الأشكال والمعاني

قلتُ في مقال «الزهر والحب» إن شكل الزهر «قد يعجبنا منه التنسيق البديع أحيانًا كما يعجبنا التنسيق في كل شيء، ولكن الذي يعجبنا منه حقًّا فيما أعتقد هو الدلالة التي يرمز إليها لا التنسيق الظاهر الذي قد يتفق لبعض الأزهار وقد لا يتفق، وأول ما تدل عليه الزهرة الغضارة ثم اللهفة التي ترافق في الذهن ذكرى زوالها السريع، فكأنما هي بشكلها الغضير الرقيق رمز إلى فرصة العيش التي تنادي الناس باغتنامها وتذكرهم بسرعة فراقها …»

وقد لقيني أديب المشغوفين بالتصوير فناقشني فيما أردتُ بهذه العبارة، وكان مَنحى فِكرِه أن الجمال كله «شكلي» لا سيما الجمال في الفنون، وأن الفن كالشريعة «لها الظاهر» كما يقول الفقهاء … وهو رأي يقول به بعض محبي الجمال الصادقين في حبهم إياه، ولكني أحسبهم يُشغلَون بلذة النظر إليه عن الإنعام في أسبابه ودلالاتِه أو يصعب عليهم أن يجمعوا للجمال «نظرية» واحدة يفيئون إليها بتعليل كل ما يعجبهم من محاسن الأشكال، فيأخذون كل شكلٍ على حدته ويظنون الجمال عالقًا به لذاته لا لمعنى ينطوي عليه أو لدلالةٍ يشير إليها، وربما صعب علينا أن نحيط ﺑ «نظرية» وافية للجمال تفسره في كل صورةٍ وكل لمحةٍ، ولكني لا أرى ذلك مانعًا لنا من القول في غيرِ ما تَحرُّزٍ ولا استثناء بأن الجمال في الفن والطبيعة معنويٌّ لا شكليٌّ، وأن الأشكال لا تعجبنا وتجمل في نفوسنا إلا لمعنًى تحركه أو لمعنى توحي إليه، لا فرق في ذلك بين أشكال الوجوه الآدمية والأعضاء الحية وبين ما دون ذلك من الصور التي تخفى فيها معاني الحُسن أو تبعد الشُّقة بينها وبين ما توميء إليه.

فالوظيفة في الحياة تسبق العضو الذي يمثِّلها، والجسم الإنساني نفسه لا يسعك أن تتصوره إلا مُعبِّرًا عن فكرةٍ أو وظيفةٍ مجرَّدةٍ، ولا قيمة للأعضاء في ذواتها بغير الفكرة التي تعبر عنها والوظيفة التي تؤديها، فلا فرق في الشكل مثلًا بين بروز الحَدَبة على ظهر الأحدب وبروز النَّهدِ على صدر الكعاب، ولكنَّ الحدبة معيبة والنَّهد مستجمل مرغوب، وما ذاك إلا لاختلاف المعنى بينهما لا لاختلاف الشكل والصورة، ولتباين الوظيفة التي يمثلها كلاهما لا لتباين الحجم والبروز، وقد يُعَاب بروز النَّهد كما يُعَاب بروز الحدبة إذا كان في شكله ما يخل بمعنى الصحة والشباب الذي يُستَجمَل لأجله؛ إذ من البداهة أننا لا نحب وزنًا من اللحم والدم ولا رسمًا من الهندسة ولا حيزًا في الفضاء حين نحب الصدر الناهد المفعم في شكله البارز المستدير، ولكننا إنما نحب الفُتُوَّة والصحة والنضج ويقظة العاطفة وما إلى هذه المعاني من خوالج النفس ووظائف الحياة.

وما من شكلٍ نراه إلا يختلف موقعه في الذوق بحسب اختلاف الدلالة التي يدل عليها والوظيفة التي يقوم بها، فمن ذاك أن الضمور واليبس معيبان في عامة الأحياء غير أننا لا نعيبهما في كلب الصيد الهزيل المعقوف، الذي لصق بطنه بظهره ودقت أطرافه وكادت تعرى من اللحم أعضاؤه؛ لأننا إنما ننظر إلى ما وراء ذلك من خفة الحركة وسهولة العدو ورشاقة الخطو، ونغفل عن شكل «الهيكل العظمي» المتمثل لأعيننا حين نرى أمامنا حركةً جميلة حرة منبعثة بلا وناء ولا عائق متلبسة بجسد ذلك الحيوان الذكي السريع. ولو تأملنا في سِرِّ ما يعجبنا من حركة الجواد الجميل حين يرفع عنقه ويشيل بذَنَبِه، ويتبختر في مشيته لعلمنا أننا إنما نعجب بالمرح والنشاط وامتلاء الوظائف بالحياة واغتباط الحياة الشاعرة بنفسها؛ إذ تبدو لنا مجسمة في الصورة التي توائمها والهندام الذي يطاوعها فيما تريد.

ومَن تعوَّد النظر إلى المعاني الباطنة وراء الصور الظاهرة استطاع أن يخلِّص فكره وقلبه من قيود ذلك التحتيم الضيق الذي يخيِّل إلى أكثر الناس أن جميع ما نحسه من هذه الأشياء إن هو إلا قوالب مصبوبة أبدية لم تكن قط على غير الصورة التي نحسها، ولن تكون أبدًا على غيرها … كأنما كل صورةٍ وجودٌ قائم بذاته لا يدل على معنى ولا يتغيُّر بتغير المعاني التي يدل عليها، وليس أشأم على العقل والنفس ولا أبطل لعملهما من حصر كل شيءٍ في صورته، وحبس كل شيءٍ في ظاهره وافتراض أن الصور سابقة للمعاني في ترتيب الوجود كما أنها سابقة لها في ترتيب المشاهدة والإدراك؛ فإن الحقيقة التي لا جدال فيها أن العقل المطلق لا يرى وجهًا ما لتحتيم صورة من الصور دون غيرها، ولا يمنع أن تظهر الحياة نفسها في ألوفٍ من الأشكال المختلفة غير أشكال الآدميين والأحياء المألوفة في الأرض التي نسكنها، وكم ذا يختلف الإنسانُ عن الإنسانِ في اللونِ والحجمِ والإدراكِ والعمر وسائر المزايا والصفات؟ وكم قد اختلف الإنسان في حاضره عمَّا كان في ماضيه البعيد المجهول أيام الوحشية والهيام بين الآجام؟ فما كانت صورة «الحياة الإنسانية» واحدة في زمنٍ من الأزمان، ولا هي بالقالب المصبوب الذي لا يقبل التغيير ولا يأذن بالزيادة والنقصان، فلقد كانت هذه الحياة قابلة لأن تظهر في جسمٍ ليست له هذه الجوارح التي تتمثل بها وظائفنا الآن، وقد كانت عسية أن تسلك في تجسدها مسلكًا غير الذي سلكتهُ واستقامت عليه من قديم العصور، وما أكثر الأعين التي نراها في الحشرات والدواب والطيور والأسماك وغيرها من أنواع الأحياء وأجناس الأنواع وفصائل الأجناس! ثم ما أكثر الاختلاف بينها في الألوان والأشكال والمواقع والتراكيب! ولكن هل «النظر» في ذاته إلا وظيفة واحدة تستخدم جميع تلك الآلات وتبدو في جميع تلك الأشكال؟!

وقد سألتُ نفسي كثيرًا: هل يُنتَظر في مستقبل الأجيال البعيدة أن يتغير جسم الإنسان عن تركيبه الذي صار إليه أو هل يُرجَى أن يستفيد من ذلك التغيُّر جمالًا فوق الذي استفاده في تدرجه من أطواره الأولى إلى هذا الطور الذي هو فيه؟ والجواب على ذلك: نعم، مادام مشتاقًا إلى حرية الحركة راغبًا في الجمال؛ فإن الحرية والجمال معنيان لا ينفصلان فيما أعتقد ولا يتم أحدهما بمعزلٍ عن الآخر، وإخال أن الإنسان كان موشكًا أن يزداد جمالًا في الجسم واتساقًا في الهندام لولا اختراع الآلات والاستعانة بحِيَل الصناعة، فإنه كان يصبو إلى حرية الحركة فيعتدل قوامه وتنطلق وظائف جسمه وتزداد قدرته على استخدام أعضائه، فلما اخترع الآلات أصبح اعتماده على الفكر لا على الجسم في بلوغ ما يصبو إليه من سرعة الحركة واتقاء عاديات الطبيعة، وسَهُل عليه أن ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، وأن يطير في الهواء وأن يغوص تحت الماء دون أن يتحسَّن جسمه أو تزداد حرية أعضائه ولباقة وظائفه، ولستُ أظن الجسم الإنساني استفاد شيئًا يُذكَر من الحُسن بعد أن ناب فِكْرُه مناب جسده في حرية الحركة والاستعداد للكفاح والتصون من أخطار الطبيعة والأحياء.

وفي النظر إلى الأحياء بهذه النظرة بابٌ من المتعة الفنية لا يُوصَد، وطريقٌ من اللذة الحسية لا نهاية له؛ ففي وسعك أن تحول الدنيا في كل لحظةٍ تختارها إلى متحفٍ لا عِداد لبدائعه ولا حائل بينك وبين آياته وروائعه، ولبيان ذلك هَب أن طائفًا من السماء طاف بالأرض كما طاف بمدينة النحاس في «ألف ليلة وليلة» فترك كل مَن فيها أصنامًا من المعدن أو الرخام كالأصنام التي ينقلها الفنانون عن نماذج الحياة، أفلا ترى حينئذٍ بين يديك متحفًا فنيًّا حافلًا بالتماثيل لا تميزه عن أبدع ما صنع الصانعون ولا تَملُّ النظر إلى صوره ومعانيه؟ فاعلم أن هذا المتحف بين يديك في كل ساعةٍ إن شئتَ أن تستجلي أصنامه وتماثيله؛ فابدأ حيث بدأت في الطريق تجدها ماثلة أمامك تعرض عليك صورًا لا تُحصَى ومعاني لا تنفد غير أنها تجمع إلى جمالِ الفن جمالَ الحياة وتتحرك في ثيابٍ من اللحم والدم بدلًا من أن تسكن في ثيابٍ من المعدن أو الرخام …

ومتى التمستَ المعاني الباطنة من صور الناس الظاهرة فقد طابت لك الفكاهة وانفتح لك كنز التصور والخيال، هذه صورة آدمية لو أُعيد خلقها في مصنع الحياة لخرجت منه ملكًا سماويًّا لا ينقصه حتى الجناح الذي تستعيره من لطافة روحها وطهارة أحلامها، وهذا آدميٌّ آخر لو أُعيد خلقه في ذلك المصنع لخرَّج منه نمرًا لا تنقصه حتى البراثن التي يستعيرها من شراسة طباعه وضراوة أخلاقه، أو لخرَّج منه حمارًا تام الخلقة لا تبقى من جسمه ولا نفسه فضلة بعد خلق الحمار … فليست العبرة إذن بالصور الظاهرة وليست هي الفاصل بين درجات الأحياء وأنواع المخلوقات، وإنما العبرة بالصفات التي ترتسم عليها والمعاني التي تحمل شعارها، حتى لقد تكون تلك الصفات والمعاني طائرًا شاديًا في فطرةٍ آدميةٍ أو تكون ثعبانًا قاتلًا في مسلاخ إنسان.

ومن فكاهات هذه الملاحظات أنني كنتُ ألقى صاحبًا لي يلازمه في أكثر الأحيان عشير طائش الرأي سريع البطر يجول بعينيه هنا وهناك ويختال برأسه اختيال البلهاء، فكنتُ أقول له: يا صاحبي، إن في عشيرك هذا لشبهًا بالمعيز وما أحسبه إلا جَديًا متنكرًّا في زي الآدميين … وكنا ندعوه لذلك ﺑ «المعزاوي» لا نتحرى في الكلمة صحة النسبة العربية، ولكننا نقصد الفكاهة والمزاح، ومضت على ذلك أسابيع ثم لقيني صاحبي وهو يغالب الضحك ويتكلف العتاب ويقول لي: أتذكر الشيخ فلانًا؟

قلتُ: نعم، وما خطبه؟

قال: أتذكر كيف كنتَ تدعوه ﺑ «المعزاوي» وتقول إنك لا تحسبه إلا جَديًا متنكرًّا في زي الآدميين؟

قلتُ: فماذا تستغرب الآن من ذاك؟ أَوَ قد عاد الرجل إلى أصله؟

قال: إي والله، لقد كاد أن يعود، ولقد فضحتَني معه بسبب ذلك اللقب فضيحة لا يغتفرها لي ولا أزال أماريه فيها حتى اليوم، وكنتُ دعوته منذ أيام إلى منزلي وتركته عند الباب وسبقته إلى غرفة الاستقبال؛ لأهييء المكان وأُفسِح له الطريق، ثم أطللتُ عليه من النافذة أناديه ليصعد فوجدته قد برح موقفه إلى ساحةٍ بجوار المنزل تجتمع فيها جمهرة من المعيز لا يتخلف عنها كبيرٌ ولا صغير من معيز الحي! ووقف ثمة يتأملها ويتفرَّس فيها وهو غارق في تأمله أناديه ولا يستمع للنداء … فنزلتُ إليه وأنا أعجب لأمره وصِحْتُ به مرةً بعد مرة، فأقبل عليَّ كمَن أفاق من ذهولٍ وهو يقول: سبحان الله يا أخي، إنني أحب هذه المعيز وأشتاق أن أنظر إليها حيث أراها!

قال صاحبي فذكرتُ في تلك اللحظة لقبه بيننا، ونظرتُ إلى وجهه ولمحة عينيه والتفاتة رأسه وسحنة وجهه، فوالله لكأنما رأيته لأول مرة في تلك الصورة وكأنما مُسِخ أمامي لتوِّه جَديًا ذا أظلافٍ وذَنَبٍ، فانفجرتُ ضاحكًا وتحاملتُ مكظومًا وهو يستغرب ذلك ويلتفت إليَّ بدهشةٍ وكبرياء تزيدان وجهه شبهًا بالمعيز … فأكابد من مغالبة الضحك ما لا يُطاق، وأحاول أن أتعلل له بسببٍ يقبله فلا يلهمني الله سببًا مقبولًا، ثم صعدنا وقد بدتْ عليه بوادر الغضب فاعتذرتُ إليه بما حضرني وظللتُ يومها كلما خطر لي ذلك الخاطر صرفته عني بجهدٍ جهيدٍ، وتحاشيتُ أن أقابل وجه الرجل لئلا تقع عيناي على عينيه فتعاودني نوبةٌ من الضحك لا أدري كيف أفسرها له، ولكنه لحظ عليَّ ارتباكي وتحاشيَّ النظر إليه، وسلَّم عليَّ إذ فارقني وهو حائرٌ من أمري وأمره غاضب عليَّ غضبًا أذهله عن توديع المعيز وهو يمر بها في منصرفه.

قلتُ هذه قصة لو عثر بها قدماء الهنود لقرأناها في كتبهم برهانًا وجيهًا بين براهين تناسخ الأرواح.

•••

وبَعدُ، فأرجو ألَّا يفوت القاريء ما قصدتُ إليه من هذا الاستطراد والتشبيه، فإنما أقصد أن الجمال لا يقوم بالأشكال المفرغة من المعاني ولا يتجلَّى للحِسِّ وحده دون القريحة، بل الشكل الجميل هو أداة المعنى إلى الظهور وشأنه أن يتلاشى ساعة يبرز لك معناه، وأن يُنسيك نفسه كل النسيان حين يخلص بك إلى ذلك المعنى المجرد، فأحسن الأشكال وأوفقها هو الشكل الذي تتخطاه إلى دلالته، وعالم الفن على هذا هو عالم المعاني المجردة لا عالم الأشكال الملموسة، وما الفنان إلا ذلك الإنسان الملهم الذي يُوفَّق بفطرته لاختيار أشكال تُبرِز المعاني وتخلو من العيوب التي تحجبها عن الخواطر، أو هو ذلك الإنسان المُلهم الذي يُوفَّق لاختيار الأشكال التي تُنسِينا الأشكال وتؤدي عملها، وما عملها إلا أن تساعد المعنى على الظهور، لا أن تشغل الناظرين بالظواهر عما وراءها من المعاني والدلالات، وقد استحبُّوا البساطة في الفن واستدلُّوا بها على الطبع؛ لأنها شفافة عمَّا وراءها لا تعوق معناها عن الوصول إلى الخاطر بعقبات التكلُّف والتزويق وحواجز الأوضاع والتقاليد، والجملة البليغة هي الجملة التي تبلغ بك إلى فحواها بلا مبالغةٍ في التحلية تشغلك بصياغتها عن دلالتها، ولا قصور في التعبير يقف بك عند ألفاظها فيُثنِيك عن مضامينها، وكذلك قل في الصورة البليغة والزهرة البليغة والوجه البليغ.

رأيتُ منذ أيام صورة «الأم والابن» للمصور الإنجليزي ﻫ. و. دافيس، وهي صورة فرس مرضع ترأم مُهرها الصغير، فما تمثَّلت حين رأيتها إلا «الأمومة وحنانها وتضحيتها» بغض النظر عن الأم هل هي امرأة أو فرس، وعن الولد هل هو طفل أو مُهر، ولو وضعَ المصور في موضع الفرس والمهر أمًّا آدمية وطفلها لَمَا اختلف شعوري بها في جوهره؛ لأنني إنما رأيتُ الحنان الماثل في الصورة وتجاوزتُ الشكل الظاهر إلى ما وراءه، أو لعل صورة الفرس والمهر أبلغ في تمثيل الحنان؛ لأننا نستغرب أن تحل هذه العاطفة في قلب حيوان أخرس فيكون عطفُنا عليه ألذ وأعظم، وتأملُنا في عجائب تلك العاطفة داعيًا إلى الإمعان في الشعور بها والتعمق في استحضارها، وتلك هي بلاغة المصوِّر الذي أُلهِم أن يختار ذلك الشكل لتمثيل الحنان في أبلغ مظاهره وأعجبها، فآثر صورة الحيوان في تمثيله على صورة الإنسان.

وربما بدا هذا «التجريد» غريبًا لبعض الذين ينتحلون المادية ويغرقون فيها على غير بصيرةٍ، وربما عجبوا من هذا الولع بالمعاني المجردة، وهذا الاستخفاف بالأشكال الملموسة في كلامٍ لا يُراد به التصوف ولا يُكتَب في مباحث التعبُّد، ولقد كان من حق المنتحلين للمادية أن يعجبوا هذا العجب قبل جيلٍ أو نصف جيل، فأما اليوم فأي حقٍّ لهم في ذلك، وقد ذهب العلم بتجريد المادة إلى حد القوة الخفية والحركة المطلقة، وأصبحت الأجسام في أصولها فرضًا يقرب من فرض الأثير أو هو أعجب في التصور من الأثير؟! وَهَبِ العلم لم يذهب إلى شيءٍ كهذا فأي عقلٍ سليمٍ كان يستطيع أن يُفرِّق بين تعريف القوة وتعريف المادة عند النظر إلى حقائق الأشياء؟ فكل تعريفٍ صحيحٍ للقوة تدخل فيه المادة بكل شكلٍ من أشكالها وكل طبيعةٍ من طبائعها؛ إذ نحن لا نفرِّق بين المادة والقوة بأن الأُولى جامدة والأخرى غير جامدة، ولا بأن الأولى محسوسة والأخرى غير محسوسة؛ فإن هذا تفريق لا يمس القوى والأجسام في جواهرها ولا يتناول الأشياء في ذواتها، ولكننا إذا عرَّفنا القوة بأنها هي كل ما يقاومك إذا اعترضته فقد نرى إذن أن القوة والمادة حقيقة واحدة أو أنهما كلمتان مختلفتان لمعنًى لا اختلاف فيه.

ومتى كانت المادة نفسها قوًى معنوية تتعارض فتبرز للحس والعيان؟ فأي عجب في أن يكون «الجمال» معنًى حرًّا وإنه لأقرب في النفوس إلى التجريد والتنزيه؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤