الفصل الأول

السلوك الحَسَن

في الباب الأول السابق بحثنا في كيفية إجراء الفعل منذ نشوء المحرك الذي يحركه إلى الغاية الأخيرة التي يرمي إليها، ولكننا لم نتصدَّ للخطط الأدبية التي يجب أن يختط فيها لكي يعد سلوكًا؛ أي إننا بحثنا في مجرى الفعل مجردًا عن سنته الأدبية. وإنما في هذا الفصل نبحث في أدبية الفعل؛ أي فيما يُقوِّمه من القوى الأدبية العامة.

فالباب الأول بحث عقلي، والباب الذي نحن فيه الآن بحث نفساني أدبي.

(١) السلوك

(١-١) ماهية السلوك

لا يعد الفعل سلوكًا ما لم تسيطر عليه الإرادة، ولا يعد السلوك أدبيًّا إلا إذا حدث بإرشاد التعقل، وجاز الحكم عليه بأنه خطأ أو صواب.

فالسلوك إذن هو فعل مقيد بالأدبية، أو هو فعل مراد خاضع لحكم العقل، هو حاصل أفعال الشخصية المؤلفة من النفس، والقوى العقلية، والنوابض، والظروف. والشخصية، كما علمتها في فصل سابق، تتغير بتغير الظرف الذي ينشأ بتحرك الفعل بقوة المحرك الخلقي، وبإدارة الإرادة؛ فالشخص يسلك سلوكه مدفوعًا بمحرك لقصدٍ راميًا إلى غاية معينة مرغوبة.

وبهذا المعنى يختلف الإنسان عن الحيوان؛ فالحيوان يتحرك بفعل الغريزة والشهوة من غير أن يتصور غاية معينة يرمي إليها. فهو يهجم على الطعام من غير أن يرمي إلى غرض الشبع، وإنما الغريزة تدفعه للأكل. يريد أن يأكل، ولكنه لا يريد أن يمتنع عن الأكل. ولكن الإنسان يريد أن يأكل، وقد لا يريد مع أنه جائع، ومتى أراد أن يأكل كان يرمي إلى غاية؛ وهي الشبع. وهو يتصور هذه الغاية قبل حدوثها، ويمكنه أن يتمتع بتصورها.

فكل فعل من أفعال الإنسان إنما هو تحت حكم الإرادة والتعقل، ومقرون بتصور الغاية أيضًا، وبالشعور بلذة الغاية، قريبة كانت أو بعيدة، ولكن فعل الحيوان وإن كان يرمي إلى غاية، بَيْدَ أنه غير مصحوب برغبة في غرض، ولا بتصور الغاية؛ ولذلك نحدد السلوك بأنه فعل يرمي إلى غاية معينة متصورة قبل حدوثها، ومرادة دون غيرها، وبهذا يتميز العاقل على غير العاقل، والبالغ على الطفل، والعاميُّ على السكران أو المجنون.

(١-٢) ضرورية الظرف للسلوك

وكما أن الفعل يستلزم وجود الظرف، كذلك السلوك الأدبي يستلزم وجود الظرف أيضًا؛ فما من سلوك إلا كان في ظرف خاص به، وطرق السلوك تختلف باختلاف الظروف؛ فأحوال الشخص الذاتية، من علم وجهل، وغنًى وفقر، وقوة وضعف، وصحة واعتلال إلخ، تعيِّن له ظروفًا مختلفة، وكذلك البيئة التي يوجد فيها وقتيًّا، أو لزمن تكيف ظروفه أيضًا.

فإذا كان في سفينة مثلًا فأشرفت السفينة على الغرق، فوجوده في هذه الحالة ومعرفته السباحة أو جهله إياها، أو وجود زوارق للنجاة كافية، إلى غير ذلك، كل هذا يعيِّن ظرفًا خاصًّا لسلوكه غير ظرف سواه، وسلوكه يتوقف على هذا الظرف الذي يحدد شخصيته؛ فشخصيته حينئذٍ غير شخصيته في حين آخر. قد ينتدب قبطان السفينة أهل المروءة لترك زوارق النجاة للأحداث والنساء واستلامهم هم للقدر؛ لأن الزوارق غير كافية للجميع. فزَيْدٌ من الناس يستسلم للقدر، ولكنَّ عَمْرًا لا يستسلم. فمروءة زيد أيضًا من جملة عناصر ظرفه.

(١-٣) العادة والاختبار

وبعض عناصر الظرف تكون وقتية عارضة، وبعضها عادية ثابتة، فالعادة تُكوِّن جانبًا كبيرًا من الظرف، وبالأحرى هي القسم الأوفر من شخصية المرء.

فمعرفة السباحة عادة مرافقة للمرء في كل حين، فهي تكون معه في البر والبحر والنهر، وفي حالة السلامة والخطر. وكل معرفة أو اختبار إنما هو عادة ملازمة لها شأنها في الظرف والشخصية.

ومهما تغيرت الظروف كان للمعرفة والاختبار ضلع فيها؛ فكثير الاختبار يسهل عليه أن يكيف نفسه بحسبها، أو أن يكيف بعضها حسب هواه، وقليله يصطدم بالظروف ويتخبط فيها خبط عشواء. وقيمة شخصية المرء تتوقف على سعة اختباراته، فالعادة إذن هي الحالة التي يعيش فيها المرء مكتسبًا منها اختبارات خاصة تحدد شخصيته وظروفه.

من الاختبارات العادية تنشأ قوة الحكم والاختيار؛ لأن المرء يتعلم من الاختبار الصواب والخطأ، وتتولد فيه قوة الحكم. والأمر الذي لم نختبره بعدُ، أو إن لم نعرفه، لا نستطيع الاختيار فيه. فالشخصية الصالحة إذن هي التي تعلمت من الاختبار أن تختار الأصلح والأجود، هي التي تبتدع لنفسها ظرفًا أدبيًّا يُسَيِّر الفعل في مجرًى أدبي يؤدي إلى غاية حميدة، ولا يقال عن شخص إنه صائب أو مخطئ في عمله، أو إنه صالح العمل وجيد السلوك إلا إذا كان عمله ينتج مسرة له ولغيره، أو له على الأقل، ولا ينتج ضررًا لا له ولا لسواه.

فالذي يحسن أو يصنع خيرًا لغاية دنيئة لا يعد عمله صالحًا؛ لأنه لا يجد سروره في الإحسان، بل سروره في تلك الغاية الدنيئة الضارة بغيره. إذن السلوك الأدبي الجيد الفعل والغاية هو ما كان يبتغي السرور فيه من الغاية الجيدة. وهنا يسوقنا البحث إلى موضوع الحسن أو الجيد أو الحميد. ونقتصر هنا على لفظ «الحسن» في التعبير عن كل جيد أو حميد.

(٢) الحَسَن

(٢-١) ما هو الحَسَن؟

قبل أن نبحث في الحكم على الفعل — أو السلوك أو التصرف — إن كان حسنًا أو غير حسن، يجب أن نبحث فيما هو الحسن أو الصالح، أو الجيد أو الحميد. وهي مترادفات. ولكي نفهم ما هو الحسَن إلخ، نبحث فيما هو الحُسْن أو الجودة.

تقول: هذا القلم حسن أو جيد؛ لأن جودته قائمة في كونه يكتب بسهولة كتابة واضحة، وتقول: هذا الكتاب حسن؛ لأن حسنه قائم في كونه يمنحك معرفة مفيدة كنت تجهلها، وتقول: إن هذا المكتب جيد؛ لأن جودته قائمة في كونه واسعًا ترتاح في الجلوس إليه وفي استعماله، وتقول: هذا الطعام جيد؛ لأنه شهيُّ الطعم مغذٍّ، وهذه الزهرة حسنة؛ لأن منظرها يشرح نظرك، ورائحتها تنعش نفسك.

فأول ما يتبادر إلى ذهنك في استخراج تعريف الحُسْن أو الجودة، أو الحَسن أو الجيد، أنه هو ما كان مؤديًا للغرض الخاص به، ولكن هل يمكن أن يكون هذا التعريف جامعًا مانعًا؟ إن المكتب الذي عددته حسنًا لأنك ارتحت في الجلوس إليه وفي استعماله ليس حسنًا لابنك الصغير الذي لا يرتاح لديه، والطعام الذي اشتهيته لأنه لذيذ الطعم لا يوافق معدتك، فما أدى إلى الغاية المرغوبة التي هي صحتك.

إذن ليس كل ما يفضي إلى الغرض الخاص به يعد حسنًا؛ فالمدية تعد حسنة لأنها تبري القلم، ولكنها لا تعد حسنة حين تجرح يد الطفل، وهذا الطعام يعد حسنًا لأنه يرضي حاسة الذوق، ويعد رديئًا لأنه يضر المعدة؛ فلا يكون الشيء حسنًا بنفسه لنفسه. إذن لماذا نعدُّ الشيء حسنًا أو رديئًا؟

(٢-٢) هل الحَسَن ما وافق الغاية المرغوبة؟

لعلك تظنُّ وتعود إلى موضوع الغاية المرغوبة وتقول: إن الحسن هو ما أفضى بنا إلى الغاية المرغوبة. فهذا الدواء مع أنه مٌّر هو حسن؛ لأنه نافع للصحة، والصحة هي الغاية المرغوبة. ولكن الغلام مع اقتناعه بأن الدواء نافع له ينفر منه، ويأبى أن يأخذه، فمع كونه مؤديًا إلى الغاية المرغوبة لا يستحسن. ألا ترى أنك تعرف أمورًا كثيرة تؤدي إلى غايات مرغوبة ولكنك لا تبتغيها؟ فما هي حسنة إذن في نظرك! أنت تعرف أن الاجتهاد يغنيك، والغنى غاية مرغوبة، ولكنك لا تجتهد! وتعرف أن صنع المعروف غاية مرغوبة ولكنك لا تصنعه! تعلم أن المسكرات ضارة، والإقلاع عنها غاية مرغوبة، ولكنك لا تقلع عنها!

(٢-٣) هل الحَسَن ما أنتج سرورًا؟

إذن قد نقول: إن أمر الحسن والجودة لا يتوقف على الشيء الجيد، ولا على تأديته للغاية المرغوبة، بل يتوقف على حكم المرء نفسه فيما إذا كان هذا الشيء حسنًا له، فيرغب فيه أو يجعله غايته المرغوبة، وكأنك تقول: إن الحسن أو الجيد هو ما أفضى إلى نتيجة سارة للمرء. فهو يتجرع الدواء المر المذاق لأنه يبتغي سرورًا بالصحة الجيدة، والطفل لا يقبل الدواء لأنه لا يدرك سرور الصحة، بل يبتغي لذة الذوق، فيطلب الشكولاتة الضارة بصحته وهو مريض لأنه يجد فيها حلاوة.

إذن هل يمكنك أن تقول: إن الحسن المطلق هو كل ما أفضى إلى لذة، أو هو اللذة بعينها؟ فالشكولاتة حسنة للطفل لأنه يستلذها، والدواء غير حسن له لأنه يعافه، والدواء حسن للرجل لأنه يُحسِّن صحته التي هي غاية سارَّة له، والسكِّير لا يقلع عن السُّكْرِ لأنه يبتغي لذة الثمل؛ فالسُّكْرِ حَسَنٌ عنده.

(٢-٤) هل الحَسَن ما اعتقدت بحسنه لك؟

بالطبع تقول: لا؛ لأنه حالًا يبدر لذهنك أنه لا يكفي أن يكون الشيء سارًّا بحدِّ نفْسِه، ولا يكفي أن يكون المرء مسرورًا به، بل لا بد من أمر آخر؛ وهو أن يكون المرء مقتنعًا أنه حسنٌ له بقطع النظر عن كونه سارًّا. فالسرور بالحسن لا يضمن حسنه، كما أن سرور السكِّير بالخمرة لا يضمن حسنها.

هنا بلغنا إلى النقطة الجوهرية في موضوعنا؛ وهي أدبية الفعل. هنا لا بد من قوة الحكم في الأمر هل هو حسن حقيقة أو غير حسن، هل يؤدي إلى الغاية المرغوبة، أو هل هو الغاية المرغوبة نفسها. قد يكون الحكم خطأ كما يمكن أن يكون صوابًا، فليس هذا موضوعنا الآن، بل سيكون موضوعنا فيما بعد.

(٢-٥) أدبية الحَسَن

إذن الحسن هو ما كان حسنًا بحدِّ نفسه؛ أي مطابقًا للغاية التي وُجد لها، وكنا نحن نستحسنه أيضًا؛ أي نعتقد أنه حسن لنا، فمنه الحُسْن أو الجودة، ومنا الاستحسان. فاستحساننا سواء كان صوابًا أو خطأ هو حكمنا العقلي، وهو يقرر جودته، حتى إذا ظهر لنا بعدئذٍ أنه غير حسن استقبحناه وغيرنا حكمنا فيه.

فجودة الجيد في نظرنا ليست في صفاته التي اختبرناها به، بل في تأثيره في ذهننا التأثير الذي يحرك قوة الحكم فينا، فنحكم هل هو حسن أو غير حسن. وهذه القوة نعبِّر عنها بالاستحسان؛ فاستحسان الحسن هو حالة عقلية تُحْدِثُ في النفس شعورًا بالسرور. إذن الحسن ليس سرورًا بحدِّ ذاته، بل هو محرك للشعور السارِّ إذا كان الوجدان يحكم بأنه حسن، وإلا فمهما كان حسنًا بحدِّ ذاته فلا يعد حسنًا للمرء ما لم يستحسنه الوجدان. ليس حسنًا لخواص فيه، بل لأنه يُوافق حالة عقلية فينا تثير قوة الحكم باستحسانه، وعن يد هذه القوة نشعر بالسرور.

(٣) الجميل والجمال

(٣-١) الفرق بين الجميل والجيد

لكيلا يخلط القارئ بين الحُسْن والجمال، أو بين الحَسَن والجميل، أو لكيلا يلتبس عليه الأمران؛ نبحث في ماهية الجمال، ولا سيما أن للجمال نصيبًا من أدب النفس. ودفعًا لهذا الالتباس، نستعمل لفظتي جودة وجيد بدل حَسن وحُسْن؛ لأن لفظ الحسن بلغتنا يستعمل للجيد تارة وللجميل أخرى، والفرق بينهما ظاهر. كذلك بينهما فرقٌ من الوجهة الأدبية التي نحن بصددها؛ فالجيد قد يكون جميلًا وقد لا يكون، على أن الجميل جيد على كل حال، وإنما فيه شيء آخر يميزه عن الجيد. ولا بد من البحث فيما يميزه؛ لأن الجمال يلعب دورًا عظيم الشأن في الحياة الأدبية.

إذا قلنا: إن هذا الطعام جيد لأنه صحي؛ ولهذا استحسناه، فليس في هذا الاستحسان معنى الجمال، ولكن إذا قلنا: هذه الحديقة تسر الخاطر ولهذا استحسناها؛ فهي إذن جميلة، ولكنَّا لا نقول: إنها جيدة ما لم نمتع النفس بجمالها، فليس جمالها غايتنا المرغوبة، بل التمتع بها. والغاية المرغوبة هي الدخولُ إلى هذه الحديقة للتمتع بها، أو اقتناؤُها، أو إنشاء حديقة لنا مثلها.

فالفرق بين الجيد والجميل إذن هو أن الجيد لا نقول بجودته ما لم نحكم بها، وأما الجميل فنقول: إنه جميل بلا حكم في جماله؛ فالحكم العقلي يسبق تقرير ابتغاء الجيد، والإعجاب بالشيء يسبق تقرير جماله، فنقول عن هذه الزهرة: إنها جميلة لأننا أعجبنا بشكلها، ونقول: إنها جيدة لأننا ابتغينا اقتطافها للتمتع بنظرها ورسمها.

(٣-٢) الحكم للجمال على الذوق

فجودة الشيء تتوقف على الحكم العقلي بأنه غاية مرغوبة مبتغاة، وجمال الشيء يتوقف على «الذوق العقلي» الذي نبهه الإعجاب بهذا الشيء. الجميل أحدث إعجابنا لأنه صاقَبَ ذوقَنا، وقد لا نبتغيه فلا نقول: إنه جيد، بل نكتفي بالقول: إنه جميل؛ لأن الجودة تتوقف على الابتغاء، والجيد لا شأن له في قوة الحكم فينا لنقرر إن كان غاية مرغوبة أو لا.

فقد أعجب بالموسيقى ولكني لا أبتغي التمتع بها؛ لأني لا أريد أن أدفع ثمن تذكرة دخول إلى حفلة الغناء، أو لا أبتغي أن أتعلم الموسيقى لأني أنفر من مشقة تعلمها، كذلك أعجب بالحديقة الغَنَّاء ولكني مشغول عن الطواف فيها للتمتع بجمالها.

(٣-٣) تلازم الجمال والجودة

ومع ذلك لا نستطيع أن نجرد الجمال من الجودة كل التجريد؛ لأننا في حين نُجتَذَب إلى الجميل نكون متمتعين بجماله، ولا نجتذب إليه ما لم يقع تحت حواسنا، ومتى وقع تحت حواسنا أصبحنا متمتعين به، وإنما نعجب بذكرى الجميل الذي أعجبنا واجتذب حواسنا، ومع ذلك لا تخلو هذه الذكرى من شيء من التمتع؛ إذن الجميل وإن كان متميزًا عن الجيد فهو مصطحب له دائمًا.

(٣-٤) الحق المطلق والجمال غير المطلق

وهناك فرق آخر بين الجمال والجودة، وهو فرق عقلي بحت؛ فالجيد يحتمل الحكم فيما كان حقًّا أو صوابًا، أو ضلالًا أو خطأ، ولكن الجميل لا يحتمل هذا الحكم؛ فقد يمكن أن تبلغ إلى الحق المطلق، وأما إلى الجمال المطلق فلا تبلغ؛ لأن جماله متوقف على حكم الذوق لا على حكم العقل المنطقي: فما يكون جميلًا عندك قد لا يكون جميلًا في نظر غيرك.

ولكن الحق المطلق واحد للجميع إذا فهمه الجميع؛ فلا ريب عندك وعند غيرك أن الصعود أصعب من النزول، وأن الجوع ألم والشبع لذة، وأن الاعتدال أسلم عاقبة من التهور. ولكن الشرقي يختلف عن الغربي في تذوُّق الموسيقى؛ فالموسيقى الشرقية لا تلذ للغربي، والعكس بالعكس. وقد تستحسن هذه الصورة وغيرك لا يستحسنها؛ ولهذا قيل: «ما على الذوق جدال.»

(٣-٥) الجودة حيوية والجمال روحاني

وهناك فرق آخر بين الجمال والجودة؛ فالجودة تتوقف على تحريك الغرائز الشهوانية لابتغائها، فهي تجاوب حاجة طبيعية في الشخصية، ولكن الجمال يتوقف على بغية النفس للمثل الأعلى، فهو روحاني أكثر مما هو جسداني، وهو المحور الذي يدور حوله الرقي الإنساني في هذا الموضوع من كتبنا السالفة كلها. انظر أيضًا الفصل الرابع حرف (أ).

(٤) الحَسَن السَّار

(٤-١) هل كل مسرة جيدة؟

بقي أمرٌ آخر لا يحسن بنا أن نتجاوزه إلى المواضيع الأخرى؛ لأنه حلقة جوهرية في سلسلة أبحاثنا، فإذا تجاوزناه انقطعت السلسلة؛ وهو: هل كل مسرة جيدة؟ وأية المسرات أجود؟

نحن في محيط من بواعث الأفعال المؤدية إلى غايات مرغوبة هي سارة — على الغالب — وكثيرًا ما نجد أنفسنا في ظرف أو ظروف مختلفة تزين لنا مسرات مختلفة، بعضها قريبة وبعضها بعيدة، سهلة المنال وبعضها صعبة، فأيتها هي المسرة الجيدة؟ لديك الخمرة؛ فاحتساؤها غاية مرغوبة سارة، ولكن الامتناع عنها مخافة إدمانها غاية سارة أيضًا، فأيهما الجيدة أو أيهما أجودهما؟ السِّكِّير يقول: احتساؤها أجود، والصاحي يقول: بل الامتناع عنها أجود. إذن هنا نحتاج إلى قوة الحكم العقلي للاختيار بين جيدين: جودة الثمل، وجودة سلامة الصحة.

مثال آخر: لدى المتمول مشروعان أو مشروعات مختلفة؛ فأولًا: أنه يبتاع أسهمًا مالية عرضة للصعود والنزول، وهو يرجح الكسب، وثانيًا: أنه يشتري عقارًا مضمون الربح، ولكن ربحه أقل من ربح الأسهم، وثالثًا: أنه يتاجر بأضعاف وافرة الربح وأقل خطرًا من المضاربة بالأسهم، ولكنها مع ذلك عرضة للخسارة. وكل هذه غايات مرغوبة سارة، ولكن أيها الجيد أو الأجود. فهنا يستلزم الأمر انتداب العقل للحكم بين التهور والاعتدال والخوف من الخسارة. هنا ثلاثة أخلاق محركة تدفع لثلاثة أفعال مختلفة، وتؤدي إلى ثلاث غايات سارة، وللعقل أن يحكم أيها أجود.

مثال آخر: أنت في مجتمع حافل: فهنا مرقص، وهنا دائرة غناء، وهنا دائرة مقامرة، وكلها سارة، فأيها الجيد الذي تختاره؟

في هذه الأمثلة المختلفة تجد المرء بين مسرات مختلفة بعضها يباين بعضًا، وبعضها أكثر إغراء من بعض له لا لغيره، فلا بد له من الاختيار، فما الذي يوجب اختياره لهذا دون ذاك؟

(٤-٢) هل المسرة العظمى جيدة؟

أول ما يبدر لذهنك أن تقوله هو أنه يختار المسرة العظمى له؛ فهي الجيد المبتغى، أو أنه يختار الغاية التي تصحبها مسرات أكثر من سواها. فالمتهور يختار المضاربة على قنية العقار؛ لأن فيها سلسلة من المسرات العديدة فيما هو يضارب، وحين يربح، حتى حين يخسر.

ولكنَّ المسرة لا قياس لها ولا قدر؛ فالذي يرغب في قنية العقار يفضل السرور بربحه المضمون على السرور المتتابع في المضاربة، والذي يسمع الموسيقى يفضل التمتع بجمالها على السرور المتتابع في الرقص أو في المقامرة. فتعدد المسرات لا يضمن جودتها كغاية مرغوبة، ووفرة الربح السريع لا تضمن جودته عند صاحب العقار الذي يفضل الربح المعتدل المضمون البطيء، إذن ما هي المسرة الجيدة حقيقة؟

(٤-٣) المسرة الجيدة ما أرضت هوى النفس

هي ما أرضت هوى النفس رضًى تامًّا، فإن كان المضارب يعتقد أن المضاربة تبلغه إلى رضى النفس هذا كانت المضاربة تؤدي إلى غايته الجيدة. فوظيفة الحكم العقلي هنا هي أن يقرر إن كانت المضاربة تؤدي إلى هذه الغاية أو إلى الندم، فإذا أجود الغايات السارة، أو أجود المسرات هو السعادة بعينها.

فتعدد المسرات واختلافها ينقل بحثنا إلى موضوع أدبية الفعل؛ حيث نبحث في كيفية الاختيار بين جيد وجيد، وتقرير الجيد والرديء، وما هي القوة الحاكمة وطبيعتها، وكيف تضل وتصيب. فإلى الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤