قلوب

جاء في الأنباء العلمية أن طائفة من العلماء الروس قد لبِثت تُجاهد — حتى أفلحت — في نقل الأعضاء من حيوان إلى حيوان، فإذا الأعضاء المنقولة تفعل فعلَها في صاحبها الجديد، على نحو ما كانت تفعله في الصاحب القديم.

فهذا هو العالم «مازيف» يحدِّثنا عن نقل الساق من كلب إلى كلب، فما هو إلا أن يمشي الكلب بساقه الجديدة ويجرى ويقفز، كأن الساق كانت ساقه منذ وُلد. وليس ذلك شيئًا مذكورًا إلى جانب ما وُفِّقَ إليه العالم الأستاذ «دميكيوف» في نقل الرئتين من حيوان إلى آخر، ثم ما استطاعه أخيرًا الأستاذ «أوجنيف» من نقل القلوب، فيأخذ القلب من هذا ليضعَه في ذاك … وإنما جاهد هؤلاء العلماء ما جاهدوا؛ لينتفعوا بعلمهم عن الحيوان في عالم الإنسان.

وإذن فقد جاء اليوم الذي ينتقل فيه القلبُ من أضلُع زيد لينبض في جوانح عمرو …

•••

كان «خالد» منذ أيام الشباب الأولى حادَّ العاطفة سريع الانفعال؛ حتى توشك ألا تراه إلا محمرَّ العينين منتفخ العروق من غضَبٍ، وتكاد لا تسمعه إلا صائحًا ملوحًا بيديه وذراعيه في تحدٍّ ووعيد؛ فسماؤه عاصفة أبدًا، وبحره هائجٌ مائج أبدًا.

تصادفه المشكلات فيعالجها بالغريزة لا بالعمل، وينظر إلى الحياة نظرةً أقرب إلى نظرة الفنان منها إلى نظرة العالم، أعني أنه يواجه الأشياء في مجموعها ومجملها، ويكره أشد الكراهية أن تُطالبه بتحليل شيء أو موقف إلى عناصره، أو تعليل نتيجة بمقدماتها. اختار زوجته لا لشيءٍ سوى أنه قد سمعها مرة في لقاء عابر تقول كلامًا لطيفًا عن حوض من الزهر في حديقة. وصمم — ولو أنه لم ينفِّذْ ما صمم عليه — أن يؤلف كتابًا في موضوع معين؛ لأنه تصور العنوان فأعجبه إذا نُطق به، وأعجبه رسمه إذا كتب، حتى لقد أوصَى بهذا العنوان أن يُكتب ويُحفر، قبل أن يخطَّ من الكتاب حرفًا واحدًا، ووضع «الكليشيه» في درج مكتبه؛ انتظارًا لفراغه من الكتاب. فلا فرق عنده أبدًا بين أن تقرأ أحرف الهجاء من الألف إلى الياء أو من الياء إلى الألف، أو أن تبدأها من الوسط ثم تسير راجعًا أو متقدمًا، أعني أنه في ترتيبِه لأموره لا يعبأ أن يجيء الأول قبل الآخر. وعنده أن الطريقة الأصح في أي أمر، هي الطريقة الأجمل، والتصرف المعقول في نظَره هو التصرف الذي يُرضي أهواء نفسه ونوازع قلبه.

ولما كان «خالد» مدفوعًا في حياته بعواطفه، ثم لما كانت العواطف أقرب إلى التقلب منها إلى الدوام، رأيته سريع التنقل في فكرِه وفي فعلِه على السَّواء، فلا تكاد العاطفة تغريه بعمل ويبدأ في أدائه، حتى تعود العاطفة فتُغريه بعمل آخر؛ ولذا قلَّ أن ينجز عملًا من أوله إلى آخره؛ فحياته أقرب إلى كومة من موادِّ البناء منها إلى البناء المَشيد المرصُوص، أو هي أقرب إلى قطرات المطر التي تدق النوافذ والجدران والأرض والشجر، منها إلى نهر متَّصل المجرى متدفق التيار، يبدأ شوطه عند منبعٍ معروف؛ لينتهي مَجراه إلى مصبٍّ معروف.

وهو قلِق سريع الحركة، لا تراه مرةً واحدة يستطيع الجلوس على مقعد واحد في مكان واحد ثلاث ساعات متصلة، ويُقال إنه لا ينامُ من الليل إلا قليلًا.

لا يمنع عنده مانع أن يذهب إلى مقاول يقاوله في بناء بيت مساحته كذا وشكله هكذا، دون أن يكون في كيسه من المال ما يكفي لبناء عُشٍّ من أعشاش الطير أو بيتٍ من بيوت النمل، ولكنه يفعل ذلك إن طاف برأسه مثل هذا الحُلم الجميل، وليس من ضُرٍّ على أحد إن لم يكن بناء.

وأنت عدو من أعدائه إذا عرفت أنه بصدد مشروع فسألته: ومن أين لك المال؟ ذلك لأنه يكره العد والحساب، وله حُجَّة في ذلك ظريفة طريفة، وهي أنه قد عاش ما عاش من دَهْره لم يحسب ولم يعد، وترك أموره تجرى «بالبركة» فلم يمت من جوع أو مرض. وليست أعوامُه الباقية في الحياة بأطول من أعوامه الماضية حتى يُحسَب لها الحساب.

وهكذا ترك «خالد» زمام أمره لعواطف قلبه.

وأصابت العلة هذا القلب الفيَّاض بعواطفه، الجيَّاش بدوافعه، فلم يعُد يقوَى على الحياة الزاخرة بالحركة السريعة والتقلب المفاجئ، حتى لكأنَّ هذا القلب قد قُطعت نِياطه كما يقولون. يلهث إذا مشى الهوينا وقد كان الجري لا يكفيه. غير أن الطب قد بلغ في معالجة القلوب مبلغًا بعيدًا، فما أهون أن يُوضع قلبٌ سليم مكان قلب مريض، فاستبدل خالد عند الطبيب قلبًا بقلب.

لكن الطبيب حين يضع قلبًا مكان قلب؛ لا يعبَأ بما تحتويه هذه القُلوب من مشاعر وعواطف، فهو يريد أن يستبدل بعضلة ضعيفة عضَلة قويةً وكفى. أما هل يَعْمُر هذا القلب الجديد ما كان يَعْمُر القلب القديم من عواطف، فأمرٌ لا يعنيه في قليل أو كثير.

وكان أن حمل خالد قلبًا جديدًا، وخرج من عند الطبيب لا يدري أنه قد أصبح في الحق إنسانًا آخر؛ لأنه حمل الآن قلبًا يختلف مكنونه عن مكنون قلبه القديم.

ذهب إلى داره، وجلس إلى مكتبه، وفتح درجًا من أدراجه، فإذا عيناه تقعانِ على عنوان الكتاب الذي كان قد طلب إلى الخطاط أن يكتبه له ويحفره، وأخذ يقلِّبه بين أصابعه متعجبًا: لماذا يكون هذا قبل أن يكون الكتاب؟ وما هو إلا أن ألقى «بالكليشيه» في سلة المهملات؛ لأنه عرف الآن أن الكتاب لن يُكتب. وجاءه المقاول يقاوله في أمر البيت الذي يريد بناءه لنفسه سكنًا، فلم يستمرئ أن ينطق في الموضوع بكلمة واحدة إلا إذا تهيَّأت له الأسباب أولًا؛ فما هو اليوم بالرجل الذي كان. وبدأت تدِبُّ بينه وبين زوجته ضُروب من الخلاف لم تكن تقع بينهما فيما مضى. فهو الآن يعُد ويحسب قبل أن يذهب إلى المصيف، وكان فيما مضى يذهب إلى المصيف بغير عَدٍّ ولا حساب. وهو الآن يُفَصِّل ميزانية داره تفصيلًا، وكان فيما مضى يُنفق ما في الجيب معلقًا رجاءه بما قُدِّر له في الغيب.

لم تعُد حياة خالد تُشيع في نفسه لذةً ونشوة كما كانت تشيع فيه حياته الأولى اللذةَ والنشوة في عهد قلبه القديم؛ فليس في القلب الجديد من دُخَان العواطف ما يُعميه عن الحقائق الواقعة، والنظر بالعين المجردة إلى الحقائق العارية عن تزويق الخيال فيه مرارة وألَم، ولكنه آمَنُ عاقبةً وأسلَمُ ختامًا وأخصَبُ نتاجًا.

كان «خالد» في عهد قلبه القديم طفلًا يلهو بأحلامه لهوًا لذيذًا جميلًا، فأصبح تحت سيطرة القلب الجديد رجلًا يُواجه الواقع المرير المؤلم في شجاعة الرجال. إن أحلام القلب شهيَّة ممتعة لذيذة؛ لأننا نطبخ لأنفسنا فيها ما نشتهي، فننقص من مِلْحها وفُلفلها كما نشاء ونهوى، ونزيد من لَحْمها وأرزها كما نشاء ونهوى. وأما الواقع فعَلْقم مَرير في أكثر الأحيان؛ لأن الطعام يُقدَّم لنا معدًّا مطبوخًا على مشيئة طاهٍ سوانا، لكن الأحلام على لذَّتها من طبيعة الطفولة الغريرة، والواقع على مرارتِه من مميِّزات الرجولة المكتملة الناضجة.

النُّضْج العَقْلي معناه إدراك الواقع والاعتراف به، والعمل بمقتضاه، فيجيء العمل مُنتِجًا بقدر ما يسَع طبائعَ الأشياء أن تنتج. والعقل النيِّئ الفج هو الذي لا يُطيق النظر إلى الواقع كما هو، فيُغمض عينيه ويرسل للأحلام عنانها. ولا غرابةَ بعد ذلك أن جاء الشِّعر قبل النثر في تاريخ الأدب، ما دامت مرحلةُ الشِّعر الحالم أسبقَ من مرحلة النثر الواقعي في تاريخ الحياة، حياة الأفراد وحياة الأمم على السواء.

جَرَع «خالد» في عهد قلبه الجديد، الذي لم يُطِقْ معه أن يركِّب للواقع الثقيل أجنحةً من ريش الأحلام الطيارة الدوارة؛ جَرَعَ في عهد قلبه هذا مُرَّ الواقع وعَلْقمَه، لكنه مع ذلك تمنَّى لأمته كلها أن يُبدلها الله قلوبًا بقلوب؛ فينزع من صدورها القلوبَ الحالمة المساهمة النائمة، ليضع مكانها قلوبًا صاحية متيقظة واعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤