الأسلوب الإفرنجي

الأسلوب الإفرنجي هو كل أسلوبٍ معيبٍ في رأي فئة من النقاد يحسبون في هذا العصر أنهم حذقوا مَلَكَة اللغة ووَرِثوا سليقة البلاغة العربية، وكل أسلوبٍ ركيك مُستَضعفٍ فهو عند هؤلاء النقاد من الأساليب الإفرنجية التي طرأت على اللغة بعد اختلاط الشرق بالغرب ومعالجة الترجمة من لغات الإفرنج إلى لغة العرب، كأن الركاكة شرطٌ أصيلٌ يشترطه الإفرنج في كلامهم ولا يقرُّون البلاغة عندهم إلا إذا شيبت بشيءٍ منه! وليس الأمر كذلك ولا هو مما يخطر على بال ناقد رشيد؛ فإن الإفرنج يعيبون الركاكة كما نعيبها، وينتقدون ضعف التأليف كما ننتقده، ويعنون أشد العناية باجتناب الخطأ في النحو والصرف والقواعد الأساسية المُتَّفَق عليها، ولكن نقادنا الذين يجهلون اللغات الإفرنجية يفوتهم ذلك ويختصرون المسافة إذا استعرضوا الأساليب، فما استحسنوا منها فهو للعرب خاصةً وما استهجنوا فهو للإفرنج عامةً! ويحسبون أن الصحيح القويم من العبارات لا يمكن أن يكون إلا عربيًّا، وأن السقيم المعوج منها لا يمكن أن يكون إلا أعجميًّا، بطبيعة في اللغات لا تتحول عنها، ولا يد فيها للمتكلمين بمفرادتها وتراكيبها، وهذا هو الخطأ الذي نود أن نكتب عنه؛ لنرد العيوب إلى أصولها ونوجِّه بنقد الأساليب إلى وِجهةٍ أقرب إلى الهداية وأقمن بالتوفق للأسباب الصحيحة.

•••

كان قُرَّاء اللغة العربية وبعض اللغات الإفرنجية يحسبون أن كثرة الفصل بين الجمل خاصة من خواصِّ الأسلوب الإفرنجي تطرقت إلى لغتنا من الترجمة أو من محاكاة كُتَّاب الغربيين في رصف الجمل وتقسيم العبارات، ولستُ أشك في أن الإفرنج أقل منَّا استعمالًا لحروف العطف والصلات اللفظية الظاهرة وأن بعض المقتدين بهم نقلوا عنهم هذه العادة إلى الكتابة العربية فأحسنَ منهم مَن أحسنَ وأساءَ منهم مَن أساءَ، ولكني أعتقد أن الفصل بين الجمل خاصَّةٌ من خواصِّ التفكير قبل أن تكون خاصة من خواص حروف العطف وصلات الألفاظ، وأرى أن كُتَّاب الإفرنج أكثر منَّا عناية بوصل المعاني وترتيب الموضوعات، وإن ظهر على ترجمة أساليبهم أنها أقرب إلى التفكك والانقطاع بين الجمل والفقرات، وأرى من ناحيةٍ أخرى أن البلاغة العربية لم تخلُ من الفصل الكثير في أساليب أفصح الفُصَحاء وأقدر الكُتَّاب والمُنشئين، بل هذا القرآن الكريم تتوالى فيه الآيات أحيانًا بلا صلةٍ لفظيةٍ بينها غير الصلة التي تُفهَم من سياق الكلام وتؤديها علامات الترقيم أحسن أداء، وسأفتح المصحف الساعة على أول الآيات التي تصادفني وهي هذه الآيات من سورة آل عمران: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وهي آيات تقع منها علامات الترقيم موقع حروف العطف في أكثر مواضع الفصل والوصل، ولا يُؤخَذ عليها ذلك عند قارئٍ من قُرَّاء العربية الأقدمين أو المحدثين، وقد حفظها الناس ومثَّلوا بها للبلاغة العالية قبل أن تُنقل أساليب الإفرنج إلى اللغة العربية بعدة قرون.

•••

وتارة يصفون بالتفرنج كلَّ أسلوبٍ لم يَحْذُ فيه صاحبه حَذْوَ العرب الجاهليين والمخضرمين الذي سبقوا الكتابة والكُتَّاب، وغبروا في عهد البداوة على فطرتهم الأولى البعيدة عن العجمة والحضارة.

وقد نفهم غرضهم من ذاك إذا قصدوا الرجوع إلى أسلوب النظم في الجاهلية؛ لأننا نحفظ من شعر ذلك العصر قصائدَ وأبياتًا يجتمع لنا منها نمط في الشعر يصح أن يُسمَّى أسلوبًا يُقتدَى به ويُطبَع على غراره.

أما إذا قصدوا الرجوع إلى أسلوب النثر في الجاهلية فأين هو ذلك الأسلوب، وأين هي الكتب والرسائل التي وُضِعَت فيه؟ إننا لا نروي من كلام الجاهليين المنثور إلا فقراتٍ مبتورة وأمثالًا موجزةً وخُطبًا مشكوكًا فيها هي في ذاتها فقرات وأمثال لا صلة بينها ولا وِحدة بين أجزائها، ويمكن أن نستخرج من هذه البقايا المشتتة رأيًا في ذوق البلاغة الموجزة عند العرب، ولكننا لا نستطيع أن نستخرج منها مذهبًا في الأساليب المُسهبة والمباحث المستفيضة التي تجري فيها المعاني والمعلومات شوطًا أبعد من غاية المَثَلِ السائرِ والكَلِمَةِ العائِرَة.

وليس الذي نرويه من قصائد الجاهليين بالنموذج الذي يُقتَدى به في النظم؛ لأنها في الغالب أبيات مبعثرة تجمعها قافيةٌ واحدةٌ يَخرُج فيها الشاعر من المعنى ثم يعود إليه ثم يخرج منه على غير وتيرةٍ معروفة ولا ترتيب مقبول، وفي تلك القصائد — غير التفكك وضعف الصياغة — كثير من العيوب العَروضية والتكرير الساذج والاقتسار المكروه والتجوُّز المعيب الذي يُؤخَذ من روايتهم له أن الشعر لم يكن عندهم فنًّا استقل به صُنَّاعُه الخبيرون به، وإنما كان ضربًا من الكلام يقوله كل قائلٍ ويُروَى المحكم منه وغير المحكم على السواء.

وأضعف من القول السابق في التفريق بين الأسلوبين الإفرنجي والعربي؛ أن يجعلوا من خصائص الأسلوب الأول استعمال الكلمات الدخيلة التي لم تُسمَع عن العرب في الجاهلية وصدر الإسلام؛ فإن أمثال هذه الكلمات قد دخلت في شعر الجاهلية ونثرها وفي القرآن الكريم، وسُمعَت في الخُطَب المأثورة التي نُقِلَت عن الصحابة وبُلغاء الأمويين، ولم يخلُ منها كتابٌ واحدٌ من أمهات كتب الأدب في عصرٍ من العصور، وربما وجدتَ في قصيدةٍ واحدةٍ للأعشى أو لطرفة بن العبد أكثر مما تجد من هذه الكلمات الدخيلة في قصيدةٍ عصريةٍ، ولا نذكر جماعة المتأخرين من الشعراء والكُتَّاب في إبان الدولة الأموية أو الدولة العباسية التي نُقِلَ فيها من أسماء الثياب والطعام وأدوات الزينة ومصطلحات العلوم والفنون ما قد يُربي على جميع ما نقلناه نحن في العصر الحديث.

•••

وبعضهم يأخذون على ما يسمونه بالأسلوب الإفرنجي قلة المحسنات البديعية والاستعارات المجازية يظنونها من مزايا بلاغة العرب، وهي في الحقيقة قسط مُشَاع بين جميع اللغات إذا هي صدرت عن الطبع المُرسَل ولُوحَظ فيها الاعتدال والذوق السليم، فما كان العرب أكثر مجازًا واستعارة من أمم الغرب، ولا عُهِد في بلغائهم المطبوعين الولع بهذه المحسنات التي أفرط فيها المقلدون وطلاب البلاغة على جهلٍ بأسرارها وعَجْزٍ عن التقليد الصحيح فيها، ولقد عاب النقاد والثقات الإكثار من المحسنات الصناعية وعدُّوها بدعة مستحدثة على اللغة العربية، واستحبوا فيها أن تكون في الكلام ﮐ «الخيلان في الوجنات أو كالحلية في الثياب» وأن تجيء عفوًا بلا كُلفة مصنوعة، أو تُقصَد قصدًا ولكن لتوضيح المعنى وتجميله وليس للعرض على الأنظار والمباهاة بالاحتيال والاقتدار.

•••

ولكنَّ أوجه كلامهم في اختلاف الأسلوب الإفرنجي عن الأسلوب العربي هو ما يرجع إلى الذوق والمَلَكَة؛ إذ يقولون إن للغة العرب ذوقًا خاصًّا ومَلَكَة مستسرة في تراكيبها هي أشبه شيء بالملامح الدقيقة التي تراها العين ولا يصفها اللسان، أو هي روح اللغة التي تسري في معانيها وتنتظم تراكيبها ولا تَحُدُّها الضوابط والتعريفات، وذلك كلام قديم قيل في اللغة العربية كما قيل في غيرها، وكتبَ فيه ابن خلدون فوفَّى الغرض حيث قال: «إن المتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم، وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده، فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له المَلَكَة في نظم الكلام عن ذلك الوجه، وسَهُل عليه أمر التراكيب حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب، وإن سمع تركيبًا غير جارٍ على ذلك المنحى مجَّه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر إلا بما استفاده من حصول هذه المَلَكَة، فإن المَلَكَات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة وجِبِلَّة لذلك المَحَل؛ ولذلك يظن كثيرٌ من المغفلين ممَّن لم يعرف شأن المَلَكَات أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابًا وبلاغة أمر طبيعي، ويقول: كانت العرب تنطق بالطبع. وليس كذلك، وإنما هي مَلَكَة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت وظهرت في باديء الرأي أنها جِبِلَّة وطبع، وهذه المَلَكَة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتَكَرُّرِه على السمع والتفطن لخواص تركيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان، فإن هذه القوانين إنما تفيد علمًا بذلك اللسان ولا تفيد حصول المَلَكَة بالفعل في مَحَلِّها، وإذا تقرر ذلك فمَلَكَة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجوه النظم وحُسن التركيب الموافق لتراكيب العرب ولغتهم ونظم كلامهم. ولو رام صاحب هذه المَلَكَة حيدًا عن هذه السبيل المعينة والتراكيب المخصوصة لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانُه؛ لأنه لا يعتاده ولا تهديه إليه مَلَكَته الراسخة عنده، وإذا عُرِضَ عليه الكلام حائدًا عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم، وربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما يصنع أهل القوانين النحوية والبيانية، فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء، وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم.»

فهذا الكلام على كونه غامضًا لا يصلح الاحتجاج به كما يقول ابن خلدون؛ هو أوجه آرائهم في هذا المعنى وأجدرها بالبحث والتدبر؛ فالمَلَكَة العربية هي الفارق الأكبر بين الأساليب الأصيلة في اللغة والأساليب الطارئة، ولا سيما في أنواع الكتابة الإنشائية التي تقتصر العناية فيها على صياغة الجمل القصيرة ولا يُلتَفَت فيها إلى اطراد المعاني وسياق التفكير. فإن أظهر ما تكون البلاغة العربية في الجملة القصيرة وفي الخُطَب التي هي سلك مجموع من الجمل القصيرة كما قدمنا، ولكن ما مزايا هذه «المَلَكَة العربية» ولأي شيء نحتفظ بها ونجتهد في تحصيلها؟

إن من مزايا هذه المَلَكَة ما هو مستمد من أسلوب التفكير الذي خُصَّ به الذهن العربي دون أذهان الأمم الأخرى، كالسحنة التي تُعرَف بها وجوههم واللون الذي يميز بشرتهم واللهجة التي تنطلق بها ألسنتهم، فلا فضل فيه غير أنه تفكير عربيُّ وليس بتفكيرٍ مصريٍّ أو هنديٍّ أو أوروبيٍّ، وليس من الضروري أن تكون هذه المزايا حسنة كلها، وأن يحتذي الكُتَّاب والشعراء حذوها في الصغائر والكبائر إلا إذا كان من الضروري أن نجعل لنا أنوفًا كأنوف العرب ورءوسًا كرءوسهم وأعضاء تحكي أعضائهم في الشكل والحجم والحركة، ولا يقول بذلك أحدٌ ولو كان من أشد المغالين في حب العرب والتعصب للشمائل العربية، وإنما الشأن للعادة في استحسان المزايا اللغوية التي من هذا القبيل فإذا تغيرت العادة تغيرت معها أسباب الاستحسان.

ومن مزايا المَلَكَة العربية ما يحسُن في الذوق؛ لأنه يفيد الكلام قوةً ووضوحًا ويزيد المعاني صقلًا وبيانًا، ويعصم اللسان من الإسفاف والركاكة ويمده بذخيرةٍ من أساليب التعبير ينفق منها في النظم والكتابة. فهذه المزايا هي التي نحتفظ بها ونتوسع فيها ونُضيف إليها ما يوائمها ويتمشى معها من مزايا اللغات الأخرى، ونتصرف فيها تصرف صاحب الدار في داره فلا نقف حيالها مقيدين مأسورين كأننا نترجم عن غير أنفسنا، ونلفظ بغير ألستنا ونفكر بغير عقولنا التي ركَّبها الله في رءوسنا، وما من شرطٍ في كل ذلك غير المعرفة والإحسان.

لنذكر أننا في عصرٍ «إنسانيٍّ» لجميع الناس حصةٌ فيه — وفي اللغات خاصة — فلا نحسب أن عالم القول والكتابة مستقل عن عالم الحياة الذي اشتركت فيه المعالم والأزياء وتقابلت فيه الأمم من كل جيلٍ ومكانٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤