أحاديث في الحركات الدينية المعاصرة١
(١) أزمة الفكر الديني
-
وكان اختلاف الأئمة رحمة بينهم.
-
عندما انتهى سيد قطب … انتهت معه فرصة اليسار الإسلامي.
-
اختلف الأئمة … ولم يُتهم أحدٌ منهم بالكفر.
-
السرقة في الإسلام … تعني الرشوة والعمولات أيضًا.
– الفكر الإسلامي في المرحلة الحالية يمر بأكثر الفترات تخلفًا منذ بداية حركات الإصلاح الديني الأخيرة، منذ أكثر من مائة عام. ويرجع إلى ما كان عليه أيام الدولة العثمانية، من التركيز على الإرادة الإلهية، التي ظهرَت في الأشعرية والصوفية. ورغم محاولات الإصلاح الديني الأخيرة — الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده — والدعوة إلى استقلال العقل، وحرية الإرادة، والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومناهضة الاستعمار والصهيونية، والتخلف والتسلُّط، إلَّا أنَّ هذه النهضة الدينية التي بدأَت عند «الأفغاني» تقلَّصَت إلى النصف عند «محمد عبده» بعد انعزاله عن الثورة العرابية. ثمَّ تقلَّصَت إلى النصف — مرةً أخرى — من «محمد عبده» إلى «رشيد رضا». ثمَّ جاء «حسن البنَّا» ليبدأ من جديد بتصوُّرٍ بسيط وفعَّال، وبقدرةٍ عملية — غير عادية — على التنظيم. وظهرَت في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات بوادر طبيبة، واجتهادات في الفكر تُعيد المحاولة من جديد — «سيد قطب» في «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، «ومعركة الإسلام والرأسمالية»، «والسلام العالمي والإسلام» — حيث كان الإسلام طاقةً شعبية وحركةً وطنية، وتيارًا اجتماعيًّا، وثورةً سياسية، فكان للإسلام مضمونه الثوري. وكان سيد قطب يكتب في الفجر الجديد وفي مصر الفتاة. وكان يُمكن في هذه اللحظة التاريخية أن يُصبح الإسلام بؤرةً للوحدة الوطنية، تتجمَّع فيها جميع التيارات السياسية الموجودة في ذلك الوقت.
– يستطيع الإسلام — في الحقيقة — أن يكون بوتقةً تنصهر فيها جميع التيارات السياسية في مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي؛ فالثورات العربية الحديثة وإنجازاتها — بالرغم مِمَّا أصابها من انتكاسات — استطاعت صياغة مشروعٍ قومي للنهضة الحديثة، يتمثَّل في مقاومة الاستعمار والصهيونية، والإقطاع والرأسمالية، ودعوتها إلى التحرُّر والاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية. وهذا كله مشروعٌ إسلامي في جوهره؛ فالإسلام بما يُعطيه من حرية واستقلال، وبما يتطلَّبه من مساواة، وما يفرضه من شورى، يستطيع أن يحتوي نهضتنا الحديثة، وأن يُضيف عليها الدفاع عن حق الفرد في التعبير والمعارضة. كما أنَّ ما يُنادي به الماركسيون من مساواةٍ طبقية ودفاع عن حقوق العمال، وإقامة المزارع الجماعية، ومُناهضة الاستعمار والرأسمالية، وإقامة نظرةٍ علمية للعالم، واللجوء إلى تحليل العوامل المادية؛ كل ذلك يستطيع الإسلام احتواءه. كما أنَّ التيارات القومية والوحدوية، هي إحدى مراحل تكوين الأمة الإسلامية، التي قامت أولًا على توحيد الجزيرة العربية واستقلال العرب.
– بعد اندلاع الثورة المصرية في يوليو، وتحقيقها في المبادئ الستة الشهيرة، ومعظم ما كانت تُنادي به الحركات السياسية في الأربعينيات. وبعد الصدام على السلطة بين الثورة والإخوان، لم يشأ الضبَّاط الأحرار أن يتنازلوا عن السلطة، واستعجل الإخوان الحكم الإسلامي، وانزوت — بعد هذا الصدام — الحركات الإسلامية. وغلب على فكرها سيكولوجية الاضطهاد، فنشأ فكر إسلامي مُعادٍ للواقع، غاضب، يبغي الانتقام. يستعمل الإرادة الإلهية، كالسيف على رقاب الناس. وانقسم العالم عندهم إلى أبيض وأسود. إلى إسلام وجاهلية، لا يتعايشان، بل يُدمِّر أحدهما الآخر. وتقود هذه العملية الصفوة المؤمنة، عن طريق تغيير السلطة. وتراجع الفكر الإسلامي خطواتٍ إلى الوراء. وضاعت فرصة اليسار الإسلامي الذي بدأ مع سيد قطب. وقُضي على النهضة الإسلامية الجديدة التي حاولها «حسن البنَّا» للِّحاق بالمصلحين الأوائل.
– تحوَّل إلى مجرد رفع الشعارات بلا مضمونٍ اجتماعي ولا برنامجٍ للعمل الوطني لكل مجتمعٍ إسلامي على حدة. كما يُركِّز — الفكر — على المظاهر الخارجية، مثل الحجاب وإطالة اللحى ولبس الجلباب، من أجل الظهور على الساحة، والانتشار من جديد، وتجنبًا للدخول في المعارك الجوهرية، حتَّى لا يخسروا بعض المكاسب التي حصلوا عليها، بالإضافة إلى التعصُّب والتشنُّج، وغياب العقل، والعجز عن الحوار، والتكفير المضاد بعد أن أُشهر سلاح التكفير ضدهم.
– قامت حضارتنا القديمة على حرية الفكر، وعلى الحوار المتبادل بين الاتجاهات الفكرية المختلفة التي ظهرَت في الفرق الكلامية. كان الشيخ يسند ظهره على عمود المسجد ويُدرِّس، ثمَّ يعترض الطلاب ويُحاورون شيخهم أو ينفصلون عنه، ويُكوِّنون حلقات أخرى حول الأعمدة المجاورة. وقد كانت كلها اتجاهاتٍ شرعية. لم يتهم أحدٌ منها الآخر كما نفعل هذه الأيام بالكفر أو الخيانة.
– بالطبع نعم؛ فقد استطاع العقل الإسلامي في تُراثنا القديم أن يصل إلى أقصى درجات التحرُّر خاصة عند المعتزلة، المُفكِّرين الأحرار في الإسلام في أصلَي التوحيد والعدل؛ فقد استطاع التنزيه أن يقضي على كل مظاهر التشبيه والتشخيص – التي ما زالت سائدةً في عقليتنا حتى اليوم. كما استطاع المعتزلة إعطاء الأساس الخُلقي للتوحيد واعتبار الصفات الإلهية مبادئ للسلوك، ومُثلًا للحياة الفاضلة، وغايات يقوم الإنسان بتحقيقها. كما أعلن المعتزلة حرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله. واعتبروا العمل وحده مصدر القيمة — وهو ما عُرف باسم الاستحقاق — واحترموا الطبيعة وقوانينها. وجعلوا هذا العالم يسير نحو غاية وهدف، هو الأصلح للبشرية — أي التقدم المستمر نحو الأفضل — كما جعلوا العقل أساس النقل. كما جعلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أساس العلاقات الاجتماعية، وصلة الحاكم بالمحكوم.
– تمَّت هذه التصفية في القرن الخامس الهجري. بعد هجوم الغزالي على العلوم العقلية — وعلى رأسها المنطق والفلسفة — والدعوة إلى التصوُّف والعلوم القلبية، وهو ما نحن فيه الآن. كما حدث أيضًا أن سادت الأشعرية بعد القضاء على المعتزلة في محنتهم أيام المُتوكِّل. فورثنا التصوُّف والأشعرية، وسادا في حياتنا اليومية، وفي معاهدنا الدينية حتَّى الآن. ولمَّا كان كلاهما — الأشعرية والتصوُّف — يقومان على الانقياد والتسليم، فقد وجدَت السلطة السياسية منذ العصر المملوكي والتركي في هذَين التيارَين أكبر دعامة للحكم المطلَق؛ فالانقياد والتسليم في الدين يؤديان إلى الطاعة والولاء في السياسة.
– إنَّنا نُروِّج هذه الأيام لكلمتَي العلم والتكنولوجيا. وكأنَّهما مُفتاحان سحريان سندخل بهما عالمًا آخر (!). لقد تحوَّلَتا إلى أسطورةٍ مضافة إلى أساطيرنا. والحقيقة أنَّ العلم خطوةٌ تالية للعقل. والعقل يقوم أساسًا على الاستقلال عن كل ما سواه من سلطةٍ دينية أو سياسية. تُلخَّص الأزمة إذن في غياب المنهج العقلي الذي هو أساس التصوُّر العلمي للعالم؛ فاللاعلمية في حياتنا ترجع أساسًا إلى اللاعقلانية. ولقد استطاع عُلماؤنا قديمًا تأسيس العلم نظرًا لمعرفتهم بوظيفة العقل، وكيفية استعماله. والعقل يشمل الحس والتجربة والتاريخ معًا.
– هناك أنماط عديدة من الفكر الديني؛ فهناك فكر ديني يبدأ من النص. وتكون وظيفة العقل فيه شرح النص وتبريره ثم تكييف الواقع حسب النص. وهو الفكر السائد في حياتنا. وكانت النتيجة أنَّ وقعنا في الغيبيات وفي التفكير فيما يضُر ولا ينفع. كما نبذنا الواقع وخرجنا عليه وعاديناه. وحكمنا عليه سلفًا بالكفر والإلحاد (!). كما أنَّ هناك فكرًا يقوم على الإيمان بالمُقدَّسات والتسليم بها دون تفكير أو تحليل، ثم تتحوَّل هذه المقدسات إلى مُحرَّمات، وهذا سائد أيضًا في عقليتنا المعاصرة؛ فقد حرَّمنا التفكير في الدين وفي السلطة وفي الجنس. فتحوَّلت إلى مُقدَّسات تُوجِّه سلوكنا اليومي ترغيبًا مرة وترهيبًا مرةً أخرى. وهناك فكرٌ ثالث يقوم على الخطابة والوعظ والإرشاد والعنتريات. وهو الفكر السائد في مساجدنا؛ فنعيش حالمين داخل المساجد، ثم نخرج إلى الحياة العامة فنصطدم بها ونُعاني منها. وهناك فكرٌ يقوم على الجدل وعلى الهجوم على بعض النظريات والدفاع عن البعض الآخر بينما الواقع نفسه لا يتحدَّث عنه أحد (!)، وهو سائدٌ أيضًا في حياتنا؛ فما أكثر ما كُتب عن الإسلام والاشتراكية في بلدٍ متوسط الدخل القومي للفرد الواحد مائة جنيه سنويًّا. وما أكثر ما كُتب عن الإسلام والعلم في بلد لا يزال يظهر فيه القديسون والأشباح!
– الإسلام إمَّا أن يكون مصدرًا أو لا يكون مصدرًا؛ فالإسلام — كما نعرف جميعًا — يحتوي على نظامٍ كامل للفرد أو المجتمع، ولجميع أوجه نشاطات الدولة — اقتصادية واجتماعية وسياسية — ما دمنا نلتزم بهذا النظام الكامل حينئذٍ نجد أنفسنا في غنًى عن استعارة أي شيء يُمكن من خلاله أن نصل إلى أحكامٍ جديدة؛ فإنَّه يعتمد على الأصول التشريعية المقرَّرة. وليس أصلًا بذاته. وإنَّما الأمر في حقيقته هو إضفاء الشرعية على النظم السياسية. واستعمال أحد المصادر، إلى المصدر الرئيسي، إلى المصدر الأوحد فيما بعدُ، وهي كلها عباراتٌ لا تعني شيئًا.
– يفرض الإسلام نظامه الاقتصادي الذي يقوم على ملكية الله، وأخذ حقوق الفقراء من الأغنياء، وأنَّ العمل هو المصدر الوحيد للرزق، وأنَّ المجتمع الواحد الذي فيه إنسانٌ جائع تبرأ ذمة الله منه. وله نظامه السياسي القائم على الشورى وحق كل مسلم في التعبير عن رأيه وحق الاختلاف؛ لأنَّ اختلاف الأئمة رحمة بينهم. وللإسلام نظامه الاجتماعي القائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر — حق المعارضة السياسية — والحسبة، التي تعني الرقابة على أجهزة الدولة.
– لا تعني الشريعة الإسلامية مجرد العقوبات والحدود، بل تعني الحقوق، وحق المسلم على الدولة، وحق العمل في حالة القدرة، والكفالة في حالة العجز؛ ومن ثمَّ تُوقف الحدود إذا سرق السارق وهو جائع، أو لعلةٍ ضرورية، أو لوجوده في مجتمعٍ تكون السرقة فيه، ونهب المال العام، أحد مصادر الرزق؛ لأنَّ الحدود ليست قوانينَ صورية تُطبَّق آليًّا، بدون النظر للمواقف الاجتماعية، بل قوانينُ مادية تقوم على تحليلٍ لوضع المسلم في مجتمعه. بعد دراسة الشرط وهو القدرة على العمل، والمانع وهو الجوع والبطالة والعجز، والسبب وهو الاعتداء على مال الغير. والذين يرفعون شعار تطبيق الحدود، إنَّما يقصدون تخويف الناس؛ فالسرقة في الإسلام ليست هي فقط ما يتم على الأرصفة وفي الشوارع، ووسائل النقل العام، ولكنَّها اختلاس الأموال العامة والرشاوى والعمولات، وحرق مخازن الدولة، ونهب أموال المسلمين وثروتهم من باطن الأرض، وتهريبها إلى خارج البلاد.
– الغرب يقضي بإعدام من يُهرِّب عشرة جرامات من الهيروين. ويُحلِّل ذلك لنفسه درءًا للفساد، ولا يُبيحون ذلك لغيرهم. وبالمقارنة بعقوبة الجلد ثمانين سوطًا لشارب الخمر، يبدو حكم الإسلام لينًا للغاية. وقد وضع الإسلام حدودًا للزاني غير المحصَن أو المحصَن منعًا للفحشاء والمنكر. في حين تركها الغرب واعتبر ذلك جزءًا من الحريات الفردية. ولمَّا تهاون المسلمون وقلَّدوا الغرب استشرى الفساد في الأمة، وإذا طبَّق الإسلام حدوده في حضور عدد من المؤمنين، يقولون خشونة، أمَّا مجازر أمريكا في فيتنام فلم يصفها أحدٌ بأنَّها خشونة. وإذا ما دافع الإسلام عن نفسه يقولون وحشية. أمَّا مجازر الاستعمار واعتداءاته على الشعوب، فدفاع عن الحرية والمدنية! إنَّهم يُحلِّلون لأنفسهم ما يُحرِّمون علينا.
– انحسار الفكر الإصلاحي الديني، وتحويله إلى سلفية على يد «رشيد رضا»، ثمَّ فكر مضطهدين على يد الإخوان المسلمين، وفشل مناهج التحديث المعاصرة التي تمَّت تجربتها في حياة المسلمين في الخمسين عامًا الماضية؛ فالثورة العربية بالرغم من إنجازاتها الضخمة من حيث الحرية والاستقلال، وتحقيق بعض مظاهر التقدُّم الصناعي، فإنَّها فشلَت في مقاومة الصهيونية، وتحقيق الحرية، والدفاع عن الطبقات المحرومة، والاكتفاء برفع الشعارات بلا مضمون، واعتمادها على أجهزة الدولة دون الالتحام بالجماهير. كما فشلَت الليبرالية التي سبقَت الثورات العربية، وذلك بالرغم مِمَّا حقَّقَته من حرية التعبير ونظمٍ ديمقراطية، إلَّا أنَّها كانت إقطاعيةً ملكية، كما فشلَت أيضًا التيارات الماركسية في جذب الجماهير بالرغم من محاولتها مقاومة الاستعمار ودعوتها إلى العدالة الاجتماعية. ولم تستطع النظم القبائلية العشائرية التي تحكُم المسلمين باسم الإسلام أن تُقيم نظمًا وطنية ديمقراطية، وعمَّها الفساد والبذخ؛ لذلك لم يجد الناس أمامهم إلَّا اللجوء إلى تراثهم، والعودة إلى إسلامهم يبحثون فيه عن طريق الخلاص. ولمَّا كان هذا الإسلام — حتَّى الآن — سلفيًّا، وريث ألف عام من الأشعرية والتصوُّف، ظهر النشاط الإسلامي محافظًا.
– الإسلام المستنير الذي يكون وعاء لمصالح الأمة، ومُلبِّيًا لقضاياها الأساسية، ومُحقِّقًا لطموحاتها. هو القادر على أن يملأ الفراغ الفكري، والقادر — أيضًا — على تجنيد الجماهير؛ فالأيديولوجيات العلمانية لا تُؤثِّر إلَّا في القلة المُثقَّفة. أمَّا بالنسبة للجماهير فإنَّها تدخل من أذن وتخرج من الأذن الأخرى. إنَّ الجماهير ليست مستعدةً للموت في سبيلها. أمَّا الإسلام الذي يُدافع عن أرض المسلمين وثرواتهم، فهو الإسلام الذي يجعل الجماهير تطلب الاستشهاد في سبيله، ولكن للأسف تتهمه الجماعات الدينية بالماركسية الصريحة. وتخشاه الماركسية كمنافسٍ لها في قلوب الناس وعقول المثقفين.
(٢) الذين يقفون ضد الصحوة الإسلامية لا يفهمون قانون التاريخ.٢
لنا في الانتفاضة عِبْرة من أجل برنامجٍ موحَّد لجمع الشتات.
تاريخ الصحوة الإسلامية
هناك أسبابٌ عديدة وراء الصحوة الإسلامية كلها اجتمعَت في فترةٍ واحدة تبدأ منذ عام ١٩٦٧م. ومن هذه الأسباب ما هو تاريخي، وما هو سياسي، وما هو اجتماعي. ودعني أقُل فقط بعض الأسباب.
السبب التاريخي ومنه ما هو طويل المدى، وما هو قصير المدى؛ فلو نظرنا إلى المدى الطويل، وفكَّرنا في أي قرنٍ نعيش، لوجدنا أنَّ الصحوة الإسلامية بدأَت في نهاية القرن الرابع عشر، وهذا يعني أنَّه مرَّت بنا سبعمائة سنة أولى، ثمَّ سبعمائة سنة ثانية، ونبدأ في السبعمائة سنة الثالثة.
السبعمائة سنة الأولى: كانت هي قمة الحضارة الإسلامية الزاهرة التي بلغَت في القرن الرابع عصرها الذهبي؛ حيث وصل العقل، والعلم، والطبيعة لأقصى القمة، كنَّا مُعلِّمين للغرب، ثمَّ بعد ذلك حدث هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس الهجري، وبداية غزوات الصليبيين والتتار، وصولًا إلى العصر التركي المملوكي.
ثمَّ جاءت القرون السبعة الثانية في نوعٍ من السكون العقلي؛ فلم يعد العقل يبدع، الذاكرة هي التي بدأَت تُدون؛ وبالتالي سماه العلماء عصر الشروح والمُلخَّصات.
وليس غريبًا أن يظهر ابن خلدون في مفترق الطرق بين السبعة القرون الأولى، والسبعة الثانية ليؤرِّخ للحضارة الإسلامية كيف نشأَت، وتطوَّرت، وكيف انتهت واضمحلَّت.
ولكن في آخر مائتَي عام بدأ فجر النهضة الإسلامية، وجاء الأفغاني، ومحمد عبده وبذلك يكون الإسلام قد مرَّ بقوسَين أحدهما كان مرتفعًا والآخر كان هابطًا. ومنذ ٢٠٠ سنة والخط في صعود، ومن يدري فربما سنُشاهد في القرون السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر نهضةً إسلامية على نفس المستوى الذي كنَّا عليه معلمين للغرب، ونُصبح مُعلِّمين له، ونُنهي عصر التلمذة، ونُكمل عصر التحرُّر من الاستعمار، وعصر التحرُّر الثقافي، وتكون لنا الريادة.
وهذا يؤكِّد لنا أنَّ هناك قانونًا تاريخيًّا، ونحن نُحاول فهم التاريخ؛ ومن ثمَّ فكل الذين يقفون ضد الصحوة الإسلامية لا يفهمون قانون التاريخ.
وهناك سببٌ ثانٍ؛ فنحن منذ ٢٠٠ عام نُحاول أن ننهض من خلال ثلاثة مناهج ظهرَت في فجر النهضة الإسلامية.
- المنهج الأول هو مدرسة الأفغاني: ومحمد عبده، ورشيد رضا، والكواكبي، وحسن البنَّا، وعبد الحميد بن باديس، ومحمد إقبال، والبشير الإبراهيمي، وهم من رُوَّاد السلفية المعاصرة التي خرجَت منها الحركات الوطنية. وهذا المنهج يرى أنَّ الإصلاح يبدأ من الدين وإعادة الإصلاح الديني.
- والمنهج الثاني: هو منهج الطهطاوي، وخرج منه طه حسين، ولطفي السيد، والعقاد، ويرى أنصاره أنَّ الإصلاح يبدأ بتأسيس الدولة الحديثة، بالديمقراطية المُقيدة، والنظم البرلمانية، والعمران الصناعي والزراعي.
- المنهج الثالث: ويدعو له شبلي شميل، وخرج منه فرح أنطون، ويعقوب صروف، وسلامة موسى، ونقولا حداد، وإسماعيل مظهر. ويرى أنصاره أهمية العلم والدولة، ويدعو بأنَّ الدين لله والوطن للجميع.
وهذه المدارس كلها صعدت إلى أعلى في أول جيلَين، ثمَّ بدأَت تخبو في ثاني جيلَين، ولكن كانوا أكثر شجاعة منَّا، ولو قارنتَ ذلك لوجدتَ أنَّنا نحن الآن أقل بكثير مِمَّا كانوا هم عليه.
ولو حلَّلنا تاريخنا القديم لوجدنا أنَّ ما يُسمَّى بالصحوة الإسلامية الحالية هي مُحاولة للحاق بجيل الروَّاد الأوائل؛ أي الإسلام كتنظيمٍ سياسي اجتماعي حقَّق المشروع الإسلامي النهضوي؛ مقاومة الاستعمار في الخارج، ومقاومة القهر وقضايا الفقر والتجزئة في الداخل.
إذن فالحركة الإسلامية الحالية هي محاولة للنهوض بفجر النهضة العربية الإسلامية من جديد.
فالحركة الإسلامية تنشط من جديد، وتُحاول أن تلحق بالروَّاد الأوائل خاصة عند الأفغاني، لكن النظم السياسية لا تعرف كيف تتعامل معها.
العمل السري في الحركة الإسلامية
وإلى السببَين السابقين أُضيف سببًا ثالثًا: وهو سببٌ قريب. وأذكر هذه الفترة لأنِّي كنتُ معاصرًا لها؛ فقد دخلتُ الإخوان سنة ١٩٥١م، في نفس الفترة التي دخلها سيد قطب تقريبًا. وتأثرَّتُ جدًّا ﺑ «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«معركة الإسلام والرأسمالية». وقامت الثورة المصرية في عام ١٩٥٢م، وفرحنا جدًّا بالضبَّاط الأحرار، والقضاء على الملكية والاستعمار، والإصلاح الزراعي.
وفي رأيي أنَّ الصدام بين الإخوان والثورة كان واقعةً مُفجعة ومُفزعة، غيَّرت تاريخ البلاد؛ فقد تصادمت شرعيتان؛ شرعية الإخوان، وشرعية الثورة، شرعية الماضي، وشرعية الحاضر. ليس لوجود خلاف في النظرية؛ فأنا تعلَّمتُ الدوائر الثلاث التي قالها عبد الناصر في فلسفة الثورة وهي الدوائر العربية والأفريقية والإسلامية. أنا تعلَّمتُها من الإخوان المسلمين، وكذلك الحياد الإيجابي بين الشرق والغرب، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني، والدفاع عن حقوق العُمَّال والفلاحين.
أقول إنَّ الصدام المؤسِف كان صراعًا على السلطة، وهذا في عينه أساس التخلف؛ فالضباط الذين قاموا بالثورة لم يشاءوا أن يتركوا السلطة. والإخوان يظنُّون أنَّهم القاعدة الشعبية لهذا البرنامج الطويل العريض، خاصة وأنَّ كثيرًا من الضباط الأحرار كانوا من الإخوان المسلمين، مثل عبد المنعم عبد الرءوف، ورشاد مهنا، فظنُّوا أنَّ هذه أيضًا ثورتهم. وحدث الصراع لأنَّ الضباط الأحرار رفضوا أيضًا وصاية الإخوان على الثورة، وفي رأي الإخوان أنَّ الله يزَع بالسلطان ما لا يزَع بالقرآن، وحدث الصدام المؤسف، وخسر الإخوان، ودخلوا تحت الأرض، ونشأ تيارٌ إسلامي آخر تحت تعذيب السجون. وهنا نشأ لونٌ جديد من الإسلام الغاضب الثائر المُنتَقِم من الاشتراكية، والقومية، ومن العلمانية. ومن هنا وفي هذا الجو النفسي المظلم كتب سيد قطب «معالم في الطريق» عام ١٩٦٣م، وقُبض عليه من جديد على أساس أنَّه مُنظِّر التنظيم، ثم أُعدم في عام ١٩٦٥م.
والحركات الإسلامية الحالية في الحقيقة نشأَت من خلال السجن مثل شكري مصطفى وغيره، ومن خلال مناقشات السجن، وعمَّا جرى لجماعة الإخوان المسلمين، وحول أسباب اضطهادها، وحلها، وعدم نجاحها، وخرجوا من كتاب سيد قطب إلى أنَّ هذا المجتمع كافر، وغير إسلامي. وهذا مجتمع الطاغوت، ولن يُغيِّر هذا المجتمع إلَّا جيلٌ قرآني فريد يحمل لا إله إلَّا الله.
إنَّ الحركة الإسلامية هي حركة ما زالت غير شرعية؛ فجماعة الإخوان ما زالت غير شرعية؛ فجماعة الإخوان محلولة، ولكن فقط هناك غض الطرف عن نشاطها، وهي أيضًا مُضطهدة، والمساجد تُقتحم، والصلاة تُمنع في العراء. وبالتالي أصبح عضو الجماعة الإسلامية، وكأنَّه باستمرارٍ خريج سجون، باستمرار مضطهَد، باستمرار مُطارَد من أجهزة الأمن. وفي حقيقة الأمر هذا سببه أنَّ الإخوان عادوا من جديد بعد الخروج من السجن، حاول السادات أن يستخدمهم ضد الناصريين. وعندما سار في طريق الصلح مع «إسرائيل» والارتماء في أحضان الغرب، رفضَت الحركة الإسلامية ذلك.
وعندما خرج الإخوان وجدوا الحركة العلمانية «ناصرية – ماركسية – قومية – ليبرالية» لم تؤدِّ نجاحها المطلوب؛ فمزيد من الأراضي مُحتلَّة، ومزيد من التجزئة في العالم العربي، ومزيد من الطائفية في العالم العربي، والتفاوت الشنيع بين الأغنياء والفقراء، ومزيد من التهرؤ الخُلُقِي والفساد والعمولات؛ ومن ثمَّ فالأيديولوجيات العلمانية لم تؤدِّ النجاح المطلوب، وخرج الإسلام وكأنَّه بديلٌ يقود. أقول إنَّ انحسار الحركة التحديثية العلمانية جعل البديل الإسلامي مطروحًا بقوة؛ مِمَّا جعل الشباب الطاهر الثائر يُقبل نحوها فلا حيلة للشباب إلَّا بذلك.
وهناك سببٌ آخر وهو الانتصارات التي أحدثَتْها الحركة الإسلامية في عالمنا المُعاصر؛ فحركات التحرُّر الوطني كلها تمَّت باسم الحركة السلفية، ونجاح الثورة الإسلامية في إيران، والصحوة الإسلامية في تونس والجزائر، ونهضة العزة بالنفس عند المسلمين في الاتحاد السوفييتي. وهذه الانتصارات وَلَّدت نوعًا من الاقتناع أنَّ الإسلام يستطيع أن يفعل شيئًا.
الصحوة الإسلامية والمستقبل
إنَّ الإسلام قطارٌ قادم بأقصى سرعة، وهو جبلٌ لا نرى منه إلَّا القمة، وما خفي كان أعظم؛ ومن ثَم فلا بد أن نتعامل معه بشيئَين:
-
الأول: لا بد من إعطائه الشرعية،
حتَّى لا يعمل في الخفاء، ولو
استمر يعمل في الخفاء فستظل أجهزة
الأمن إلى أبد الآبدين تنتصر عليه
مرة، ومرةً هو ينتصر عليها، ويكون
مزيد من الدماء، ومزيد من المعارك،
وهذا لا يحل شيئًا.
أقول لهم أخرجوهم من السجون، وأعطوهم الشرعية، وجرائدهم ومجلاتهم، وامنحوهم الفرصة لممارسة حياتهم الطبيعية، وأشركوهم في قضايا أمتهم، وبعد ذلك حاسبوهم. أقول للحكام اجعلوا الحركة الإسلامية، والشباب الإسلامي في قلب المعركة الاجتماعية ثم حاسبوها. أمَّا الآن فأعضاؤها مهمَّشون في المجتمع؛ ومن ثمَّ لا يُمكنهم تقديم حلولٍ ما لم يتحقَّق لهم ذلك؛ فليس معقولًا أنَّ الليبراليين لهم حزب، والماركسيين لهم حزب، والقوميين لهم حزب، وهم محرومون من هذا الحق؛ ولذا أنصح بإعطائهم الشرعية أولًا، ولا سبيل أمامنا إلَّا بإعطائهم الشرعية؛ فبدلًا من أن يلتفُّوا على حزب العمل مرة، وعلى حزب الوفد مرة، ثم مرةً على الأمة أنصح بإعطائهم الشرعية.
-
الثاني: وهو الأهم لا بد من نقل
اهتمامهم من كونهم محافظين،
يُركِّزون على الشعائر فقط، وهذا
يتحقَّق بطرح برنامجٍ وطني عام
ليُشاركوا فيه، وبذلك تقلَّل نسبة
المحافظة، وتزيد نسبة الإسلام
السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛
فعضو الحركة الإسلامية يُغالي في
الشعائر، وارتداء الجلباب، وإطلاق
اللحية؛ لأنَّه يُريد أن يظهر
ويتميَّز خاصة وأنَّ الدولة
تتنكَّر له؛ فهم يقولون بوجودهم
بالشكل، ولكن لا بد أن يتحوَّلوا
من الشكل إلى المضمون بجذبهم إلى
القضايا الرئيسية، وهناك سبع قضايا
رئيسية مطلوب مواجهتها
منها:
- تحرير الأرض من الاحتلال.
- الحريات العامة ضد القهر.
- الوحدة والتجزئة.
- التنمية في مواجهة التخلف.
- الهوية والتغريب.
- تعبئة الجماهير وحشد الناس ضد اللامبالاة.
وهم مع تحرير الأرض، ومع الحريات العامة، وضد أشكال القهر كلها، وضد القوانين المُقيِّدة للحريات، ومع الوحدة، ولا فرق بين الوحدة العربية والوحدة الإسلامية، وهم مع التنمية والتقدم، وضد التغريب، وقادرون على تعبئة الناس.
إنَّها عدة قضايا نستطيع بها أن نُحوِّل الخطاب السلفي الشكلي إلى خطابٍ ذي مضمونٍ سياسي واجتماعي.
وفي هذه الحالة تُصبح الحركة الإسلامية زيادة وليست نقصًا، بأن نتعامل معها ونستفيد منها. وهذا يُساعد الأنظمة العربية على أن تؤسِّس شرعيتها على أُسس من العقد الاجتماعي الحر؛ لأنَّ الأنظمة الحالية كافة تنقصها الشرعية، فالنظام الإسلامي لا هو ملكي وراثي، ولا هو يقوم على الانقلابات العسكرية؛ فالإمامة عقد وبيعة واختيار؛ وبالتالي فلا بد أن يكون هناك عقدٌ اجتماعي بين الحاكم والمحكوم.
وإذا التزم الحاكم بالقانون يُطيعه الشعب، وإذا خالفه فعلى الشعب أن يأمره بالنصيحة، وإذا لم يمتثل يثور عليه، ويعزله قاضي القضاة. ونظرًا لغياب هذا العقد الاجتماعي في الأنظمة العربية، فإنَّ الأنظمة تكون هنا مُهدَّدة. وما دام الوضع مستمرًّا كذلك فهي مُهدَّدة. والاعتراف بشرعية الحركة الإسلامية يُساعد الأنظمة الحالية على أن تكون أكثر ديمقراطية، وأكثر تفهمًا؛ وبالتالي ينشأ الجميع في إطارٍ من التعددية الحزبية والاتفاق على برنامج عملٍ موحد.
جمع الشرعيتين
في حقيقة الأمر إنَّي لإحساسي بأنَّ أزمة حياتي هي اندلاع الصراع بين الإخوان والثورة، وأنَّ رغبة الأمة في أن تكون مسلمة؛ فلا أحد يستطيع أن ينزع الأمة من دينها، وتراثها، وروحها، وفي نفس الوقت تريد أن تكون أمةً ناجحة مُتطوِّرة وقادرة على السيطرة على مشاكل الصناعة، والتجارة، والزراعة، والتعليم، رأيتُ من واجبي أن أُحاول تأسيس منبرٍ عام وليس أكاديميًّا حتَّى أستطيع أن أُعطي فيه للشرعيتَين حقهما. وأقول باستمرار إنَّ الخطاب السلفي يعرف كيف يقول؛ أي إنَّه يستعمل لغة الناس بالقرآن والأحاديث النبوية، لكنَّه لا يعرف ماذا يقول وما مضمون الخطاب؟ والخطاب العلماني يعرف ماذا يقول «الحرية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية» لكنَّه لا يعرف كيف يقول؟ مرةً يعتمد على ماركس، ومرةً على جون ستيوارت مل، ومرةً على تيتو، ومرةً على نهرو؛ فأنا أُحاول أن أجد منبرًا أعرف فيه كيف أقول؟ وماذا أقول؟ ومن هنا نشأَت فكرة اليسار الإسلامي.
اليسار الإسلامي ربما ليس أفضل المصطلحات. وأنا أريد لفظًا يُعطيني الشرعيتَين معًا. وفكرتُ عندما أصدرتُ العدد الأول من المجلة المُعبِّرة عن هذا الاتجاه، وتحمل هذه الأفكار، أن أُطلق عليها «العروة الوثقى الجديدة»، و«كتابات في النهضة الإسلامية»، و«كتابات في الصحوة الإسلامية»؛ فلو قلت «المنار» أو «الهدى» أو «الفرقان» أو «الاجتهاد» أو «الإسلام» فهذه الأسماء استعملناها كثيرًا. وليس لها مضمونٌ اجتماعي. ويُمكن أن تكون دعوةً إلى الهداية والوعظ والإرشاد. ولو قلتُ «النضال» أو «الاشتراكية» فهذه ألفاظٌ علمانية، ولكن نظرًا لغياب مصطلحٍ بديل، فأنا لا أتكلَّم عن الإسلام، ولكن عن المجتمعات الإسلامية. في المجتمعات الإسلامية هناك الغاصب، وهناك المغتصَب، هناك القاهر، وهناك المقهور، هناك الأغنياء، وهناك الفقراء. أنا أُريد أن أُعطي إسلامًا سياسيًّا، اجتماعيًّا للأغلبية الفقيرة المقهورة؛ فاليسار الإسلامي لفظ في علوم الاجتماع؛ فأنا أعلم أنَّ الإسلام هو الإسلام، والقرآن هو القرآن، ولكن القرآن يُفسَّر بطريقَين؛ طريق وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ في الغنى، والثراء، والتجارة. وطريق وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ؛ فأنا آخذ صف الطبقات الفقيرة. الأغلبية التي لها حق في أموال المسلمين. أُحاول أن أُعطي خطابًا للأغلبية الصامتة. إنَّ الإسلام هو ثقافتي، وروحي، وماضيَّ، وحاضري. وعندما يحزن المسلم يقول الله، وعندما يفرح يقول الله. أنا في رأيي أنَّ هذه هي الطاقة النووية، لكن الطاقة هذه تُفجَّر في القضايا غير الهامة. ويجب أن تُفجَّر في القضايا التي تستحق.
ولنا في الانتفاضة عبرة
واليسار الإسلامي هو أخذ كل هذه الطاقات، وهذه المشروعية التاريخية، والفكرية، والثقافية، والحضارية من أجل توجيهها إلى التحديات لكي نُساير العصر؛ وبالتالي نحمي الأمة من شَقِّها إلى قسمَين؛ خطاب سلفي يُركِّز على الشعائر والطقوس دون الاهتمام بمصالح الناس. وخطاب علماني تحديثي يُركِّز على مصالح الناس دون أن يلمس ثقافتهم؛ وبالتالي فأنا أجمع الخطابَين في خطابٍ واحد.
وبالتالي أقول إنَّ اليسار الإسلامي يؤمن كما آمن الفقهاء من قبلُ بأنَّ الحق النظري مُتعدِّد، أمَّا الحق العملي فواحد.
اليسار الإسلامي ليس حزبًا، ولا تيارًا، وإنَّما هو بوتقة تنصهر فيها كل التيارات الفكرية، والنظرية، والسياسية، ينصهر فيها الليبراليون، والقوميون، والماركسيون؛ فالإسلام يُدافع عن الحرية مثل الليبراليين، ويُدافع عن العدالة الاجتماعية مثل الاشتراكيين، ويُدافع عن الوحدة مثل الوحدويين؛ ومن ثمَّ فالإسلام هو إطارٌ نظري شامل يسمح بالتعددية في داخله، ما دامت هناك إمكانيةٌ للاتفاق على برنامج عملٍ موحَّد. ولنا في الانتفاضة الفلسطينية عِبرة وعظة؛ فهي تضم كل الفصائل الفلسطينية من إسلاميين، وليبراليين، وعلمانيين، وقوميين، وماركسيين، وغيرهم ولكن هدفهم واحد هو تحرير فلسطين، والكل يعمل من أجل هذا الهدف. أقول إنَّ اليسار الإسلامي هو محاولة لجمع شتاتهم، ونبذ الخصومة بين الإخوة الأعداء. ويطرح برنامجًا موحدًا يتفق عليه الجميع. واليسار الإسلامي لا يُريد سلطة لأنَّه يُرتِّب للتغيير الإسلامي القادم، وأن يُوحِّد قلوب الناس، وأن يكون الوطن العربي وطنًا للجميع.
من العقيدة إلى الثورة
هو من الكتب المُتخصِّصة جدًّا. وأُحاول فيه إعادة النظر في علم العقيدة، والجمع بين الإيمان والعمل، حتَّى يُمكن إعادة النظر فيما قاله العلماء لتعايش ظروف العصر؛ لأنَّ كل النظريات التي ورثناها قديمًا، إنَّما ورثناها والأمة منتصرة. ونحن الآن أمةٌ منهزمة، ومجزَّأة، ومتخلفة؛ ومن ثمَّ فأنا أُحاول الربط بين قضايا العصر، والربط بين الله والأرض، حتَّى أُساعد الأمة على تحرير الأرض، فإذا كانوا قديمًا لم يُركِّزوا على قضية الأرض؛ لأنَّهم كانوا فاتحين والجيوش منتصرة، وكانوا يُركِّزون على الصفات الإلهية؛ لأنَّهم كانوا يعيشون عصرًا فيه صراعات بين الديانات؛ اليهودية، والمسيحية، والمانوية، والمجوسية، فكانوا يعيشون عصرًا جدليًّا حول التوحيد، والحمد لله دافعوا عن التوحيد ذاتًا وصفاتٍ وأفعالًا. أمَّا الآن فمن يرى أنَّ الله هو الشجرة أو الصنم؟! هذه معارك كسبناها والحمد لله، ولكن هناك معارك خسرناها، هي معارك الربط بين الله والأرض، خاصة أنَّنا أمام عدو هو الصهيونية، وهو يربط بين الله والأرض.
وأنا أُحاول في هذا الكتاب أن أُحييَ العقيدة في قلوب الناس نحو قضايا التوحيد. ويا ليت المسلم يتصف بالصفات الإلهية، كما يقول الصوفية. أكون عالمًا وقادرًا، فلا يُعقل أن تكون صفات الله كهذه، ثمَّ نكون نحن أمةٌ عاجزة، لا تسمع، ولا تبصر، ولا تتكلَّم، ولا تريد.
فإذا كانت هذه هي الطاقة الإلهية فإنَّني أسعى لأن أستفيد منها وأُحوِّلها، كما كان التوحيد من قبلُ في قلوب الناس، وكذلك قضايا الحرية؛ فالإنسان حر ومسئول، وإنَّ هناك إلهًا واحدًا يتساوى أمامه الناس جميعًا؛ ومن ثمَّ فليس لأحدٍ حق استعباد أحد.
إنَّني أريد أن أُحييَ العقيدة في قلوب الناس قدْر الإمكان حتَّى تُصبح هي الأساس النظري للسلوك؛ وبالتالي لا يحتاج الناس إلى خطابٍ سلفي خالٍ من أي مضمون، ولا خطابٍ علماني له مضمون، ولكن بلغاتٍ أجنبية. وأنا لا أستطيع أن أدخل معارك العصر وروحي ضعيفة.
«الاستغراب» علم جديد
في السنوات القادمة إن شاء الله سأُعيد بناء علوم الحكمة، وعلوم التصوُّف لتظهر قيم الثورة، والغضب، والتمرد؛ لأنَّ التصوُّف كان حركةً ثورية في الماضي، ثمَّ استحال إلى حركة الترف، والبذخ، بدعوى اليأس من تغيير الواقع؛ لأنَّها حالةٌ موروثة. ولا بد من إعادة التصوُّف العملي بأخلاقٍ جديدة مثلما فعلَت المهدية والسنوسية.
وأُحاول بناء علوم السيرة والفقه؛ لأنَّهم في الماضي بوَّبوا كتب الفقه بوضع الشعائر في المقدمة؛ مثل الصلاة، والصيام إلى آخره. وهذه أشياء أصبحنا نعلمها جيدًا، فلماذا لا نبدأ اليوم بالمعاملات وهذه تنقصنا؟ وما زلتُ في الجولة الأولى لإحياء علم العقيدة، لنقل العالم الإسلامي إلى عصر التقدم والازدهار والحضارة بدلًا من التخلُّف.
إني بصدد وضع كتابٍ جديد عن علم الاستغراب؛ فكما أنشأ الغرب علم الاستشراق ليدرُسنا؛ حيث اعتبر نفسه ذاتًا والشعوب الأخرى موضوعًا. فلا بد أن نجعل من أنفسنا ذاتًا، ومن الغرب موضوعًا، وحتى لا نظل ننقل عن الغرب كالتلميذ الخائب.
(٣) الجماعات الإسلامية في مصر٤
-
الجماعات الإسلامية في مصر ترعاها السلطة ولا تستطيع تعدي حدودها.
-
أجهزة الإعلام المصرية هي المسئولة عن الهوَس الديني.
-
جمال الدين الأفغاني كان مرحلةً مؤثِّرة في الفكر الإسلامي وعلينا أن نعيدها.
-
ما يُسمَّى بالحوادث الطائفية دلالةٌ على ظواهر سياسية واجتماعية أكثر من دلالتها على نعرةٍ طائفية.
– نستطيع أن نقول إنَّ المستعرض لتاريخ مصر من أيام مينا حتَّى عبد الناصر يجد أنَّ الوحدة الوطنية؛ أي انتساب الشعب كله إلى قضيةٍ واحدة، قضية الوطن، هي الأساس ولم تظهر ما يُسمَّى بالحوادث الطائفية إلَّا في لحظاتٍ عابرة في تاريخ البلاد، عندما تكون الدولة في أضعف لحظاتها.
وتُستغل هذه الحوادث لتقوية الدولة لنفسها، كذريعة للقيام ببعض الإجراءات الاستثنائية، باسم حماية الوحدة الوطنية في الظاهر، وهي في الحقيقة دفاعٌ للنظام عن نفسه.
ففي تاريخنا الحديث، مثلًا في ثورة ١٩١٩م، ظهرَت الوحدة الوطنية بأروع صورها. وفي هبَّة يناير ١٩٧٧م، خرج الشارع المصري كله يُطالب بلقمة العيش والعدالة الاجتماعية والمساواة، ملايين في الشوارع لا فرق بين مواطن ينتسب إلى طائفة ومواطن آخر ينتسب إلى طائفةٍ أخرى. وقبلها في حرب أكتوبر ١٩٧٣م، كان الجميع يُدافع عن كرامة مصر، ويُزيح عن كاهلها عار الهزيمة.
وفي الحوادث الأخيرة يصعب معرفة الحقائق الموضوعية، ومدى ذيوعها؛ إذ تتفاوت الروايات بين شجار في الجامعة، وبين قتل وهتك للأعراض، وحرق دور العبادة، كما تذكُر أجهزة الإعلام الغربية، ولكن على فرض صحة بعض هذه الوقائع فالملاحَظ أنَّ كثيرًا من المنشورات التي تُوزَّع في الجامعات، وتُلقى في دور العبادة من طائفة تُهاجم أخرى، لم تصدر عن أيَّة طائفة، بل مكذوبةٌ عليهم وموضوعةٌ من أجل الإثارة، ويؤكد ذلك أسلوبها الساذج، وقصدها العمدي في الإثارة التي يأنف منها الناس.
والسؤال الآن هو: من له مصلحة في ذلك، خاصة وأنَّ كثيرًا من المنشورات لم تُؤتِ أثرها المطلوب؟
إذن ماذا يكون هدف هذه المنشورات إذا كانت لم تُحدِث الأثر المطلوب؟ هذا ما كنتُ سأتحدَّث عنه؛ فقد يكون الهدف هو إبعاد الوعي القومي عن القضايا الأساسية التي تشغل بال الجماهير، والتي أصبحت حكرًا على السلطة السياسية تُقرِّر فيها ما تشاء، وتُغيِّر رأيها بدرجة ١٨٠ من أقصى الطرف إلى أقصى الطرف الآخر؛ مثل قضية الأسعار، وقضايا الإسكان، والمواصلات، ومظاهر البذخ والترف التي بدأَت تُثير الغالبية المحرومة؛ مثل شقق التمليك التي بلغت مئات الألوف، والبضائع الاستهلاكية المستوردة، وضرب الصناعات الشعبية والوطنية؛ مثل صناعة الدواء، والأغذية الشعبية، وأيضًا القضايا الخارجية. وهي وإن كانت لا تُحرِّك الجماهير تحريكًا مباشرًا إلَّا أنَّها ماثلة أمامهم، يرونها في الطريق العام مثل الشركات والبنوك الأجنبية، ورجال الأعمال الأجانب الذين يعيدون إلى ذهن الشعب «الخواجة الخبير» أيام عهد الخديوي إسماعيل، وتحويل أحياء بأكملها في القاهرة إلى مستوطناتٍ أجنبية، التعامل فيها بالدولار، والحديث فيها بالإنجليزية، تزيد من غربة المواطن في بلده.
وأيضًا قضية الصلح مع إسرائيل ورفع علم إسرائيل، وتحويل مصر إلى بلدٍ سياحي يقوم على راحة الأجانب، خاصة بعد عودة البعض من سيناء وزيارة دير سانت كاترين وهم لا يعلمون هل سيناء مصرية أو إسرائيلية، وأيضًا إحساس المواطن بعزلته عن الإخوة العرب الذين كانوا يملَئون القاهرة. وكانوا مصدر رزقٍ أساسي له، بالرغم من كل ما يُقال عن هؤلاء الإخوة حاليًّا!
تُستغل الطائفية إذن لإبعاد المواطن عن همومه الأساسية إلى موضوعاتٍ جانبية غريبة عنه، حتَّى يُبدِّد طاقاته وينفِّس عن غضبه في موضوعاتٍ جانبية، ما أسهل أن تستغلها الدولة لقمع مظاهرة أو تفتيت تجمُّع بدعوى الحفاظ على الوحدة الوطنية!
بين الإيمان والهوس الديني
– نعم؛ فإنَّه نظرًا لوجود الفراغ السياسي في البلاد في ربع القرن الأخير، وعدم استطاعة الأحزاب القائمة أن تكون أوعيةً شعبية تلقائية، وقنواتٍ تُعبِّر من خلالها الجماهير عن مصالحها؛ نظرًا لأنَّها أحزاب قامت باسم الدولة في حدود النظام القائم، فإنَّ المواطن يبحث ولو بطريقة لا شعورية عن قضية أو تنظيم يدين له بالولاء، فيجد ذلك في النادي الرياضي؛ فهو أهلاوي وزملكاوي، كلاهما يقتتلان ويقذفان بعضهما البعض أيضًا بالطوب والحجارة، كما يحدث إذا صحَّت هذه الوقائع في دور العبادة، فتقوم الطائفية بنفس الوظيفة التي يقوم بها النشاط الكُروي. هذا المواطن ينتسب إلى طائفة، وهذا المواطن ينتسب إلى طائفة أخرى، حتَّى يُشبع كل منهما حاجته النفسية إلى الولاء، ما دام الولاء للوطن حكرًا على السلطة.
– تقوم أجهزة الإعلام ليل نهار بحملة من الهوَس الديني ترجع كل مواطن إلى الدين والإيمان، وتُقام الصلوات خمس مرات يوميًّا فيها، وتكبر الصلوات بمكبرات الصوت في أعلى المآذن من الفجر حتَّى العشاء، ويُنادى بتطبيق الشريعة الإسلامية في مجلس الشعب وتُقام لذلك اللجان، ويُدعى إلى مجتمع الإيمان، ويُروَّج للقيم الدينية من صبر وتقوى وورع ومحبة وتسامح، وتكثُر البرامج الدينية في الصحف وأجهزة الإعلام، وتكثُر طبعات الكتب الدينية، وينتشر الزي الديني بين الرجال والنساء، ويُكفَّر كل من لا إيمان له.
ففي ظل هذا الهوس الديني الذي يتم زورًا باسم الإسلام، من الطبيعي أن يُسبِّب رد فعل عند الطوائف الدينية الأخرى، والدفاع عن حقوقها في التعبير عن شعائرها وعن كيانها، وإحساسها بأنَّها أقليةٌ في وسط أغلبيةٍ عارمة يُدافع النظام السياسي عنها ويؤيِّدها.
فأجهزة الإعلام هي المسئولة عن هذا الهوَس الديني في مجتمعٍ لا يسوده العقل، ولا يتم فيه الحوار.
أقول إذن في النهاية إنَّ ما يُسمَّى بالحوادث الطائفية هي حوادث في حقيقتها تدل على ظواهر سياسية واجتماعية أكثر من دلالتها على نعرة طائفية؛ فكما استغل الاستعمار قديمًا في الأجيال الماضية الطائفية للتدخل الأجنبي كما حدث في ١٨٨٢م، بإثارة الأروام في الإسكندرية، تقوم الأنظمة السياسية الدخيلة باستعمال نفس السلاح لتدعيم وتقوية أنفسها ضد المعارضة الداخلية، وإبعاد الشعور القومي عن قضاياه المصيرية. والحقيقة أنَّ هناك دينًا مصريًّا واحدًا هو دين الشعب، الذي يؤمن بإله واحد، وحيث يظهر هذا الإيمان في فعل الخير والتكافل الاجتماعي والانتساب إلى أرض. والارتباط بالتبرك بالقديسين والأولياء موجود في كل الطوائف الدينية في مصر؛ وبالتالي بالرغم من انتساب المصريين إلى مِلل مُتعدِّدة، فإنَّ هناك دينًا مصريًّا واحدًا يجمع بينها جميعًا.
– إنَّ الجماعات الإسلامية المعاصرة ترتكز على مدٍّ إسلامي حقيقي يشهده العالم أجمع ليس في مصر وحدها، ولكن أيضًا في شتَّى أنحاء العالم العربي والإسلامي.
وهي ظاهرةٌ فعلية حقيقية يفخر بها الإنسان، بالرغم من صياغاتها المتخلفة أحيانًا. وترجع في رأيي إلى عدة عوامل؛ منها فشل أيديولوجيات التحديث العلماني المعاصرة في إحداث المتغيرات الاجتماعية والسياسية المرجوة في مجتمعاتنا الحالية. ولقد فشلَت الليبرالية الغربية التي كانت سائدة خاصة في مصر قبل ١٩٥٢م؛ لِمَا عرفناه جميعًا من سيطرة الإقطاع ورأس المال، وفساد النظم الحزبية المتعاونة مع القصر، والاستعمار واحتلال البلاد؛ مِمَّا أدى، وكان يجب أن يُؤدي، إلى قيام ثورتنا الوطنية في أوائل الخمسينيات في مصر وفي العالم العربي.
كما حدث للأسف صدام بين الثورة المصرية في بداية عهدها وبين حركة الإخوان المسلمين. وهي التنظيم الأم الذي كان العصب الطبيعي للنشاط الإسلامي في مصر والعالم العربي، وانتهاء الثورة المصرية إلى عكس ما قامت من أجله، إلى مزيد من احتلال الأرض من الصهيونية، ومزيد من التعاون مع الغرب والاستعمار في سياستنا الاقتصادية وسياستنا الخارجية، وابتعادنا عن الأمة العربية، وتركنا لسياسة عدم الانحياز، التي كان الإخوان أول من قالوا بها «لا شرقية ولا غربية»، وزيادة التفاوت بين الأغنياء والفقراء، وزيادة التسلط وقمع الحريات، حتَّى لم تعُد الثورة المصرية في وضعها الحالي تجذب أي مواطن.
كما فشلَت الماركسية المسيطرة كليًّا أو جزئيًّا على بعض الأنظمة العربية؛ نظرًا لموالاتها للاتحاد السوفييتي، وعزلتها عن جماهيرها، وفشلها النسبي في التنمية، والنزاعات الداخلية بين قادتها، وعدم تحقيقها الأهداف العربية، وعلى رأسها تحرير فلسطين، وتحقيق الوحدة العربية.
كما فشلَت أخيرًا النظم القبلية التي تسود بعض المناطق العربية، خاصةً بعد مظاهر البذخ والترف أمام الملايين المُعدمة التي تموت من الفيضانات والقحط في آنٍ واحد، وهزة هذه الأنظمة بعدما نسمع عن حوادث المعارضة الإسلامية الصحيحة التي تحدث بين الحين والآخر.
لم يعُد يبقى أمام الجماهير بعد فشل هذه الأيديولوجيات إلَّا اللجوء إلى الذات، وإلى رصيد الأمة من تراث ودين، والعودة إلى ما يملك الإنسان في داخله، التي تُمثِّل مدخراته الطبيعية، بعد فشل ما كان يُنفق منها أو من غيرها لتحديث حياته ومجتمعه؛ وبالتالي يظهر أي نشاط إسلامي على أنَّه نشاطٌ ضخم؛ لأنَّه يعتمد على مخزونٍ حقيقي.
– نعم ولكن للأسف يظهر هذا النشاط في صورةٍ متطرفةٍ تقوم على العنف أحيانًا.
– هذا صحيح، وذلك لعدة أسباب؛ من بينها غياب التنظيم الأم، وهو تنظيم الإخوان المسلمين، في ربع قرن الأخير، وهو التنظيم الذي بدأ بداياتٍ طيبة، خاصة بعد أن دخل سيد قطب الدعوة في أوائل الخمسينيات، وبعد أن كتب عن العدالة الاجتماعية في الإسلام، ومعركة الإسلام والرأسمالية، والإسلام والسلام العالمي. تحوَّل النشاط الإسلامي إلى نشاطٍ سري تحت الأرض، وتحوَّل الدعاة إلى مناهضين للنشاط القائم. وبعد «استشهاد» عبد القادر عودة في سنة ١٩٥٤م وزملائه، واستشهاد سيد قطب نفسه وزملائه سنة ١٩٦٥م، تحوَّل الفكر الإسلامي إلى فكر المضطهَدين المظلومين، الذي يُعبِّر عن نفسية المعتقلين المسجونين الأبرياء، فانقسم المجتمع إلى مجتمعَين؛ مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي، لا علاقة بينهما إلَّا أن يهدم الأول الثاني أخذًا بالثأر، تحت قيادةٍ مؤمنة لا تعرف المُصالحة أو المُساومة، كما وضح أخيرًا في آخر كتابٍ كتبه الإمام الشهيد وهو «معالم في الطريق». ولو أنَّ جماعة الإخوان المسلمين كانت تعمل بطريقةٍ علنية لظهر التيار الإسلامي التقدمي الذي كان وليدًا في أوائل الخمسينيات، ولظهر الإسلام مدافعًا عن قضايا العدالة الاجتماعية، مناهضًا للصهيونية والاستعمار، رافضًا للرجعية والتخلف، مُعارضًا للتسلط والقهر والطغيان، داعيًا لوحدة الأمة الإسلامية ثانيًا؛ حيث تتعلَّم الجماعة من الممارسة السياسية الفعلية اليومية عن طريق التجربة والخطأ، وبالدخول في معارك الجماهير الأساسية، بتناول القضايا الوطنية المصيرية.
مصالح مشتركة
– لقد وعت الجماعات الإسلامية التي تُمثِّل الصورة الضامرة لجماعة الإخوان المسلمين الدرس جيدًا، وهو الدخول في صدام مُبكِّر مع الثورة المصرية سنة ١٩٥٤م، واستعجالها طلب السلطة، وتصوُّر نفسها وكأنَّها قاب قوسين أو أدنى من الحكم؛ لذلك آثرت الآن التركيز على الجوانب التي تأمن الاضطهاد؛ منها الزي الإسلامي، وإذاعة الصلوات الخمس، والمعارض الإسلامية، وفصل الطلبة عن الطالبات في مدرجات الجامعة، والدعوة للإسلام بالحسنى؛ ومن ثمَّ خرج الإسلام الشعائري المظهري قويًّا؛ مِمَّا يُساعد أيضًا على الظهور والإعلان عن نفسه حتَّى ينجذب الأعضاء الجُدد.
– ليس هذا فحسب؛ إذ يسود الاعتقاد عند الكثيرين أنَّ هناك اتفاقًا ضمنيًّا سريًّا غير معلَن بين النظام السياسي القائم وبين هذه الجماعات، نظرًا لوجود مصالح مشتركة بينها، ولو مرحليًّا، تجعل التعاون والاتفاق أفضل من الاختلاف والعداء.
ويؤيد ذلك ما حدث بالفعل في الجامعات المصرية في السنوات الخمس الأخيرة، عندما قامت الجماعات الإسلامية بتطهير الجامعات من اليسار المصري، المُتمثِّل في الناصرية والماركسية، المُعارض للنظام القائم، والمُدافع عن ثورة ٢٣ يوليو، وأهدافها القومية في معاداة الاستعمار والصهيونية والرجعية والدفاع عن الطبقات المحرومة.
وفي سبيل ذلك تُصبح الجماعات الإسلامية هي النشاط الوحيد المسموح به في الجامعات المصرية، بعد أن قامت بوظيفة السوط الذي يُلهب ظهر المعارضة، والذي تستخدمه السلطة القائمة.
فنشاط الجماعات الإسلامية يحدث بتأييد من السلطة، وكل طرف يظن أنَّه يستخدم الطرف الآخر، وما زال الاتفاق سائرًا حتَّى الآن، بشرط عدم تعرض الجماعات الإسلامية إلى القضايا الأساسية مثل الصلح مع إسرائيل. وفي الوقت الذي يخرج فيه نشاط الجماعات الإسلامية عن الحدود تُوقَف الدعوة، كما حدث في العام الماضي عندما هاجمَت مجلة الدعوة اتفاقيات كامب دافيد، بتحليلٍ سياسي، تاركة الموضوع كليًّا، باستثناء حديثٍ عام عن بني إسرائيل في التاريخ، وعندما نشط اتحاد الطلبة في أسيوط منذ عامَين، فتمَّ حل الاتحادات الطلابية، وقُضي على نشاطه.
ومن الطبيعي أن يظهر النشاط الإسلامي في هذه الجماعات بهذه الصورة؛ نظرًا لأنَّ رصيدنا التاريخي في الألف عام الأخيرة من هذا النوع؛ فبعد ازدهار الحضارة الإسلامية في القرنَين الرابع والخامس الهجري، وطرحها جميع البدائل، فكانت هناك أشعرية ومعتزلة وخوارج. داخل أهل السنة انتشرَت الأشعرية، وأصبحَت عقيدة أهل السنة التي تُمثِّلها دولة الخلافة حتَّى الدولة العثمانية، وبدأ هجوم الغزالي في القرن الخامس على العلوم العقلية، ومحنة المعتزلة، ثم محنة ابن رُشد في القرن السادس، وتاريخ ابن خلدون لنشأة وتطور وانهيار الحضارة العربية في القرنَين السابع والثامن. ازدوجَت الأشعرية بالتصوُّف على مدى خمسة قرون، فساد التخلف حتَّى حركاتنا الإصلاحية الأخيرة، منذ أكثر من مائة عام، التي حاولَت النهوض من جديد، والإعلاء من شأن العقل والحرية والدفاع عن وحدة الأمة الإسلامية، في مواجهة الأطماع الاستعمارية في الخارج، وتسلُّط أمراء المسلمين والإقطاع في الداخل، ولكن للأسف هذه الحركة التي بدأها الأفغاني خبت إلى النصف على يد محمد عبده، ثمَّ خبت إلى النصف على يد رشيد رضا، حتَّى انتهت كلية بالرغم من محاولة حسن البنَّا، تلميذ رشيد رضا، للنهوض بها من جديد؛ نظرًا لِمَا حدث لجماعة الإخوان في ربع القرن الأخير؛ فَفِكر الجماعات الإسلامية وسلوكها يُعبِّر إذن عن هذه المحافظة التقليدية التي تشع من تراثنا القديم. وربما لن يتغيَّر هذا الفكر إلَّا بعد عدة أجيالٍ أخرى؛ فما ضاع في ألف عام لن يعود بين يوم وليلة، أو في جيلٍ واحد.
(٤) الثورة المضادة مؤامرة استعمارية. ٥
لا علمانية ولا دينية بل لقمة العيش
– في حقيقة الأمر إنَّ المعركة في الخمسينيات والستينيات كانت معركةً واضحةً جدًّا بين شعوب تسعى نحو التحرُّر الوطني وبين استعمارٍ مهيمن؛ حيث بدأَت حركات النضال الوطني منذ أوائل القرن، ثورة عرابي في مصر وحركات الاستقلال في الجزائر وتونس والمغرب والسودان وغيرها مِمَّا هو معروف من الحركات السنوسية والمهدية وحركة علماء الجزائر وعلال الفاسي و… و… فأثناء وجود عدوٍّ خارجي يسهُل تجنيد المجتمع كله والوطن بأكمله في مواجهة هذا العدو، بصرف النظر عن التركيب الطبقي للمجتمع، وبصرف النظر عن قضايا العدالة الاجتماعية وقضايا التنمية، وبصرف النظر عن كون السلطة الحاكمة تُمثِّل من؟ هذا لأنَّ هناك معركةً وطنيةً واضحة المعالم، وعلى هذا الأساس أيضًا خرجَت الثورة المصرية في الخمسينيات، وفي بنودها الأولى التحرُّر من الاستعمار — قبل التحرُّر من الإقطاع — وقد ساعد تباين طرفَي المعركة وضوح مثالب الاستعمار والهيمنة الغربية على انتشار شرارة الثورة في معظم بلاد العالم الثالث، ولم يكن هناك مَنْ يجرؤ على الجهر بالدفاع عن الاستعمار بطريقةٍ أو بأخرى. وهكذا شهدَت هذه الفترة انطلاقُ مارد التحرُّر بعد ثورة يوليو ١٩٥٢م، وطبعًا كان تأميم قناة السويس هو العامل الرئيسي الذي فجَّر كل حركات التحرُّر؛ حيث انتصرَت الشعوب الصغيرة على القوى الكبرى، في العدوان الثلاثي على مصر في عام ١٩٥٦م، وبدأ يتكوَّن وعيٌ عالمي جديد، بينما تحوَّلَت أفريقيا مثلًا من ثلاث أو أربع دول مستقلة إلى حوالي ٤٠ دولة، وأصبح العالم الثالث في الأمم المتحدة يُكوِّن ثلاثة أرباع الأصوات؛ حيث تكاتفَت القوى الاجتماعية جيشًا وشعبًا ضد قوى الاستعمار، وذلك لسهولة التفريق بين العدو والوطن سواء كان العدو خارجيًّا «استعمار» أو داخليًّا «الإقطاع والرأسمالية»، وهكذا عمَّت العالم الثالث المرحلة الرومانسية الثورية «ناصر، نيكروما، نهرو …».
– إذا نظرنا إلى تغيُّر الأبنية الاجتماعية والاقتصادية في فترة الثورة، فسنجد أنَّه تمَّ بفضل قيادةٍ ثوريةٍ قادرة على أخذ سلطة القرار «كما تمَّ في الإصلاح الزراعي الأول — ستة أسابيع — ثمَّ الإصلاح الثاني، ثمَّ الثالث»، وهذا التغيُّر لا يُمكن ضمان استمراره إلَّا في حضور واستمرار القيادة الثورية ذاتها؛ لأنَّها هي أداة التغيير. معنى ذلك أنَّه لا يُمكن حدوث تغييرٍ حقيقي لا في ثقافات الناس، ولا في تركيبة الطبقات الاجتماعية؛ لأنَّه إذا ما تغيَّرت القيادة الثورية بانقلاب، أو نتيجة تغيَّرت موازين القوى الدولية، أو غيَّرت القيادة الثورية من نفسها ومن تصوُّرها للأمور، فهذا يعني أن تتحوَّل الثورة «١٨٠ درجة» إلى ثورة مضادة. وهذا ما حدث للثورة المصرية؛ حيث كانت المعركة واضحة في الستينيات. وكانت القيادة الثورية موجودة، وكانت هي الحارسة «الوحيدة» على القرارات الثورية، فيما يتعلق بمواجهة الاستعمار والعنصرية والصهيونية، والتأكيد على قضايا العدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية و… و…
لكن الثقافة الوطنية ظلَّت في تيارها التاريخي المُحافظ لم تتغيَّر، وظلَّت التركيبة الاجتماعية — كما هي تقريبًا — بصرف النظر عن ضرب الإقطاع الذي كان يُمثِّل نصفًا بالمائة «٠٫٥٪» من المجتمع، بالإضافة إلى الفئات التي نشأَت على مدى فترة الثورة، خاصة من جهاز الدولة والبيروقراطيين الذين استفادوا من الثورة، وأذكُر أنَّنا في عام ١٩٦٦م، كنَّا نُناقش عبد الناصر في مؤتمر المبعوثين بالإسكندرية — قبل الهزيمة — وأشرنا كثيرًا إلى وجود طبقةٍ جديدةٍ من الضباط والتكنوقراط ومُلَّاك الريف، الذين كانوا يملكون من ١٥–٥٠ فدانًا، وأنَّ هذه الطبقة تتكتَّل مع الثورة وترفع شعاراتها دون الإيمان بمضمون هذه الشعارات.
أقول إذن إنَّه تكوَّنَت في حضن الثورات العربية طبقاتٌ جديدة، بينما ظلَّت ثقافة الشعب مُحافظة كما هي؛ وبالتالي بدأَت عوامل — لا أقول الفناء — النكوص والردة تبدو شيئًا فشيئًا؛ حيث عاد الاستعمار من جديد، أخذ «ينقر» على جدار الثورة ليعرف أيَّة منطقة خاوية وأيَّة منطقة يسهل اختراقها، ووضع الاستعمار خطته المحكَمة في ١٩٦٧م، بالتهديد — المزعوم أو الحقيقي — على سوريا؛ فلو لم يتكاتف عبد الناصر مع سوريا لسقط وسقطَت شعاراته التي يرفعها باعتباره زعيمًا عربيًّا، ولو وقف إلى جوار سوريا لهُزِم عسكريًّا. هكذا أرادوا التخلُّص من الزعامة الثورية وتخطئتها، وهذا ما تمَّ في ١٩٦٧م. وأثبتَت الفترة التي تلَتها أنَّه كانت هناك مرحلةٌ ثورية، ولكن لم تنشأ ثقافةٌ ثوريةٌ موازية للقيادة الثورية؛ أي لم تكن هناك أيديولوجيةٌ ثورية على نفس مستوى القيادة الثورية؛ فكل ما قيل عن الاشتراكية العربية؛ والقومية العربية، والعالم الثالث، والحركة الوطنية؛ كل ذلك كان خطابة وشعارات.
– لا تُوجد ثورة تأتي في سياقٍ تاريخي يقوم على التقطع والانقطاع، ومعنى ذلك أنَّ هناك قوًى أخرى كثيرة — ورئيسية — غير الضباط الأحرار ساهموا في صنع الثورة، أو التحضير لها. بمعنًى أدق كان يجب أن يكون هناك حوار بين كل هذه القوى، ولكن نظرًا لأنَّ الضباط الأحرار كانوا شغوفين بنجاح الثورة؛ وبالتالي حاولوا احتكار السلطة، ولم يُحاولوا التحاور مع كل التيارات الوطنية التي بدأَت قبل ١٩٥٢م، وفي مقدمتها الإخوان المسلمون، الوفد، والشيوعيون. وهم في رأيي بالإضافة إلى حركة الضباط الأحرار، بتطوُّرها من التمصير إلى الاشتراكية العربية، المُكوِّنات الأربعة الرئيسية للحركة الثقافية والسياسية — لأنَّ السياسة في مصر هي ثقافة. وهكذا ما لبثَت أن جاءت سنة ١٩٥٤م، حاملة معها الصدام بين الإخوان والثورة، كلٌّ منهما يريد السلطة، وكلاهما يرى أنَّه أحقُّ بالثورة، وخاصةً أنَّ حركة الضباط الأحرار كانت تضم بين صفوفها بعض عناصر الإخوان؛ مثل «رشاد مهنا»، و«عبد المنعم عبد الرءوف». وهكذا حدث الصدام بين الثورة وبين المُكوِّنات التاريخية للشعب المصري، فنشأَت الثورة في فراغ؛ نظرًا لأنَّ التراث الديني، وهو المُكوِّن الرئيسي للثقافة الوطنية، لم يعُد واضح الوجود والفعالية، بعد أن تعرض مُمثِّلوه منذ سنة ١٩٥٤م للاعتقال والاضطهاد. وبالرغم من تقدمية الشعارات والعلمانية كان هناك رد فعل محافظ من داخل الحركة الإسلامية. واشتدَّت المحافظة بعد استشهاد سيد قطب أواخر سنة ١٩٦٥م. وتكوَّنَت حركات إسلامية داخل السجون تُريد الانتقام، وتُريد هدم كل شيء بهدف إعادة بنائه من جديد؛ كل ذلك من الأسباب الرئيسية للثورة المضادة؛ فبمجرد غياب القيادة الثورية لم يعُد هناك من يُدافع عن المكتسبات، ولا تنظيمات شعبية لأنَّ التنظيمات الشعبية الثلاثة «هيئة التحرير» و«الاتحاد القومي» و«الاتحاد الاشتراكي» كانت تنظيمات بيروقراطية، هُرع إليها أول المنافقين والباحثين عن المناصب والسلطة، كما تمَّ في تحوُّل الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية في القرنَين الثاني والثالث الميلاديَّين؛ حيث تحوَّل كل موظفي الدولة الرومانية إلى الدين الجديد، لمجرد أنَّ الإمبراطور قسطنطين قد آمن به، نفس الشيء حدث في تنظيمات الثورة، وهذا عجَّل بالارتداد على الثورة، إذا أضفنا مسألة عدم تغير الثقافة إلى ثقافةٍ ثورية، واصطدام الثورة بالتيارات الرئيسية المُكوِّنة لتاريخ مصر السياسي والثقافي؛ مِمَّا عزل الثورة عن جذورها، وجعلها تنشأ في الفراغ. وهذا هو السبب الرئيسي «الداخلي».
ولكنَّ هناك أسبابًا أخرى خارجية؛ فبمجرد نجاح الثورة — برغم هذه المثالب — في القيام بإنجازات ضخمة، فيما يتعلَّق بالتنمية والإصلاح الزراعي والتصنيع وتأسيس القطاع العام … إلخ، وعندما بدأ يتكوَّن لها رصيد على المستوى العربي، وبدأَت تُبشِّر بحدوث الوحدة العربية، وعندما برزَت على الصعيد الدولي، وريادتها لكتلة عدم الانحياز، هنا بدأ الغرب يشعر أنَّه لا بد من الالتفاف حول هذه الثورة، التي خرجَت في البداية من منطلقٍ قطري بحت، ثمَّ ما لبثَت أن تحوَّلَت إلى مركزٍ لتصدير وانتشار التحرُّر وإحياء العروبة، خاصة بعد الاعتداء الثلاثي سنة ١٩٥٦م، وبعد تجربة الوحدة مع سوريا ٥٨–٦١م، وبعد تأسيس المجتمع الاشتراكي – القوانين الاشتراكية ٦١–١٩٦٤م، بدأ الغرب يُخطِّط لضرب هذه الثورة مستغلًّا ومُوظِّفًا معرفته ببواطن الضعف في التجربة، وهي الجيش والأطماع الموجودة بداخله، والطبقة الجديدة، وعدم وجود تنظيماتٍ قادرة على الحماية، وبدأ ذلك بالعدوان الثلاثي؛ حيث تحالفَت إسرائيل العدو الأول وفرنسا — لأنَّ مصر كانت تُساعد الجزائر — مع بريطانيا للقضاء على الثورة، ثمَّ محاولة ضرب الوحدة بين مصر وسوريا؛ لأنَّ الغرب لا يستطيع ابتلاع قطعة كبيرة كالوطن العربي إلَّا بعد تقسيمها وتجزيئها حتَّى يسهل ابتلاعها، وهذا معروف من أيام الخلافة العثمانية ومسألة الرجل التركي المريض. ثمَّ جاءت ٦٧م ثمَّ تغيَّرت القيادة الثورية ذاتها في سبتمبر ١٩٧٠م، وأتت الردة من الداخل بصرف النظر عما يُقَال الآن في مذكرات عبد السلام الزيات «إنَّ أمريكا كانت تضع أملها على السادات منذ فترة طويلة»؛ لأنَّني أعتقد أنَّ عبد الناصر قد اختار السادات نائبًا له وهو في الطريق إلى موسكو لظروف بعينها، حتَّى إنَّه جعله يحلف اليمين في المطار وسافر عبد الناصر ليُهدِّد القيادة السوفييتية بعد تغلغل الطيران الإسرائيلي في مصر وضربه لأبي زعبل وبحر البقر؛ فقد كان عبد الناصر في أمس الحاجة إلى نظامٍ حديث للدفاع الجوي ليُدافع عن عُمق البلاد. ونوَّه للسوفيت أنَّ رفضهم إعطاءه سام ٣ ونظام الدفاع الجوي الذي يطلبه معناه التخلِّي عن القيادة لنائبه «الموالي لأمريكا». وكانت محاولةً ناجحة للضغط على القيادة السوفييتية، ولكن عبد الناصر مات بعد عودته بشهرٍ واحد، واستطاع السادات أن يُغيِّر الثورة ١٨٠ درجة، وبدا واضحًا أنَّ كل أدبيات الاشتراكية والإسلام كانت مجرد دعاية؛ فأين هم الذين كتبوا آلاف الصفحات وملايين الأسطر حول الاشتراكية في الإسلام؟ أين هم الذين دافعوا عن الثورة واتفقوا مع كل ما قاله عبد الناصر؟
إنَّهم هم أنفسهم الذين اتفقوا بعد ذلك مع «إسرائيل»، ومع الانفتاح الاقتصادي، ومع قوانين القهر والقوانين الاستثنائية … إلخ. وهذا يعني أنَّ الأدبيات لا تصنع ثقافةً ثورية؛ فقد تحوَّلَت الثورة من معاداة الاستعمار والصهيونية إلى التحالف معهما، ومن قضايا العدالة الاجتماعية والبناء الاشتراكي إلى قضايا الانفتاح والرأسمالية والتهليب الذي لم يعُد جريمة ومرسيدس لكل مواطن، من قضايا الوحدة العربية إلى تكريس التجزئة والطائفية، من قضايا التنمية المستقلة إلى الاعتماد على الخارج كلية «٧٠٪ من غذاء مصر يأتي من الخارج»، من قضايا تجنيد الجماهير في تحالف قوى الشعب العامل إلى قضايا استئثار طبقة السماسرة والمضاربة على العقارات والاتجار في العملة وتهريب رءوس الأموال الأجنبية والبنوك الخاصة و… و…
الرأسمالية الغربية وراء الثورة المضادة.
إذن تمَّت تصفية الثورة لأنَّ الغرب الذي عانى من توحيد المنطقة واستقلالها لن يسمح بإعادة التجربة من جديد؛ لأنَّه كان الخاسر الأكبر؛ حيث تحرَّرت كل المستعمرات القديمة، بل وستتوحَّد المنطقة العربية، وتعتمد على ذاتها وعلى مشاريع التنمية المستقلة؛ فأين إذن يعيش الغرب؟
ولأنَّ الرأسمالية الغربية لها القدرة على إعادة التأقلم، فبعد بداية لا أقول فشل المشروع القومي، ولكن بعد أزمة الطاقة وسيطرة الدول الوطنية على المواد الأولية، وزيادة الأجور في المغرب؛ لأنَّ العامل هناك أصبح ينتمي إلى الطبقة المتوسطة، بل والعليا، بدأَت الشركات المتعددة الجنسيات تقوم ببناء مصانعها في الدول المتخلفة «تايوان – سنغافورة – تايلاند – إندونيسيا – الملايو – مصر …» فقد قرَّر الغرب إعادة تنظيم الرأسمالية بشكل يسمح لها بتجاوز أزمتها. وكانت مصر — لاعتباراتٍ كثيرة — بالإضافة إلى مجموعة الدول الأخرى في ذهن الغرب، من المراكز التي يجب أن تفقد تنميتها المستقلة، وتُصبح مجرد مركز لرءوس الأموال الغربية، ولبعض الصناعات، علاوةً على تنمية غريزة الاستهلاك لدى الشعب المصري. وهكذا وقعَت مصر كلية والعالم العربي أيضًا في أتون الثورة المضادة؛ لأنَّ مصر بالنسبة للعرب هي بمثابة القلب للأطراف — أنا لست أديبًا ولكن هذا التشبيه صادق إلى حدٍّ كبير — وإذا ما ضعُف المركز «العقل أو القلب» فإنَّ الأطراف تفقد اتجاهها.
إنَّ أي تحليلٍ سياسي بلا وعيٍ ثقافي وبلا وعيٍ تاريخي يكون ضيق الأفق، يكون تحليلًا أمريكيًّا قصير النظر؛ فأهمية التحليل الذي يستهدف الوصول إلى طريق للخلاص هو أن يرتبط بمزاج الشعب وبتكوينه الثقافي، وفي الوقت نفسه بتطوُّره ووعيه التاريخي، وهذه في رأيي ماركسيةٌ وطنية أفضل من الماركسية الغربية؛ لأنَّ أهم دروس الماركسية هو الوعي التاريخي، وللأسف فإنَّ سياستنا العربية الآن لم تعُد قائمة على وعيٍ تاريخي ووعيٍ ثقافي «أي على أيديولوجية»؛ فالماركسية نشأت بنقد الأيديولوجية الألمانية وتحويلها إلى علم، أمَّا نحن فلم نستطع بعدُ نقد الأيديولوجية الأساسية لمجتمعنا، وهي «الموروث الديني»، ولم نحاول ربط المرحلة الحالية بالتاريخ الوطني للبلاد.
ما الموقف الحضاري الحالي؟ دون الدخول في إجابة مباشرة، نحن نعيش في إطار معركة ذات ثلاث جبهاتٍ متزامنة، ولا تقل جبهة أهمية عن الجبهة الأخرى، ومن الخطأ الدخول في جبهةٍ واحدة فقط؟
الجبهة الأولى هي «الدينية»: ونحن قد وصلَنا تراثٌ طويل من الموروث الديني، الإسلامي، والإسلامي-المسيحي، واليهودي، وأصبح الدين جزءًا لا يتجزَّأ من الشعب. وكل من يريد الكسب ينشر كتابًا في إحياء علوم الدين، ويتاجر باسم الدين «الريان وغيره …»، كل من يريد تقديم برنامج تليفزيوني ناجح يُسمِّيه «العلم والإيمان» وهكذا، وهكذا.
فالموروث الديني واضح، فهو المُكوِّن الرئيسي للشخصية القومية والشخصية الشعبية والوطنية، وهذا لا يُمكن إنكاره؛ وبالتالي فأيَّة دعوةٍ علمانية في هذا الإطار الثقافي تكون مجرد نقاشٍ فقهي غربي غير سياسي قصير النظر. وهذا يقودنا إلى الجبهة الثانية وهي «العلمانية»: ولا يخفى على أحد أنَّها نشأَت في الغرب، في ظل ظروف تاريخية خاصة، وبعد جهادٍ طويل «من ٢٠٠–٣٠٠ سنة» من القرن الخامس عشر إلى السابع عشر، وحتَّى استطاعت الثورة الفرنسية أن تنتصر في القرن الثامن عشر، بعد صراعٍ طويل يتعلَّق بالكنيسة، ونحن ليس عندنا كنيسة، وإنَّما عندنا الموروث الديني بتصوُّراتٍ دينية للعالم، وهذه التصورات الدينية للعالم ورثناها منذ ألف عام؛ أي من القرن الخامس الهجري عندما هاجم الغزالي العلوم العقلية؛ أي ما تُسمَّى بالعلمانية الآن، أن الإنسان قادر بعقله على فهم الظواهر الطبيعية، وبإرادته على السيطرة عليها، وأنَّ مركز الكون هو الإنسان، ومصالح الإنسان، و… إلخ. وهذه هي العلمانية؛ أي المعتزلة التي أُحاول إبرازها في «اليسار الإسلامي» فأقول:
نحن منذ ألف سنة نعيش في الأشعرية؛ أي الله المسيطر الذي يتدخَّل في قوانين الطبيعة، ويقلب الحجر ذهبًا، والعصا ثعبانًا. لو رميت حجرًا من أعلى لا يسقط إلى الأرض لأنَّ الله يُمكن أن يمسكه، ولو رميت سهمًا لا يُمكنه الوصول إلى الرمية لأنَّ الله يُمكن أن يوقفه في الهواء … إلى آخر هذه التخاريف التي تقولها الأشعرية. وقد ازدوَجت الأشعرية مع التصوُّف خلال الألف سنة الماضية، وسكنا وعينا القومي دون أن ندري، وأصبحنا نتحرَّك سياسيًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا من خلالهما؛ بحيث أصبحَت الأشعرية أيديولوجيةَ السلطة. هناك سلطةٌ مركزية تُسيطر على كل شيء، ولا يستطيع أن يهرب منها أحد.
هذه الأيديولوجية تستغلها الدولة وأجهزة الإعلام للتأكيد على سلطة الرئيس، وسلطة جهاز الدولة، والمخابرات، والبوليس، والجيش، والأمن المركزي، وهذه هي الأشعرية الجهازية. وهناك أيديولوجيةٌ أخرى هي «التصوُّف»، وهي أيديولوجية للاستسلام والخنوع والصبر والتقوى والورع و… وهي التي تُعطَى للشعب. وبذلك يُصبح الوضع غايةً في الانسجام بين سلطةٍ قاهرةٍ مركزية وشعبٍ خانع زاهد متواكل، وهذا يتعلَّق بالجبهة الأولى.
إذا عدنا إلى الجبهة الثانية فسنجد أنَّنا على علاقة بالغرب الحديث المعاصر منذ ٣٠٠ عام؛ مِمَّا شكل لنا تراثًا لا يُنكَر من الفكر الليبرالي الماركسي والقومي والاشتراكي، وما إلى ذلك من المذاهب المعاصرة، ولكن هذه الجبهة ضعيفة إذا ما قيست بالجبهة الأولى، ٣٠٠ سنة في مواجهة ١٠٠٠ سنة؛ لذلك فأنا أقول دائمًا إنَّ وعينا الوطني أعرج، له ساقٌ طويلةٌ جدًّا في الموروث الديني، وأخرى قصيرة جدًّا في الموروث العلماني العقلاني السياسي الغربي؛ لذلك فإذا سرنا فلا يكون سيرنا طبيعيًّا، وسوف نميل إلى أحد الاتجاهَين.
أمَّا الجبهة الثالثة، والتي أراها في رأيي الأهم، فهي «الواقع والتحديات العصرية التي نعيشها»؛ لأنَّها في حقيقة الأمر هي التي تُحرِّك رجل الشارع، ولا يُحرِّكه «ابن تيمية»، ولا «جون استيوارت ميل»، ولا «ماركس»، ولا «سعد زغلول»، ولا غيرهم، بل يُحرِّكه لقمة العيش والخبز والرزق والضنك.
وفي رأيي أنَّ التحدي الأساسي الآن بالنسبة للمثقفين والسياسيين العرب هو إمكانية إدارة الصراع بين الجبهات الثلاث؛ بحيث نبدأ بالثقافة الوطنية ورافدها الأساسي «الموروث الديني»، مع الاستفادة بالتراث العلماني ومكوِّناته الثقافية — ذات التأثير القصير — وبشرط أن يُؤدي ذلك كله إلى مواجهة التحديات الرئيسية، والإقلال من تلاحم ازدواجية أيديولوجية السلطة «الأشعرية» وأيديولوجية الشعب «التصوُّف»؛ بحيث يُمكننا فك الارتباط بينهما، بأن نُعطي للحاكم أيديولوجية المساواة، وأنَّ السلطة ليست منة، وإنَّما هو مُفوَّض من الشعب، ونُعطي الشعب أيديولوجية الثورة والتمرد والغضب والمراجعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما يجب أن نؤكِّد للعلمانيين الغربيين أنَّهم سيظلون، وربما لعدة أجيال طويلة، منعزلين؛ لأنَّ التيار التاريخي ليس معهم «٣٠٠ سنة في مقابل ١٠٠٠ سنة». وهكذا يُمكننا تقليل خطورة الألف عام «الأشعرية»، بمحاربتها من داخلها بواسطة العقلانية الاعتزالية وقوانين الطبيعة والعلم، كما نُحارب العلمانية الغربية من داخلها بردِّها إلى ظروفها الطبيعية التي نشأَت فيها، أثناء محاربة المفكرين الغربيين للكنيسة والكهنوت … إلخ. ثمَّ نبدأ بالتركيز على الجبهة الثالثة؛ بحيث نبني الموروث الديني، ونجعله حاملًا ثقافيًّا لأهدافنا القومية، في إطار خطة مُحكمة واعية، تسمح لأكبر قدْر مُمْكِن من تعدُّد الأطر النظرية، مع الاتفاق على برنامج عملٍ وطني موحَّد، وهذا أحد دروس الفقه القديم، «الحق النظري مُتعدِّد، لكن الحق العملي واحد». أنَّ تحرِّر فلسطين باسم الله لأنَّك من الإخوان أهلًا وسهلًا، أو تحرِّرها باسم الليبرالية لأنَّ العُمَّال العرب في فلسطين ليس لهم حق الانتخاب، أهلًا وسهلًا، أو تحرِّرها من أجل الطبقة العاملة وحقوق العُمَّال العرب في الهيستدروت لا مانع، أو تُحاربها باسم القومية العربية أهلًا وسهلًا. إذن لا خلاف أن تكون اشتراكيًّا أو قوميًّا أو ليبراليًّا أو إسلاميًّا، لا خلاف في الحق العملي وهو تحرير فلسطين، رغم تعدُّد الأطر النظرية. ويجب أن نعي — ونعترف — أنَّ المكوِّنات المتعددة لثقافتنا العربية الراهنة شيءٌ واقع وموجود، بشرط أن نُقر أنَّه يُمكن عمل برنامج عملٍ موحَّد.
في رأيي هذا يمكن أن يحدث وله مؤشراته. ولنسأل أنفسنا لماذا سقط السادات في المنصة سنة ١٩٨١م؟ لأنَّ بوادر الوحدة الوطنية ظهرَت في الأفق، وإلقاء نظرةٍ واحدة على صحف ومجلات تلك الفترة تُثبت ذلك. تُمْسِك «الدعوة» تجدها تتحدَّث عن رفض الصلح مع إسرائيل، ورفض الارتماء في أحضان أمريكا، ورفض قوانين القهر، والحديث عن الوحدة سواء كانت عربية أو إسلامية، ونفس الكلام بصورة أو بأخرى في «الموقف العربي»، و«الأهالي»، و«الشعب». إذن هناك إمكانية لبرنامج عملٍ وطني واحد رغم التعدُّد الأيديولوجي. أمَّا من الذي سيُدير ذلك؟ حكومة جبهة وطنية متحدة؛ لأنَّه لا يُمكن أن يتصدى واحد بمفرده لحل هذه القضايا المصيرية؛ فلا بد من اجتماع القوى الأربع الرئيسية في البلاد؛ الإخوان «الإخوة في الدين»، الليبراليون «الإخوة في الحرية»، الشيوعيون «الإخوة في الوطن»، الناصريون «الإخوة في الثورة»؛ فما زال الشعب — من وجهة نظري — يرفضها جميعًا؛ لأنَّه ما زال ينتظر شيئًا جديدًا هو تراثه كحامل لأهدافه؛ أي روحه كمُحقِّقة لمطالب جسده، وهذا ما أُحاول الاهتمام به في «اليسار الإسلامي».
أهمية اليسار الإسلامي أنَّه يتحدث للأغلبية الصامتة، حقيقة أنَّه بلا منبر — سوى مجلة صدر منها عددٌ واحد — وبلا تنظيمٍ شعبي لكنَّه يمتلك رؤية، خذ مثالًا من الجامعة المصرية لو أنَّ هناك مُدرَّجًا به ١٠٠ طالب فسيكون من بينهم من ٥–١٠ طلاب ينتمون إلى الجماعة الإسلامية، و٥–١٠ طلاب ينتمون إلى الناصرية، أو الفكر القومي أو العلماني أو الليبرالي أو الاشتراكي أو الماركسي. أمَّا المساحة الفارغة بين التيارَين الديني والعلماني، ويُمثِّلها ٨٠٪ هي المساحة التي يأتي من أجلها اليسار الإسلامي، كي يُحاول التعبير عن الأهداف القومية من خلال الثقافة الوطنية؛ وبالتالي يحمينا من الوقوع في ازدواجية الثقافة وازدواجية التعليم وازدواجية السلطة والحرب بين ما يُسمَّى بالدينيين، والعلمانيين، و… و…
الاتفاق على برنامج عملٍ وطني موحَّد ليس مشكلةً كبرى؛ لأنَّ التحديات الرئيسية للمعركة تفرض نفسها علينا بقوة ووضوح منذ الأفغاني، وتتلخَّص في قضايا سبعة رئيسية هي:
-
(١)
تحرير الأرض.
-
(٢)
القهر والطغيان والدفاع عن الحريات.
-
(٣)
الفقر والغنى وإعادة توزيع الدخل على الأمة (العدالة الاجتماعية).
-
(٤)
الوحدة والتجزئة.
-
(٥)
الهوية والتغريب.
-
(٦)
التقدُّم والتخلُّف.
-
(٧)
تعبئة الجماهير وتجنيد الأمة.
وكل هذه القضايا لا زالت مطروحة بقوة؛ فمزيد من الأراضي في فلسطين والضفة الغربية وسبتة ومليلية وأفغانستان والإسكندرونة وأخيرًا كشمير محتلة. وبخصوص التحرُّر من القهر والطغيان الداخلي ما زلنا نُعاني؛ فأي نظامٍ أتى بالاختيار الحر؟ وكم عدد المسجونين في كل نظام؟ وكم نظامٍ أتى بموافقة الشعب واختياره؟ فحُكَّامنا إمَّا ملوك وارثون أو عسكريون. أمَّا قضايا العدالة الاجتماعية فنحن شعبٌ يُضْرَب به المثل في التباين الشديد بين الغنى والفقر؛ فلدينا أكبر الأغنياء الذين يموتون تخمة، وأوسع عددٍ من الفقراء الذين يموتون جوعًا وقحطًا وعطشًا وعُرْيًا، وهكذا ما زالت قضايا التجزئة والوحدة والتنمية والتخلف والهوية والتغريب مُلحة وضرورية، وهكذا في قضايا تعبئة الجماهير وتجنيد الأمة؛ فما زال الكيان الصهيوني «٣.٥ مليون مواطن» يهزم ٢٥٠ مليون عربي و١٠٠٠ مليون مسلم؛ مِمَّا يُذكِّرنا بقول الأفغاني: «والله لو كنتم ذبابًا وحطَطْتم على الجزيرة البريطانية لأغرقتموها.» هذا من ثُقل الذباب، فما بالك بالبشر.
هذه الازدواجيات ورثناها من خلال الموروث الديني «إعطاء الأولوية للفضائل النظرية على الفضائل العملية»، «تصوُّرنا للإيمان على أنَّه مجرد قول» كل من قال «لا إله إلَّا الله محمد رسول الله أصبح جزءًا من الأمة» وهو التعريف «المُرجئي» الذي اخترناه، ورفضنا تعريف الخوارج وهو اتفاق القول والفعل ليصدق الإيمان، إذن لا بد من التصدي للأصل الموروث، وإعادة النظر في كل الاختيارات السابقة. ولقد تحدَّثتُ عن ذلك في «التراث والتجديد» فيما أسميتُه بإعادة الاختيار بين البدائل؛ فالاختيارات السابقة تمَّت في ظروف معينة من المؤكَّد أنَّها تغيَّرت الآن، وعلينا أن نُراعي ذلك؛ فنحن لسنا مُتفرِّجين ولا مُستشرقين، بل مثقفون وطنيون أصحاب دار. ونحن لسنا أقل من الشافعي ولا ابن حنبل ولا الأشعري ولا واصل بن عطاء، ويجب أن نُعيد الاختيار وفقًا لظروفنا الجديدة. قديمًا اختاروا مثلًا أنَّ العالم مخلوق فلماذا لا أختار أنا أنَّ العالم قديم إذا أحسستُ أنَّ الاختيار الأول سيدفع الناس نحو الإحساس بفَناء العالم وانعدام قيمته «أتى من لا شيء وسيذهب إلى لا شيء»؟ وربما أشعر بالتحليل العلمي أنَّ القول بقِدَم العالم وثباته قد يُعطي الإنسان قدرةً على الإحساس بأهمية هذا العالم. وربما اختاروا قديمًا أنَّ الله ليس كمثله شيء بعيدًا عن الناس، بعيدًا عن الشعب، بعيدًا عن الأرض، فقد أختار أنا كما اختارت الصهيونية — وأنا أكون هنا صهيونيةً مضادة — أنَّ الله والأرض شيء واحد، أنَّ الله والشعب شيء واحد، الله والعدالة الاجتماعية شيء واحد. وسوف أجد في القرآن ما يؤيدني — كما يجد الآخرون ما يؤيدهم — «إله السموات والأرض»، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، فمن يأخذ أرضي يأخذ نصف إلهي. وقد اختاروا قديمًا أنَّ النقل أساسُ العقل عند الأشعرية، وربما أختار أنا أنَّ العقل لا وصاية عليه لا من نقل ولا من حاكم ولا غيره. أقول إذن إنَّ لدينا الإمكانيات لإعادة الاختيار بين البدائل بما يتَّفق ومصلحة الأمة حاليًّا، من واقع المسئولية، ومن حق الفقيه في الاجتهاد طبقًا للظروف؛ فلا يوجد في الفقه حلٌّ أبدي صالح بحذافيره لكل العصور.
في حقيقة الأمر إنَّه إذا كان هناك مشروعٌ قومي واحد باسم الوطن أو باسم القومية، بناء اجتماعي، تحوُّل اشتراكي، تحرُّر وطني، عدالة اجتماعية، فهذا يعني اختفاء كثير من الأمراض الطائفية، والعِرقية، و… و… فلم نكن نسمع في الستينيات عن شيء اسمه الطائفية؛ لأنَّه كان هناك مشروعٌ قومي واحد. وقد يرى البعض أنَّ مصر الآن يُمكن أن يكون لها مشروعٌ قومي، لكن لا أحد يُلقي إليه بالًا، وهو تعمير وبناء المرافق والخدمات الرئيسية فيها، وعمل خريطة جديدة لمصر عن طريق غزو الصحراء، واقتحام ٩٦٪ من أراضي مصر «الصحراء»، وإنشاء وادٍ آخر للنيل، وربط الواحات الخمس ببعض، وتعمير سيناء. فهذا وإنْ كان صحيحًا إلَّا أنَّه لا يُعبِّر عن وزن مصر وثقلها التاريخي في المنطقة.
(٥) اغتصاب السلطة وغياب العقد الاجتماعي وراء العنف٦
هناك نوعان من العنف السياسي هما: العنف الأوَّلي أي القاهر، والثاني يُسمَّى المُحرِّر وهو رد فعل للأول، لكن أجهزة الإعلام تُجسِّد العنف الثاني على أنَّه القاهر لأهدافٍ سياسية، رغم أنَّها تُمارس أبشع أنواع العنف الفكري والإعلامي عن طريق توجيه الرأي العام نحو وجهةٍ واحدة، وعدم السماح لأي وجهة نظرٍ أخرى؛ وبالتالي لا يجد أصحاب الرأي الآخر سوى الخروج على هذا الإرهاب الإعلامي الفكري الأيديولوجي السياسي، وهذا منطبق — أيضًا — على مؤسسات التعليم والمصالح العامة … إلخ.
والإعلام أيضًا يُركِّز على ما يُسمَّى بالجماعات الإسلامية، لكنَّه لا يذكر المخدرات واختطاف النساء واغتصابهن، كشكلٍ من أشكال العنف، كذلك عنف أجهزة الإعلام التي أصبحَت مهمتها «غسل مخ» المشاهدين، وعنف الرئيس «في أي هيئة» مع مرءوسيه، نقص الخدمات أيضًا نوعٌ من أنواع العنف الاجتماعي.
وأرجع إلى ما قاله «برودون» في فلسفته السياسية عن: من هو السارق؟ فقد قال: هل جان جاك روسو يُعتبر سارقًا لأنَّه وضع يده على قطعة أرض وقال هذه ليست لك أو لي؟! أم السارق الحقيقي هو المالك؟! والذي يرتكب العنف إنَّما هي أجهزة الدولة، والإعلام والعنف المضاد نتاج طبيعي للعنف الذي تُمارسه السلطة على المواطن يوميًّا، وغياب الحوار، واحتمال الخطأ والصواب من كلا الطرفَين، والذي يبدأ العنف هو الطرف الرافض للحوار وأساليب الإقناع، ولا يستخدم إلَّا أداتَين هما السلطة والقوة؛ ومن ثمَّ مرتكب العنف المضاد لا يجد وسيلةً أمامه سوى مقابلة العنف بالعنف.
والعنف الأول القاهر مُقسَّم إلى عدد من الأشكال؛ منها العنف السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وغيرها، وبالنسبة للعنف السياسي نجده في جميع الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي؛ فهي إمَّا نُظم ملكية وراثية أو عسكرية؛ أي لا يُوجد نظام أتى باختيارٍ حر من الشعب بناءً على بيعة وعقد واختيار، وهذه الأنظمة تُبرِّر هذا العنف ببناء بعض المؤسسات لإضفاء صفة الشرعية عليها؛ فبرغم الأشكال الديمقراطية والمؤسسات الدستورية والنقاش الدائر داخل الأحزاب! هي في النهاية تندرج — جميعها — تحت النظام؛ فجميع الأنظمة سواء الملكية أو العسكرية تنقصها الشرعية، بالرغم من مظاهر عديدة؛ مثل الانتخابات، والاستفتاءات، والمُبايعات، التي أصبحَت محل السخرية.
والشباب المسلم يرفض تلك الأنظمة لأنَّها غير إسلامية؛ فالإمامة بيعة وعقد واختيار، ثمَّ إنَّ الحاكم تجب له الطاعة طالما هو ملتزم بالشرع والقانون، فإذا عصى فعلى المسلمين تَذكِرَتَه، ثمَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثمَّ الذهاب للقضاء، فإذا لم يستمع الحاكم وجب الخروج عليه شرعًا.
إذن هناك نوعٌ من اغتصاب السلطة، وهذا هو السبب الحقيقي للعنف الثاني؛ أي المحرِّر.
وما دام هناك غياب لنظرية العقد الاجتماعي، فحتمًا سيظل هناك عنف سياسي؛ فستخرج دومًا طوائفُ لديها نظريةٌ شرعية للحكم، وشرعيةٌ تاريخية ودينية أمام أنظمةٍ مهترئة.
أمَّا العنف الاقتصادي فيتمثَّل في الأوضاع الاقتصادية الراهنة؛ فهناك ٥٪ من المجتمع يملكون ٣٥٪ من الأملاك، وأموالنا مُهرَّبة إلى الخارج، الغني يزداد غنًى والفقير يزداد فقرًا، من له القدرة الآن ليتحدَّث عن العدالة الاجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات؟ فلم تعُد الرأسمالية جريمة بعد الانفتاح. وإذا قسَّمنا الدخل القومي فسنجد أنَّ نصيب الفرد ١٠٠ جنيه شهريًّا تقريبًا؛ أي الذي يأخذ ١٠٠٠ جنيه شهريًّا يأكل نصيب عشرة، ومن يأخذ ١٠٠٠٠ يأكل نصيب مائة، وهكذا.
وهناك عنفٌ اجتماعي أيضًا، فلم يختَر الشعب جميع النظم الاجتماعية مثل مؤسَّسات التعليم، أجهزة الإعلام، معايير السلوك، الغنى المعروض … إلخ؛ ففي كل لحظة يُمارس العنف ضد المواطنين، وجميع القوانين تعمل ضدهم وليس لصالحهم، وهي ليست من اختيارهم بطبيعة الحال.
لذا يُصبح المواطن فريسةً لكل أيديولوجيات الخلاص؛ أي التي تَعِدُ بالخلاص القريب.
وقد مرَّت علينا أنظمة مُتعدِّدة؛ الليبرالية، ثم الاشتراكية، والقومية، ثم الانقلاب، والثورة المضادة، وجميعها فشلَت في تحقيق أحلام الشعب المصري؛ مِمَّا أدى إلى الكفر بكل المطروح، والانسحاب إلى الداخل حيث التراث؛ لأنَّها جميعًا أنظمة أخذت من الفكر المادي وليس الإسلام، هنا تجد الجماعات الإسلامية التربة الصالحة لقبول أيديولوجيتهم!
أكثر من هذا فإنَّ الجماعات الحالية أغلبها من الجيل الثالث داخل السجون، فالذي يُعذَّب ويقضي سنواتٍ طويلة داخل السجن، يؤثِّر هذا على نظرته للأمور؛ فالمرحوم سيد قطب صاحب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«معركة الإسلام والرأسمالية»؛ أي الذي كان يُعبِّر عن الإسلام الثوري التقدمي، خرج من السجن ليكتب «معالم في الطريق»!
ولا حلَّ إلَّا بإعطاء الفرصة لجميع التيارات السياسية لأن تُصبح حركةً شرعية، وهناك أربعة تياراتٍ رئيسية هي الليبرالية «الوفد»، كذلك القومية الاشتراكية «الناصريون»، والماركسية، والتيار الإسلامي؛ فلا بد من تواجد تنظيماتها السياسية الشرعية ومطبوعاتها، ولا يستطيع أحدٌ الادعاء بأنَّ الحل أحادي الطرف؛ فليس هناك تيارٌ واحد قادر على حل قضايا الوطن وحده، كما أنَّ الاتفاق على برنامجٍ موحَّد للعالم العربي مسئولية وطنية عامة للجميع، بلا اتهام بالخيانة أو العمالة، قد يخرج من هذا حكومةٌ وطنية قادرة على مواجهة التحديات الرئيسية للعصر.
أمَّا ما يتم الآن من توجيه الدولة والأجهزة البوليسية لبعض العناصر من المتعاونين معها، بالحوار مع الجماعات الإسلامية داخل السجون، لإقناعهم بنظم الدولة غير الشرعية، فهذا طريقٌ مسدود وعملٌ إعلامي دعائي صرف؛ لأنه لا حوار بين سجَّان ومسجون؛ فالحوار يتم بين حُرَّين متساويَين لكلٍّ منهما شرعية الوجود وحرية التعبير.
(٦) سيختفي عنف الجماعات الدينية عندما تُمارِس السياسة!٧
غياب الدولة
الأزمة الحالية يُمكن توصيفها في عدة نقاط؛ فنجد حاليًّا غياب الدولة كليًّا عن الحياة العامة والخاصة، وفي الوقت الذي تحاول الدولة فيه أن تحضُر تنشأ مشكلات؛ فلا حضور للدولة، لا في الاقتصاد، ولا في الاجتماع، ولا السياسة، ولا في الجامعة والتعليم. ويبدو أنَّه من أوائل السبعينيات وحتى الآن أصبحَت الدولة بالفعل بلا هوية، وبلا حضور، وبلا مشروع. وتحوَّلَت مصر إلى نوعٍ من القطاع الخاص ليس فقط في الاقتصاد، ولكن أيضًا في شتَّى مظاهر الحياة، والذي يحدث الآن أنَّ الإنسان في مصر بقدْر الإمكان يتصوَّر الوطن طبقًا لمصالحه الخاصة؛ فالتاجر والصانع والعامل؛ جميعهم يريدون أن يتصوَّروا الوطن طبقًا لما يستطيع الوطن أن يُقدِّم إليهم من مصالحَ خاصة، أمَّا الانتماء للوطن الأم فهذا لا وجود له، ربما بسبب غياب القضية؛ فحاليًّا مصر بلا قضية، مصر لم تعُد في مركز الحياة السياسية والثقافية والوطنية، وهذا ما سمَّاه البعض احتجابَ دور مصر. مصر كالقلب في الجسد، والقلب وحده لا ينبض، لا بد أن يعمل في محيط، ومصر في حاجة إلى جسد وروح وأطراف؛ وبالتالي يعود دور مصر. وما نُسمِّيه قضية العروبة، قضية التحرُّر العربي، قضية عدم الانحياز، هذه الأشياء التي ربما لا يسمع عنها الشباب كثيرًا هذه الأيام، ولكن في الحقيقة هذه الأشياء هي التي تصنع القضية، وهي التي تُحْيي شعب مصر؛ فالأزمة هي غياب الدولة، وغياب الوطن، غياب المشروع القومي أو غياب القضية.
عودة الاختيارات
نحن نحاول الآن إصلاح ما أفسده الدهر، لكن ستظل اختيارات مصر لم تتولَّد؛ أي هل اختيارات مصر أن تكون تابعةً للغرب، أم تعترف بالصهيونية، أم تدخل في أحد أطراف النظام الرأسمالي العالمي، أم تنعزل عن محيطها؟ في مصر هناك سياساتٌ دائمة لا تتغيَّر، وهي أنَّ مصر مركز الثقل لا تنحاز شرقًا ولا غربًا؛ وبالتالي أصبحت سياسة عدم الانحياز هي التي تُعبِّر عن جوهرنا، إنَّ مصر في الوقت الذي تنحاز فيه للغرب، تميل المنطقة كلها إلى الغرب، وفي الوقت الذي تنعزل فيه تُصبح الأطراف كلها غير موجَّهة ينازع بعضها بعضًا؛ العراق وإيران، الجزائر والمغرب، السودان شماله وجنوبه، وهكذا. إذا غاب مركز التآزر الحركي العضلي تتبعثر الأطراف. وفي الوقت الذي تُعاد فيه الاختيارات الرئيسية لمصر، وتُعاد فيه الثوابت الدائمة في السياسة المصرية؛ أي عدم الانحياز، وسيطرة الدولة على مظاهر الإنتاج، وديمقراطية المؤسسات، في رأيي يُمكن لمصر أن تقوم بدورها.
حرب الاجتهادات
في رأيي أنَّ الصحوة الإسلامية لها مسار تاريخي منذ نشأة الإسلام وحتَّى الآن؛ فنحن الآن في أوائل القرن ١٥ الهجري ومررنا بالسبعة قرون الأولى ازدهر فيها الإسلام، ونشأَت الحضارة حتَّى القرن الرابع الهجري، عصر ابن سينا والبيروني وأبي حيان التوحيدي، بعد ذلك بدأَت الحضارة في الانهيار عندما حارب الغزالي كل العلوم والاجتهادات، ودعا الناس إلى التصوُّف والاستسلام. كما انتشر المذهب الأشعري، وتحوَّلت المذاهب الأشعرية إلى سياسة رسمية للدولة، وتحوَّل التصوُّف إلى عبودية للناس. الأول يأمُر والثاني يُطِيع. الأول يُعزِّز السلطان القاهر، والثاني يدعو إلى الاستسلام؛ لذلك ظهر ابن خلدون في القرن الثامن يؤرِّخ للحضارة الأولى، بعد أن عجز العقل عن الإبداع، ونحاول أن نسأل وأن نُجيب عن هذا السؤال: لماذا تأخَّر المسلمون وتقدَّم غيرهم؟ سأل الأفغاني مُمثِّل الحركة الإصلاحية الدينية هذا السؤال، وسأله الطهطاوي مُمثِّل الفكر السياسي الاجتماعي؛ فالصحوة الإسلامية في حقيقة الأمر هي تعبير عن هذا المسار التاريخي الطويل، نُريد ونحاول بقدْر الإمكان أن نستعيد ما افتقدناه؛ فنحن في نهاية السبعة القرون الثانية، وبداية سبعة قرون جديدة، من القرن اﻟ ١٥، وحتَّى القرن اﻟ ۲۲؛ فربما نحن على مشارف نهضةٍ إسلامية جديدة. ونحن ما زلنا في البداية؛ أي أول عودة إلى تاريخ الإسلام التليد والماضي العريق، ونهاية ٧ قرون من التخلُّف والاستكانة والانحلال والضياع.
الصحوة الإسلامية في نظري هي محاولة لإعادة النظر، لماذا انهارت الحركات الإصلاحية؟ وما سمَّيتُه بدراسة في هذا الشأن «كبوة الإصلاح»؛ أي لماذا كبا الإسلام؟ فهناك ثلاثة روافد رئيسية في فكرنا المعاصر إبَّان عصر النهضة، وهي فكر الإصلاح الديني عند الأفغاني، والفكر السياسي الاجتماعي عند الطهطاوي، والفكر العلمي العلماني؛ كل هذا كان من حوالي ١٥٠–٢٠٠ سنة، مرَرْنا بأربعة أجيال؛ كل جيل أقل من الجيل السابق له، الأفغاني، وتلميذه محمد عبده، وتلميذه رشيد رضا، ثم حسن البنَّا حتَّى الجماعات الإسلامية. الأفغاني بدأ بداية جيدة، الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل. ثم جاء محمد عبده وأحداث الثورة العرابية فخاف مقال الثورة والسياسة لسة بدري، نبدأ بالتعليم واللغة العربية، وجاء رشيد رضا ورأى ضياع الخلافة العثمانية، الإسلام ضاع، والخلافة ضاعت، نرجع للحركة السلفية؛ أي تحول الإصلاح الديني لحركة سلفية. وتعرَّف حسن البنَّا على رشيد رضا، وبدأ في إحياء الحركة الإسلامية الإصلاحية الدينية، وجماعة الإخوان المسلمين، ونجح حسن البنَّا في تأسيس حزب أو جماعة الإخوان المسلمين. وكان الحُلم الذي طالما حلم به الأفغاني، ولم يستطع أن يُحقِّقه؛ لأنَّه لم يكن له مستقر ولا وطن، فحاول حسن البنَّا إحياء الحركة الإصلاحية من جديد. وهنا نأتي للعنصر الثالث في الصحوة الإسلامية؛ فبعد أن وصل الإخوان المسلمون قبل سنة ١٩٥٢م على درجة من الانتصار، بدأ الصراع بين الإخوان والثورة سنة ١٩٥٤م، ودخل الإخوان السجن وخرجوا سنة ١٩٧٠م، ١٩٧١م، حتَّى بعد وفاة عبد الناصر. خرج الإسلام ثائرًا غاضبًا، وإلى الآن هذا الإسلام الثائر الغاضب المُنْتَقِم، الذي خرج من جدران السجون، هو الذي تُعاني منه الأنظمة السياسية، وهذا الذي يُسمَّى بالعنف. إنَّ الصحوة الإسلامية تستعمل وسائل العنف، ولكن هذا شيءٌ طبيعي؛ لأنَّ هؤلاء الناس لم يعيشوا عيشةً طبيعية. كانوا باستمرارٍ مُهمَّشين، مُعتبرين أنَّهم يدعون إلى العنف، ولم يُشاركوا في الحياة السياسية العامة، لكن في الوقت الذي ينتقلون فيه من الأطراف إلى المركز يُمارِسون فيه الحياة السياسية الطبيعية فوق الأرض، ويكون لهم جرائدهم ومجلاتهم ومنتدياتهم وتنظيماتهم الشرعية، سوف يتغيَّرون من أنفسهم، في الوقت الذي تتحوَّل فيه الصحوة الإسلامية من الثأر والغضب وذكريات السجن والتعذيب إلى النزول إلى الساحة، والدخول في التحديات العصرية، تتغيَّر الحركة الإصلاحية، نُحاول أن نجعلها تعمل في جوٍّ صحي.
مياه راكدة
هناك مجموعة من الظواهر في الحياة الفكرية تتبلور في تياراتٍ فكرية؛ فالذي يعلم تاريخ مصر جيدًا، يعلم أنَّ هناك مدارس فكرية ثابتة في تاريخ مصر، ناتجة عن الوضع الجغرافي والحضاري. مصر بلد الإسلام؛ فهناك ما يُسمَّى بالإله الواحد، بصرف النظر عن الإسلام؛ فالإسلام هو بلورة الإله الواحد في أزهى صوره. في المسيحية، توحيد. وعندما انقسمَت على نفسها حول طبيعة المسيح، اختارت مصر الرأي القائل بأنَّ المسيح له طبيعة واحدة وليست طبيعتَين، كذلك ديانات مصر القديمة. إذن الفكر الإسلامي أو الحضارة الإسلامية جزء لا يتجزَّأ من تاريخنا؛ فالحركة الوطنية في مصر بنت الحركة الإسلامية، حزب مصر الفتاة، شعار مصر للمصريين وضعه الأفغاني. كذلك في تونس والمغرب والجزائر، في كل هذه الروافد في الشمال الأفريقي الإسلامي. إذن المدرسة الفكرية الأولى هي المدرسة الإسلامية الإصلاحية، والسلفية الدينية المزدهرة. كذلك في نفس الوقت الليبرالية؛ فمنذ حملة نابليون، والاتصال بالغرب، وإنشاء أول برلمان في مصر أيام إسماعيل، وعرفنا الأحزاب السياسية والانتخابات والوزارة المسئولة. قطعنا شوطًا بعيدًا ليبراليًّا، المدرسة الليبرالية، وفكرة إنشاء الدولة الحديثة على النمط الغربي. والماركسية انتشرت في المنطقة العربية منذ أوائل القرن، وأصبح لها تراثٌ ضخم وتُجنِّد شبابًا وعُمَّالًا. قد تكون أقليةً لها أهميتها كمدرسةٍ فكرية في تطبيق المناهج الاجتماعية ورؤيتها في الاقتصاد. وهناك الاشتراكيون أو الناصريون؛ فمصر طائر بجناحَيه، الماركسية والإسلام، ذيله الماضي في الليبرالية، ورأسه الاشتراكية أو الناصرية. ولا يطير الطائر إلَّا بهذه المدارس الفكرية الأربعة. والأزمة كما قلتُ تتمثَّل في أنَّ هذه المدارس الفكرية الأصولية التأسيسية غير موجودة في الساحة. في صحفنا أين هذه الصحيفة التي تُعبِّر عن أيٍّ من هذه المدارس؟ فهي لا تجد وسائل للتعبير عن نفسها. ليست لها أحزابٌ أو حوارٌ فيما بينها. الكل موجود من خلف الستار، ولكن حدثَت أزمة، أو ما يُسمَّى بغياب المدارس الفكرية من الساحة. أقول أحيانًا أشياء إسلامية لا تُثير الحركة العلمانية، لا شيء! وأقول أشياء ليبرالية-علمانية لا تُثير الحركة الإسلامية، لا شيء! الكل مُرهَق أمام الغلاء والأسعار؛ فمصر لم يعُد لها فكر كما قلتُ في البداية، في المياه الراكدة لن تتجدَّد الحياة؛ فمصر كالسفينة، في حاجة إلى رُبَّان.
أزمة مصر
محاسبة ٢٣ يوليو بدأت من أوائل السبعينيات، باختفاء عبد الناصر. ونظرًا لطول القهر في مصر من أيام فرعون (مات الملك، عاش الملك) فحدث في أوائل السبعينيات وباختفاء عبد الناصر من الساحة، بدأ التحوُّل من داخل الثورة؛ أي من انقلاب ثورة ٢٣ يوليو على نفسها من داخلها؛ فالجهاز الذي يُصفِّق هو نفسه الذي بدأ ينقلب في كل عام عندما تشتد أزمة مصر. يبدأ الهجوم على ثورة يوليو على أساس أنَّها «كبش الفداء»، وعلى أنَّها هي التي أودت بمصر إلى هذه الأزمات، ومثال على ذلك ديون مصر، التي كانت في أوائل السبعينيات من ١ إلى ٣ ملايين دولار، والآن ربما ٤٠ بليون دولار! في كل مرة تشعر مصر بأنَّها في أزمة تجيء ثورة يوليو كالمرآة، وترى مصر فيها وجهها، فتكسر المرآة حتَّى لا ترى نفسها. النظام السياسي كان من أجل الفقراء وما زلنا ننعم بمزايا ثورة ٢٣ يوليو؛ مجانية التعليم، تدعيم المواد الغذائية، القطاع العام والصناعة. شيءٌ طبيعي أنَّ الإنسان لا يُريد أن يرى وجهه القبيح في المرآة الناصعة فيكسرها. يريد أن ينسى ماضيه الناصع حتَّى لا تزداد رؤيته لواقعه الأليم. ثورة يوليو باستمرار هي التحدي لمصر، كلما ازداد الألم ازداد التكسير. وفي السنوات الأخيرة، هناك طبقات الانفتاح والمنتفعين من إنهاء ثورة يوليو. وهم باستمرار في كل عامٍ الذين يقومون بهذا الهجوم لتستمر مكاسبهم. السد العالي بتقرير كل الخبراء لو لم يُوجد لماتت مصر من الجفاف في السنوات الأخيرة، صناعة الدواء مثلًا، كان الدواء ﺑ ٥ أو ١٠ قروش والآن أصبح ٣ أو ٤ جنيهات، استيراد الأدوية، استيراد العسل الأسود، نحن نعتمد على ٧٠٪ من غذائنا من الخارج، فأي استقلالٍ هذا؟ فالهجوم على ثورة يوليو باعتبار أنَّها المرآة. والإنسان لا يريد أن تُكشف عوراته فيزداد التحطيم.
لا خلاف حول أنَّ الفكر الديني يزداد انتشارًا، ولا خلاف حول أنَّ الجميع — مثقفين وغير مثقفين — يعيشون آلام العصر، ويبحثون عن الخلاص، والكثير منهم ينظر للدين هذه النظرة الحيوية؛ ليس مجرد عبادات وعمل صالح يضمن الآخرة لكنَّه وسيلةُ إصلاحٍ للحياة بالدرجة الأولى. مع ذلك، فما زال السؤال المطروح: ماذا قدَّمَت الاجتهادات الدينية، ولا نقول الدين، لمواجهة مشاكل العصر؟ ماذا وضع المهتمون بالدين من نظريات، ووسائل لعلاج مشاكل المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ وأين يقف الفكر الديني الآن؟ السؤال هام. والحوار ما زال ممتدًّا. بدأَته «روز اليوسف» مع واحد من رجال الأزهر هو الشيخ صلاح أبو إسماعيل. وتستأنفه مع مُفكِّر إسلامي تخرَّج في الجامعة، بمصر، وخارج مصر، هو الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، والأستاذ الزائر بجامعات فرنسا وأمريكا وعدد من الجامعات العربية والإسلامية. الدكتور حسن حنفي يرى أنَّ الإسلام قادرٌ على مواجهة مشاكل العصر، لكنَّه يعترف بأنَّ الفكر الديني المُعاصر لا يُحقِّق ذلك؛ لأنَّه يعيش الأزمة.
ولنستمع إلى شهادته.
حوار أجراه: أحمد الكناني وصدَّره بالفقرة الآتية:
الدكتور حسن حنفي، أستاذ جامعة، ومفكر، وفيلسوف، واسع العلم، مُتبحِّر المعرفة، همه الأول هو الحركة الإسلامية وصحوتها، وهو أشبه بربَّان سفينة تشق سطح الماء، ويقف بثقله ممسكًا بالدفة.
إسهاماته ومؤلفاته الفكرية مُتعدِّدة؛ فهو أحد مُفكِّري التيار الإسلامي المستنير، من خلال أطروحاته حول اليسار الإسلامي؛ تلك الأطروحة التي يُحاول فيها الجمع بين شرعية ثورة يوليو، وشرعية الإخوان، بين شرعية الماضي، وشرعية الحاضر على حد قوله، يجمع فيها بين صيغة تُوحِّد بين صيغة الخطاب السلفي، والخطاب العلماني، فكلاهما ناقص، صيغة يجعل بها الوطن وطنًا للفقير مثلما هو وطن للغني.
وعلى مدى ساعتَين جلست إليه لأُجري حوارًا معه طرحتُ عليه أسئلتي. في ثلاثة محاور حول الصحوة الإسلامية، جذورها وتطورها ومستقبلها من ناحية، وفكرة اليسار الإسلامي من ناحية أخرى، وكان المحور الثالث حول مؤلفه العظيم القدْر «من العقيدة إلى الثورة»، طرحتُ عليه أسئلتي في حديثه المتواصل يصول ويجول، ويشرح ويُفسِّر.
وينتقل الدكتور حسن حنفي من الحديث عن أسباب الصحوة الإسلامية إلى تطوُّرها ونموها فيقول:
الدكتور حسن حنفي واحد من كبار المُفكِّرين الإسلاميين في العالم الإسلامي. كُتبه عن الإسلام وتجديد الفكر الديني تجدها بكل اللغات في جميع مكتبات العالم. وهو أستاذٌ زائر يُحاضر في جامعات فرنسا وأمريكا وإنجلترا عن الإسلام، وهو أيضًا أستاذ زائر في معظم الجامعات العربية والإسلامية. ومؤلفاته عن الإسلام تتميَّز بأنَّها تطرح مفهومًا جديدًا للإسلام بمضمونه الاجتماعي والثوري. وهو يقول إنَّه ليس مفهومًا جديدًا إنَّما هو المفهوم الحقيقي. وهو يرى أنَّ جمال الدين الأفغاني كان مرحلةً مؤثِّرة في الفكر الإسلامي وعلينا أن نُعيدها.
ويشغل الأستاذ الدكتور حسن حنفي منصب أستاذ الدراسات الإسلامية والفلسفية بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وهو في هذا الحوار الطويل يتناول بصراحة الفتنة الطائفية في مصر، ويقول إنَّ المصريين لا يعرفون غير إله واحد، ويظهر إيمانهم في فعل الخير، والتكافل الاجتماعي والانتساب إلى الأرض.
ويتحدَّث عن ظاهرة المد الديني الإسلامي في العالم، ويُعلِّل أسبابه، ثمَّ يتحدَّث عن الجماعات الإسلامية في مصر التي يرى أنَّ السلطة هي التي ترعاها، وأنَّ هناك اتفاقًا بينها وبين السلطة على أن تمارس نشاطها بحيث لا تتعدى حدودًا معيَّنة.
ويضع يدنا في حديثه الصريح حول وقائع يرى أنَّها مُهمة وراء أحداث الفتنة الطائفية، التي لا تظهر في مصر إلَّا عندما تكون الدولة ضعيفة! وهو يرى أنَّ هذه الأحداث وُجِدَت لشغل المواطن عن قضايا أهم في الداخل والخارج، لتكون مُبرِّرًا لبعض الإجراءات؛ حيث عُرضَت المنشورات الصادرة من الجماعات الإسلامية عليهم، فأنكروا صدورها منهم لسذاجتها، وعُرضَت المنشورات الصادرة من الجماعات المسيحية عليهم فاستنكروا أسلوبها الفج الذي لا يُعبِّر عنهم.
بينما شهدتَ سنوات الخمسينيات وبداية الستينيات ازدهار الثورة، وانطلاق شرارة التحرُّر مُعلِنة نهاية عصر الاستعمار، شهدَت نهاية الستينيات بداية السبعينيات انطفاء شعلة الثورة، وتزامن انكسار الثورة المضادة في العالم الثالث مع عصر الاستعمار الجديد، فما الأسباب التي أدَّت إلى نشوء ظاهرة الثورة المضادة؟ وما العوامل الخافية التي تقف وراء استمرارها، وهل ثمة أملٌ حقيقي في العودة إلى زمن الانتصار؟
هذه بعض الأسئلة التي حملَتها الموقف العربي إلى المُفكِّر المعروف د. حسن حنفي، في محاولة للإجابة عن هذا اللغز، من منظور «اليسار الإسلامي»، الذي يطرحه الرجل.
و«الموقف العربي»، إذ تُقدِّر أهمية المُفكِّر والفكر الذي طرحه في المقابلة، ستنشر نص الحوار دون تدخل من جانبها.
ومع احترامنا للدكتور حنفي تبقى القضايا الخلافية قائمة، ويبقى مبدأ الحوار الذي يُزكِّيه ويرحِّب به ونحن أيضًا. وفيما يلي نص الحوار.
لا ينفي أحد وجود أزمةٍ فكرية ملحة نُعاني منها منذ سنواتٍ طويلة، ولا يُجادل أحدٌ في أنَّ تحديد أبعاد هذه الأزمة هو الخطوة الأولى تجاه الخروج من المأزق الفكري الذي نعيشه. ويُقدِّم د. حسن حنفي، أستاذ الفلسفة والمُفكِّر العربي المعروف، رؤيته لقضايا الفكر والوطن والإنسان.