أثر المحدث في التأليف العربي

أمامي الجزء السادس من «مهذب الأغاني» الذي يصنفه الأستاذ محمد الخضري بك ترتيبًا واختصارًا لأغاني أبي الفرج الأصفهاني، أفتحه فأجد فيه عشرين صفحة في ترجمة «ابن هرمة» أحد الشعراء من أدعياء قريش الذين أبقى ذكرهم ذلك الكتابُ، وأتصفح هذه الترجمة الطويلة فلا أعثر إلا على حديث استماحة وعطاء، أو منع وهجاء كثيرًا ما يقول فيه قولًا صريحًا إنه قد مدح من مدحهم؛ لأنه أخذ منهم أجرًا على ذلك أو هو يطمع في الأجر بعد المديح! ومن هذا الكلام قصته مع السري بن عبدالله إذ نزل به وأنشده قوله «عوجا نُحيِّ الطلول بالكثب.» إلى آخر القصيدة، فلما فرغ راويته «ابن ربيح» من الإنشاد قال السري لابن هرمة: «مرحبًا بك يا أبا إسحاق، ما حاجتك؟ قال: جئتك عبدًا مملوكًا. قال: بل حرًّا كريمًا وابن عم فما ذاك؟ قال: ما تركت لي مالًا إلا رهنته ولا صديقًا إلا كلفته، فقال السري: وما دَينك؟ قال: سبعمائة دينار، قال: قد قضاها الله جلَّ وعزَّ عنك، فأقام أيامًا ثم قال — يتشوق إلى بلده ويمدحه بأبيات هذا بعضها:

أما السري فإني سوف أمدحه
ما المادح الذاكر الإحسان كالهاجي
ذاك الذي هو بعد الله أنقذني
فلست أنساه إنقاذي وإخراجي
ليث بحجر إذا ما هاجه فزع
هاج إليه بإلجام وإسراج
لأحبونَّك مما أصطفي مِدَحًا
مصاحبات لعُمَّارٍ وحُجَّاج
أسدي الصنيعة من بر ومن لطف
إلى قَروعٍ لباب الملك وَلَّاج
كم من يدٍ لك في الأقوام قد سلفت
عند امرئ ذي غنى أو عند محتاج

فأمر له بسبعمائة دينار في قضاء دَينه ومائة دينار يتجهز بها ومائة دينار يعرض بها أهله ومائة دينار إذا قدم على أهله.»

•••

وقصته هذه مع السري مَثَل لجميع قصصه مع الأمراء والعظماء، لم يصنع في حياته إلا أن يستجدي ثم يمدح أو يهجو بكلامٍ كذلك الكلام الذي قرأته لا براعة فيه ولا صناعة، فما الذي أبقى ذكر هذا الرجل اثني عشر قرنًا بعد موته؟! وبِمَ استحق أن نسمع اليوم اسمه وأن يسمع به مَن تَقدَّمنا بعد القرن الثاني للهجرة إلى الآن؟ وكيف هان الخلود هذا الهوان فبلغه مثل ابن هرمة وهو أغلي ما تسموا إليه الهمم وتصعد إليه الأبصار؟! أبهذا الشعر الذي لا خير فيه؟! أم بِقَدْرٍ كان له يرفع من قيمة الشعر ما فاته من رفعة الإجادة؟! أم بمهابةٍ لشخصه تُغنِيه عن مهابة القدر وبلاغة الشعر؟! لا، فإن ابن هرمة كان دعيًّا منبوذًا في نسبٍ منبوذٍ من أنساب قريش، ولعل أظرف ما في ترجمته ما رواه الكتاب إذ رُوي أنه نزل بعبد الله بن حسن في البادية وجاءه رجل من أسلم «فقال ابن هرمة لعبد الله: أصلحك الله، سَل الأسلمي أن يأذن لي أن أخبرك خبري وخبره، فقال له عبد الله بن حسن: ائذن له، فأَذِنَ له الأسلمي.»

«قال إبراهيم: إني خرجتُ — أصلحك الله — أبغي ذودًا لي فأوحشتُ وتضيَّفتُ هذا الأسلمي فذبح لي شاةً وخَبَزَ لي خبزًا وأكرمني، ثم غدوتُ من عنده فأقمتُ ما شاء الله، ثم خرجتُ أيضًا في بغاء ذود لي فأوحشتُ فضفته فقراني بلبنٍ وتمرٍ، ثم غدوتُ من عنده فأقمتُ ما شاء الله، ثم خرجتُ في بغاء ذود لي فقلتُ لو ضفت هذا الأسلمي فاللبن والتمر خيرٌ من الطوَى، فضفته فجاءني بلبنٍ حامضٍ …!

فقال الأسلمي: قد أجبته — أصلحك الله — إلى ما سأل، فسَلْه أن يأذن لي أن أخبرك لم فعلت.

فقال: ائذن له؛ فأذن له، فقال الأسلمي: ضافني فسألته مَن هو؟ فقال لي رجل من قريش، فذبحت له الشاةَ التي ذَكَرَ، ووالله لو كان غيرها عندي لذبحته له حين ذكر أنه من قريش، ثم غدا من عندي وغدوتُ على الحي، فقالوا: مَن كان ضيفك البارحة؟ قلتُ رجل من قريش. فقالوا لا والله، ما هو من قريش، ولكنه دعيٌّ فيها! ثم ضافني الثانية على أنه دعيٌّ من قريش فجئته بلبنٍ وتمرٍ وقلت دعيُّ قريش خيرٌ من غيره، ثم غدا من عندي وغدوتُ على الحي فقالوا مَن كان ضيفك البارحة؟ قلتُ: الرجل الذي قلتم عليه إنه دعيٌّ من قريش. فقالوا لا والله، ما هو بِدَعيٍّ من قريش ولكنه دعيُّ أدعياء قريش! ثم جاء لي الثالثة فقريته لبنًا حامضًا ووالله لو كان عندي شر منه لقريته إياه … فانخذل ابن هرمة وضحك عبد الله وضحك جلساؤه معه.»

فهذا نسب ابن هرمة، أما منظره فلم يكن مهيب الشخص لا في نفسه ولا في جسمه؛ لأنه كان ضعيف الحال وكان كما وصفه الكتاب «قصيرًا دميمًا أريمص» فلا شأن لنسبه ولا شأن لِشِعره ولا شأن لشخصه كما رأيت. فبأي معجزةٍ نجا اسم هذا الرجل من غمار النسيان الذي طما على أسماء الملايين من أبناء تلك القرون الاثني عشر، ثم وصل إلينا فعلمنا في زماننا هذا أن إنسانًا اسمه ابن هرمة ظهر فوق هذه الأرض وتحت هذه السماء قبل ألف ومائتي سنة؟! وحفظنا له كلامًا قاله وأخبارًا حدثت له بين مَن نحفظ لهم الكلام ونروي عنهم الأخبار؟! لا تقل إن له شعرًا تسلل في جانب أخبار الغناء التي أوردها الأصفهاني فيما أورد؛ فبقي بذلك ذكره وخلص إلينا اسمه ولم يرزح تحت زحام الأسماء التي يصيبها الكلال والإعياء في أشواط القرون. فليس هذا سبب بقاء اسم الرجل؛ لأن كتاب الأغاني أثبت له أخبارًا مسموعة غير شعره، ولأن الأصوات المائة التي اختارها ذلك الكتاب بتراجمها وقصصها وأشعارها لم تكن كل ما غنَّى به المنشدون في الدول العربية إلى عهد أبي الفرج، فابن هرمة كان معروفًا إذن بغير كتاب الأغاني ومختارًا بغير اختياره، وكان ابن الأعرابي يقول خُتم الشعر بابن هرمة …! ولا بد من سببٍ آخر غير الغناء وغير رواية الكتب جَعل اسمه بين الأسماء الطافية على عباب التاريخ، ولم يرسب به إلى أعماق النسيان التي هوى إليها مَن هو خير منه وأولى بالبقاء.

أما ذلك السبب فما أظن إلا أنه هو هوان قدره الذي حسبنا أنه كان خليقًا أن يُعفي على أثره ويغض من شعره، فإن هذا الهوان هو الذي سَهَّل له أن يتجرد لكسب الرزق من الاستجداء بالشعر ولا يبالي اللوم على عرضه ولا على قومه، وما دام قد تجرد لنظم الشعر في مدح قوم وهجو آخرين فله من «الحياة البدوية» كفيل بالعيش الميسور والذكر بعد الممات؛ إذ كانت هذه الحياة قد جعلت الثناء غاية مجد الماجدين وجعلت رواية الأخبار غاية حكم الحكماء وعلم العالِمين.

فأما حب البدو الثناء بألسنة الشعراء فقد جمعوا فيه كل ما فطر عليه الناس من حب الفخر والشهرة والخلود فقام لهم مقام التاريخ و«الرأي العام» والتماثيل وكل ما يُحفَظ به الذكر من الأنباء والآثار.

وأما الرواية فهي غاية العلم عند العرب؛ لأنهم قومٌ رُحَّل لا زُبدة لأعمارهم — بعد أن ينفقوها في ارتياد الكلأ ونقل المتاجر من باديةٍ إلى أخرى ومن حاضرةٍ إلى غيرها ومن حي إلى حي — إلا هذه الزبدة من تواريخ الناس وعبر الحوادث وتجارب الأيام وقصص المشهورين والمغمورين، فَمَثَلُ الحياة التي أُنفِقَت عندهم فيما يفيد ولم تذهب سُدى في غير طائلٍ هو حياة الرحالةِ الذي يعرف ما لا يعرف سواه من أنباء كل قبيلةٍ ووقائع كل جيلٍ، ويطرفك بالخبر كلما كان بعيدًا منسيًّا كان ذلك أدل على وفرة علمه وطول تجربته، ومَن كان له هذا العلم وهذه الحنكة فهو الحكيم، وهو الواعظ وهو الراوية وهو «المحدث» الذي يُصغَى إليه وتُلتمس المعرفة عنده.

ولما تحضَّر العرب وقامت دولتهم في المدن كان جلساء الملوك في السمر والمنادمة كلهم من «المحدثين» باللسان أو ممَّن يؤلفون الكتب للتحديث في الورق، فغير عالم ولا مُطَّلِع في رأيهم مَن يغيب عنه خبر في قبيلةٍ أو بطنٌ من بطونها، أو مَن يُسأل عن شطرة بيت قالها شاعر في ذي خطر فلا يكون له معرفة بها ونادرة عنها. وظلت هذه بضاعة الأديب العربى أو «الفقيه الأدبي» إلى سنوات مضت نذكرها ونذكر كيف كان الأدباء — ممَّن لا يزال بعضهم على قيد الحياة — يرودون المجالس بأساطير القبائل وأقاصيص الأعراب وصغائر الأنباء عن البائد المغمور منهم قبل النابه المشهور، ثم لا ينسون بين حينٍ وحينٍ نادرة من نوادر الكرماء المحمودين الذين يجزون بالألف على القصيدة يُمدحون بها ويمنحون الضيعة في الكلمة يستفسرون عنها، ولولا هذا «التحديث» الذي غلب على التأليف العربي والآداب العربية والذي يغري بإجزال العطاء للمؤلفين والأدباء؛ لَمَا بقي لابن هرمة وأضرابه أثرٌ في الأغاني ولا غير الأغاني ولا سمعنا عالمًا يباهي بالغريب كابن الأعرابى يقول إنه كان خاتم الشعراء.

•••

وليس ابن هرمة بالشاعر الوحيد الذي استدرَّ العطاء بالثناء، فهذه سُنَّة غالبة بين شعراء العرب في البدو والحضر، وندر بينهم مَن لم ينظم الدواوين الكبيرة في هذه الأغراض، إلا أن الأكثر من هؤلاء كسبوا الشهرة والذكر بغير ما كسبوا به المال ورويت لهم حسنات شعرية — قَلَّت أو كثرت — تحفظ لهم أسماءهم بعد موتهم ولو لم ينظموا حرفًا في المدح والهجاء. ومنهم مَن لا يُعرَف له اليوم شيء من مدحه وهجائه غير ما يُراجَع في صفحات الكتب أو يستظهره الدارسون والحُفَّاظ. فهم شعراء ثم مستجدون بعد أن كانوا شعراء، أما ابن هرمة وأضرابه فإنهم مستجدون من مبدأ الأمر ثم نظموا الشعر؛ لأنه أداتهم في صناعة الاستجداء، وهم خلقه المحدث وحده ولا مكان لهم في سجل التاريخ بغير إذنه.

•••

ولكن لا يُفهَم من هذا أننا لا نقرأ في الأغاني أو في المهذب إلا شعرًا كشعر ابن هرمة أو ترجمة كترجمة حياته القاحلة العقيم، فإنما قصدنا إلى العبرة من سيرة إنسانٍ كهذا بقيت اثني عشر قرنًا وكان كثيرًا عليه مسافة عمره من المولد إلى الممات!

وأردنا أن نرى كيف تقتحم الصغائر مكانها الفسيح بين العظائم حتى في ساحة التاريخ وأمام عرش الخلود! ولا حاجة بنا بعد ذلك إلى تنويهٍ بأغاني أبى الفرج أو بمُهذَّبه المختصر؛ فقد أضاف به الأستاذ الخضرى عملًا جديدًا إلى أعماله النافعة في الأدب والتاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤