الفصل الأول

محركات الفعل

(١) مقدمة الفصل – منشأ المحركات

(١-١) المصدران الرئيسيان للحركة

قد يتراءى لك أن كل فعل من أفعالك يحدث بملء تعقلك؛ أي بإرشاد عقلك وتدبيره، والحقيقة أن لأخلاقك التأثير الأول في تدريب أفعالك. وهذا التأثير يكثر أو يقل بنسبة معكوسة لترَوِّيك، فكلما ترويت قَلَّ تأثير الأخلاق، وكثر تأثير العقل في توجيه الفعل أو إدارته، والعكس بالعكس.

مثل ذلك: يبكي الطفل فتتحرك عاطفة الحنو عند الأم، فإذا تسرَّعت ألقمته ثديها، ولكن إذا تروَّت قبل ذلك أو تدبرت نصح الطبيب، أو فكرت بمعلوماتها؛ لاح في خاطرها أن إرضاعه وهو مصاب بعلة معوية ضارٌّ له، فتمتنع عن إرضاعه؛ ففي حالة تسرعها الأولى يتغلب خلق الحنو على حكم العقل، وفي حالة تدبرها الثانية يتغلب التعقل على الحنو.

ومهما تروى الإنسان وتدبر وتعقل فلا ينتفي بتاتًا تأثير أخلاقه في أفعاله؛ إذا رأيت ولدك يتخاصم مع ولد آخر، ثم تحققت نقطة الخصام، فهيهات أن يخلو حكمك على أيهما المحق أو المحقوق من تأثير العاطفة.

(١-٢) الشخصية الإنسانية الأدبية

فشخصية الإنسان الأدبية مركبة من عنصرين أساسيين، كل عنصر منهما قوة قائمة بذاتها، وحاصل فعل هذه الشخصية إنما هو نتيجة حركات هاتين القوتين؛ وهما: الخلق الفطري والتعقل، فالأول: ينشئ القوة الفاعلة، أو المصدرة المحركة، أو المحرك الأول، والثاني: يدربها؛ فلو تُرك الخلق يفعل وحده لبقينا حيوانات غير أدبية، ولو تُرك التعقل يفعل وحده لكنا وجدانات غير أدبية؛ فشخصية الإنسان الأدبية إذن مُرَكَّبة من الخلق الفطري والتعقل.

(١-٣) الخلق

الخلق: هو كل ميل طبيعي في الإنسان يدفعه إلى الفعل والعمل، فمنه ما هو غريزي بحت قلما تكفيه التربية والعوامل الخارجية والبيئة الاجتماعية كالحب والنبضة التناسلية والجوع، ومنه ما هو شبه غريزي؛ أي هو فطرة طبيعية، وإنما للعوامل والبيئة تأثير فيه، كثيرًا أو قليلًا؛ كالشجاعة والجبن والإعجاب بالجمال إلخ.

فالأخلاق عمومًا خواص طبيعية في الإنسان تصدر من الجهاز العصبي، ولا سيما الدماغ، فهي من جملة قوى الوجدان، ولكنها غير خاضعة الخضوع المطلق لحكم الإرادة، ولا هي منقادة الانقياد التام للتعقل، فهي أول ما يبدو في مظاهر الإنسان حين تثيرها العوامل، ومتى بدرت انبرى العقل للسيطرة عليها، فقد يكبحها أو يدربها أو يؤيدها ويسندها، فكأنها قوى عقلية ثانوية. وكونها فطرية طبيعية لا يثلم نسبتها للعقل؛ لأن الوجدان الإنساني لا يخرج من دائرة الفطرة، فالإنسان عاقل متعقل بالفطرة، والعقل نفسه ابن الغريزة؛ أي هو غريزي، وقبوله للنمو وحذق المعرفة والتعلم هو أمر غريزي فيه أيضًا.

(١-٤) الغريزة الحيوانية

ولا يمكننا أن ننتهي من مقدمة هذا الفصل ما لم نفسر معنى الغريزة ونعللها تعليلًا يسهل تفهم الأخلاق، وشأنها في تحريك الأفعال. فإذا ألفتنا نظر القارئ مثلًا إلى قرص الشهد الذي يبنيه النحل خليات كلها سداسية الأضلاع متصلة بعضها ببعض اتصالًا محكمًا، ولا يمكن أن يخطئ في واحدة، وعلم أن النحلة لا تتعلم هذا البنيان علمًا، ولا تقتبسه اقتباسًا، بل هو طبيعة فطرية تبعثها فيها على العمل من غير تفكير، يُفهم حينئذٍ ما هي الغريزة بأوسع معنى. وَقِسْ على ذلك بناء النحلة للشهد، نسج الفراشة للفليجة «الشرنقة»، وبناء العصفور للعش، ونسج الرتيلاء للشبكة، وخزن النمل الحبوب في أهراء تحتفرها تحت الثرى، ومهاجرة الطيور من أوروبا إلى أفريقيا فوق البحر المتوسط في الفصل المعين إلخ.

فهذه الحشرات والحيوانات تفعل هذه الأفعال بقوة ميل طبيعي في بنية أجسامها، كما أنها تنشأ وتنمو إلى أن تنضج في الشكل الذي يعين لنوعها بقوة هذا الميل؛ فالطير يتجنح، والدودة تتحول إلى فراشة، والوعل «يتقرَّن»؛ أي ينبت قرناه متشعبين إلخ، بقوة هذا الميل الذي في طبيعة بنيته الخاصة.

فالغريزة إنما هي وليدة هذا الميل الذي بطبيعة الحي، وهذا الميل نتيجة فعل البيئة التي حددت للحي شكل بنيته؛ فجعلت للطير جناحين، وللسمكة زعانف، وجردت الحية من قوائمها إلخ. إذن هذا الميل قابل للتغير بتغير البيئة، وبالنتيجة تتغير الغريزة بتغير هذا الميل الطبيعي. والبيئة هي الماء للسمكة، والهواء للطير، وبطن الأرض للحية والنملة، وسطح الأرض للزحافة، وهلم جرًّا.

ولما كان فعل البيئة لا يؤثر تأثيره الدائم في جيل أو أجيال معدودة، بل في أجيال لا يُحصى عددها، كان لا بد من أن ينتقل هذا الميل الذي في طبيعة الحي من جيل إلى جيل رويدًا رويدًا. وهذا الانتقال هو الوراثة الطبيعية.

فالغريزة إذن هي ميل محتوم في طبيعة كل حي إلى فعل معين الشكل لا بد منه، ونتيجة عامل البيئة وسُنَّة الوراثة.

فإذا كان للحيوان شيء من العقلية كانت عقليته نفسها، مهما كانت ناضجة، ضربًا من ضروب الغريزة أيضًا، ونتيجة العوامل البيئية أيضًا؛ كبناء الطير للعش، ومغازلة الطيور ومهاجرتها، ووثب الغزلان في حالة اللهو والمرح، ودعابة سائر الحيوانات ذكورًا وإناثًا.

(١-٥) الغريزة الإنسانية

والإنسان — وهو السلالة الراقية من الحيوان — قد ورث كثيرًا من غرائز الحيوان؛ فهو يغازل ويحب، ويخاف ويهرب تجنبًا للخطر، ويغضب ويضرب دفعًا للأذى، ويعطف ويحنو على وليده إلخ، بحكم هذه الغريزة. ولكن لأن عقليته ارتقت جدًّا حتى صارت القسم الأعلى من شخصيته؛ قبَضتْ على أزمَّة غرائزه الأخرى لتُدربَها إلى مصلحته ونفعه ولذته، وبالإجمال إلى حفظ حياته وحفظ نوعه. ومع ذلك، لم تخرج عقليته خروجًا مطلقًا عن الدائرة الغريزية؛ فهو يتعلم أن يتكلم ويتأنق في أكله وشربه ولبسه وتصرفه، ويتعلم القراءة، ويتلقى جميع المعارف؛ لأن فيه استعدادًا للتعلم؛ فهذا الاستعداد غريزة خاصة به ليست في الحيوان الأعجم، ولولا هذه الغريزة لبقي حيوانًا.

فكل غريزة خاصة في الإنسان دون الحيوان، أو هي أرقى فيه منها في الحيوان؛ كالحب، والتعجب من الأمر المجهول، والإجلال للأمر العظيم إلخ، كانت في الأصل عادة اقتضتها العوامل البيئية من جهة، والعوامل الاجتماعية من جهة أخرى. والعادة متى تكررت وانتقلت من جيل إلى جيل أصبحت بعد عديد الأجيال غريزة.

(١-٦) الأخلاق

الأخلاق البشرية: إنما هي مجموعة غرائز بعضها ورثها الإنسان من الحيوان، ولكنها ترقت فيه وتأنقت، وبعضها كسبها على مرور القرون بفعل العوامل الاجتماعية، فترقت وتأنقت بترقي عقليته، فسميناها أخلاقًا تمييزًا لها عن غرائز الحيوان التي لا تزال وحشية مقصورة على مطالب الحياة المعدودة.

وسبب ذلك هو أن الأخلاق الإنسانية أول ما ينبري لتحريك المرء للعمل؛ لأنها أسبق من العقل، وهي أول ما ينبض في الإنسان حين يتأثر من مؤثر داخلي كالجوع والنبضة التناسلية، أو من مؤثر خارجي كالخطر، أو المستهجن، أو المدهش، أو المعجب، أو العظيم، ثم لا يلبث أن ينبري الوجدان العاقل أو العقل لتدبر التأثر، وتدريب الفعل.

ونحن في خوض هذا الموضوع نبحث في السنن الأدبية التي تتقيد بها الأخلاق بحكم الحياة الاجتماعية، نبحث في القواعد والأنظمة التي تتمشى عليها الأخلاق، وتتدرب فيها الأفعال التي تحركها الأخلاق.

الأخلاق طوائف مختلفة، بعضها رئيسية قلما تختلف في الأشخاص، فهي فيهم بعينها، وإنما تختلف في حدتها ومقدار تأثيرها، وبعضها ثانوية تتفرع من تلك، أو تتصل بها، أو تنتسب إليها.

أما الرئيسية فهي الأخلاق الأساسية التي تتصدر لتحريك الإنسان للعمل حين يحدث ما يثيرها، وتسبق التعقل، وهي أربع:
  • (١)

    الغرائز الرئيسية.

  • (٢)

    العواطف.

  • (٣)

    الانفعالات.

  • (٤)

    الإحساسات.

وأما الثانوية فهي الأخلاق المتفرعة الرئيسية، والتي تبدو بعدها لتحريك المرء للفعل، ويغلب أن يصحبها التعقل، كما ستراها في مواضعها في هذا الفصل.

(٢) الغرائز

(٢-١) الغرائز الرئيسية

هي أميال أو قوى فطرية في الإنسان ضرورية لانفعال الجسد اللازمة لحياته ولبقائه وبقاء سلالته، تصدر من معمل الحياة الداخلية من غير أن تحركها أو تثيرها العوامل الخارجية؛ ولذلك يمكنك أن تسميها نوابض الحياة أو نعرات الطبيعة الحيوانية، وهي ثلاث:
  • الأولى: «الجوع أو الشهوة للغذاء» الجوع دافع من الداخل لطلب الطعام أو السعي إليه، يتحرك من نفسه من غير أن يوجد الطعام ليحركه، فالدافع فطري أو غريزي؛ لأن القوة الحيوانية تقتضيه لنمو الفرد وبقائه إلى أجل، وليس للعقل سلطان مطلق عليه يمكن أن يكبحه أو يردعه إلى حد محدود؛ ولذلك قيل: «الجوع كافر.» وإذا ردعته الإرادة إلى حد الموت — كما صام مكسويني الأرلندي في سجنه إلى أن مات — كان هذا الردع نتيجة قوة خلق آخر تغلبت عليه؛ كحنق مكسويني الشديد على الحكم الإنكليزي الذي سجنه بلا حق، في يقينه.

    فالحنق تغلب على الجوع. وهو أمر شاذ نادر؛ فسعي الإنسان إلى الرزق، بل إلى أطايب العيش وأناقته ونعيم الحياة إنما هو مدين في الدرجة الأولى إلى هذا الدافع. الإنسان يسعى إلى ملء بطنه طعامًا، فإذا بقيت عنده فضلة من القوة للسعي إلى الرزق؛ بذلها في السعي إلى طيب العيش وملذاته.

  • الثانية: «الشهوة الجنسية أو التناسلية» وهي كالأولى دافع داخلي غريزي ينبض من نفسه، أو بالأحرى من القوة الحيوية، وإنما يختلف عن النابض الأول بأن غايته استمرار السلالة أو بقاء النوع — كما يقول علماء البيولوجيا — لإبقاء الفرد. وهو يضارع الجوع في تمرده على التعقل والإرادة، وإنما تمرده المطلق لا يفضي إلى موت الفرد، بل إلى انقطاع خيط السلالة عند ذلك الفرد. وبقوة هذا الدافع يجتذب الفردُ فردًا آخر مخالفًا له في الجنسية النسلية. وجميع مساعي الأفراد في الحصول على هذه الجاذبية مدينة لهذه الغريزة؛ فالفرد يبذل مجهودًا في التجمل وجميع ضروب الاستقواء، من جمع مالٍ والتوصل إلى الجاه والنفوذ؛ لكي يجتذب إليه قرينًا أو قرينة.١
  • الثالثة: «العزيمة أو القوة الذاتية التي تحرك أعصاب الجسم وعضلاته للعمل» هي قوة مدَّخرة في الجهازين العصبي والعضلي نازعة إلى الخروج منهما بأية السبل؛ فالمرء يشعر من نفسه بالميل إلى الحركة والفعل حتى ولو كان ساكن العقل أو قليله أو مختله. تتضح هذه القوة جيدًا في الطفل وهو خلو من الوجدان، فلا يكاد يمل الحركة؛ لأن فيه قوة ميالة للظهور.
    ونحن لا نفطن لهذه القوة لأننا نراها دائمًا مؤتمرة بأمر العقل، فننسب تحريكها للعقل. والحقيقة أنها صادرة من نفس المبدأ الحيوي، كما نراها في الطفل، وإنما للعقل سيطرة عليها فيدربها حسب المشيئة. فالحركة خاصة من خواص المبدأ الحيوي؛ ولذلك نراها في الأحياء الدنيا كما نراها في الحيوانات العليا والإنسان. هي خاصة حتمية للحياة، والسكون نذير بالموت؛ لذلك تُعَدُّ هذه القوة في مقدمة الغرائز وهي أعظمهن وأقواهن، ومنبثة في جميع الجوارح، وهي تدفع الحي للحركة في السعي والعمل.٢

(٢-٢) تناسب هذه الغرائز

الشهوتان الأوليان عضويتان؛ أي أنهما تختصان بأعضاء معينة لهما، والثالثة شائعة في جميع الأعضاء، وهي تنجز العمل الذي تدفع إليه تانك الشهوتان.

هذه النوابض والأميال الثلاثة تعمل بواسطة الجهازين العصبي والعضلي، والأولان منهما قلما يخضعان لحكم الوجدان، والثالث كثير الخضوع له.

قلنا فيما تقدم: إن الغريزة الأولى تدفع المرء للسعي إلى الرزق مستعينة بالغريزة الثالثة. ولا يخفى عليك أن رزق الإنسان أوسع دائرة من رزق الحيوان الأعجم؛ فالحيوان لا يسعى إلى أكثر من ملء جوفه طعامًا إلى حد الشبع، وما يبقى عنده من قوة العزم لا ينفقه في السعي إلى طعام آخر قبل أن يجوع، بل ينفقه في المغازلة وطلب القرين، ثم في اللهو واللعب.

وأما الإنسان فلا يكتفي برزق اليوم؛ بل يسعى لرزق الغد، ولا يقنع بالرزق البسيط؛ بل يسعى إلى العيش الأنيق، وحالته الاجتماعية وَسَّعت أمامه دائرة الأناقة في المعيشة توسيعًا عظيمًا جدًّا؛ بحيث أصبحت كفايته من الطعام نقطة في بحر هذه الدائرة، فهو يسعى إلى لذات المعيشة بدعوى الحاجة إلى الطعام.

ثم إن غريزته التناسلية دفعته إلى طلب القرين، وحالته الاجتماعية وَسَّعت أمامه دائرة السعي توسيعًا آخر أعظم، فاضطر أن يكدح لكي يرضي شهوة البطن وشهوة الأناقة والتجمل أيضًا؛ لذلك تتفرع من الغريزتين الأوليين طوائف أخرى من الأخلاق نحصرها في ثلاث: (١) الرغائب. (٢) المطامع. (٣) الأدبيات النفسانية الذاتية.

(٢-٣) الرغائب

الرغبة: نزعة نفسانية إلى أمر تُرجى منه منفعة سارَّة، كما لو رغبت في أن تكون ذا شهرة أو ثروة، أو أن تكون بارعًا في فنٍّ كالشعر أو الموسيقى، أو أن ترتفع إلى درجة الأعيان أو إلى غير ذلك. وتنشأ هذه الرغبة من تأثير العوامل الاجتماعية، والاحتكاك بالأشخاص، وتقلب الأحوال الشخصية. وهي تندرج في ثلاث درجات:
  • الأولى: «التمني» وهو شوق للحصول على الرغبة مع شعور بالعجز عن الوصول إليها، إما لضعف في الشخص، كما لو تمنى أن يكون زعيمًا وما فيه شيء من صفات الزعامة، أو لبعدها عنه، كما لو تمنى أن يكون ملكًا وما هو بولي عهد، أو لاستحالتها، كما يتمنى الولد أن يكون ذا جناحين ليطير.

    فإذا آنس المرء من نفسه مقدرة على نيل الرغبة، كما لو رام الزعامة وهو في ظروف وصفات تؤهله لها، كان تمنيه رجاء. والرجاء يدفعه إلى السعي والعمل.

  • الثانية: «الأمل» وهو أرقى من الرجاء، ويقرب المرء إلى رغيبته خطوة؛ لأن الأمل يتضمن الثقة بالنفس وأرجحية الحصول على الرغيبة، وينشئ الجد والمثابرة. وهاتان مع الثقة بالنفس من جملة الأخلاق الفرعية التي يختلف فيها الناس. ومتى قوي الرجاء ابتدأت اللذة بتصور الحصول على الرغيبة.
  • الثالثة: «الطموح» وهو تعاظم الأمل إلى حد تصور الظفر بالحصول على الأمنية، وعنده يندفع المرء في العمل؛ إذ يصبح الحصول على الأمنية أكيدًا في يقين المرء. وقد تتجلى له الرغيبة على قيد باع منه. وقد يتصورها أعظم مِمَّا تَرَجَّى وَتَمَنَّى. وربما تمادى في طلب رغيبة أعلى من رغيبته التي أمَّل فيها، وهنا تشتد لذته بتصور الحصول عليها.

وقد يقترن الطموح بالحزم، وهو تعقل الأمر وأخذه بالحكمة، والعزم، وهو الإصرار على العمل بإقدام. والحزم والعزم خلقان فرعيان آخران يختلف فيهما الناس.

ولا بد أن ينتهي الطموح بأحد أمرين: إما أن يحصل المرء على أمنيته، وهناك تنتهي لذته؛ إذ يتجدد عنده أمل آخر برغيبة أخرى وراء الرغيبة التي اتجه إليها أوَّلًا، وثمة يتجدد سعيه وعمله؛ إذ ينتقل من حال إلى أخرى، أو أن يفشل ويخيب أملًا؛ فيرتد إلى حاله الأولى، فإن بقي عنده في أثناء الخيبة شيء من الرجاء والأمل، حوَّل أمله إلى الرغيبة في طريق آخر، وإلا استولى عليه اليأس، وهو خلق آخر فرعي، واليأس يقعده عن العمل.

(٢-٤) المطامع

المطمع: نزعة في النفس إلى الاستقواء توسلًا بالقوة إلى الظفر بالأماني الآيلة إلى التمتع باللذة. ولا يخفى أن قوة المرء مهما عظمت محدودة، ولكن المطماع يحاول بأية الوسائل أن يضم إلى قوته الشخصية ما يمكنه استمداده من قوى الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه؛ مستعينًا بذكائه أو دهائه أو قوة شخصيته الممتازة؛ كالهيبة وقوة الإرادة والثبات والإصرار.

وينشأ الطمع في النفس من جراء الثقة بقوة الشخصية وتوسع الأحوال الاجتماعية التي تفسح السبيل للسعي إلى الأمر المطموع به. والناس متمايزون بالشخصيات؛ ولذلك يتفاوتون بالمطامع تبعًا لهذا التمايز؛ فأقواهم شخصية أقدرهم على الأخذ من قوى المحيط وإضافتها إلى قوته، وأضعفهم أكثرهم تعرضًا لخسران شيء من قواه. والمطامع أربعة أَضْرُب:
  • الأول: «المال» فالمال أو الثروة على اختلاف صورها أو أنواعها إنما هي قوة عظمى؛ لأنها حاصل عمل العاملين، فما حصل دينار أو أي متاع أو أي حاصل إنتاج إلا بذل لقاءه تعب وجهاد في عمل، ولكن النظام الحالي الانفرادي أو الفردي لا يخول لكل عامل أن يتمتع بكل حاصل عمله، بل هو يفسح السبيل لذوي الشخصيات القوية الطامعين أن يختلسوا شيئًا من حاصل أعمال العاملين، ويستأثروا بها ويستغلوها لتمتعهم؛ لذلك ترى الناس فريقين: فريقًا يعمل، وفريقًا آخر يستغل عمل غيره. وقد يكون الشخص الواحد من الفريقين معًا؛ فيستغل من عمل غيره، وغيره يستغل من استغلاله، وهكذا تمول المليوني وافتقر العامل.

    والتمول يستلزم أن يكون الشخص المطماع من عشاق المال، فيسعى بقوة هذا العشق أو الشوق إلى المال للحصول عليه بأية الوسائل. والمليوني جمع أموالًا بحذقه وذكائه ودهائه واغتنامه الفرص في حلبة التنازع لقطف الثمار من أتعاب المجتمع. وهكذا أضاف إلى قوته قوة كبيرة من قوى الجماعة، وبهذه القوة المالية يستطيع أن يشتري كثيرًا من الأماني ليتمتع بلذاتها. وحبه للمال يدفعه إلى السعي والاحتيال للحصول عليه.

  • الثاني: «الجاه أو الوجاهة» وهو أن يكون المرء في منزلة سامية بين جماعته أو قومه، وهذه المنزلة تكسبه اعتبار الجماعة وتجمعها حوله لخدمة مآربه. وهو يحصل على الجاه بتفوق شخصيته؛ إما لذكائه ودهائه، أو لغناه، أو لحسبه التالد الموروث، أو لبطولته وعبقريته، إلى غير ذلك من المزايا التي يمتاز بها على الآخرين.

    وبهذه المزايا الشخصية يسيطر سيطرة أدبية على جماعته أو قومه أو حزبه، ويجمعهم تحت إمرته؛ فيكون نافذ الكلمة فيهم، فكأنه بهذه المزايا يضم إلى قوته الشخصية قوى الجماعة التي تحف حوله. وهو لقاء هذه القوة التي يستمدها منهم يحمي مصالحهم، ويسبب نفعهم.

    يفعل ذلك بالقوة العظمى المتضمنة فيه، والتي استمدها من قواهم؛ فكأن قوة الجماعة تجمعت فيه وتكتلت، وهو القابض على أعنتها يستخدمها حسب مشيئته، وله القسط الأوفر من الانتفاع بها. فزعيم الجماعة أو رئيس الحزب أو شيخ القبيلة الذي إذا استنفر قومه هبوا للأخذ بناصره ومعاضدته هو الوجيه. فالجاه قوة نافذة أو نفوذ، والمطماع بالجاه يدفعه مطمعه هذا إلى السعي والعمل.

  • الثالث: «السلطة» وهي تعلو على الجاه وتشمله أيضًا، وتختلف عنه أو تزيد عليه بأنها قوة شرعية مستمدة من قوة الجماعة، ومؤيدة بالدستور أو القانون أو العرف على الأقل؛ كقوة الحاكم والوزير أو أي موظف ذي سلطة آمرة وناهية. يحصل عليها المرء بأهليته الشخصية غالبًا، ولا سيما في هذا العصر النظامي، وأحيانًا يحصل عليها بجاهه أو بماله، ويمكنه أن ينتفع بها كثيرًا لشخصه، وتُقَدِّره على الحصول على كثير من الأماني للتمتع بها. فحسب السلطة قوة تحرك الإنسان للسعي إليها.
  • الرابع: «الشهرة» وهي أن يكون المرء معروفًا بين قومه أو بين سواه من الناس بمزية قلَّ الحاصلون عليها. والشهرة بحد ذاتها لذة للشهير، فضلًا عن أنها كثيرًا ما تكون ذريعة للاستقواء والانتفاع إلى أماني مختلفة. يحصل عليها المرء باستعمال مواهبه ومزاولتها بالثبات والإصرار والمثابرة.

    من هذا القبيل شهرة الفنان؛ كالموسيقي، والمغني، والشاعر، والمصور، والممثل، والخطيب؛ لأن مضمار الشهرة هو على الغالب الفنون الجميلة التي تجتذب الجمهور إلى الفنان، وكل حرفة تتصل بالجمال؛ فالفنان يطمع بالشهرة لِمَا فيها من الفخر من جهة، والفخر لذة، ولِمَا فيها من الانتفاع من جهة أخرى؛ لأنها قوة يتذرع بها إلى الأماني.

ترى أن هذه الطائفة من الأخلاق الفرعية تبتدئ حيث يستفحل الطموح؛ فهي درجة أعلى من الرغائب.

(٢-٥) الأدبيات النفسانية الذاتية

يقترن بالأخلاق التي نحن بصددها طائفة من الأخلاق الفرعية، فتصاحبها أو تمتزج بها وتتركب معها، وهي أدبيات نفسانية تصدر من داخل الشخصية، وقلما تمس الآخرين أو تستلزم الاحتكاك بهم. هي خاصة بالشخص نفسه، وعواقبها تقع عليه وحده، حسنة كانت أو رديئة، وهي ثلاث:
  • أوَّلًا: «القناعة» وهي الرضى أو الاكتفاء بما تيسر من الخير أو النفع، أو كل ما فيه لذة وتمتع. هي خلة الأشخاص القليلي المطامع، القصيري الطموح، حتى وإن كانوا ذوي قوة وأهلية. وربما كان القانع يشعر بالغبطة كالطماع أو الطامح، وقد يكون أكثر غبطة منهما لأنه لا يجاهد كثيرًا ولا يجازف أو يغامر، وإنما يبقى متخلفًا في حلبة السباق، ربما كان قصير النظر لا يرى الأماني البعيدة، أو يراها كالسراب، أو يراها ودونها خرط القتاد؛ فلا يطمح إليها.
  • ثانيًا: «الاعتدال، والمراد به هنا التوسط بين طرفي القناعة والشراهة» وهي أن لا يرضى المرء بما حصل أو تيسر، بل يطمح إلى ما يجد في نفسه القدرة للحصول عليه ولو بجهاد، ولكن يزن بين مطمعه ومقدرته، فإن كانا متوازنين متعادلين أقدم ورضي بما يمكنه الحصول عليه، وإلا أحجم. يتمادى في طلب الخير لنفسه ما دام قادرًا على نيله، فمتى بلغ إلى حد العجز اكتفى بما حصَّل، وكان راضيًا مغتبطًا؛ فهو يجاهد ولكنه لا يغامر ولا يجازف ولا يخاطر.
  • ثالثًا: «الشراهة» وهي تجاوز حد الاعتدال، وهي الطرف الثاني المناقض للقناعة. تدفع المرء إلى ما فوق طاقته؛ فيجاهد ويقضي العمر مجاهدًا على غير رضى بحالٍ من الأحوال، ولا يغتبط؛ لأن نفسه لا تشبع؛ لذلك تكثر المخاطرة عند الشَّرِه، فيكون بين جانبي الفوز أو الفشل يقوم تارة ويقع أخرى.

الأول: لا يجاهد إلا فيما لا بد منه للحصول على شيء من التمتع، والثاني: يجاهد محاذرًا على قدر طاقته وهو راضٍ بما يتيسر، والثالث: يجاهد جهادًا عنيفًا غير راضٍ.

(٣) العواطف

العاطفة: قوة فينا جاذبة لنا إلى غيرنا تتحرك فينا عند وجود هذا الغير؛ فهي تختلف عن الطائفة السابقة من الأخلاق التي تنبض من أنفسنا من غير محرك خارجي، تتحرك فينا العاطفة بتؤدة تبعًا لإرشاد العقل، وتكوِّن في وجداننا شكلًا عقليًّا خاصًّا بها حتى تكاد تُعَدُّ قوة من قوانا العقلية.

قلنا: إنها قوة جاذبة، فهي جاذبية بين متشابهين أو طبيعتين من صنف واحد؛ الواحدة جاذبة من الخارج، والأخرى مجذوبة من الداخل؛ فهي على حد قول الشاعر: «شبيه الشكل منجذب إليه.» هذه القوة تستحضر في ذهننا مجمل اختيارنا، أو صورة شخصيتنا، أو الشبيه المرسوم في مخيلتنا. وهي خمس رئيسية:

(٣-١) العواطف الرئيسية

  • الأولى: «العاطفة الوالدية أو الحنو الوالدي» فالأب «أو الأم» يعطف على ابنه أوَّلًا: لأنه يرى فيه صورة جوهره — جوهر منه، ولكنه مستقل عنه — وثانيًا: لأنه يمثل استمرار جوهره؛ جوهر منه قائم بذاته، ولكنه متوقف في وجوده ونموه عليه. فهذه العاطفة تمثل في ذهن العاطف ذاتيته: فلو فرض أن أبًا «وأمًّا» شك أو عرف أن هذا الولد ليس ابنه؛ فهذه العاطفة تتلاشى، وقد تتحول إلى شفقة، وربما تلاشت الشفقة أو تحولت إلى إعراض، وقد يتحول الإعراض إلى نفور فحقد. هذه العاطفة غريزة مفهومة السبب عند الإنسان العاقل، ومجهولة عند الحيوان غير العاقل.

    هذه العاطفة تُعَدُّ جاذبية؛ لأن الولد جاذب، والوالدين منجذبان، وهي ترادف الحنو، ولكنها تتضمن معنى الحب أيضًا. الحنو عند الوالدين عظيم كالحب، والحب بين الزوجين أعظم من الحنو.

    بقوة هذه العاطفة تعكف الأم على حضانة ولدها، ويكدح الأب حرصًا على أولاد الأسرة.

  • الثانية: «عائلية» وهي نوعان: بنوية وأخوية، فالنوع الأول: هو رد فعل العطف الوالدي بمثله، كرد الصدى، فالولد ينعطف إلى أبويه لأنه يجد ريًّا لشهواته من نتائج حنوهما، ومتى صار يفهم الحياة يعلم أنهما سبب وجوده، ويرى فيهما مثلًا لنفسه أيضًا، والنوع الثاني: هو التعاطف المتبادل بين الإِخْوَة اقتباسًا من تعاطف الوالدين والبنين؛ فالولد حين يرى أن أبويه يعطفان على أخيه وأخته يحاكيهما في هذه العاطفة. ولعطف الأخ على الأخ رجع صدى أيضًا للأسباب المتقدمة. ويمتد هذا التعاطف من بين الإخوة إلى ما بين أبناء الأعمام والخالات إلى جميع أعضاء الأسرة بنفس الأسباب المتقدمة؛ فالتجاذب متبادل بين أعضاء الأسرة، وكل منهم جاذب ومنجذب.
  • الثالثة: «اجتماعية» وهي أن يعطف الإنسان على مشابهيه؛ أي سائر قومه، لأنهم مماثلون بل مساوون له في الشخصية. فما هم حيوانات أحط منه ليترفع عليهم، ولا هم آلهة أرفع منه ليتهيبهم، بل هم مرآته يرى فيهم مجمل شخصيته.

    هذا الضرب من العواطف والنزعة الاجتماعية التي تأصلت في الإنسان وصارت طبيعة أو غريزة فيه متفاعلان على الدوام؛ أي إن هذه العاطفة تقوي في الإنسان النزعة الاجتماعية، والنزعة الاجتماعية تقويها. تظهر هذه العاطفة أقل حدة من العاطفة الوالدية، ولكنها ليست أقل منها قيمة؛ لأن الإنسان يذعن بحكمها إلى التضامن والتعاون، ويخضع للقوانين والشرائع والأنظمة الاجتماعية وأحكام السلطة المسيطرة، واثقًا أنه يشاطر الجماعة المنفعة والتمتع المشتركين بين أفراد الجماعة، ويفهم أن منفعته ولذته متوقفتان على منفعة الجماعة ولذتها؛ فالعائلة والجماعة متوازنتان قيمةً تجاه العاطفة، وإن اختلفت هذه العاطفة تجاههما.

  • الرابعة: «وطنية» وهي عطف الفرد على مجموع الأمة أو الشعب أو القوم بصفة كونه جسمًا واحدًا هو عضو فيه. وتختلف هذه العاطفة الوطنية عن العاطفة الاجتماعية بكون هذه بين فرد وفرد، وتلك بين فرد وكتلة الجماعة؛ فالمرء يشعر بقوة هذه العاطفة أنه مدين بكيانه وسعادته إلى وجود الجسم الاجتماعي، فإذا كان هذا الجسم متكتلًا ملتحمًا جيدًا كانت هذه العاطفة شديدة؛ قد تدفع المرء إلى التضحية لأجل الوطن.
  • الخامسة: «الشفقة، وهي مبالغة في العاطفة الاجتماعية» هي عاطفة إنسانية أوسع من العاطفة الوطنية، لا ينظر فيها إلى القومية ولا إلى القرابة بل إلى الإنسانية، فيتحرك عطفنا على أي شخص حين نشعر بألمه أو تعسه أو شقائه أو مظلوميته حتى ولو كنا نحن سببها، اللهم إذا كانت لنا نفس راقية في الإنسانية، ولنا طباع دمثة وقلب طاهر. تتحرك فينا هذه العاطفة لأننا نتصور أنفسنا في مكان المتألم أو التعس أو المظلوم أو المصاب بمصيبة. وهذه العاطفة تدفعنا إلى إنقاذه أو إسعافه أو مساعدته في أمره.

    ويمكن أن تُعَدَّ هذه العاطفة في جملة الانفعالات النفسانية التي سنتبسط فيها في الحرف التالي؛ لأنها تكون أحيانًا انفعالًا نفسانيًّا من أمر مكروه، بدل أن يثير فينا الخوف أو الغضب يثير الشفقة.

وبالإجمال نقول: إن العواطف أخلاق منجذبة نابضة من داخل النفس كالأميال الغريزية، ولكنها تختلف عنها بأنها لا تنبض إلا عند مؤثر خارجي، وتختلف عن الانفعالات النفسانية التي هي طائفة أخلاق دافعة لا جاذبة كما سترى.

(٣-٢) العاطفة تجاه النفس – التجرد النفساني

للمرء عواطف ثانوية تتفرع من العواطف الرئيسية، فمنها ما يتجه نحو نفسه، ومنها ما يتجه نحو غيره، فالأولى نسميها التجرد النفساني؛ وهي أن يجرد المرء من نفسه شخصية نفسانية خاصة يستقل تصورها له عن ذاتيته العمومية. يجرد من شخصه شخصًا آخر عقليًّا يرفعه أو يحطه حسب ما تفعل فيه العوامل الخارجية؛ فهي عاطفة منه نحو نفسه. وهي ثلاثة أنواع:
  • الأولى: «عزة النفس أو الشمم أو الكبر» خلق نفساني يستقل به عن الآخرين، كأنه أمر لا يعنيهم، بل يهم نفسه فقط، فلا يكلف الآخرين أن يفعلوه له؛ ولكنه يروم أن يعرفوه فيه، ويود أن يعترفوا له به، يبتغي أن يكون عزيز النفس في خلوته كما يبتغي هذا في حضرة غيره. بهذا الخلق يَتَنَزَّه عن الدنايا، ويأنف ارتكاب الآثام، ويأبى أن يحط نفسه إلى مَنْ هم أدنى منه، أو أن يُذلَّها إلى غيره.

    والكبرياء: هي تطرف في الكبر والأنفة إلى حد الاستعلاء على الآخرين واحتقارهم. بها يتعدى المرء من نفسه إلى غيره؛ فهي نقيض العاطفة الذاتية. هي خلق متفرع من هذا الفرع.

  • الثانية: «احترام النفس» وهو أن يكون الكبر أو الشمم أو الأنفة مساويًا لقيمة المرء الشخصية، ومقدرتها على الاحتفاظ بالمنزلة التي وضعها فيها. بهذه العاطفة الشخصية يصون المرء مقامه، ويتحامى أن يتطاول إليه شخص آخر.
  • الثالثة: «الغرور» وهو أن يكون الكبر أكثر من قيمة المرء الشخصية ومقدرته على الاحتفاظ بمنزلتها، فيرغب في أن يضع نفسه في منزلة أعلى من منزلته، ولكن الآخرين لا يعترفون له بها، بل يستهجنون ادعاءه إياها.

    وهنا منشأ الحسد؛ وهو تغيظ المرء من إنكار الآخرين عليه المنزلة التي يتوخاها. والحسد عاطفة فرعية لهذا الفرع أيضًا.

  • الرابعة: «الضعة» وهي أن يضع المرء نفسه في منزلة دون المنزلة التي يستطيع البلوغ إليها. فالمتزلف والدني الغرض والمتذبذب إنما هم حقيرون؛ لأنهم ينزلون أنفسهم عن منزلة احترام النفس، وعن الأنفة والإباء.

    التواضع — غير الضعة — وهو احترام المرء منزلة الغير مع حرصه على منزلته؛ بحيث يبقى الغير محترميها مهما بالغ هو في التواضع. والوضيع هو غير المتسفل، عنده احترام لنفسه، ولكنه وضيع بالنسبة إلى مَنْ هو أرفع منه.

(٣-٣) العاطفة تجاه الآخرين – الأدبيات المتعدية

الأخلاق الآنفة لازمة غير متعدية؛ أي إنها لا تتجاوز نفسية المرء. وأما العواطف الفرعية، التي نحن بصددها الآن، فمتعدية؛ أي إنها تصدر من المرء نحو الآخرين. وهي ثلاث:
  • الأولى: «الكرم» وهو أن تفيض النفس الإنسانية في المرء خيرًا للآخرين، فيجود بقوة خيرية منه حبًّا بالإنسانية، غير ملزم بهذا الجود، وإنما هو ملزم به أدبيًّا واجتماعيًّا بحكم الإنسانية وَسُنَّة التضامن الاجتماعي؛ فالخير الذي يفعله أو الجميل الذي يصنعه إنما هو قوة يبذلها منه مجانًا: كالعطاء مالًا أو أي شيء ذي قيمة، أو كالمروءة في نجدة، أو إسعاف، أو غوث، أو إنقاذ، أو تسامح، أو مغفرة، أو تساهل. كل هذا كرم خلق، أو خلق كريم.
  • الثانية: «البخل، وهو عكس الكرم» إذ يحرم البخيلُ الغيرَ حقًّا إنسانيًّا ويمنعه عنهم، كما لو رأى غريقًا ولم يخلصه وهو قادر على تخليصه، أو كما لو تقدم إليه محتاج شديد الحاجة ولم يلبِ حاجته وهو قادر.
  • الثالثة: «الطمع» وهو الطرف الأخير المضاد للكرم، إذ لا يقتصر المرء على حرمان الآخرين الحق الإنساني، بل يبتغي هضم حقوقهم الشرعية أيضًا، واتخاذها لنفسه، والاستئثار بما لا حق له به؛ فالطماع يتحين الفرص لاختلاس حق الضعيف الذي لا يستطيع رده عنه.

رد فعل العاطفة

للعاطفة نحو الآخرين فعل يرتد للعاطف؛ لأنها فعل صادر منه وواقع على الغير، فلا بد أن يرتد هذا الفعل إليه في صور مختلفة حسب جبلة الشخص الذي وقع عليه فعل عطف العاطف؛ كوقوع أشعة النور على شبح ملون، فيرد الأشعة أو تخترقه ملونة بلونه. ولما كانت جبلات الناس أو طباعهم مختلفة الألوان «مجازًا»؛ كان ارتداد العطف عنهم ملونًا بألوان طباعهم. وهي تنحصر في ثلاثة:
  • أوَّلًا: «الشكر» فإذا كانت جبلَّة المرء المعطوف عليه طيبة صالحة رَدَّت فعل العاطف شكرًا. والشاكر يكافئ الفعل الخيري أو الجميل إما بفعل آخر يساويه، إن كان قادرًا على المكافأة، وربما كافأه بأعظم إذا كان عزيز النفس، أو يكافئه بثناء وباعتراف بالجميل إذا كان عاجزًا عن المكافأة بالمثل.

    يقترن بالشكر: الصدق، والأمانة، والإخلاص، وحسن الظن، وسلامة النية.

  • ثانيًا: «الكنود» وهو عكس الشكر، وإنكار للجميل أو تغاضٍ عنه، أو تجاهله والتعامي عنه. فهو لا يصدر إلا عن جبلة رديئة قاتمة اللون.
  • ثالثًا: «الخيانة» وهي لا تقتصر على إنكار الجميل، بل هي مكافأة الخير بالشر عمدًا. تصدر من جبلة سوداء شريرة ترد الأبيض الطاهر أسود قذرًا. والخائن خبيث الطبع لئيم، ميال للغدر مجانًا، يتحين الفرص لاقتناص ذوي الجبلات الطيبة السليمي النية. فالغدر والخيانة عاطفتان جاذبتان لا منجذبتان، عاطفتان لحب النفس دون غيرها. في الذات تلتقي نتائج أفعالهما.

الغالب: أن يكون أحد هذه الطباع الثلاثة التي نحن بصددها ملازمًا للشخص الواحد كل حياته، ولكن بعض الناس يشذون أحيانًا عن طبعهم هذا لعوامل وقتية تؤثر فيهم، وربما تعدل الطبع جيدًا أو رديئًا في أدواره المختلفة السن لتأثير التربية والأحوال الاجتماعية.

(٤) الانفعالات النفسانية

(٤-١) النوافر الرئيسية

الانفعالات النفسانية تختلف عن الغرائز النابضة بتاتًا، بأنها لا تصدر كقوات داخلية من تلقاء نفسها كأمر حتمي لا بد من صدوره لحاجة في النفس، وإنما هي تصدر عند وجود أمر خارجي مثير للخُلُق، أو مخالف لميل النفس فيحركها. وهي تشترك مع العواطف بكونها مثلها تصدر عند وجود محرك خارجي، ولكنها تختلف عنها بأنها دافعة لا جاذبة، فلك أن تسميها: نوافر دافعية لا جاذبية، أو عواطف سلبية لا إيجابية. وهي ثلاث:
  • الأولى: «الكراهة تجاه الأمر الذي لا يروق لنا بحالٍ من الأحوال» كأن يخالف رغبتنا فنصد عنه، أو ينافي ذوقنا فنشمئز منه، كما لو اجتمعنا بثقيل أو ثرثار أو مهزار، أو كما لو قرأنا شعرًا تافهًا، أو رأينا رسمًا نافرًا، أو شاهدنا شخصًا يذبح فرخة، أو لامسنا وساخة.
  • الثانية: «الغضب تجاه الأمر الذي أضرنا أو آذانا أو أساء إلينا» كما لو اعتدى معتدٍ على شرفنا أو حقنا، أو أهاننا أو جرح عواطفنا إلى غير ذلك. كل هذا يثير غضبنا ويحملنا على دفع الأذى والشر عنا بكل ما عندنا من قوة. والغضب يضاعف القوة: فالغاضب يستطيع أن يفعل أكثر جدًّا مما يفعله الحليم؛ لأنه في ساعة الغضب تثور كل قواه وتجتمع متعاونة للدفاع.
  • الثالثة: «الخوف تجاه الخطر أو الأمر الذي يهددنا بأذًى» كما لو أقبل علينا العدو أو فوجئنا بمصيبة؛ ففي بدء الأمر يبدو فينا الميل إلى الهرب، فإن كان الهرب مستحيلًا عمَدنا إلى تحامي الخطر بالحيلة، فإن استحالت هذه أيضًا نشطنا إلى الدفاع.

هذه الأخلاق النافرة تسبق التعقل في اليقظة، وتدفع العصب والعضل للعمل، لا تنتظر العقل أن يُصدر حكمًا في الأمر أو حيلة لتجنُّب الخطر أو رفض المكروه، بل تبدو حالًا إلى الدفع أو الصد أو الفرار؛ فالمشمئز يعجل في الصد أو التحايل، والغضوب يُسرع إلى القتال، والخائف إلى الهرب، ولكن بعد قليل يبرز العقل لتدريب هذه الأفعال.

العليل ينفر في أول الأمر من تجرع الدواء إلى أن يحكم العقل بوجوب تجرعه حرصًا على سلامة الجسد، والجمهور في مسرح يهرع إلى الخارج عند شبوب النار فيه قبل أن يحكم الوجدان بوجوب الخروج بتؤدة ونظام؛ لئلا تكون كارثة اندفاع الجمهور وبعضه يدوس بعضًا أشر من كارثة الحريق، والمُعتدَى عليه يغضب إلى أن يحكم العقل بوجوب تلافي تفاقم الشر بالمعالجة والحيلة والحلم، أو بطريقة أخرى.

ترى مما تقدم أن للانفعالات النفسانية وظيفة الوقاية من الخطر والأذى، كما أن للغرائز الشهوانية وظيفة الحرص على البقاء الفردي والسلالي، وللعواطف وظيفة الحرص على الكيان الاجتماعي.

(٤-٢) الانفعالات الفرعية – رد الفعل

رأيت فيما تقدم أن الانفعالات النفسانية تسبق التعقل، وتدفع المرء للفعل قبل أن يتولى العقل الأمر ويشرع بالتدبر، وكأن هذه الانفعالات غرائز، بل هي غرائز في الحيوانات العجماء؛ لأنها حادة فيها كما هي في الإنسان؛ فالقطة حالما ترى الكلب يَزْبَئِرُّ صوفُها وتنفخ وجلة، وإذا هاجمها غضبت، فإن آنسَتْ في نفسها القدرة على الدفاع وثَبتْ عليه، والدجاجة كذلك إذا فاجأها الكلب أو ابن آوي «قاقت» وفرَّت، وإذا هجم على فراخها انقضَّت عليه تنقر عينيه.

أما الإنسان إذا خاف أو غضب لخطر أو لشر مفاجئ؛ فلا يلبث أن ينبري العقل للتدبر، وحينئذٍ تنبري أيضًا الأخلاق الفرعية الثانوية لرد الفعل بأساليب مختلفة:
  • أولها: «الحنق» وهو التحفز لرد الشر بمثله أو بمساوٍ له. والحانق يختلف عن الغاضب بأن عقله يشترك مع أفعاله في تدبر رد الفعل، فإن لم يستطعه عاجلًا برد الغضب وذهب الحنق.
  • ثانيها: «الحقد» وهو أن يبقى الغضب محتدمًا، ولكنه يكون مكظومًا. والحاقد يُصرُّ على رَدِّ الفعل متريثًا إلى أن تسنح الفرصة للانتقام فلا يتردد فيه.
  • ثالثها: «الحذر» وهو تيقظ الانفعال لأي نذير بالخطر أو الأذى قبل مجيئه أو حدوثه، ففيه مثار للظنون والشكوك والإيجاس شرًّا؛ ولذلك يقال: «إن سوء الظن من حسن الفطن.» ولأنه سابق لأوانه يئول أحيانًا إلى الوقوع في المحذور منه؛ لأنه إذا بدت آثاره أثارت الشك في المشكوك فيه، فيتفاعل الشَّكَّان المتقابلان.

وهو تيقظ الانفعال لأي نذير بالخطر أو الأذى قبل مجيئه أو حدوثه، ففيه مثار للظنون والشكوك والإيجاس شرًّا؛ ولذلك يقال: «إن سوء الظن من حسن الفطن.» ولأنه سابق لأوانه يئول أحيانًا إلى الوقوع في المحذور منه؛ لأنه إذا بدت آثاره أثارت الشك في المشكوك فيه، فيتفاعل الشَّكَّان المتقابلان.

وتفصيل الإجمال: هو أن سوء الظن يحمل الظنان على تأويل أفعال الغير بغير ظواهرها، حتى إذا بدت منه بوادر سوء ظنه أثارت ظنون الغير وحدث الصدام بينها. ويئول سوء الظن أحيانًا إلى سوء التفاهم الذي يُسبب التخاصم. وكثيرًا ما يتمادى سوء الظن إلى أن يبلغ الغدر؛ فالغدار يتعجل في أذى الغير قبل أن يتثبت من احتمال مجيء الأذى منه إليه، على أن الحذر العميق الذي لا ينم عن سوء الظن يكون أحيانًا منقذًا من الأذى والخطر.

(٤-٣) مقومات الانفعالات

متى انبرى العقل لتدريب الفعل الذي يحركه الانفعال النفساني استثار أخلاقًا فطرية ثانوية أخرى لتقويم الانفعال، ولرد الفعل، بقوة تتراوح بين الشدة والضعف، وهي تتولى حينئذٍ أمر الفعل المردود بتدبر العقل وإرشاده على قدر ما يستطيع العقل السيطرة عليها؛ فقد يسيطر قليلًا أو كثيرًا، أو لا يستطيع السيطرة بتاتًا؛ وإنما ينتدبها انتدابًا للفعل. وهي:
  • أوَّلًا: «الشجاعة» وهي الجرأة على قدر ما تحتمل القدرة والإقدام على الفعل. فالشجاع لا يهاب الأخطار والصعوبات، ينشط للعمل بملء قواه العقلية والجسدية. وتقترن الهيبة بالشجاعة، وهي خاصة عقلية تظهر في ملامح الوجه والسحنة عمومًا. فبهذا الخلق القوي يستطيع إنسان أن يروض الأسد؛ وبنظرة منه يرده عنه إذا ضرى، وبمثل هذه النظرة يؤثر على خصمه ويوهمه أنه أقوى منه، وبهذه النظرة ونحوها من المظاهر الشجاعية يتفوق شخص على آخر، ويحمله على مهابته.
  • ثانيًا: «التهور» وهو تطرف في الشجاعة أكثر ما تحتمله القدرة. هو شجاعة مقرونة بالطيش والرعونة غرورًا بالمقدرة؛ ولهذا قلما يسلم المتهور من الوقوع في الخطر.
  • ثالثًا: «الجبن» وهو الطرف الآخر من جانب الشجاعة، عكس التهور. يرتد الجبان عن الخطر أو درء الأذى بالرغم مما فيه من القدرة على الإقدام؛ ولذلك يلجأ إلى الحيلة، وإذا كان دنيئًا نذلًا استعان بالصفات الرديئة كالكذب والرياء والمواربة والخبث.

(٥) الإحساسات

(٥-١) الشعور

الإحساسات طائفة من الأخلاق انفعالية كالثالثة؛ ولكنها ليست دافعة مثلها، ولا هي جاذبة كالأولى «الشهوات»؛ بل هي منجذبة كالثانية «العواطف»، وإنما تختلف عنها بأنها انفعال بأمور عليا، وانجذاب إليها من غير اندغام بها، بل بتمتع بتأثيراتها. هي شعور بأمور أو أشياء أو حوادث أو شخصيات أعظم أو أعلى من تصوراتنا، وغريبة عن اختبارنا. وهي ثلاث:
  • الأولى: «التعجب» وهو شعورنا بغرابة شيء أو أمر نجهل سببه؛ كما لو سمع الطفل أو الهمجي الفونوغراف لأول مرة وهو لا يعلم سره، أو كما لو رأى السائح الشرقي جسر بروكلن قبل أن يعلم عنه شيئًا؛ فيتعجب لكيفية بنائه. فهذا الشعور انفعال نفساني من سر مجهول، ولا يزول هذا العجب إلا متى فُهم السبب؛ لذلك نقضي حياتنا ونحن نتعجب من أسرار الكون إلى أن نفهمها، كذلك نتعجب إذا قيل لنا: إن فلانًا أثرى ونحن نعرفه فقيرًا، وإن فلانًا صار بطلًا ونحن نعرفه صعلوكًا، ونتعجب إذا أُنبِئْنا بأي حادث مخالف للمألوف؛ كما لو قيل لنا: إن جزيرة جديدة ظهرت في البحر، أو جزيرة غاصت فيه.

    تختلف الدهشة عن التعجب بأنها تحدث لمفاجأة أمر غير منتظر، وإن كان مفهومًا أمره؛ كما لو أشرف ابن البر على البحر لأول مرة فيندهش لعظمته، أو كما لو أقبل ابن السهل على الجبل.

  • الثانية: «الاستحسان» وهو الانفعال بالجميل؛ كرؤية الربيع في الجبال المتعالية، وكرؤية الزخارف المصطنعة، وكسمع الموسيقى، وشم الرياحين. وسر هذا الاستحسان فيما يؤثره الجميل في الأجهزة العصبية فتهتز اهتزازًا متساوقًا ينتقل إلى المراكز الدماغية، فتهتز مثله اهتزازًا نظاميًّا مطابقًا لما تأهبت له بفعل الوراثة وتعودته. ويناقض الاستحسان الاستهجان للقبيح؛ لأنه يؤثر في الأجهزة العصبية؛ فيحدث فيها اهتزازات مضطربة غير نظامية، وينتقل هذا الاهتزاز إلى المراكز الدماغية فتضطرب له؛ لأنه مخالف لنظام اهتزازها الوراثي فتَمجُّه وتَنفرُ منه.

    وقد يتلاشى الاستحسان قبل التعجب؛ لأن النفس تملُّ على التمادي نوعًا من الجمال، وتتوق إلى نوع آخر، ولكن العقل لا يملُّ الطموح إلى استطلاع سر الأمر العجيب.

  • الثالث: «الإجلال» وهو رد الانفعال بالأمر العظيم؛ كالقوة والفخامة والسمو إلخ. بهذا الشعور نعبد الخالق، ونجل الملك والقائد والحاكم والزعيم، وَنُبَجِّل الكريم، ونحترم الأديب، وَنُكَرِّم النابغ إلخ.

    وبالإجمال يقال: إن التعجب يحملنا على استقصاء السبب، والاستحسان يتجه بنا إلى الجميل، والإجلال يرتفع بنا إلى الصلاح.

(٥-٢) المحبة

يتفرع من هذه الإحساسات، ولا سيما الشعور الثاني؛ أي الاستحسان، إحساسات أخرى تحرك بعض عواطفنا وتعظمها وتفخمها حتى تفوق على الرئيسية منها. وهي ثلاث درجات:
  • الأولى: «الميل» فما نستحسنه من الجمال نميل إليه ونرغب في التمتع به ما استطعنا إليه سبيلًا، فنميل إلى سكنى الأرياف والجبال للتمتع بمناظر الطبيعة، ونميل إلى عشرة الخلان للذة فيها، ونميل إلى سكنى المدن لوفرة أطايب العيشة فيها، ونميل إلى قراءة الروايات لفكاهتها إلخ. ويقتصر الميل على الأمور التي لا تستلزم مشقة للحصول عليها، فكأننا نبتغي الحصول عليها مجانًا، فإذا كانت تكلفنا مشقة استغنينا عنها.
  • الثانية: «الود» فإذا اشتد الميل إلى حد أن نكلف أنفسنا عناءً للحصول على الجميل صار ودًّا، والود يدفعنا إلى طلب الجميل وبذل الجهد للحصول عليه، فإذا لم يتيسر لنا أن نسكن في وسط جمال الطبيعة لنتمتع بمناظرها الربيعية أنشأنا الحديقة، أو أنفقنا المال لأجل النزهة في المتنزهات، وإذا لم يتيسر لنا سمع الموسيقى في البيت دفعنا ثمن جواز الدخول إلى المغنى «مكان الغناء»، وإذا لم يأتِ إلينا العشير مشينا إليه.

    الميل والود يقتصران على نيل الجميل الحاصل، ولكن إذا كان الجمال الذي نتوخاه المثل الأعلى الذي لا يدرك كان توخينا هذا حبًّا. وهو أعلى درجات المحبة، وهو أبلغ إحساساتنا الانفعالية التي تتجاوز حد الاستحسان مدًى بعيدًا جدًّا.

  • الثالثة: «الحب» وهو أعظم شعور فينا يستغرق معظم عواطفنا ويدمجها فيه، بل يعظم العاطفة تعظيمًا، يرتفع بها إلى أسمى درجات الخيال. الحب يجمع فيه معظم الأخلاق الجيدة التي مرت بك.

    ولقد علمت فيما تقدم أن جرثومته الأولى في الغريزة الشهوانية التي ذكرناها في الحرف الأول، ولكن الإنسان الذي تعددت أخلاقه — كما علمت — وتطورت وترقت إلى أن بلغت حد الإحساس بالأمور العليا؛ كالمعجب والمدهش والجميل والجليل، نمتْ فيه جرثومة حبه تلك حتى تجاوزت الشهوة الغريزية إلى الشعور النفساني بالمثل الأعلى من الجمال.

    فالحب الذي نحن بصدده يتجاوز الغريزة الجسمانية إلى الهوى الشعري، والمحب يتعشق المثل الأعلى من الجمال.

    الحب روحاني، والشهوة جسدانية، وبينهما ما بين الروح والجسد من الفرق.

    وبقدر ما لهذا الشعور — الحب — من العظمة والقوة في نفس الإنسان له التأثير الأعظم في حياته، وله العمل الأقوى في دفعه للفعل، فيكاد يكون أعظم عامل في تصرفات الإنسان، وإليه يعزى معظم مساعيه وأعماله؛ فهو لا يعمل لأجل شهوته الجسدية والتناسلية عشر معشار ما يعمله لأجل حبه للجمال.

(٥-٣) إجمال

ومجمل القول في طوائف الأخلاق الأربع الرئيسية وفروعها أن الأخلاق الغريزية تدفعنا من أنفسنا إلى هنا وهنالك إلى أن نصيب شبعًا للشهوة، والعواطف تجمعنا بالأشياء الموافقة لطبيعتنا، والانفعالات تبعد بيننا وبين الأمور المخالفة لطبيعتنا، والإحساسات ترتقي بأرواحنا إلى أعلى درجة في الجمال والصلاح.

هذا ما استطعنا تبويبه وتفصيله من الأخلاق بأسلوب منطقي، وهناك أخلاق فرعية غير ما ذكرنا تتفرع من الفروع لا يمكن حصرها؛ لتعددها وتدخلها في فروع أخرى، واندماجها فيها، ولاتصالها في صفوف الفضائل والرذائل. وفي وسع القارئ اللبيب أن ينسبها للطائفة التي تنتسب إليها.

(٥-٤) تركب الأخلاق

ولا يخفى عليك أنه ما من فعل من أفعال الإنسان يقتصر على محرك واحد من الأخلاق المحركة، بل يشترك في تحريكه خلقان أو أخلاق على الغالب؛ فالساعي إلى المال مثلًا يندفع إليه بالود والطموح والبخل والطمع، والمدافع عن نفسه يندفع بالغضب والشجاعة والحقد، والساعي إلى الزعامة يندفع بالأمل والكرم والشمم والشجاعة والمثابرة إلخ.

فالإنسان مجموعة أخلاق، وأخلاقه قوات متوافقة أحيانًا، وأحيانًا متضاربة يتغلب بعضها على بعض، وحاصل عمله إنما هو نتيجة فعل هذه القوى المتوافقة والمتضاربة، كما أن المركب الشراعي يسير بحاصل أفعال مجرى النهر وهبوب الريح وحركة الدفة والمجذاف.

١  ولا يخفى عليك أن هذه الشهوة الجنسية تُعَدُّ العنصر الأول الأساسي من عناصر الحب وأقواها، وسترى في «حرف العواطف» وفي «حرف الإحساسات» إشارة إلى عناصر الحب الأخرى. راجع كتابنا «الحب والزواج».
٢  تنبيه: قد جارينا مرتينو في حسبان هذه القوة غريزة من جملة الغرائز، ونحن أميل إلى حسبانها خاصة حيوية موجودة في كل حي؛ بل في كل مبدأ حيوي، وبدونها لا يظهر أثر للحياة؛ فهي أهم من أن تكون غريزة، أو هي أساس كل الغرائز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤