المعرفة

… ليس لكَ بي معرفة سابقة، لكن اسمح لي أن أسألك سؤالًا في غاية الإيجاز، وهو: يمكن للإنسان أن يفكر في الأشياء التي له عليها تأثير فعلي «وقد» يكون تفكيره وحُكمه عليها صحيحًا؛ لأنه هو المسيطر عليها. ولكن كيف يمكنه أن يحكم حُكمًا صحيحًا على الأشياء التي تسيطر عليه مثل الكون، والفضاء، والطبيعة؟ إن هذه الأشياء التي نسميها بتلك الأسماء ليست في متناول يد الإنسان بل هي على عكس ذلك لها كل التأثير عليه وعلى تفكيره، وقد يقول قائلٌ إن الإنسان له «عقل» يصل إلى حيزٍ معلومٍ من الإدراك، ولكنني أقول له إنه لو كان كذلك لما أخطأ في أمرٍ ما وأن ما نسميه عقلًا كثيرًا ما يُخطيء في حُكمه على الأشياء التي بين أيدينا، فكيف يمكنه إدراك الأشياء البعيدة بل الموهومة، وأخيرًا ما هو الخطأ؟ وما هو الصواب في التفكير؟ وما الدليل المادي الذي يقوم كميزانٍ لهما؟ هذا سؤال فأرجو إجابتي عليه ولكم الشكر والثناء الجزيل.

حبيب عوض الفيومي

سؤال الأديب الفاضل واسع الأطراف عويص الموضوع، ولكني أجيب عليه بقدر ما يسع المقام، وأقول له من مبدأ الأمر إننا لا نعلم علمًا صحيحًا مطلقًا قَلَّ أو كَثُر عن «كنه» شيءٍ قط مما في هذا الكون.

فأما إن كان المراد بالإدراك أو المعرفة أن نُلِمَّ بأوصاف وأعراض مما نحس وجوده في الكون فقد نصل إلى حَدٍّ من المعرفة ينفعنا في الحياة العملية وفي موضوعات التفكير التي ترتبط بها، وقد نصل إلى علمٍ ما عن الأشياء المحدودة وعن الكون الذي لا نعرف له حَدًّا، ويكون الفرق بين المعرفتين أن إحداهما لها مقياس من الوقائع المحدودة تُقاس به، وأن الثانية لا مقياس لها ولا فَيْصَلَ فيها بين أصول الخطأ وأصول الصواب.

وأما إن كان المراد بالمعرفة أن نَنْفُذ إلى حقائق الأشياء من وراء أوصافها وأعراضها فنحن لا نعرف معرفة صحيحة عن أي شيء في الكون فضلًا عن الكون الذي يحتوي جميع الأشياء، بل نحن لا نعرف كيف تكون المعرفة الصحيحة عند «العقل المطلق» الذي يقدر عليها ويعلو في هذه القدرة على طاقة عقل الإنسان.

•••

هناك شيء موجود وهناك عقل يعرف، والمعرفة الإنسانية هي علاقة بين ذلك الشيء الموجود وذلك العقل العارف، ولكن ما هي هذه العلاقة وكيف تكون؟ أهي انتقالُ الشيءِ المعقول بِرُمَّتِه إلى العقل العارف؟ لا ولا ريب، أم هي نفاذ العقل العارف إلى جوهر ذلك الشيء المكنون وراء العوارض والظواهر؟ لا كذلك ولا ريب، أم هي انتقالُ أوصافٍ من الأشياء إلى العقول يمكن أن يطرأ عليها الاختلاف إذا اختلفت العقول أو اختلفت الأوصاف؟ وظاهرٌ أن إدراك الإنسان هو من نوع هذا الإدراك الأخير، ومع هذا لا بد لنا من التسليم بأننا لا نعرف كيف تنتقل تلك الأوصاف ولا كيف نضع الحد الفاصل بين الوصف العارض والكنه الثابت في ذاته، ولا نعرف ما هي طبيعة القدرة التي تجعل العقل «عارفًا» ولا كيف يعرف العقل نفسه إلا كما يعرف الأشياء الأخرى التي قد يُصيب فيها وقد يُخطيء بمقياس الصواب والخطأ الدارج المألوف.

•••

لكن، هل في هذا الحكم ما يدعو إلى اليأس من الوجود؟

أمَّا أنا فأقول لا؛ لأن الوجود شيء والمعرفة المعهودة شيء آخر، وليس من طبيعة الوجود المحتومة أن يعرفه الإنسان أو غير الإنسان، فليست المعرفة هي الوجود أو الحياة وليس الجهل هو العدم أو الموت. وللإنسان في هذا الكون شأن غير أن يعرفه ويحيط بسرِّه ويدرسه بعقله على طريقته المعهودة في درس معلوماته، شأنه في هذا الكون أن يكون جزءًا منه وأن يحفظ الصلة بينه وبينه، وهذه الصلة ليست كلها من طريق العقل ولا كلها من طريق الإحساس، وإنما هي صلة أكبر من ذلك؛ لأننا لا نتصور انفصامها في حين أننا نتصور انفصام ما بين الإنسان وبين الكون من صلة العقل والإحساس.

ومن خطأ العقل أن يحتم معرفته التامة بحقائق الكون أو إنكاره البات لتلك الحقائق. إن العقل لا يفهم حقيقة شيءٍ في ذاته، فليس أمامنا إلا أن نفترض أحد فرضين: فإما ألا يكون هنالك حقيقةٌ تُفهَم، وإما أن العقل يضع نفسه في غير موضعه حين يتصدى لاستِكنَاه تلك الحقائق، والفرض الأول بعيد التصديق، فلم يبقَ إلا أن العقلَ غيرُ منوط بفهم كل صلةٍ بين الإنسان وهذا الكون الذي نشأ منه، وأن الصلة موجودة وإن لم تكن معقولة؛ إذ نحن لا نكاد نتخيل أن يكون الإنسان وليد هذا الكون بكل ذرةٍ من ذرات خلقه، ثم يخلو من الاطمئنان إلى حقائقه والإيمان بسرِّه والاتصال بكنهه.

هذه الصلة التي لا تُدرَك بالعقل هي الصلة التي ينفسح فيها المجال للإيمان والاطمئنان إلى حقيقة الكون بحكم نشوء الإنسان فيه لا بحكم سببٍ آخر. ولكي ندرك هذا المعني أقرب إدراك مستطاع نتخيل أن هناك كونًا آخر مناقضًا لتركيب الإنسان قد نُقل إليه الإنسان بطبيعته التي هو عليها، فماذا يكون؟ يكون أنه لا يستقر فيه لحظة ولا يطمئن إليه أي اطمئنان، فنقيض هذه الحالة هي الحالة التي بُنِي عليها الإنسان في كونه هذا، وهي حالة الثقة: ثقة صاحب الدار في داره، أو هي حالة العقيدة والإيمان.

وللعقل أن يأخذ مِنَّا ما أعطانا، وليس اطمئنان العقيدة من عطاياه فليدعه جانبًا وليأخذ من معارفنا ما يشاء، وهو لا يمس ذلك الاطمئنان إلا في ظاهره، ثم لا قوة له على باطنه الذي لا يسمع صوته ولا يحفل بقضاياه.

العقيدة هي الثقة بالنفس أو بالكون وليست هذه الثقة مستمدة من العقل، وإنما هي مستمدة من طبيعة تركيب الإنسان ومن كونه متصلًا بهذا الكون الذي هو فيه بِصَلة الوجود والحياة.

فهذه الثقة هي أساس العقيدة، وأما الأديان والشعائر وفروض المعرفة الأخرى عن حقائق الوجود فتلك هي الأشكال التي تتمثل بها العقيدة للفكر أو للخيال، وهذه الأشكال هي التي تخضع لنقد العقل ومقاييس التفكير.

وقد تختلف أشكال العقائد الظاهرة فتَرِد على الحس من ألف موردٍ وتلبس للخيال لبوسًا لا يلبث على حالٍ واحدةٍ، ولكن أساس العقيدة في النفس يظل بنجوةٍ عن هذه النقائض ويسلم من سطوة النقد الصحيح، كما يسلم المعني الصادق من اختلاف الكلمات التي تعبر عنه في لغات الناس ومن اختلاف الخطوط التي تُسطَّر بها تلك الكلمات.

•••

وقد بدأتُ الجواب بقولي: «إننا لا نعلم علمًا صحيحًا مطلقًا قَلَّ أو كَثُر عن كنه شيء مما في هذا الوجود.» وأختمه بأن العلم المطلق لا يدخل في حاجة الإنسان ولا في مقدوره ولا في طبيعة وجوده، وإن للفكر علمًا ثابتًا بالنسبة إليه يستطيع أن يعتمد عليه كل الاعتماد ما بقيت النسبة بينه وبين ذلك العلم محفوظة كما يقولون، فهو إذا أخطأ في فهمه فخطؤه ثمة سهل التدارك والإصلاح؛ لأن وسائله المحدودة كفء لتلك المعارف المحدودة، أما إذا هو تجاوز هذا الشاطئ الأمين إلى غمر الحقائق المطلقة فهنالك لا حيلة له ولا سلطان على أصغر شيءٍ من الأشياء ولا فرق بين الخطأ والصواب في تِيهِ ذلك الفضاء الذي لا مبدأ له ولا نهاية.

ولنُسلِّم بأن «الموجود» شيء أعم وأشمل من «المعروف»، وأن الإنسان لم يُخلَق ليعرف الوجود في حقائقه المطلقة ولكنه خُلِقَ ليكون جزءًا حيًّا منه يتصل به بِصِلات كثيرة والعقل صلة واحدة من بين تلك الصِّلات، فحسبه في دنياه أن يكون ذلك الجزء الحي المغروس في صميمها وأن تمتد صِلاتُه بها من كل طريقٍ وإلى كل غايةٍ. إنه إذا استطاع أن يُكوِّنه فقد باء من الحياة بأصدق المعرفة وظفر من الكون بأوفى نصيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤