الباب الخامس

في ذكر صفات الأحمق

صفات الأحمق تنقسم إلى قسمين: أحدهما من حيث الصورة والثاني من حيث الخصال والأفعال.
  • ذكر القسم الأول: قال الحكماء: إذا كان الرأس صغيرًا رديء الشكل دَلَّ على رداءة في هيئة الدماغ. قال جالينوس: لا يخلو صغر الرأس البتة من دلالة على رداءة هيئة الدماغ، وإذا قصرت الرقبة دلت على ضعف الدماغ وقلته، ومن كانت بنيته غير متناسبة، كان رديئًا حتى في هِمَّته وعقله مثل الرجل العظيم البطل القصير الأصابع، المستدير الوجه، العظيم القامة، الصغير الهامة، اللحيم الجبهة والوجه والعنق والرجلين، فكأنما وجهه نصف دائرة، كذلك إذا كان مستدير الرأس واللحية ولكن وجهه شديد الغلظ وفي عينيه بلادة وحركة، فهو أيضًا من أبعد الناس عن الخير، فإن جحظتا فهو وقح مهذار، فإن كانت العين ذاهبة في طول البدن فصاحبها مكَّار لص، وإذا كانت العين عظيمة مرتعدة فصاحبها كسلان بطَّال أحمق محب للنساء، والعين الزرقاء التي في زرقتها صُفرة كأنها زعفران تدل على رداءة الأخلاق جدًّا، والعين المشبهة لأعين البقر تدل على الحمق وإذا كانت العين كأنها ناتئة وسائر الجفن لاطئ فصاحبها أحمق، وإذا كان الجفن من العين منكسرًا أو متلونًا من غير علة فصاحبها كذَّاب مكَّار أحمق، والشَّعر على الكتفين والعنق يدل على الحمق والجرأة، وعلى الصدر والبطن يدل على قلة الفطنة، ومن طالت عنقه ورقَّت فهو صياح أحمق جبان، ومن كان أنفه غليظًا ممتلئًا فهو قليل الفَهم، ومن كان غليظ الشَّفَة فهو أحمق غليظ الطبع، ومن كان شديد استدارة الوجه فهو جاهل، ومن عظمت أذنه فهو جاهل طويل العمر، وحُسن الصوت دليل على الحمق وقلة الفطنة، واللحم الكثير الصُّلب دليل على غلط الحس والفهم، والغباوة والجهل في الطول أكثر.

    ومن العلامات التي لا تخطئ طول اللحية فإن صاحبها لا يخلو من الحمق، وقد روي أنه مكتوب في التوراة: إن اللحية مخرجها من الدماغ فمن أفرط عليه طولها قَلَّ دماغه، ومن قل دماغه قل عقله، ومن قل عقله كان أحمق.

    قال بعض الحكماء: الحمق سماد اللحية فمن طالت لحيته كثر حمقه. ورأى بعض الناس لرجل لحية طويلة فقال: والله لو خرجت هذه من نهر ليبس.

    وقال الأحنف بن قيس: إذا رأيت الرجل عظيم الهامة طويل اللحية، فاحكم عليه بالرقاعة ولو كان أمية بن عبد شمس.

    وقال معاوية لرجل عتب عليه: كفانا في الشهادة عليك في حماقتك وسخافة عقلك ما نراه من طول لحيتك.

    وقال عبد الملك بن مروان: من طالت لحيته فهو كوسج في عقله.

    وقال غيره: من قصرت قامته وصغرت هامته وطالت لحيته فحقيقًا على المسلمين أن يُعَزُّوه في عقله.

    وقال أصحاب الفراسة: إذا كان الرجل طويل القامة واللحية فاحكم عليه بالحمق، وإذا انضاف إلى ذلك أن يكون رأسه صغيرًا فلا تشك فيه.

    وقال بعض الحكماء: موضع العقل الدماغ وطريق الروح الأنف وموضع الرعونة طويل اللحية.

    وعن سعد بن منصور أنه قال قلت لابن إدريس: أرأيت سلام بن أبي حفصة؟ قال: نعم رأيته طويل اللحية وكان أحمق.

    وعن ابن سيرين أنه قال: إذا رأيت الرجل طويل اللحية لم، فاعلم ذلك في عقله.

    قال زياد بن أبيه: ما زادت لحية رجل على قبضته إلا كان ما زاد فيها نقصًا من عقله. قال بعض الشعراء:

    إِذَا عَرَضَتْ لِلْفَتَى لِحْيَةٌ
    وَطَالَتْ فَصَارَتْ إِلَى سُرَّتِهْ
    فَنُقْصَانُ عَقْلِ الْفَتَى عِنْدَنَا
    بِمِقْدَارِ مَا زَادَ فِي لِحْيَتِهْ

    ومن صفات الأحمق صغر الأذن، ويعرف الأحمق بمشيه وتردده، وكلام الأحمق أقوى الأدلة على حمقه.

    أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد قال: بلغني أن المهدي لما فرغ من عيسا باذ ركب في جماعة يسيرة لينظر، فدخل مفاجأة، فأخرج كل من كان هناك من الناس وبقي رجلان خفيًا عن أبصار الأعوان، فرأى المهدي أحدهما وهو دهش لا يعقل. فقال: من أنت؟ قال: أنا أنا أنا. قال: ويلك! من أنت؟ قال: لا أدري. قال: ألك حاجة؟ قال: لا لا. قال: أخرجوه أخرج الله نفسه. فدُفع في قفاه، فلما خرج قال لغلامه اتبعه من حيث لا يعلم فسل عن أمره ومهنته فإني أخاله حائكًا فخرج الغلام يقفوه، ثم رأى الآخر فاستنطقه فأجابه بقلب قوي ولسان جريء فقال: من أنت؟ فقال: رجل من أبناء رجال دعوتك. قال: فما جاء بك إلى هنا؟ قال: جئت لأنظر هذا البناء الحسن وأتمتع بالنظر وأكثر من الدعاء لأمير المؤمنين بطول المدة وتمام النعمة ونماء العز والسلامة. قال: ألك حاجة؟ قال: نعم خطبت ابنة عم لي فردني أبوها وقال: لا مال لك والناس يرغبون في المال وأنا بها مشغوف. قال: قد أمرت لك بخمسين ألف درهم. قال: جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين قد وصلت فأجزلت الصلة ومننت فأعظمت المنة، فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه، وآخر أيامك خيرًا من أولها، ومتعك بما أنعم به وأمتع رعيتك بك. فأمر أن يعجل صلته ووجه بعض خاصته معه وقال: سل عن مهنته فإني أخاله كاتبًا. فجاء الرسول الأول فقال: وجدته حائكًا. وأخبر الآخر قال: وجدته كاتبًا. فقال المهدي: لم يخفَ عليَّ مخاطبة الحائك والكاتب.

    وقد روي عن معاوية أنه قال لأصحابه: بأي شيء تعرفون الأحمق من غير مجاورة؟ فقال بعضهم: من قبل مشيته ونظره وتردده. وقال بعضهم: لا بل يعرف حمق الرجل من كنيته ونقش خاتمه فبينما هم يخوضون في حديث الحمقى إذ صاح رجل لرجل: يا أبا الياقوت! فدعا به معاوية فإذا رجل عليه بزة فحاوره ساعة، ثم قال: ما الذي على فص خاتمك؟ فقال: مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ فقالوا: يا أمير المؤمنين الأمر كما قلت.

    وعن الشافعي أنه قال: إذا رأيت الرجل خاتمه كبير وفصه صغير فذاك رجل عاقل، وإذا رأيت فضته قليلة وفصه كبير فذاك عاجز، وإذا رأيت الكاتب دواته على يساره فليس بكاتب، وإذا كانت على يمينه وقلمه على أذنه فذاك كاتب.

  • ذكر القسم الثاني: وهو المتعلق بالخصال والأفعال، من ذلك ترك نظره في العواقب وثقته بمن لا يعرفه ولا يخبره، ومنها أنه لا مودة له، ومنها العجب وكثرة الكلام، قال أبو الدرداء: لا يغرنَّكم ظرف الرجل وفصاحته، وإن كان مع ذلك قائم الليل صائم النهار إذا رأيتم فيه ثلاث خصال: العُجب، وكثرة المنطق فيما لا يعنيه، وأن يَجِد على الناس فيما يأتي مثله؛ فإن ذلك من علامة الجاهل.

    وقال عمر بن عبد العزيز: ما عدمت من الأحمق فلن تعدم خَلتين، سرعة الجواب وكثرة الالتفات.

    وتكلم رجل عند معاوية فأكثر الكلام فضجر معاوية، فقال: اسكت. فقال: وهل تكلمت؟!

    ومن علامات الأحمق خُلُوُّه عن العلفصحف ذرهم فظن أنهم أصلًا؛ فإن العقل لا بد أن يحرك إلى اكتساب شيء من العلم وإن قل، فإذا غلب السِّنُّ ولم يحصل شيئًا من العلم دل على الحمق، قال الأعمش: إذا رأيت الشيخ ليس عنده شيء من العلم أحببت أن أصفعه.

    كان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب صديقًا للوليد يأتيه ويؤانسه، فجلسا يومًا يلعبان بالشطرنج إذ أتاه الآذن فقال: أصلح الله الأمير، رجل من أخوالك من أشراف ثقيف قدم غازيًا فأحب السلام عليك. فقال: دعه. فقال عبد الله: وما عليك؟ ائذن له فنظل نحن على لعبنا فادع بمنديل يوضع عليها ونسلم على الرجل ونعود. ففعل، ثم قال: ائذن له. فإذا هو رجل له هيبة وبين عينيه أثر السجود وهو معتمٌّ قد رجل لحيته فسلَّم، ثم قال: أصلح الله الأمير، قدمت غازيًا فكرهت أن أجوزك حتى أقضي حقك. فقال: حيَّاك الله وبارك عليك. ثم سكت عنه فلما أنس أقبل عليه الوليد فقال: يا خال، هل جمعت القرآن؟ قال: لا، كانت شغلتنا عنه شواغل. قال: أحفظت من سنة رسول الله ومغازيه وأحاديثه شيئًا؟ قال: لا، كانت شغلتنا عن ذلك شواغل. قال: فأحاديث العرب وأشعارها؟ قال: لا. قال: فأحاديث أهل الحجاز ومضاحيكها؟ قال: لا. قال: فأحاديث العجم وآدابها؟ قال: ذاك شيء ما طلبته. فرفع الوليد المنديل وقال: شاهك. فقال عبد الله بن معاوية: سبحان الله! قال: لا والله ما معنا في البيت أحد. فلما رأى ذلك الرجل خرج وأقبلوا على لعبهم.

    ومن خصال الأحمق فرحه بالكذب من مدحه وتأثُّره بتعظيمه وإن كان غير مستحق لذلك. عن الحسن أنه يقول: خفق النعال خلف الأحمق قلما يلبث.

    وقال زيد بن خالد: ليس أحد أحمق من غني قد أمن الفقر وفقير قد آيس من الغنى.

    وقال الأصمعي: إذا أردت أن تعرف عقل الرجل في مجلس واحد فحدِّثه بحديث لا أصل له، فإن رأيته أصغى إليه وقبِله فاعلم أنه أحمق، وإن أنكره فهو عاقل.

    وقال بعض الحكماء: من أخلاق الحمق العجلة والخفة، والجفاء والغرور، والفجور والسفه، والجهل والتواني، والخيانة والظلم، والضياع والتفريط، والغفلة والسرور، والخيلاء والفخر، والمكر، إن استغنى بطر وإن افتقر قنط، وإن فرح أشر وإن قال فحش، وإن سُئِل بخل وإن سأل ألح، وإن قال لم يحسن وإن قيل له لم يفقه، وإن ضحك نهق وإن بكى خار.

    وقال بعض الحكماء: يُعرَف الأحمق بست خصال: الغضب من غير شيء والإعطاء في غير حق، والكلام من غير منفعة والثقة بكل أحد، وإفشاء السر وأن لا يفرق بين عدوه وصديقه، ويتكلم ما يخطر على قلبه ويتوهم أنه أعقل الناس. وقال أبو حاتم بن حيان الحافظ: علامة الحمق سرعة الجواب وترك التثبت والإفراط في الضحك، وكثرة الالتفات والوقيعة في الأخيار، والاختلاط بالأشرار، والأحمق إن أعرضت عنه اعتم وإن أقبلت عليه اغتر، وإن حلمت عنه جهل عليك وإن جهلت عليه حلم عليك، وإن أحسنت إليه أساء إليك وإن أسأت إليه أحسن إليك، وإذا ظلمته أنصفت منه ويظلمك إذا أنصفته، فمن ابتلي بصحبة الأحمق فليُكثر من حمد الله على ما وهب له مما حرمه ذاك.

    قال محمد الشامي:

    لَنَا جَلِيسٌ تَارِكٌ لِلْأَدَبِ
    جَلِيسُهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي تَعَبِ
    يَغْضَبُ جَهْلًا عِنْدَ حَالِ الرِّضَى
    وَمِنْهُ يَرْضَى عِنْدَ حَالِ الْغَضَبِ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤