كلمة عن مؤلف الكتاب

هو أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله ابن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، القرشي التيمي البكري البغدادي الفقيه الحنبلي الملقَّب جمال الدين الحافظ.

كان إمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ وارتجال الخطب.

صنَّف في فنون عدة ومعظم مؤلَّفَاته في العلوم الشرعية والوعظ، وله مؤلفات في الطب والجغرافيا وغير ذلك!

وقد قيل: «لو جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره وقسمت عليها الكراريس، لخص كل يوم بتسعة كراريس.» وهذا شيء يستعظمه العقل.

وقد جمَع براية أقلامه التي كتب بها الحديث وأوصى أن يسخَّن بها الماء الذي يغسل به بعد موته فكفت وفضل منها.

وتمتاز كتبه بمتانة العبارة وفصاحتها وصحة الأسلوب ورشاقته ودقة المعنى وسلاسة اللفظ؛ مما ينبغي للمولَعين بالإنشاء مطالعتها والتأمل فيها، فإنها من خير ما يربي ملكة الفصاحة في نفوسهم.

ويغلب أن يودعها وقائع اتفقت له وحوادث صح نقلها إليه، فهو يستشهد بها فتزيد الموضوع وضوحًا وتُكسِبه جمالًا ورونقًا.

ولم يطبع من مؤلفاته إلا النزر اليسير، ومعظمها لم يزل مبعثرًا في مكاتب أوروبا ومصر وإستامبول.

ومن أشهر مصنَّفاته التي لم تطبع تاريخه الكبير المسمى «المنتظم في تاريخ الأمم»، وهو أجزاء متفرِّقة في مكاتب العالم ومنها جزء في المكتبة الملكية بمصر يقع في ٥٠٠ صفحة تتضمن تاريخ ستين سنة فكم يبلغ حجمه!

وقد قال في كتابه دفع شبهة التشبيه إن مصنفاته بلغت ٢٥٠ مصنفًا. ومن لطيف شعره يخاطب أهل بغداد:

عُذَيْرِي مِنْ فِتْيَةٍ بِالْعِرَاقِ
قُلُوبُهُمْ بِالْجَفَا قُلَّبُ
يَرَوْنَ الْعَجِيبَ كَلَامَ الْغَرِيبِ
وَقَوْلَ الْقَرِيبِ فَلَا يُعْجِبُ
مَيَازِيبُهُمْ إِنْ تَنَدَّتْ بِخَيْرٍ
إِلَى غَيْرِ جِيرَانِهِمْ تُقْلَبُ
وَعُذْرُهُمْ عِنْدَ تَوْبِيخِهِمْ
«مُغَنِّيَةُ الْحَيِّ لَا تُطْرِبُ»

ومن أحسن ما يُحكى من نوادره وسعة معرفته أنه وقع نزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، فرضي الكل بما يجيب به ابن الجوزي، فأقاموا شخصًا يسأله في مجلس وعظه فقال: «أفضلهما من كانت ابنته تحته.» ونزل في الحال حتى لا يراجَع في السؤال، وكان ذلك بديهة بدون رَوِيَّةً ولا تفكير فجاء في غاية الحسن والدقة، وقال السُّنِّيَّةُ: «إنه أراد أبا بكر لأن عائشة ابنته تحته.» وقال الشيعة: «أراد عليًّا لأن ابنته فاطمة تحته.»

ولقد كان رحمه الله آية الزمان في الوعظ والترغيب وهداية الخلق، ولنسوق لك فصلًا كتبه أكبر سائح في العرب وأصدقهم لهجةً فيما روى وكتب، وهو الرحالة ابن جبير الأندلسي الذي دخل بغداد سنة ٥٨٠ وحضر مجالس وعظه ووصفها بدقة المشاهد المنصف والمؤرخ الصادق قال:

ثم شاهدنا مجلسًا ثانيًا له بكرة يوم الخميس بباب بدر في ساحة قصر الخليفة، ومناظره مشرفة عليه، وهذا الموضع المذكور وهو من حرم الخليفة قد خص ابن الجوزي بالوصول إليه والتكلم فيه؛ ليسمعه من تلك المناظر الخليفة نفسه ووالدته ومن حضر من الحرم، ثم يُفتح الباب للعامة فيدخلون إلى ذلك الموضع وقد بُسِطَ بالحصر، وجلوس ابن الجوزي بهذا الموضع في كل يوم خميس، فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس وقعدنا إلى أن وصل هذا الحبر المتكلم، فصعد المنبر وأزاح طيلسانه عن رأسه متواضعًا لحرمة المكان وقد تسطَّر قراء القرآن أمامه (أي اصطفوا) على كراسيَّ موضوعة، فابتدروا القراءة على الترتيب فشوَّقوا ما شاءوا وأطربوا ما أرادوا، وبادرت العيون بإرسال الدموع، فلما فرغوا من القراءة — وقد أحصينا لهم تسع آيات من سور مختلفات — صدع ابن الجوزي إذ ذاك بخطبته الزهراء، وأتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات ومشى الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب، إلى أن أكملها وكانت الآية اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، فتمادى على هذه السين وحسَّن أي تحسين فكان يومه هذا أعجب من أمسه، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له ولوالدته وكنَّى عنها (بالستر الأشرف والجناب الأرأف) وكان الخليفة يومئذٍ الناصر لدين الله الذي جدَّد شباب الخلافة العباسية بعد الهرم، ثم سلك سبيله في الوعظ.

كل ذلك بديهة لا روية ويصل كلامه في ذلك بالآيات التي كان قرأها القُرَّاء من قبلُ في المجلس، فأرسلت وابلها العيون وأبدت النفوس سر شوقها المكنون، وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين وبالتوبة معلنين، وطاشت الألباب والعقول، وكثر الوله والذهول، وصارت الناس لا تملك تحصيلًا ولا تميِّز معقولًا ولا تجد للصبر سبيلًا، ثم في أثناء مجلسه كان ينشد أشعارًا من النسيب مبرحة التشويق بديعة الترقيق تشعل القلوب وجدًا، ويعود موضعها الغزلي زهدًا، وكان آخر ما أنشده من ذلك وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام قوله:

أَيْنَ فُؤَادِي أَذَابَهُ الْوَجْدُ
وَأَيْنَ قَلْبِي فَمَا صَحَا بَعْدُ
يَا سَعْدُ زِدْنِي جَوًى بِذِكْرِهِمْ
بِاللهِ زِدْنِي فُدِيتَ يَا سَعْدُ

ولم يزل يردد هذه الأبيات والانفعال قد أثَّر فيه والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من فيه، إلى أن خاف الإفحام فابتدر القيام ونزل عن المنبر عجِلًا وقد أطار القلوب وجلًا، وترك الناس على أحر من الجمر يشيعونه بالمدامع الحُمر، فمن معلن بالانتحاب ومن متعفر بالتراب، فيا له من مشهد ما أهول مرآه! وما أسعد من رآه! نفعنا الله ببركته وجعلنا ممن فاز بنصيب من رحمته.

قال ابن جبير:

وما كنا نحسب أن متكلمًا في الدنيا يُعطى من ملك النفوس والتلاعب فيها ما أُعطِيَ هذا الرجل، فسبحان من يخص في الكلام من يشاء من عباده! ا.ﻫ.

ومن غرر مؤلفاته التي طبعت أخيرًا كتاب «نقد العلماء» و«المدهش» و«صيد الخاطر» و«دفع شبهة التشبيه» و«تاريخ عمر بن الخطاب» و«مناقب الإمام أحمد بن حنبل» إلى كثير من الرسائل، وكلها تدل على علو كعبه في التأليف وغزارة علمه.

وُلِد رحمه الله سنة ٥٠٨ﻫ، وقيل ٥١٠ﻫ، وتوفي ليلة الجمعة ١٢ من شهر رمضان سنة ٥٩٧ﻫ ودُفن بباب حرب ببغداد.

وكان يوم وفاته يومًا مشهودًا ببغداد، فحشد له الناس جميعًا وشيَّعوه إلى مقره الأخير وتبركوا بالصلاة عليه والسير في جنازته، وازدحم الخلق على قبره يتناوبون الصلاة عليه إلى أن مضى أكثر الليل. وقد قيل: إن كل من أتى بعده عيال عليه في الوعظ والترغيب والإتيان بالرقائق والمنجيات. رحمه الله رحمة واسعة آمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤