والتي لم تستنفد بعدُ كل أغراضها حتَّى إنَّه ليعجب الإنسان، أهذه هي مصر كعبة الإسلام والمسلمين، خاوية الوفاض من فكرٍ إسلامي أصيل، ومرتع لكل انحرافٍ ديني مُمثَّل في الدعوات الصوفية أو في الادعاءات التجديدية باسم الإنسان مرة، وباسم العلم مرةً أخرى أو في التجارة التقليدية بالدين، ومُزايدة المُفكِّرين والمُفكِّرات، بعضهم على بعض، في الموالد والأعياد، أو في بعض الومضات الإصلاحية السريعة الجادة في صفحات الفكر الديني من جرائدنا اليومية، مرة كل أسبوع لا تكفي لمجابهة عِظم المسئولية التاريخية؟»

  • (٣)

    لمَّا كانت الجامعة، بل والمدارس الثانوية والابتدائية قبل الثورة، هي قلب مصر النابض، وهي مقياس تطوُّرها الفكري ونضالها السياسي، فإنَّ الفكر الإسلامي، كما تُمثِّله جماعة الإخوان، كان هو التيار السائد والرئيسي في الجامعة المصرية في أقل من سنتَين، منذ بداية الثورة حتى أزمة مارس ١٩٥٤م. «فقد عرفَت الجامعة قبل الثورة التيارات الوطنية التقليدية، وعلى رأسها الوفد والتيار الوفدي الشعبي، الذي عمَّ مصر والجامعة في أوائل الخمسينيات حتى قيام الثورة؛ فقد كانت الاتحادات الطلابية في معظمها من الإخوان. وعلى مدى العشرين سنةً الأخيرة خبا الفكر الإسلامي في الجامعة، وخفَت صوتُ الجماعات الإسلامية. ولم ينشأ فكرٌ إسلامي أصيل من داخل الجامعة اللهم إلَّا في الفترة الأخيرة بظهور الجماعات الإسلامية، التي ما زالت تتبنَّى الفكر الإسلامي كما تركَتْه الجامعة منذ أكثر من عشرين عامًا بلا تطوير.»

  • (٤)

    غياب التربية العقائدية للشباب؛ فقد كانت جماعة الإخوان والشيوعيون يُمثِّلان عطاءً أيديولوجيًّا أمام الشباب يتربَّى فيه منذ وعيه بالفكر، في المدارس والجامعات. «وكان الشباب يؤمن بالعقائدية إيمانًا جادًّا، ومستعدًّا للتضحية بوقته وحياته من أجل نصرة عقائده. ولم يمنع الخلاف العقائدي في أوائل الخمسينيات من تبنِّي برنامجٍ سياسي مُوحَّد حول جلاء القوات الأجنبية، ووحدة وادي النيل، والقضاء على الملكية. ومنذ عشرين عامًا، وفي غياب العقائدية، نشأ الشباب على تجربة التجارة بالمبادئ، والكلمات الجوفاء، والشعارات الرنَّانة، وممارسة النفاق السياسي، ومخالفة السلطة. ومنذ وقتٍ قليل يتغيَّر الحال الآن بظهور الشباب العقائدي، ولكن تظل الأغلبية ضحية الفراغ الفكري الذي عاشه الشباب في عمر الثورة.»

  • (٥)

    وفي غياب التنوير الديني يظهر التزمُّت في الدين والتعصُّب له؛ فقد كثُرت في السنوات العشر الماضية ومنذ الهزيمة مظاهر التزمُّت الديني في السلوك والتعصُّب العقائدي له. وظهرَت الطُّرح البيضاء، وكثُر بناء الجوامع، وقويَت أصوات مكبِّرات الصوت بالأذان، وأُضيئت المآذن، وكبرَت الصلوات في أجهزة الإعلام. وبعد النصر فُسِّرت الهزيمة بأنَّها كانت لبُعدنا عن الدين. وجاء النصر، وازداد التزمُّت. «فالدين كان سبب النصر. وكثر الحديث عن قانون العقوبات، قطع يد السارق، ورجم الزاني. وظهرَت الجماعات الإسلامية السرية لقلب نظم الحكم، وإنشاء الدولة الإسلامية. واتُّهم كل من يُفكِّر مستقلًّا عن السلطة الدينية بالإلحاد والكفر، وأُبيح هدْر دمه. فإذا غاب الفكر الإسلامي الرشيد ظهر التزمُّت العقائدي والسلوكي.»

  • (٦)

    وفي غياب الصراحة الفكرية والإيمان الصادق يسود النفاق الديني والانحلال؛ فكلنا نبكي الآن على غياب القيم، وضياع الإيمان. وكلنا نتحسَّر على سلوك بعضٍ من فتيات مصر في المدارس والجامعات، وعلى دورانهن على الشقق المفروشة، مع إكثارنا من البرامج الدينية، ورفعنا للشعارات الدينية. في حين أنَّ الإخوان قد استطاعت تربية النشء، فتيانًا وفتياتٍ. وكان الإخوان والأخوات قدوةً حسنةً للسلوك الإسلامي في الحياة الخاصة والعامة على السواء. «فقد كانت شُعَب الإخوان في الأحياء الشعبية تُمثِّل مدارس للتربية الدينية والقومية. وكان العُمَّال والموظَّفون الإخوان مثالًا للإخلاص في العمل والدقة والأمانة. خسرَت مصر فرصًا كثيرة لتربية أبنائها وبناتها. وماذا ينفع البكاء؟»

  • (٧)

    كانت جماعة الإخوان تُمثِّل تيارًا أصيلًا في مجتمعنا. وكانت على وعي بقضايا التراث والتجديد. وكانت تأخذ مواقفَ حاسمةً بالنسبة للتراث الغربي، والتبعية للآخرين، وتقليد مظاهر المدنية الغربية، والافتتان بقشور الحضارة. «كما نبَّه على ذلك الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد إقبال، ورشيد رضا وغيرهم من زعماء الإصلاح. ومنذ توقُّف نشاط الجماعة والافتتان بالغرب يزداد، والتقليد للآخرين يقوى، والتهافُت على البضائع المستوردة، وعلى البيع والشراء بالعملات الحرة، والجري وراء أنماط الاستهلاك. ثمَّ نبكي على قتلانا في شوارع الشواربي، ونتوعَّد بالعقاب تجار الشنطة والبضائع المُهرَّبة. نمسك بالمعلول ونترك العلَّة. ونرى النتيجة ونعمَى عن السبب. نشأ الشباب فلم يعرف إلَّا تقليد الغرب في غياب حركةٍ أصيلة تأخذ موقفًا نقديًّا منه، كما كانت تفعل جماعة الإخوان المسلمين.»

  • (٨)

    ولقد عُرِفت مصر بفكرها المعتدل، وفهمها المتوازن للإسلام، ولكن نشأَت في العقد الأخير انحرافاتٌ دينية، وكثُرت الفرق الصوفية، وقَوِي سلطان المشعوذين والدجَّالين باسم الدين. وانفتحَت طاقة الغيبيات، الكل ينهل منها، ويتطلَّع إليها، في حين أنَّ الغيب في علم الله وحده. «وكثُر حديث الناس عن عالم الجن والملائكة، وعن المُبشَّرين بالجنة، وعن القيامة والحساب، وعن القوى غير المرئية التي تهَب النصر ثم تساءلنا: ما بال الشباب ينحرف إلى أولئك أم إلى هؤلاء؟ ففي غياب فهمٍ للدين قائمٍ على التحليل العقلي وتحليل الواقع تسود الخرافات، وينحرف الشباب.»

  • (٩)

    وإذا كنَّا نشكو من فراغنا السياسي منذ قيام الثورة، التي لم تستطع أن تُعطي بديلًا عن الأحزاب السياسية والحركات الوطنية، التي كانت موجودة قبلها، والتي اصطدمَت بها، وقضت على تنظيماتها، فإنَّ هذا الفراغ كان يملؤه الإخوان المسلمون. «كان الإخوان حركةً جماهيرية تقوم في الأحياء الشعبية، وتزخر الشُّعب بالمواطنين. وتتكاثر الشُّعب، وتتوالد الأُسر حتَّى أصبحَت التنظيم الجماهيري الوحيد القادر على تحريك جموع الشعب، في الريف وفي المدن وفي المدارس والجامعات، في المصانع وفي المتاجر، في الدولة وفي الجيش. كانت إطارًا للتحالف بين كل قوى الشعب. وجد الطالب نفسه مع العامل والفلاح والتاجر والجندي. الكل يجمعه فكرٌ واحد، والكل مستعد للعمل والتضحية في أيَّة لحظة، وما كان أحدٌ يشكو الفراغ.»

  • (١٠)

    بالقضاء على الإخوان المسلمين ووقف نشاطهم الرسمي قُضِيَ على أكبر تجمعٍ إسلامي في مصر، أكبر دولةٍ إسلامية ناطقة بالعربية، وتوقَّفَت إحدى الجرائد الإسلامية الكبرى. ومنذ ذلك الوقت ومصر كعبة الإسلام، وقبلة المسلمين، خالية من تجمُّعٍ إسلامي كبير، بصرف النظر عن الجمعيات الإسلامية الخيرية، والأندية الإسلامية الرياضية والثقافية، وجماعات نشر الدعوة، بل وبصرف النظر عن الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية. لم تجد مصر حتَّى الآن جريدةً إسلامية يومية تُعبِّر عن أحد تياراتها الفكرية الأصيلة. كما لم تجد تجمعًا إسلاميًّا تجد فيه جماهير المسلمين تعبيرًا عن نشاطها، وتجميعًا لجهودها، وتوثيقًا لأواصر الأخوة بينها. وكيف يُوجد ذلك خارج مصر، وفي العالم الإسلامي غير الناطق بالعربية، ولا يُوجد في مصر بكل ثقلها وتاريخها؟

  • (١١)

    حقَّقَت جماعة الإخوان المسلمين قولًا وعملًا ما أصبح فيما بعدُ شعارًا لسياستنا القومية، أعني الوحدة العربية؛ فقد كانت الشُّعب في الأحياء المختلفة، كما كان المركز العام مركزًا للتجمع العربي. وكانت الجماعة على مستوى العالم العربي موجودةً في سوريا وفي الأردن وفي السودان وفي الجزائر. «كانت عاملًا موحِّدًا تُعطي فكرًا عربيًّا واحدًا، ونضالًا عربيًّا مشتركًا، لا يقوم على مصلحةٍ حزبية أو على زعامةٍ فردية، فحقَّقَت الجماعة بذلك أمل الوطن العربي الواحد، وأعطت الفكر القومي الواحد، وهو ما نُعاني من غيابه حتَّى الآن.»

  • (١٢)

    حقَّقَت الجماعة أيضًا وحدة العالم الإسلامي، وكانت مركزًا من مراكز الالتقاء الإسلامي بين شرق العالم وغربه، شماله وجنوبه. وعرفَت مصر مفكري العالم الإسلامي ومؤلفاتهم ونشاطهم. «فقرأ الشباب أبا الأعلى المودودي، والندوي، والفاسي، والسباعي، والبشير الإبراهيمي وغيرهم. وعرفَت مصر أحوال المسلمين في الهند والصين وخراسان وسجستان وما وراء النهر. وسمعَت عن انتشار الإسلام وعن المسلمين في البلاد الغربية وفي أمريكا. وسمعَت عن نضال السلطان جاليف، وعن نضال حيدر أباد الدكن، وعن عثمان دقنة بالسودان.»

لقد آن لمصر أن تعيد حساب خسارتها.

(٢) ماذا كسبت مصر من جماعة الإخوان المسلمين؟٢

في مقالنا السابق «ماذا خسرت مصر بالقضاء على جماعة الإخوان المسلمين؟» الذي نُشِر مضغوطًا تحت عنوان «ماذا كسبنا مع الإخوان؟» ومختصرًا إلى النصف حتَّى بدت الجماعة منفصلةً عن تاريخ فكرنا الديني وعن حال مصر الحاضرة، أُبيِّن في هذا المقال الثاني «ماذا كسبت مصر من جماعة الإخوان المسلمين؟» راجيًا أن تترك صفحة الرأي الآراء بلا ضغط أو اختصار؛ مِمَّا يُغيِّر من المعنى المقصود. لقد كسبت مصر الآتي:

  • (١)

    لقد عرضت الجماعة لأول مرة في تاريخنا الإصلاحي الحديث الدين باعتباره أيديولوجية، وتربَّي شباب مصر تربيةً فكرية على أساسٍ أيديولوجي؛ مِمَّا جعله معتزًّا بما لديه، وقادرًا على الوقوف أمام الأيديولوجيات المعاصرة، وعلى رأسها الماركسية والليبرالية، وظهر الإسلام ليس فقط كعقيدة وشريعة، وهما ما ورثناه من القديم، بل كأيديولوجية على مستوى أيديولوجيات العصر، وعرضَت على المستوى النظري نظريات الإسلام الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقانونية والفنية؛ التي كانت تسد حاجة العصر النظرية؛ فبينما كانت الجماعة لديها وضوحٌ نظري، ونظرةٌ متكاملة للحياة كانت الاتجاهات الأخرى، باستثناء الماركسية، ما زالت تتحسَّس طريق النظرية، وهو ما نُعاني منه حتَّى الآن.

  • (٢)

    كانت هذه الأيديولوجية تشمل كل عناصر البرنامج الوطني، الذي اجتمعت عليه الأحزاب الوطنية في ذلك الوقت، والذي تبنَّاه الضباط الأحرار، وعلى رأسه القضاء على الاستعمار واحتلال الأرض، والقضاء على الملكية والقصر، والقضاء على الإقطاع. «وقد دعم زميلنا د. عبد العظيم رمضان في دراساته الأخيرة ذلك، فكانت لدينا أيديولوجيةٌ وطنية من طراز الأفغاني من أجل مقاومة المحتل، والقضاء على الإقطاع، ومن طراز السلفية المستنيرة عند ابن تيمية؛ الدين في مواجهة الصليبيين. وقد حاولنا نحن تحقيق البرنامج الوطني الخالص وفصمناه من أساسه الديني، فتحقَّق البرنامج متميعًا، ثمَّ تسرَّب ما أردنا القضاء عليه من الباب الخلفي في الاحتلال الجديد، والإقطاع الجديد، والقصور الجديدة!»

  • (٣)

    لأول مرة يخرج في مصر كل الشباب بثقلهم في معترك السياسة، وعادت للإسلام صورته الأولى في التوحيد بين الدنيا والآخرة، بين الدين والدولة، بين المسجد والشارع «ولم تقل الجماعة «لعن الله ساس ويسوس» كما قال محمد عبده عندما شارك في الثورة العرابية ثمَّ تراجع عنها، ولكن المسلم هو الذي «يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر»؛ أي إنَّه هو الذي ينزل في معترك الحياة اليومية. وفي السودان الآن كل من ينقد التصوُّف والانعزالية الدينية فهو إمَّا وهابي أو إخواني! قدَّمَت الجماعة لمصر خيرة شبابها في معترك السياسة؛ وبالتالي قضي على كل مظاهر الكهنوت الدخيلة على الإسلام، والطارئة على حياة المسلمين في عصورهم الأخيرة.»

  • (٤)

    أعطت الجماعة شبابَ مصر دفعةً قوية نحو الشرعية، وفهم الظواهر الاجتماعية والسياسية فهمًا شرعيًّا؛ مِمَّا يؤدي بطبيعة الأمر إلى عدم التسليم بالأمر الواقع الذي يخرج على الشرع، فتحرَّر شباب مصر من الخوف، واستطاعوا الجهر بالقول، بل وحاولوا تغيير الأمر الواقع من أجل الشرعية. «ولم يتهيَّب الناس من «السلطة» وهي أحد محرَّمات ثلاثة في ذهننا مع «الدين» و«الجنس» لا يمكن لمسه أو الحديث عنه أو تحليله، نشأ لدى الشباب هذه الجرأة على الواقع، وهو ما نُعاني من غيابه حتَّى الآن.»

  • (٥)
    في وسط الصورة التي كانت في أذهان الشعب عن الأحزاب، من فساد، ومصالحَ ذاتية، وأطماعٍ شخصية، ومعارك جانبية كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، كانت جماعة الإخوان تُمثِّل صورةً أخرى وهي «الحزب النظيف»، وقد بقيَت الجماعة لهذا السبب حتَّى بعد قانون حل الأحزاب؛ لأنَّها ليست حزبًا ككل الأحزاب أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. يمكن للمسلمين أن يكونوا حزبًا، وأن يدخلوا في معترك السياسة اليومي، والحزب هو ممارسةٌ جماعية لعملية التغير الاجتماعي، وتغيير الوضع القائم إلى وضعٍ أفضل، هو الوضع الشرعي. والحزب الإسلامي، الذي مثَّلَته الجماعة كان أكبر رد فعلٍ تاريخي على اللامبالاة عند المسلمين، التي عرض لها الكواكبي في «أم القرى»، وما زلنا نُعاني حتَّى الآن من غياب الممارسة الجماعية للجماهير من خلال الحزب.
  • (٦)

    تحوُّل الدين من عقيدة إلى حركةٍ جماهيرية، وأصبح الإسلام غذاء الجماهير اليومي، ولأول مرة في عصرنا الحاضر، يُجنِّد الإسلام الجماهير بهذه القوة، وهذا الاتساع، حتَّى لتُعد الجماعة جزءًا من الحركات الشعبية التي زخر بها العالم الإسلامي، وبهذا امتازت على غيرها من الدعوات التي لم تخرج عن دائرة المثقفين الضيقة أو نطاق الكتب والنظريات. أصبح الدين لمصلحة الجماهير «وأصبح الإسلام دين الشعب، ووُجِدَ الإسلام في الشارع، فوق الحصير، وعلى المصطبة. وأصبحَت الجماهير وريثة العناية الإلهية في القدرة على العمل والحركة.»

  • (٧)

    أثبتت الجماعة وجودها في معاركنا الوطنية، وعلى رأسها معارك القناة سنة ١٩٥١م؛ فقد كان متطوعوها في الصفوف الأولى، وكان شهداؤهم يُودَّعُون إلى مثواهم الأخير من الجامعة والشعب، وكان الاستعمار يهاب هذا الجند المُسلَّح الذي يسترخص الموت. وقد كان من شعارهم «والموت في سبيل الله أسمى أمانينا»، ومن عاشَر الجماعة في فلسطين سنة ١٩٤٨م، يذكر أيضًا فدائيي الجماعة، وكيف كانوا يقذفون أنفسهم في المعارك، وفي قلب المستعمرات الصهيونية، على خلاف مقرَّرات الجيوش النظامية.

  • (٨)

    «كانت الجماعة دليلًا ومؤشرًا على أنَّ التيار الإسلامي الإصلاحي الأصيل ما زال مستمرًّا، وكانت بؤرةً يلتف حولها كل مسلم يودُّ جعل إسلامه نظامه في الحياة، وكانت مدرسة يتخرَّج فيها الدعاة، وكانت جريدة يتطوَّر فيها الفكر الإسلامي، وكانت محطًّا لكل زائر إسلامي. كانت معلمًا من معالم مصر، وعلامةً على طريق مستقبلها وماضيها، ومحورًا تدور حوله كل قُوَانَا الإسلامية المبعثرة كما هو الحال الآن، لقد كسبَت مصر كثيرًا، فلماذا تُفرِّط فيما كسبَت؟»

(٣) كيف يُمكن تطوير فكر الإخوان؟٣

لم يتوقَّف الفكر الإسلامي عند إحدى لحظاته التاريخية أبدًا، بل تطوَّر طبقًا للظروف. وقد تطوَّر فكر جماعة الإخوان منذ نشأتها على يد الشهيد حسن البنَّا حتَّى آخر صورها الفكرية عند الشهيد سيد قطب. والآن بعد التوقُّف الفكري للجماعة على مدى عشرين عامًا أو يزيد، فإنَّه يُمكن تطوير فكر الإخوان كالآتي:

  • (١)

    تأسيس الأيديولوجية العلمانية؛ فالإسلام دينٌ علماني، يقوم أساسًا على رعاية مصالح الناس، وأنَّ «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن»، والحاكمية لله تعني الحاكمية لجماهير المسلمين؛ فالنظام الثيوقراطي، كما يقول المودودي الذي تأثَّرت به الجماعة، ليس نظامًا إسلاميًّا كذلك، بل النظام الإسلامي هو القائم على البيعة والشورى، وتكون الحاكمية فيه للدستور الإسلامي الذي يرعى مصالح الناس، وهي التي عبَّر عنها الأصوليون باسم مقاصد الشرع أو الضرورات الخمس؛ الدين، والحياة، والعقل، والعِرض، والمال؛ ومن ثمَّ تُصبح الأيديولوجية الإسلامية إنسانيةً اجتماعية وليست دينيةً لاهوتية، وتكون أيديولوجيةً علمية تقوم على تحليل العقل، وعلى وصف الواقع، وعاد إلى الإسلام مدلوله الإنساني العلماني الأول.

  • (٢)

    تأسيس الأيديولوجية الإسلامية على الاستنارة دون التعصُّب، وإقامتها على العلم دون الجهل، وعلى البرهان دون التسليم، وعلى المبادرة دون التقليد؛ ومن ثمَّ يُمكن إجراء حوار مع الأيديولوجيات الأخرى. التعصب ضعفٌ في فهم الحق، ونقصٌ في الدليل، وضررٌ بالمبدأ، وخسرانٌ للناس. لقد عُرفَت حضارتنا القديمة بأنَّها حضارة البرهان والدليل، ومن منطقها أنَّ ما لا دليل عليه يجب نفيه، ومن أُسسها أنَّ العقل أساس النقل. إنَّ حُجة «قال الله» و«قال الرسول» لا تجوز إلَّا عند المؤمنين، أمَّا برهان العقل، وإحصاء الواقع، فيجوز عند كل جماعة، ولا يرفضه أي إنسان؛ وبالتالي يُمكن عرض الأيديولوجية الإسلامية عرضًا متكاملًا، وبأسلوبٍ علمي مدروس، دون الاكتفاء بالتعبير عن حسن النوايا أو ترديد الشعارات.

  • (٣)

    التوسُّع في فهم الدين، وعدم التركيز على مشاكل الجنس والمرأة، والحجاب والنقاب؛ فالإسلام أوسع وأشمل من هذه النظرة الضيقة للعلاقات الإنسانية، والفضيلة لا تتحقَّق بالتركيز على الرذيلة بل بالحياة السوية، وبالانشغال بالقضايا الوطنية الأساسية، وعلى رأسها الاحتلال والتخلُّف. ليس المهم هو تطبيق قانون العقوبات، قطع يد السارق، ورجم الزاني؛ فالإسلام قبل أن يُطالب المسلم بالواجبات يُعطيه الحقوق، الكفاية والفضيلة، فإذا وجد كل مواطنٍ كفايته دون أن يجوع، وإذا عاش كل مواطن في مجتمع الفضيلة، دون إثارة، بعد ذلك فقط يمكن تطبيق قانون العقوبات. ليس المهم هو التركيز على المحرَّمات؛ فإن ذلك يدفع الناس إليها، بل التركيز على المباحات، فإذا نعم الناس بها تلاشت المحرَّمات من تلقاء نفسها.

  • (٤)

    الانفتاح على اليسار، وتطهير الفكر والسلوك من الآثار الرأسمالية التي روَّج لها الغرب لصالحه؛ فالمِلكية في الإسلام لله وحده، والإنسان مُستخلَف فيها، والميراث في الإسلام لله وحده، ولا إرث إلَّا بعد وصية أو دَين، ومعاشر الأنبياء لم ترث ولم تورَّث، وهم القدوة، والمجتمع الواحد الذي فيه إنسانٌ جائع تبرأ ذمة الله منه، وعجبتُ لرجل لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهرًا سيفه! وقد صرخ الأفغاني حديثًا: عجبتُ لك أيها الفلاح تشق الأرض بفأسك ولا تشق قلب ظالمك! الإسلام أيديولوجيةٌ يسارية بطبعه، تهدف إلى تغيير الواقع ورفض الوضع القائم، وكان أول من اعتنقها المظلومون والمضطهَدون والفقراء والمستضعَفون، وقد اتجه يسار الإخوان في هذا الطريق مُلتحمًا مع يسار الوفد ومع اليسار الوطني بكل صوره، ماركسيًّا وغير ماركسي؛ وبالتالي يُمكن للفكر الإسلامي اليساري أن يكون موطنًا لتحقيق برنامجٍ وطني شامل تتحقَّق فيه الوحدة الوطنية، وتلتف حوله الاتجاهات السياسية المختلفة على تبايُن مدارسها.

  • (٥)

    بدلًا من الجدل حول الكل أو لا شيء، وبدلًا من قسمة الناس إلى مؤمنين وكُفَّار، وبدلًا من قسمة الدار إلى دار إسلام ودار حرب، وبدلًا من هدم كل ما هو قائم ثمَّ إقامة الصرح الإسلامي من الألف إلى الياء، بدلًا من هذا كله يُمكن تطوير الواقع كما هو، ودفع حركات الإصلاح خطوةً إلى الأمام، وتحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية، والمطالبة بمشاركةٍ أكبر للجماهير في السلطة، وبحريةٍ أكثر في التعبير، وتقوية الأواصر بين جماهير المسلمين الذين فرَّقتهم الحدود الجغرافية المصطنعة التي وضعها الاستعمار، وتقديم العون لحركات التحرُّر، ومساندة قوى التقدم حتى يقترب الواقع من القطاع الأمثل؛ فأُلفة الواقع خير من مُعاداته، وتبنِّيه أفضل من رفضه، وتطويره أجدى من هدمه، والانتماء إليه أبقى من الغربة عنه.

  • (٦)

    انتظار انتشار الأيديولوجية الإسلامية حتَّى تُصبح هي الأغلبية، وتصير حركةً جماهيرية تفرض نظامها واختيارها دون التسرُّع بالقفز على السلطة، وتحقيق الأيديولوجية عن طريق السلطان؛ لأنَّ الله يزَع بالسلطان ما لا يزَع بالقرآن؛ ومِن ثَم فلا مجال لتكوين جماعاتٍ سرية وأجهزةٍ عسكرية للقيام بالانقلاب الإسلامي لتحقيق الأمل المنشود. ولا مجال لتصفية الخصوم الفكريين أو السياسيين عن طريق العنف والاغتيالات؛ فلا بديل عن الوسائل الديمقراطية لتحقيق نظم الفكر، سواء خارج الجماعة أم داخلها، وهذا يتطلَّب أكبر قدْرٍ مُمكن من النقاء الثوري لقادة الجماعة، وأكبر قسطٍ مُمكن من مراجعة القواعد لها. وأن تأتي الجماعة محمولةً على الأعناق خيرُ من أن تطير أعناق خصومها ثمَّ قادتها.

فالتطوير ممكن، والطريق مفتوح، والمستقبل مضمون.

١  الجمهورية ٢٠ / ٣ / ١٩٧٦م، والفقرات الموضوعة بين قوسَين حذفها رئيس التحرير.
٢  الجمهورية، ١٠ / ٥ / ١٩٧٦م، والفقرات الموضوعة بين قوسَين حذفها أيضًا رئيس التحرير.
٣  الجمهورية ١٩ / ٥ / ١٩٧٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥