على ظهر البحر

هَمَّت الفُلْكُ واحتواها الماءُ
وحداها بِمَنْ تُقِلُّ الرجاءُ
وتمشت على الأذى مِشْية الثمل
من نشوة الرجاء لا من نشوة الصهباء

فكأنها وهي تناهض البحر، والبحر يناجزها طَالِب يُناهِض صعاب الأمور، أو كأنها الزاهد في نفوره ووَحْشَته وسكونه وعزلته، أو كأنها الأمل إذا عَبَّ اليأس وطغى، أو كأنها الفرضات العذاب تَحُوطها الخيبة والهزيمة، أو كأنها السعي بالغًا بالمرء رغيبته، أو كأنها المحب هائمًا على وَجْهه سالكًا طريقًا عذراء، أو كأنها الفكر في سفرته فإن للفكر سفرة مثل سفرة الفُلْك.

تمشت السفينة فتمشت في الصدور والقلوب، وتحرَّكَتْ لمِشْيَتها الذكرى في الخاطر الخَرِب، وجَعَلْنا نرمي المَرْفَأ بلَحَظَات كلها حَسَرات، وزَفَرَات كلها آيات بينات، تَنُمُّ عن وُدٍّ صحيح وحُبٍّ رجيح. تلك الزفرات مفاتيح القلوب، وتلك اللحظات حبات القلوب، وكأني وأنا على ظهرها قارئ طوى كتابًا وفتح كتابًا، وبين هذا وذاك مجال للتفكير فيما قرأ قبل استئناف القراءة، فجَعَلْتُ أنشر صُحُفَ ما مضى من حياتي، فكأني مُفِيق من حُلْم لذيذ ساءه أن مضى وسَرَّه أن لا يزال يَذْكُره فينعم بالذكرى ويشقى بها؛ لأن فيها رجعة النعيم المسلوب وحسرة على فواته، وبعد أن خَلَّيْنا من الذكرى سَلْوَتَها ونعيمها بَعَثْنا بالفكر واتخذنا منه دليلًا على ما سيكون، ولو لَحَظْتَ حياتك بنظر صادق عَلِمْتَ أن ما كان وما هو كائن وما سيكون مثل الحَبِّ والزرع والمحصود، ثلاثة في واحدٍ وواحد في ثلاثة، يَنْثُر الزارِعُ الحَبَّ فيخرج الزَّرْعُ خروج الجنين من بطن أمه فإذا طاب عاد حصيدًا.

أيها البحر لَيْتَنِي موجةٌ من أمواجك أَهِيم كما أشاء، غير مسجون الفضيلة والفؤاد واليد واللسان. إني أرى الموجة تتسرب في خلال الموجة، والريح تعانق الريح، والضياء يغازل الماء، والسماء تلحظ البحر لحظات تَسْكُن في قلبه كأنها لحظات الحبيب في خاطر المحب، فترى في السماء نجومًا وفي البحر نجومًا. أيها البحر قد عَلَّمْتَنِي معنى الحب والبغض والغضب، أيها البحر أنا منك وأنت مني، فإنك مشبوب العواطف وأنا مشبوبها، فكن عليَّ رفيقًا كما يَرْفِق القرين بالقرين. إني لأنظر إليك فأرى لكل هائجة جناحاتهم به إلى السماء، وكأن الأمواج جَيْشُ وَغَى، هازم ومنهزم، وكأنَّا من البحر على ظَهْر فَرَس جَمُوح وقد خانَتْنا اللُّجُم فصارت تطغى وتَدْفَع بنا كُلَّ مَدْفَع.

ثم ارتفعت الشمس وكشف الظلام عن مَنْظَر بهيج كأنه قطعة من الفردوس، فجعلنا نتساءل: أيُّ مَلَكٍ كريم حَدَا بنا إلى هذا النعيم! رأينا — وما أروع ما رأينا — حسنات وجنات ومنظرًا هو في العين بهجة وفي القلب شجو. هنا يَهَبُ المرءُ نفسه للماء والهواء، هنا يَهْبِط الشعر وتَنْزِل الحكمة. هنا تُولَد النغمات وتحيا الأشجان وتجري العَبَرَات ويُجْهَد القلب بالخفقان. أيتها السُّحُب ما أهْيَمَنِي إلى نواحيك، وأنت أيتها الأمواج ما أشْوَقَني إلى حياة مثل حياتك!

هنا يهبط الفكر والخشوع وتَعْظُم النفس، حتى تصير كالسماءِ أعاليها وكالبحر أسافلُها وكالأفق غايتُها، والأفق كلما قارَبَتْه باعَدَكَ وكذلك غاية النفس.

هنا يُحِسُّ الرائي كأنه يحمل في نفسه بحرًا من الآمال والأشجان، وكأن البحر قَلَبَ أمواجَهُ نَبَضَاتِه ورياحَه خَطَرَاتِه، أو كأنه مخلوق كبير، تارة يروعك بزئيره، وتارة يُشْجِيك بخريره، وخرير البحر ذكرى سِنِيه الماضية، فكأن خريره هاتف يهتف في أعماق نفسه، وكأن المرء إذا امتطى البحر امتطى منه مَطِيَّة الخلد، فالبحر كالنفس فإن للبحر أمواجًا وللنفس أشجان، والبحر كالدهر، فإن للدهر أمواجًا مثل أمواج البحر، والبحر كالحياة فإن البحر يفزع كما تفزع الحياة، ولكن قلب المرء يُحِسُّ لذة فيما يُهَيِّج في نفسه الخشوع والفزع من مَظاهر الجلال، سواء جلال البحر وجلال الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤