علم الأخلاق إلى نيقوماخوس

تأليف أرسطو – ترجمة أحمد لطفي السيد

من العقول ما هو بالظواهر الطبيعية أشبه وإلى معالم الكون أقرب. تطَّلع عليه ولو لم تكن لك فائدة من الاطلاع عليه، وتحب أن تراه كما تحب أن ترى نجم القطب أو جبال هملايا أو شلالات نياغرا، وتنشده كأنه عقل «الناس» الذي لا يستأثر به إنسانٌ دون إنسانٍ، وليس بعقل شخصٍ من الأشخاص كان حيًّا على ظهر هذه الأرض في يومٍ من الأيام، فهو منظر لمَن يراه ويدرسه ويستعيره لنفسه ساعة التأمل فيه وليس بحصةٍ موهوبةٍ لصاحبه الذي يُنسَب إليه، وهو هبة إنسانية عامة لكل شعب ولكل فرد، بل هو هبة طبيعية يؤتاها الإنسان كما يُؤتَى النور والهواء وخصائص الحياة، فلا نصيب لصاحبها منها غير نصيب الأمين من الأمانة التي أودعها ليوصلها إلى ذويها، وكأنه لا امتياز له في الأمر إلا أنه هو الذي وقعت عليه القرعة في حمل تلك الأمانة فكان لذلك أمينها المجتبى لها بغير اجتباء!

وقد يبدو لك أنه لا حق لمَن كان كذلك في أن يفتخر بالعقل الذي عُهد إليه؛ لأنه عقل لا ترى عليه طابع الملكية الشخصية ولا يمنعك مانع أن تدعيه مع صاحبه وأن تأمنه على حصتك فيه! فهو منحة إلهية عامة لأنه أكبر من أن يكون صفة شخصية خاصة، وكذلك كان عقل «أرسطو» الكبير الذي لو ظهر عقل بغير واسطة لكان هو أولى العقول أن يظهر للناس مجردًا من واسطة الجسم مستغنيًا عن أدوات الحواس والأعصاب.

•••

عَرَفَت اللغة العربية أرسطو قبل عدة قرون وأخذتْ بنصيبٍ من هذا العقل الشائع كما أخذت بنصيبٍ من المدنية والتاريخ، ولكنها لم تحفظ لنا أثرًا من آثاره الكاملة ولم تُبقِ لنا من قضاياه وآرائه إلا ما تَفرَّق في أثناء الكتب من نُبَذ مبتورة تُنسَب إليه تارةً وتغفل من النسبة تارات. فلا نخطيء إذا قلنا إن أكمل آثاره في اللغة العربية هو هذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن، وهو كتاب علم الأخلاق الذي نقله عن الفرنسية الأستاذ الفاضل أحمد لطفي السيد وأَتَمَّ طبعه في العام الماضي، فبرَّ به لغته أصدق البر وَرَدَّ إليها حقًّا وافيًا من حقوقها بين اللغات في المعلم الأول، وجاءنا بدليلٍ جديدٍ على أن هذه اللغة أصلح في عصرنا حالًا وأوفر قسمًا في العلم والأدب مما كانت في إبان المدنية العربية والدولة الإسلامية؛ لأننا نقابل بين ترجمة كتاب الأخلاق وبين ما اطَّلعنا عليه من بقايا أرسطو في الكتب المتفرقة فنجد التفاوت واضحًا بين الترجمتين، ونرى مواضع كثيرة يبرز فيها الأستاذ لطفي مَن تقدموه في الدقة والفهم وصفاء العبارة، وقَلَّ أن نرى موضعًا ينعكس فيه هذا الحكم ويظهر فيه فضل للمتقدمين على الأستاذ في هذه الأمور.

•••

ولا يُفهَم من قولنا أن أرسطو من العقول التي تحب أن تطَّلع عليها، ولو لم تكن لكَ فائدة منها؛ أن كُتبَ الحكيمِ قليلة الفائدة أو أنها مكتوبة لغير قراء هذا الزمان، فإن مباحث أرسطو تحمل فائدتها لكل زمانٍ، ويقرؤها المتأمل وهو على يقينٍ من أنها تنفع ذهنه وتفتق قريحته، ولو لم تكفل له الوصول إلى الحقيقة والمنفعة العملية في كل حينٍ، ولستُ أستثني من ذلك المباحث التي عفى فيها الحديث على القديم، وسلكتْ فيها التجارت العصرية طريقًا غير طريق الفلسفة اليونانية، فإن العقل الكبير لا يضل كل الضلال وإن نقصته الوسائل وقصرت به الأسباب، ولا يزال عقلًا كبيرًا حتى في الخطأ الكبير الذي يقع فيه، فهو كيفما كان «موضوع» خالد لا يسهل علينا اجتنابه، ولا يجمل بنا أن نحكم عليه بظروفه دون طبيعته التي هي ألزم له وأدل عليه من الظروف، وربما كانت فائدة كتاب الأخلاق لنا نحن المصريين خاصةً أكبر من فائدته لليونان الذين كُتِبَ لهم وللشعوب الغربية التي تُعنى به إلى هذه الأيام على وفرة ما لديها من آثار الفلاسفة في الأخلاق والآداب.

ذلك أن سواد الأمة المصرية — وكثيرًا من الشرقيين — يفهمون من الأخلاق أنها فضائل سلبية تُبعِد الإنسان عمَّا يشينه، وتنهاه أن يقتل وأن يسرق وأن يعتدي على غيره وأن يبخل أو يجبن أو ينقاد لشهواته ويشتغل بصغائره.

ويفهمون من جهةٍ أخرى أن القانون الأخلاقي سواءٌ أكان آمرًا بالفضائل أم ناهيًا عن الرذائل؛ هو سيطرة خارجة عن الإنسان تُملِي عليه ما يفعل وما يترك، وتُجيز له أو تُحرِّم عليه ولا شأن له هو في جميع هذا غير الطاعة والإذعان. ولا نعرف شيئًا أَوْبلَ على الأخلاق ولا أشد إيذاءً للهمم من تمكن هذه العقيدة المنكوسة في الضمائر واعتبار الإنسان عبدًا للقانون يُساق إلى الخير أو قوة سلبية لا تُحسِن من الأعمال إلا أن تجتنب القبيح وتبتعد عن الضرر، وهذه هي العقيدة التي يمحوها مذهب أرسطو في الأخلاق جَهْد ما تستطيع المذاهب الفلسفية أن تمحو أمثال هذه العقائد. فإن أجمل ما في كتاب أرسطو أنه سَجَّل فيه خلائق اليونان الإيجابية وجعل الفضيلة كلها في العمل والإنشاء لا في التخلي والسكون، وهذه هي مأثرته التي يَعُدُّها له شُرَّاحه قبل كل مأثرة في هذا الكتاب.

فالعمل الخاص للإنسان باعتباره كائنًا مختلفًا عن النبات والحيوان إنما هو وحي الإنسان من داخل نفسه، وقانونه الذي تُملِيه عليه فطرته وهو عند أرسطو «فاعلية النفس واستمرارُ أفعالٍ يصاحبها العقل»، ثم يجب أن نحقق هذه الشروط «طول حياة تامة بأسرها؛ لأن خطافة واحدة لا تدل على الربيع، لا هي ولا يوم صحو واحد، فلا يمكن أن يُقَال إن يومَ سعادةٍ واحدًا بل ولا بعض زمن من السعادة يكفي لجعل الإنسان سعيدًا محظوظًا»، ويزيد على ذلك أن «ليس سواء البتة أن يُوضع الخير الأعلى في حيازة بعض المَلَكَات أو في استعمالها، أي في مجرد القابلية، أو في الفعل ذاته. إن القابلية يمكن أن توجد في الحقيقة من غير أن تُنتِج أي خير، مثال ذلك في رجلٍ ينام، أو في رجلٍ يبقى غير عامل لأي سببٍ آخر. أما الفعل فهو على ضد ذلك لا يمكن البتة أن يكون في هذه الحالة مادام أنه بالضرورة يُفعَل وأنه فوق ذلك يُفعَل حسنًا، إن الأمر هنا كالحال في الألعاب الأولمبية، فليس أجمل الرجال وأقواهم هم الذين يأخذون التاج، إنه لا يأخذه إلا المتنافسون الذين يشتركون في [اللعبة]، فبينهم فقط يكون الظافر، كذلك أولئك الذين يسيرون سيرة صالحة هم الذين يستطيعون أن يتطلعوا في الحياة إلى المجد والسعادة.»

فلا فضيلة إلا في قيام «الإنسان» بعمله الخاص الذي يمتاز به على عامة المخلوقات، ولا سعادة لذلك الإنسان بغير الفضيلة.

•••

وأرسطو أقرب إلى العلماء منه إلى الفلاسفة؛ فهو لا يبحث عن العلل الأولى والأسرار الخفية ولا يُعنى بغير تقرير الوقائع واستقراء الحوادث، ولم يدَّعِ هو أنه وصل إلى علل الأخلاق الأولى وأسرارها الخفية بل قال في صراحةٍ: «إن سببًا مماثلًا للسابق يضطرنا أن لا نبغي الصعود إلى العلة في جميع الأشياء على السواء، فإنه في كثيرٍ من الأحوال يكفي أن يبين بجلاءٍ وجود الشيء كما يفعل بالنسبة للمبادئ؛ لأن وجود الشيء هو مبدأ ونقطة ابتداء، ومع ذلك فإن من المبادئ ما قد اكتُشِفَ وعُرِفَ بالاستقراء ومنها ما اكتُشِفَ بالحساسية، وأخرى بنوعٍ من العادة، وأخرى تأتي من أصلٍ آخر، فينبغي تعلم معالجة كل واحدٍ من هذه المبادئ بالطريقة التي توافق طبعه، وذلك أفضل ما يُبذَل من العناية لتحديد بيانها، إن لهذه المبادئ أهمية كبرى في الاستنتاجات وفي النتائج التي تُستَخرَج منها، فقد أصاب مَن قال: إن المبدأ أو البداية هو أكثر من النصف في كل شيءٍ، وأنه وحده يكفي لإيضاح كثيرٍ من النقط في المسائل التي يُنَاقَش فيها.»

ولهذا لا تجد في كتاب أرسطو أريحية الشعر وخشوع الإيمان ولا تلك الفلسفة الجميلة المنغومة التي برع فيها أستاذه أفلاطون وامتزجت بجميع آراء فيثاغوراس، بل هو أول مَن فصل بين الرياضيات الرمزية والفلسفة الصوفية وبين حقائق الاستقراء وعلوم الاختبار والإحصاء، وآراؤه في الأخلاق مأخوذة كلها من مراقبة الحياة العملية في بلاد اليونان والقياس على ما يفعله الناس وما يمدحونه وما يذمونه من الفضائل والعيوب، لكنه مع هذا لم يخلُ من «مَثَل أعلى» للفضيلة هو أسمى ما يرتفع إليه العقل ويصبو إليه الخيال. فإن من دواعي العجب أن مذهبه العملي هذا في طلب السعادة ينتهي به إلى تقرير غاية للإنسان لا يعدوها الخيال وإن جمح، ولا يطمح النظريون إلى أبعد منها وإن أوغلوا في التخمين والتنزيه. فالإنسان الفاضل عنده هو الإنسان السعيد، ومن ثم يجب أن تصدر الفضائل منه عن سجيةٍ وطواعيةٍ لا يشوبها ألمٌ ولا اقتسار، وإلى أين يذهب الإنسان بالخيال أبعد من هذا المقام الرفيع؟ إننا لنعلم أن من الفضيلة أن يُقدِم الإنسان على ما يكره قضاءً للواجب، وأن الواجب الذي يلذك أن تعمله لا فضل لك فيه، وأرسطو لا ينسى ذلك في بعض كلامه فيقول: «حينئذٍ يُشترَط فيمَن يُسمَّى شجاعًا الصبر على المشقَّات المؤلمة كما قد قيل؛ لذلك نرى أن الشجاعة لكونها أمرًا صعبًا جدًّا يكون الثناء عليها هو في غاية الإنصاف، لأن احتمال الألم أصعب من الامتناع عن اللذة»، ولكنه يعود فيقول: «ومع ذلك ينبغي أن نفهم أن غاية الشجاعة هي دائمًا شيء لذيذ جدًّا، وأن الظروف المحيطة بها هي وحدها التي تحجب عنها جاذبها القوي، يمكن أن يُشاهَد بسهولة شبه هذه الظاهرة في مباراة الجمباز. فإن الغاية التي يقصدها المصارعون هي حقًّا لذيذة جدًّا لديهم، إنما هي التاج، إنما هي الكرامات التي يطمعون فيها، غير أن الضربات التي تصيبهم مؤلمة؛ لأن المصارعين على كل حالٍ هم من لحمٍ وعظمٍ، وكل التعب الذي يلقونه حقيقٌ بأن يكون شاقًّا جدًّا.» ثم يمعن في ذلك فيقول: «… يكون الموت والجروح عند الرجل الشجاع أمورًا شاقَّة، وإنه لا يتعرض لها إلا إذا كان مُكرَهًا، إنه يقتحمها لأن اقتحامها جميلٌ ولأنه يكون من العار ألا يفعل، ولكن كلما كانت فضيلته كاملة وبالتَّبع سعادته تامة كان أسَفُه من الموت أشد؛ لأن الحياة بالنسبة لرجلٍ كهذا لها كل قيمتها، وحرمانه النفس أنفس النعم التي هو يُقدِّرها حق قدرها. ذلك إنما هو ألم شديد ومع ذلك لا يُنقِص من شجاعته شيء بل ربما زادت؛ لأنه يؤثر على كل هذه النعم الشرف الذي يكسبه في الحروب»، وإذن — على رأي أرسطو — لا يكون الإنسان في شجاعته إلا مختارًا بهذه الكيفية بين أمرين أو عدة أمور.

•••

ولانصراف أرسطو عن البحث في علل الفضائل الأولى إلى البحث في الأعمال الفاضلة المشاهَدة بالحس كان معياره الأرجح للأخلاق أن يوازن بينها بالدرجات والمراتب لا بالكنه والمصدر، فكل فضيلةٍ عنده حد وسط بين رذيلتين، وكأن الاختلاف بين الفضائل والرذائل في تفسيره لا يكون إلا من قبل الاختلاف بينها في الدرجات والزيادة والنقصان، وهو رأي منتقد عابه عليه كانْتْ بحق فقال: «إن الاختلاف بين الفضيلة والرذيلة لا يمكن أن يكون مسألة درجات بل لا بد أن يعتمد على معادنها الطبيعية أو قوانينها، ولنطبق هنا مذهب أرسطو فنقول إن القصد حد وسط بين رذيلتين هما الإسراف والبخل، فهل نرى أن البخيل لا يعود بخيلًا إذا زاد مقدار نفقته؟! أو هل ترى أن المسرف يصبح فاضلًا إذا نقص مقدار ما ينفقه من الثروة؟! إن التفسير أولًا لا يبين لنا الحد الذي يجب على كلٍّ منهما أن يقف عنده، وثانيًا هو في الواقع تحصيل حاصل؛ إذ إن أرسطو يقول «إن الإنسان يجب عليه أن يجتنب الخطأ بالزيادة عن الحد والخطأ بالنقص عنه»، فما الخطأ بالزيادة عن الحد غير أن يفعل الإنسان أكثر مما يجب؟ وما هو الخطأ بالنقص عن الحد غير أن يفعل الإنسان أقل مما يجب؟ فكأن النتيجة أن الواجب هو أن لا تفعل أكثر ولا أقل من الواجب»، وهذا هو تحصيل الحاصل كما يقول «كانْتْ»؛ لأن تعريفنا الواجب بأنه شيء لا يزيد ولا ينقص عن الواجب هو من اللغو الذي يشبه قول القائل:

كأننا والماء من حولنا
قوم جلوس حولهم ماء

إلا أننا نقول مع هذا إن أرسطو قد اتَّبع أسلم الطريقين ونجا من أكثر الأخطاء التي يستهدف لها الباحثون في فلسفة الأخلاق، وأنه حين تساهل في تحرِّي العلل الأولى واجتهد في الاستقراء القريب والمشاهدة المحسوسة؛ غبن الفيلسوف اللدني فيه، ولكنه أنصف العالِم المدقق وعوض على القراء من ذلك الغبن أحسن عِوض، وأنه كان قمينًا أن يستهدف لأكثر من ذلك من الأخطاء لو أنه عالج العلل الأولى ثم أخذ نفسه بالتأليف بينها وبين الأخلاق في جميع الدقائق والتفاصيل، فما منعه التساهل في استقصاء العلل الأولى أن يصحح لنا نماذج لفضائل، وأن يصور لنا تمثالًا مُتقَن الصنعة من الإنسان الكامل في عالم الوجود وفي عالم الخيال، وليس يغض من عمله هذا أنه كان يلحظ الإنسان من الجانب اليوناني الذي كانت تجلوه آداب عصره وتواريخه ومأثوراته؛ فتلك سُنَّة لا محيد عنها أن يتخذ المصور نموذجًا له من الهيئات التي يَأْلَفُها والبيئة التي يعيش فيها، على أن الاتفاق بين الناس في حدود الفضائل العامة أيسر من الاتفاق بينهم في أذواق الملامح والألوان التي يترسمها المصورون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤