الصيام بين إنكار الذات وتقريرها

يقول قائل: وهل هذا من الآداب والفنون أيضًا؟! ونقول نعم، ولِمَ لا يكون كذلك؟ فأما إن كان الصيام ليس شيئًا غير جوع المعدة وتفتر الأعضاء؛ فالحق أنه شأنٌ غريبٌ عن الأدب غرابته عن الدين، وأَوْلى به أن يكون من شئون الأطباء والطهاة الذين يعالجون الجوع بالدواء أو بالطعام، أما إن كان رياضة من رياضات النفوس وبابًا من أبواب التهذيب فللأدب فيه حصةٌ كحصته في جميع ما يُعرَض للنفس من الحالات والأطوار.

وللصيام عند رجال الدين حِكَمٌ يختلفون فيها ويستكثرون منها تكبيرًا لخطره وتعظيمًا لأجره، فيقولون إنه مران على الجوع لِيَشعُرَ الأغنياء المكفيون بما يشعر به الفقراء المعوزون، أو إنه تكفير عن الذنوب بتعذيب الجسد الذي اجترح تلك الذنوب، أو إنه تطهير للجسم واستجمام له من آفات الطعام والشراب، أو إنه رياضة للنفس على احتمال ما تكره والصبر عمَّا تحب، وهذه — فيما نرى — هي الحكمة الجديرة بهذه الفريضة التي لو لم يفرضها الدين لوجب على كل إنسانٍ أن يفرض على نفسه لونًا من ألوانها ويأخذ بطريقةٍ من طرائقها لرياضة النفس وتربية الإرادة.

ونقول «ألوانها وطرائقها»؛ لأننا لا نقصر الصيام الذي يُقصَد به رياضة النفس وتهذيبها؛ على ترك الطعام والشراب وما إليهما من مطالب الجسم الكثيفة وحاجاته الشائعة بين الإنسان والحيوان؛ فإن النفس لا تُكبر ترك الطعام وما إليه إلا إذا كان الطعام حظًّا كبيرًا لديها، وأي حاجةٍ إلى الرياضة النفسية يشعر بها مَن يمتحن قدرة نفسه على مغالبة الهوى بقدرة معدته على مغالبة الجوع؟ فإنما تبين قيمة النفوس بقيمة ما تقوى على تركه والصبر عنه، وإنما يعظم الترك والصبر بقدر نفاسة الشيء المتروك أو المصبور عنه على نفسك، ومن ثم يكون الصيام درجات تترقى في الحقيقة حسب الترقي في الحاجات والأشواق، وربما كان أسهلها وأهونها الإمساك عن الطعام والشراب. فهو لهذا فريضة شائعة مكتوبة على عامة الناس وخاصتهم بلا اختلاف، ولو كانت أمثال هذه الفرائض تخصص بفريقٍ دون فريق لقد كان الأحرى أن يخص صيام الطعام والشراب بمَن يحسبون الإمساك عنهما عظيمة مأثورة، وتضحية شاقة، وامتحانًا عسيرًا للإرادة، ورياضة للنفس على مغالبة الأهواء، وليست الأهواء كلها من شهوة الطعام والشراب، ولكنها كثيرة مستدقة قد يعجز عن مكافحة أضعفها مَن يقوى على الصوم شهورًا وأعوامًا ولاءً بلا انقطاع.

ولم يكن أصل الصوم في نشأته الأولى رياضة للجسم أو للنفس على شيءٍ من الأشياء، ولكنه على الأرجح بقية من «عبادة الموتى» نشأ أولًا من استشعار الحزن لفراقهم وترك الطعام والشراب بعدهم ساعات أو أيامًا، إلى أن تهدأ سورة الحزن وتبرد لذعة الألم، ثم صارت للحداد أيام معدودة وشعائر معروفة وأصبح الصوم الطبيعي الذي لا كلفة فيه ولا مشقة صومًا مقررًا في العُرف والعادة، ثم اصطبغ بصبغة الدين حين عبد الناس آباءهم الغابرين، وأقاموا لهم القبور والهياكل والكهانات، فانفصل شيئًا فشيئًا عن مَنشئِه الأول واستقل على توالي العصور عن شعائر الحِداد، وإن كنا نرى إلى اليوم أن الحِداد يتبعه الصوم عن كل الطعام أو عن بعضه أحيانًا إلى أمدٍ يختلف بين الناس حسب اختلاف العادات.

ولما ثبتت الكهانات وتفرغ النُسَّاك للعبادة كان الصوم أحد رياضاتهم الأولى التي راضوا بها نفوسهم على التقشف والزهد في الحياة وممارسة المكروه، إرضاءً للآلهة التي كانوا يعبدونها ويتقربون إليها بالتوبة وهي لا تُقبَل في حكم الأديان كلها إلا مقرونة بما يؤلم النفس ويثقل عليها احتماله، ثم تجرد الصوم من هذه الأغراض وتَهذَّب من ضلالاته الأولى حتى امتزج بالتصوُّفِ الفلسفي والتأدب الروحي، وفرَضه بعض الفلاسفة الحكماء على أنفسهم لقمع هواها أو تهيئة مَلَكاتها الباطنة لما يسمونه حالة «الإشراق والصفاء»، التي تعينهم على الوصول إلى الحقائق واستكناه خفايا الوجود، وقد يقتدي بعضهم بالنُّسَّاك والزُّهاد فيستعين بالصوم على «إنكار الذات» ونسيان النفس تقربًا إلى الله وعُزوفًا عن ملابسات الحياة.

ولكن هل الصوم من دواعي إنكار «الذات» المتنبهة أو هو من دواعي إثباتها وتوكيدها؟ وهل هو من أسباب نسيان النفس الشاعرة وسحق كبريائها أو هو من أسباب تذكرها وتقريرها وجودها؟ أكاد أقول إن الصوم بجميع درجاته وأنواعه حيلةٌ نفسية خفية لتقرير وجودها وتوكيد عزتها ورفض كل ما يسيء الظن بها في نظر صاحبها، وما أيسر أن نعرف ذلك! حسبنا أن نراقب الحالة التي تناقض الصوم؛ لنهتدي إلى الحقيقة من المقابلة بين النقيضين، فانظر على سبيل المثال إلى أي رجل تعرفه ممَّن أرخَوا العنان لشهواتهم، وأجابوا نفوسهم إلى أهوائها، واسترسلوا في الغواية بلا رادع ولا مقاومة فهل ترى هذه الرجل «واجدًا» نفسه مُكرمًا لها أو تراه مبتذلًا نفسه فاقدًا لها في غمار شهواتها وتيار أهوائها؟ إنك لا ترى رجلًا كهذا إلا قد ارتسمت على وجهه علامةُ احتقارٍ، هي قبل كل شيء موجهة إلى نفسه لا إلى سواه ممَّن لعله يحتقرهم لأنهم يشبهونه في معيشته، ولا يهتمون في الحياة بخير مما يهتم به، وكأنه بما يبدو على وجهه من تلك العلامة يقول: إنني أعرف مَن أنتم أيها الناس؛ لأنني أعرف مَن أنا، وأعرف ما أهتم به فلا أجد هنالك ما أُجلِّه وأُوقِّره. وتلك شهادة على نفسه لا يقصدها ولكنها تنطق بدلالتها أرادها أو لم يردها، وأظهرها في ثوبها الصحيح أم أظهرها في ثوب الأنفة والكبرياء.

ولستُ أعرف معنًى ﻠ «النفس» في حالة الاستسلام والاسترسال التي نشاهدها فيمَن يلبون حاجات نفوسهم، ولا يقفون لها في شهوةٍ من شهواتها، فإنَّ حُكم هؤلاء في هذه الحالة كحُكم الخشبة المنساقة في تيار الماء أو الحجر الهابط إلى الأرض أو الريشة المتطايرة في الهواء، أي إنه هو حُكم الجماد المفقود في تِيهِ النواميس الكونية بلا إدراك ولا شعور ولا إرادة، ولا يزال الإنسان شيئًا لا نفس له ولا استقلال لكيانه حتى «يمتنع» عن شيءٍ يدفع إليه ويقف في وسط التيار الذي يحيط به، فهنالك «يجد» نفسه بعد إذ فقدها بالمطاوعة ونسيان «الذات» ويشعر بمعنى رفيع هو أسمى معاني الحياة لم يسمُ إليه إلا الإنسان بين سائر الأحياء.

فالأقرب إلى الصواب أن نقول إن الصيام بجميع درجاته وأنواعه هو إحدى وسائل النفس العديدة التي تثوب بها إلى وجودها وتستقل بها عما حولها، وإنه إذا ظهر في جوانبه بمظهر «إنكار الذات» فهو في أعمق أعماقه تقرير للذات، وإثبات لقيامها بنفسها، واستغنائها عما هو خارج عنها.

ومن التجارب المكررة عندي أنني كلما ألمَّتْ بي نوبة ضعفت وهانت عليَّ نفسي، لا أسترد الرضا عنها ولا أفلح في تسرية غُمَّتها حتى أُوفَّق إلى عملٍ معنتٍ أجرب به قُوَّتها أو رغبةٍ شديدة أُروِّضها على التغلب عليها، فإذا أفلحت التجربة اطمأننتُ إلى نفسي ورضيتُ عنها كما يطمئن المرتاب في قوة جسده حين يروِّض عضلاته بحمل الأثقال ومقاومة الشد والجذب، وكلما كانت الرغبة أشد كان التغلب عليها أفعل في طرد الشكوك، وأدعى إلى الغبطة، وأقمن أن أبيح لنفسي بعدها ما كنتُ أخشاه عليها في حالة الضعف والارتياب.

ولي صديقٌ كثير الاطلاع على كتب الفلسفة العربية صريح الفكر سديد المنطق يناقش كل شيءٍ ولا يصدق بشيءٍ قط على السماع، وأعرف أنه لا يؤمن بالأديان إيمان أتباعها بها، ولا تكاد تمضي ليلة عليه حتى يلهو بتحطيم برهان أو براهين من التي يبنيها المناطقة المتدينون ويتحصنون فيها على المنكرين، ويظل لا سلطان عليه لغير عقله المستقل وطبيعته المتينة حتى يجيء شهر رمضان؛ فيصومه صيام الأتقياء ويُحرِّم على نفسه الشراب، ويُخلِص في الصوم إخلاص من يبتغي به الجزاء، ويعتقد فيه النجاة. وكنتُ أَعْجَب لهذه الظاهرة النفسية الغريبة، وأسأله عن تعذيب نفسه في غير نية التدين أو الرياضة، وأستطلع منه العلة التي يعلل بها ذلك لعقله فيقول لي: إنني أستحي أن أُرَى في النهار مدخِّنًا أو آكلًا أو شاربًا، ولا أحب أن أضعف عن الصيام وحولي مَن يقدرون عليه.

وأسأله: فإذا خلوتَ بنفسك أَلا تشرب الماء إذا عطشت أو تأكل الطعام إذا وجدته على مقربة منك؟

فيقول لا! وهو صادق فيما يقول.

وأسأله كيف يستقيم هذا في قياسك؟ فيذكر لي أنه كان في شرخ شبابه لا يبالي أن يجهر بالإفطار حيث كان، ولكنه جنح إلى المجاملة مع السن والخبرة فأصبح يصوم أمام الناس، ويأبى أن يعترف لنفسه بمراءاتهم، فيصوم في الخلوة ويؤدي للصيام كلَّ حقه مخافة الرياء …

وهذه ظاهرة من ظواهر الصراحة التي تفر من الرياء فتقع فيه، وهي ظاهرة تبدو غريبة لأول وهلة، ولكنها في الحقيقة لا تُعَد غريبة في النفوس المتيقظة التي تراقب خواطرها، وتعتمد في تقديرها لِذَاتها على مقياسها هي لا على قياس الناس لها؛ فإن هذه النفوس تفرق أن يظهر ضعفها لها أشد من فرْقها من ظهور ضعفها لغيرها، وتستخفُّ كل ألمٍ يزيل شكوكها ويعيد اليقين — بأي شكلٍ من الأشكال — إلى سريرتها؛ إذ كان أكبر ما يهمها أن تُرضِي هي ضميرها لا أن يرضى الناس عنها؛ فهي لذلك تدراي ضميرها أكثر من مداراتها للناس، وتأبى أن تُسلِّم بأنها ضعفت أمامهم فتحمل الشدة بينها وبين ضميرها؛ لتدفع عنها مظنة الضعف، أو تقدم لها كفارة عما بدر له منه، ولا يداري الإنسان نفسه إلا إذا كانت لها مقاييس للأخلاق والحياة غير المقاييس التي يتواضع عليها الناس، وهذا — أي استقلال الإنسان بمقاييسه — هو الصراحة بعينها، وهو كما رأيت سبيل في بعض الأحيان من سبل الرياء، فما أعجب سرائر النفس، وما أكثر ما فيها من البراقع والسراديب والدروب!

ويخيل إليَّ أنَّ النُّسَّاك الحقيقيين أصدق الناس شعورًا بذواتهم، وأعظمهم رغبة في الاستقلال عمَّا حولهم والتمرد على ضروراتهم، وقد يبدأ الناسك منهم في الزهد والقناعة وشعاره في الحياة:

إذا لم تملك الدنيا جميعًا
كما تهواه فاتركها جميعًا

ولكنه قد يعلو في أفقه حتى يرى في الزهد لذَّةً إيجابية، ويطلبه لِذَاته لا لأنه وسيلته الباقية لإرضاء نفسه بعد أن أعياه إرضاؤها بأن «يملك الدنيا جميعًا كما يهواه»، بل أقول إن الزُّهَّاد الحقيقيين لا يرضيهم من «تقرير الذات» ما يُرضِي الملوك وذوي السطوة وأصحاب المطامع الكبيرة الذين يسحقون بأنانيتهم كل أنانية تنهض في طريقهم، فإن هؤلاء يرضيهم أن يتغلبوا على الناس، ويتحكموا في ظواهرهم ويقيسوا أنفسهم بمقاييسهم، أما الزُّهَّاد فلا يرضيهم هذا، وإنما يطلبون ما هو أكبر منه في السيطرة والتحكم؛ يطلبون أن يتحكموا في ضرورات الحياة ومطالب الفطرة ونواميس التكوين، يطلبون أن يذعن لهم كل شيء وأن لا يذعنوا هم لشيءٍ من قوانين هذا الوجود، وإنْ أحببتَ أن تستيقن من ذلك فمثِّل لفكرك زاهدًا شرع في الزهد، ثم نظر فألفى نفسه فجأةً قادرًا على كل ما يريد مستغنيًا عن كل ضرورة، متحكمًا في كل ناموس من نواميس الكون، أَفَتراهُ إذن يصمد على نية الزهد، أم يرى أنه أصاب الكفاية مما أراد، وأن الزهد لا معنى له مع القدرة التي أوتيها في تسخير المقادير؟

وما لنا وللفرض والتمثيل؟ حسبك أن تُلقِي بالَك إلى المعجزات والكرامات التي يرويها الناس عن الأحبار والنُّسَّاك، وما ينسبونه إليهم من خرق الطبيعة وتحريك الجبال وتجفيف البحار وإرسال الرياح والأمطار والاستغناء عن الطعام والشراب واللباس والغطاء، فتعلم طبيعة الزهد وأنها طبيعة إلهية؛ لأنها تطلب ما ليس يقدر عليه إلا «الإله»، فلا خطأ في قول القائلين إن نفس الزاهد تتوق إلى مصدرها الأول أو تسمو إلى «واجب الوجود»، ولكن الخطأ كل الخطأ أن يُقَال إنها تُنكرُ بالزُّهد ذاتَها، وتنفي عنها وجودها، فما يكون لذي وجودٍ أن يدحَض وجوده بحالٍ من الأحوال حتى الأعراض الزائلة والصور السطحية ناهيك بالنفوس الآدمية وضِيعةً كانت أو رفيعة، غير أن الفضائل تتفاوت في السعة والضيق، وفي القرب من عنصرها الأصيل والبعد عنه، فما يُسمَّى «أنانية» عند قومٍ قد يكون التضحية التي ما بعدها تضحية عند آخرين، وما يبدو كالقناعة لأول نظرة قد يكون الطمع الذي ما بعده طمع عند البحث في أصوله وغاياته، ثم إننا لا نقول إن الزُّهَّاد يفعلون ما يُنسَب إليهم من المعجزات والكرامات، أو إنهم يدَّعون فعله، وإنما نقول إن الزاهد الصادق يأنف أن يخضع لِما يخضع له الناس جميعًا عن طواعيةٍ ورضا، وإنه ليس ذاك الذي يقنع بأقل مما يقنع به الناس، وإنما هو ذاك الذي يطمح إلى أعلى وأدوم مما يطمحون إليه.

•••

ومغزى ما تَقدَّم أن الصيام — بكل نوعٍ من أنواعه وفي كل درجةٍ من درجاته — وسيلة من وسائل تقرير الذات لا يستغني عنه أحد في مزاولات الحياة، ولا بد لنا منه في كثيرٍ من الأحيان؛ للشعور بما فينا من علوٍّ على الجماد المُسخَّر واستقلالٍ عن تيَّار الضرورات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤