تمهيد

ماهية علم أدب النفس

(١) تسمية الكتاب

هذا كتاب يبحث في سلوك الإنسان وتصرفاته من حيث الدوافع التي تدفعه إليها؛ من بواعث داخلية في نفسه، ومن عوامل خارجة عنه، ومن حيث أساليبها وغاياته منها، والذرائع التي يتذرع بها إلى هذه الغايات، ومن حيث تأثير إدارته الصالحة والرديئة، وتأثير أخلاقه وأحواله فيها، ومن حيث أدبياتها صوابًا أو خطأً، وحقًّا أو غير حق، ومن حيث عواقبها على شخصيته من جهة، ومساسها بأشخاص آخرين أو المجتمع من جهة أخرى.

هذا هو موضوع الكتاب، وهو ما يُسَمَّى باللغات الأوروبية Ethics، وقد حرتُ في تسميته بلغتنا؛ لأني تحيرت في ترجمة هذه اللفظة.

ربما كانت عبارة «علم السلوك» تقاربها، ولكن عبارة «آداب السلوك» سبقتها في لغتنا الحديثة بمعنى الآداب العمومية؛ كآداب الزيارة، وآداب المائدة، وآداب المخاطبة إلخ، فأخشى أن استعمال عبارة «علم السلوك» يوهم أن المراد من الكتاب هذه الآداب العمومية، وهي غير مقصودة في هذا البحث بتاتًا. وقد استعمل الكُتَّاب الإفرنج لهذا الموضوع عبارة «الفلسفة الأدبية» أيضًا، وهي لائقة له معظم اللياقة، ولكني أستكبرها لكتابي هذا، وإن كان المراد منه تعليل المواضيع التي تقدم ذكرها بأسلوب فلسفي؛ لأني أتوخى في أبحاثه البساطة ما أمكن؛ لكي يكون ككتاب ابتدائي يصلح للتعليم في المدارس، وكتمهيد لمؤلفات أعلى في هذا العلم إذا تصدى لها مَنْ هم أوسع علمًا، وأعمق تفكيرًا، وأبلغ يراعًا.

ولأن مباحث هذا العلم مختصة بالأفعال النفسانية من الوجهة الأدبية، رأيت أن أفضل تسمية لهذا الكتاب «علم أدب النفس»، ولا سيما لأن عبارة أدب النفس وردت على أقلام كُتَّابنا القدماء وَالمُحْدَثين بما يقارب هذا المعنى، فإذا قبلها أئمة اللغة مرادفة للفظة إثكس Ethics، وهي قريبة لها أيضًا؛ شاع استعمالها بهذا المعنى ورسخت له.

(٢) علم أدب النفس بين العلوم

الشخصية الإنسانية هي جوهر مباحث هذا الكتاب، ولكن للشخصية الإنسانية جهات مختلفة، أهمها؛ أولًا: الجهة الحيوية من حيث نشوء الإنسان وتدرجه في أدوار الحياة، وعلم الحياة «بيولوجيا» كفيل بهذا البحث، ومن حيث تسلسله وتطور السلالات، وعلما الأنثروبولوجيا والأثنولوجيا مختصان بهذا البحث، ثانيًا: الوجهة العقلية من حيث نشوء العقل، وتفرع قواه المختلفة وأفعالها في تدريب الإنسان، وعلم النفس أو علم العقل خاص بهذه الجهة، وثالثًا: الجهة الاجتماعية من حيث نسبة الفرد إلى الجماعة، وشأنه فيها، وتفاعله معها، وعلم الاجتماع مختص بهذه الجهة.

وموضوعنا الآن متوسط بين هذه العلوم الثلاثة الرئيسية: الحياة، والعقل، والاجتماع؛ فيتناول تارةً من هذا، وأخرى من ذاك، كما أنه يمس علومًا أخرى تصله بها. فلننظر الآن كيف يتصل علمنا هذا بالعلوم الأخرى.

(٢-١) علم الحياة

لعلم الحياة «بيولوجيا» وما يتصل به من علمي الفسيولوجيا «علم وظائف الأعضاء» والباثولوجيا «علم الأمراض» شأن في تصرفات الإنسان؛ فلنشوء الإنسان وتطوره وارتقائه تأثير كبير في تطور الأخلاق البشرية والأدبيات الإنسانية؛ لأن نواة الأخلاق والآداب تبتدئ في حياة الحيوانات، والغرائز الخلقية والأدبية ورث الإنسان جرثومتها من السلالة الحيوانية التي ترقى منها، وكلما اكتُشفت حقيقة بيولوجية اكتُشفت معها نظرية أدبية.

ولما كان للجهاز العصبي شأن عظيم في مزاج الإنسان وأخلاقه وإحساساته، كان لعلم وظائف الأعضاء «فسيولوجيا» دخل في حياة الإنسان الأدبية، وكذلك لعلم الأمراض العقلية صلة بهذا العلم؛ لِمَا لها من التأثير في الحكم على تصرف الإنسان خطأً كان أو صوابًا، وبالإجمال نقول: إن شروع الإنسان في الفعل أو العمل، وكيفية تصرفه فيه، وما له والحكم عليه، كل هذه ترجع في كثير من الأحوال إلى طبيعته الحيوية، وحالات جهازه العصبي، وقواه الجسمانية، وسلامتها أو اعتدالها.

(٢-٢) علم العقل

ولعلم العقل اتصال بتصرف الإنسان أكثر من علم الحياة؛ لأن الوجدان والإرادة والتصور والذاكرة أو الحافظة والتخيل تلعب أهم الأدوار في السلوك، وهي من مباحث علم العقل. ناهيك عن الإحساسات والعواطف والانفعالات التي تحرك الإنسان للعمل إنما هي أفعال عقلية، والضمير الذي هو مركز القضاء في أفعال الإنسان والحكم عليها صوابًا أو خطأً إنما هو قوة عقلية أيضًا. وللمنطق المتفرع من علم العقل شأن أيضًا في وزن الأفعال ومقايستها؛ فهو كما يُرشد إلى سداد الفكر يُرشد أيضًا إلى سداد التصرف. فنحن في بحثنا عن الإرادة الحسنة، وعن العاطفة والانفعال، وعن القصد والغاية، إلى غير ذلك من مواضيع هذا العلم نلجأ إلى نظريات الفلسفة العقلية.

(٢-٣) علم الاجتماع

ولا يخفى عليك أن الإنسان مرتبط حتمًا بالجماعة؛ فجميع تصرفاته تؤثر في الجماعة، كما أن تصرفات الجماعة تؤثر فيه، ولولا هذا الارتباط الاجتماعي لَمَا كان لأدبيات الإنسان وأخلاقه معنًى؛ فلو عاش منفردًا لانتفت مسئوليته، ولا كان لحريته حد إلا الطبيعة، ولا كان لفعله قيد، ولا للخطأ والصواب والحق معنًى إِلَّا تجاه نفسه فقط؛ فلذلك ترى أن علم الاجتماع أشد ارتباطًا بتصرفات الإنسان من العلمين السابقين: الحياة والعقل.

فالعائلة والجماعة والأمة تضع على المرء التزامات لا يكون مسئولًا بها لو أمكنه أن يعيش منفردًا، ثم إن احتكاك الأفراد الآخرين في جميع أعماله وأفعاله اليومية تثير نفسانياته العديدة، وثورتها تحركه للفعل. إذن للوسط الاجتماعي عمل عظيم في تحريك الإنسان للفعل والعمل.

(٢-٤) العلوم الاجتماعية الأخرى

  • التاريخ: للتاريخ بعض الشأن في هذا العلم؛ لأنه يمد الباحث الأدبي كما يمد الباحث الاجتماعي بأخبار الحوادث التي تُقتبس كشواهد وأمثلة على الحقائق الأدبية. ويمكنك أن تستخرج من التاريخ كثيرًا من المبادئ والسنن الأدبية التي تُعَدُّ كقواعد يتمشى عليها.
  • علم الاقتصاد: هذا العلم يرتكز في بعض مباحثه على القواعد الأدبية، وما الشئون الاقتصادية إِلَّا أنواع من تصرفات البشر، وإذا تَطَوَّح علم الاقتصاد إلى المباحث الاشتراكية كانت قاعدته «أدبية الإنسان»، فالبحث في فائدة المال، وهل هي حق أو غير حق، وفي قوة المال، وهل هي منتجة أو غير منتجة، وفي قيمة العمل بالنسبة إلى المال، إلى غير ذلك من القضايا الاشتراكية. هذا البحث يستند على الفلسفة الأدبية.
  • علم السياسة: كذلك هذا العلم الذي يُعَدُّ كعلم الاقتصاد فرعًا من علم الاجتماع، إذا تُوُسِّع به يستند أيضًا إلى الفلسفة الأدبية؛ لأن نواته العدالة بين الأمم والجماعات والأفراد. والعدالة من خصائص علم أدب النفس. وعلائق الأمم وحقوقها مستمدة من أحكام الفلسفة الأدبية.
  • الشرائع الأدبية والمدنية: هذه أيضًا مستمدة من أحكام الفلسفة الأدبية. ومهما تقلبت الشرائع وتطورت كان تقريرها مستندًا إلى القضايا الأدبية؛ ففلسفتها إنما هي فلسفة أدبية بحتة.

(٢-٥) فلسفة ما وراء الطبيعة

وإذا تمادى الباحث الأدبي في البحث عن علاقة أدبية الإنسان بالطبيعة، وعن تكون عواطفه وإحساساته وانفعالاته، تطرق إلى منزلة فكر الإنسان في حقيقة الوجود، وعن علاقة لذته وألمه بالوجود، وأخيرًا عن حقيقة وجود الإنسان نفسه، وما هي نسبتها إلى الوجود العام، وما هي غاية الإنسان العظمى أو غاية وجوده، إلى غير ذلك من المباحث الفلسفية؛ فالتوغل في الفلسفة الأدبية يقود الفيلسوف إلى البحث فيما وراء الطبيعة Metaphysics.

(٢-٦) وجوه هذا العلم

وقد اختلفت مباحث العلماء في هذا العلم أكثر من اختلافهم في سواه، فطرقوه من جهات مختلفة حتى تباينت فيه أغراضهم، وتضاربت مباحثهم، وكثر فيه نقدهم. وقد تجد في بعض مؤلفاتهم فصولًا للنقد والتفنيد أطول من فصولهم التعليمية. ومن ذلك أن لمرتينو كتابًا يشغل نحو ألف صفحةٍ أكثر من نصفه نقد وتفنيد لآراء العلماء ونظرياتهم. فكأن هذا العلم لم يستقر على قرار كسائر العلوم.

أَمَّا نحن فلا نتعرض لتضارب النظريات، ولتباين الآراء، وإنما نقتصر على البحث العلمي كما استوحيناه من الكتب التي طالعناها بهذا الموضوع، مستخرجين أسدَّ الآراء، وأقرب النظريات إلى الصحة.

(٣) فحوى الكتاب وتبويبه

لا يتعرض هذا العلم لشخصية الإنسان والطبيعية بتاتًا، وإنما موضوعه أفعال الإنسان الصادرة من شخصيته الاجتماعية التي ستتضح لك في فصول الكتاب، وحينئذٍ ترى أن مباحثه تدور حول أفعال الإنسان لا حول الإنسان نفسه.

(٣-١) مجرى الفعل

فلذلك نتتبع الفعل الإنساني مهما كان نوعه وشكله من ضحك أو بكاء، أو مشي أو نوم، أو حركة أو سعي أو عمل، وبالإجمال: كل تصرف من تصرفات الإنسان نتتبعه منذ نشوئه إلى أن ينتهي، ولا يخفى عليك أنه لا بد لكل فعل يفعله الإنسان من دافع يدفعه إليه؛ أي أن كل فعل يسبقه مُحَرِّك يُحَرِّكه.

فلذلك لا بد أن نلمَّ بمحركات الأفعال من غرائز وعواطف وإحساسات وأهواء وشهوات ومقاصد إلخ. ولأن للإنسان إرادة، فأعماله مدارة بإرادته على الغالب؛ لذلك نبحث في الإرادة وما يتفرع منها من قصد وتصميم إلخ. وبالطبع لا بد لكل فعل من غاية يتجه إليها أيضًا، ولا بد أن يكون مآل هذه الغاية السرور، وإلا فلا يريدها الإنسان ولا يُوَجِّه فعله إليها. وهذا يستلزم بحثًا مستفيضًا في السرور. ترى أن كل هذه المباحث تدور حول مجرى الفعل، وهو الباب الأول من الكتاب.

(٣-٢) أدبية الفعل

وإذا تقدمنا خطوة في البحث، رأينا أن مجرى الفعل الإنساني يختلف عن مجرى الفعل الحيواني، بكونه مقترنًا بالإرادة الأدبية؛ ولذلك نُسَمِّيه: سلوكًا، فالسلوك هو فعل يجري تحت سيطرة الإرادة والتعقل، ولا بد من قوة عقلية تحكم عليه وتقرر إن كان حسنًا أو غير حسن. ولتقرير ذلك لا بد من البحث عن قاعدة أدبية يُطبق عليها الفعل ليثبت أنه حسن؛ لذلك يشتمل البحث في أدبية الفعل «وهو الباب الثاني»: البحث في قوة الحكم والضمير، ومستندات الضمير، والقاعدة الأدبية، وأخيرًا يفضي بنا الموضوع إلى البحث في الحرية وحدودها.

(٣-٣) الحياة الأدبية

بعد استيفاء التبسط في سنن أدبية الفعل نعود إلى تطبيق الحياة الإنسانية على هذه السنن؛ لنتفهم معنى الحياة الأدبية والغاية القصوى منها، وحينئذٍ نفهم أن للإنسان شخصية اجتماعية أو أدبية أو إنسانية تختلف عن شخصيته الطبيعية، ناشئة من علاقته الوثيقة بالمجتمع، وأن للحياة غاية قصوى هي المثل الأعلى في الجودة التي هي جمال روحاني. وهذا يحدو بنا إلى التبسط بالنظام الاجتماعي وما يقتضيه من الحقوق والواجبات المتبادلة بين الأفراد والمجتمع، وإلى البحث في نشوء الشرائع وكيفية الاشتراع، وأخيرًا يرتقي بنا البحث إلى الفضائل والرذائل، وماهيتها وطبيعتها، وما تستلزمه من ثواب وعقاب. فالحياة الأدبية تشغل الباب الثالث من الكتاب.

(٣-٤) الرقي الأدبي

يبقى بعد ذلك أن نلتفت إلى عملية الحياة الأدبية ومجراها لنرى ما يعتورها من التطور والتغير والتحول. وهذا يستدعي البحث في سنن التطور الأدبى، ثم يحدو بنا الموضوع إلى استعراض التطورات الارتقائية التي مَرَّت عليها الهيئة الاجتماعية من نشوئها إلى الآن، وما هي صائرة إليه في اتجاه رقيها إلى المثل الأعلى. وهذه المباحث تشغل الباب الرابع؛ وهو الرقي الأدبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤