الفصل الثاني

الحكم

(١) الحكم بالنسبة إلى الفعل

(١-١) السلوك القابل الحكم

علمت مما تقدم أن الفعل لا يعد سلوكًا أو تصرفًا إلا متى أسند إلى الأدبية؛ أي إن السلوك هو فعل أدبي، ولا يعد الفعل أدبيًّا إلا متى كان مرادًا، فالسلوك إذن هو فعل مراد، فإذا لم يكن الفعل مرادًا؛ أي تأمر به الإرادة، أو لم تكن هناك إرادة لتأمر به وتنهى عنه فلا وجه للحكم عليه أو فيه؛ لأنه ليس أدبيًّا، بل هو خارج عن السنن الأدبية.

فهياج البحر وتحطيمه للسفن لا يعدُّ سلوكًا يستوجب الحكم عليه إن كان حقًّا أو غير حقٍّ، أو صوابًا أو غير صوابٍ؛ لأنه ليس هناك إرادة صادرة من ذاتية بشرية موجهة الفعل في وجهته؛ ولذلك كان زركسيس الآشوري أحمق حين أمر بجلد البحر؛ لأن البحر حطَّم الأرماث التي كان جيشه مزمعًا أن يعبر عليها من آسيا إلى أوروبا في مضيق البوسفور.

وكذلك ليس معنًى للحكم بالصواب أو الخطأ فيما لو أمطرت السماء فأنعش المطر الزرع وتلافى المجاعة من جهة، وجرفت سيوله بعض الأراضي وأغرقت الماشية من جهة أخرى؛ لأنه ليس هناك إرادة بشرية أذنت بالفعل. كذلك ليس لنا أن نحكم على سطو الوحوش الضارية على الماشية؛ لأن فعلها هذا صادر عن غريزة بلا إرادة، وكذلك ليس لنا أن نحكم على تصرف الجندي متى صدر إليه أمر القائد بإطلاق الرصاص على العدو؛ لأنه لا ينفذ إرادته الشخصية، بل إرادة القائد، فما هو إلا كآلة للتنفيذ.

وهكذا لا يصح الحكم على أمر القائد؛ لأنه ينفذ أمر حكومته، فإرادة الحكومة هي التي تقع تحت الحكم في قضية قتل العدو، وإنما نحكم على انتظام الجندي في سلك الجندية إذا كان متطوعًا؛ فقد أراد، ونحكم على ظرف أمر القائد للجنود بإطلاق الرصاص؛ فقد يكون خطأ من الوجهة الحربية أو قد لا يكون. فمن ذلك تفهم أن الحكم لا يجوز إلا على السلوك الذي هو فعل موجه بإرادة حرة.

(١-٢) ماهية الحكم

وهنا قد تسأل ما المراد بالحكم؛ هل هو حكم في طبيعة الشيء أو الفعل؟ كأن تقول: هذا العمل شاق أو هين، أو إن هذا الشيء غالٍ أو رخيص، أو إن هذا الفعل عقلي أو جسدي أو نحو ذلك. لا، ليس المراد به الحكم في الشيء كتحليل لطبيعته من وجهة فلسفية أو منطقية، بل المراد به الحكم على الفعل بالنسبة إلى قاعدة أو مبدأ أو سنة: هل هو مطابق لهذه القاعدة أو المبدأ أو السنَّة أو مخالف لها؟

الحكم الأدبي ليس تقريرًا لطبيعة الشيء، بل هو تقرير لمطابقة فعل الشيء للمبدأ الأدبي — الذي تقرر من جراء مقابلة التصرفات والأفعال البشرية ومقارنتها بعضها ببعض لاستخراج ذلك المبدأ أو القاعدة — فنحكم بأن السرقة خطأ، والصدق صواب، ووفاء الدين حق، واختلاسه غبن؛ لأن الخطأ والصواب والعدل والغبن إنما هي مبادئ أدبية يطبق الفعل المراد أو السلوك عليها بقوة الحكم العقلي.

إذن ترى مما تقدم أن للحكم الأدبي عنصرين؛ الأول: الموضوع الذي يحكم فيه، والثاني: المبدأ الذي يستند عليه. العنصر الأول: انفعال من حركة الشيء الذي يحوم الحكم حوله، والثاني: هو رد الفعل من القوة الحاكمة المتكون فيها المبدأ أو القاعدة. وإسناد الحكم إلى الموضوع طبقًا للقاعدة أو المبدأ يختلف باختلاف الظروف والأحوال، وبحسب رسوخ القاعدة والمبدأ أو قبولهما التنقيح «التعديل»؛ لأنه إذا كان المبدأُ راسخًا كسُنَّة طبيعية خالدة انتفى لزوم الحكم، فلا.

ومعنى للحكم في قولك: إن الشمس ستغرب مساء، وتشرق غدًا صباحًا، وإن الحجر إذا رمي إلى العلا لا بد أن يعود إلى الأرض؛ لأن سنة الجاذبية أبدية ثابتة لا تحتمل الشك، وكذلك إذا كان الظرف أو الحال ثابتًا فتطبيق الموضوع على القاعدة، وإسناد الفعل إلى المبدأ أمر مقرر أيضًا، فلا معنى للحكم، ولكن إذا كان المبدأ قابلًا للتغيير بحسب الزمان والمكان، فلا غنى عن قوة الحكم: فتعمد القتل جريمة؛ لأن المبدأ الأدبي «لا تقتل»، ولكنه ليس جريمة في الحرب، والسرقة إثم؛ لأن المبدأ «لا تسرق»، ولكن السارق الجائع قد يُعذَر.

فترى مما تقدم، أنه كلما قرب المبدأ أو القاعدة إلى الرسوخ والثبات قل لزوم الحكم فيه، وبالعكس؛ كلما كان المبدأ أو القاعدة محتمل التغيير كان للحكم وجوه وفيه نظر، كما سترى فيما يلي:

(١-٣) مبادئ الحكم الرئيسية

  • (١)

    الجمال والقبح.

  • (٢)

    الجودة والرداءة.

  • (٣)

    اللذة والألم.

  • (٤)

    الصواب والخطأ.

  • (٥)

    الحق والباطل.

  • (٦)

    الفضيلة والرذيلة.

  • (١)
    الجمال والقبح: وهما يقعان تحت حكم الذوق العقلي أو الإحساس العصبي؛ فالإحساس العصبي يقرر حلاوة الحلو ومرارة المر، والذوق العقلي يقرر جمال النغم والقصيدة والصورة، وقبح النهيق والنقيق وسوء الترتيب إلخ.
  • (٢)
    الجودة والرداءة: وهما تقعان تحت حكم الشعور الوجداني؛ فهو يقرر أن إغاثة الغريق أمر جيد لأنه مروءة، والمروءة مبدأ جيد، والاعتداء على الضعيف أمر رديء لأنه ظلم، والظلم مبدأ رديء.
  • (٣)
    اللذة والألم: وهما يقعان تحت حكم الشعور الوجداني تارة؛ فهو يقرر أن الربح والفوز لذيذان، والخسارة والانكسار مؤلمان، وتحت حكم الإحساس العصبي تارة أخرى؛ فهذا يقرر أن الراحة بعد التعب لذيذة، وأن التعب مؤلم.
  • (٤)
    الصواب والخطأ: وهما يقعان تحت حكم التعقل؛ فهو يقرر أن اقتحام المأسدة خطر لأنه مجازفة، والمجازفة مبدأ خطأ، وأن السير في الطريق المطروق أصوب من السير في الوعر.
  • (٥)
    الحق والباطل: وهما يقعان تحت حكم الضمير، فهو يقرر أن إيفاء الدين حق، وأن اهتضام مال الغير باطل؛ لأن المبدأ «لا تختلس مال غيرك».
  • (٦)
    الفضيلة والرذيلة: وهما تقعان تحت حكم الشخصية الإنسانية؛ فهي تقرر أن حب القريب كالنفس فضيلة، وأن البغض رذيلة، والكرم فضيلة، والبخل رذيلة.

(١-٤) تفاوت أدبية المبادئ

ترى أنه كلما سمت القوة الحاكمة كان الحكم أكثر أدبية وبالعكس؛ ففي الجمال والقبح يكون الحكم للإحساس العصبي أو الذوق العقلي. وهنا يختلف الناس في إحساسهم وأذواقهم، فقلما يعد الحكم أدبيًّا؛ لأن ما هو مليح لك قد يكون قبيحًا لسواك. أنت تستلذ القهوة الحلوة وغيرك يستلذ القهوة المرة.

وفي مسألة الجودة والرداءة شيء من الأدبية؛ لأن في حكم الشعور الوجداني الذي هو أسمى من الإحساس والذوق شيئًا من الأدبية، لأنك وأنت تحكم تريد أو لا تريد، وحيث توجد الإرادة يبتدئ الحكم الأدبيُّ. فأنت تعلم أن السُّكْرَ رديء والصَّحْوَ جيد، ولكنك تريد ذاك لا هذا.

وكذلك الأمر في اللذة والألم؛ لأنهما تحت حكم الشعور الوجداني والإحساس العصبي.

والفرق بين اللذة والجودة هو أن اللذة نتيجة فعل، والجودة معرفة فقط. فأنت تعرف أن الإحسان أمر جيد، ولكنك لا تستلذه ما لم تفعله.

وأما الصواب والخطأ فأعلى من المبادئ المذكورة؛ لأنهما تحت حكم التعقل، ولذلك هما أدبيان محضان؛ لأن إجراءهما متوقف على الإرادة المحضة بعد الحكم فيهما.

وكذلك أمر الحق والباطل؛ لأنهما تحت حكم الضمير، وهو يتضمن قوة التعقل. والفرق بين الصواب والحق هو أن الحق أمر يتعدى منك إلى سواك، وأما الصواب فأمر مختص بك، فإذا تعدى إلى سواك صار حقًّا. فأنت تعلم أن القمار خطأ؛ لأنه يعرضك للخسارة، وإذا أغريت غيرك على المقامرة وعرضته للخسارة كان فعلك هذا غير حق؛ أي باطلًا.

وأما الفضيلة والرذيلة فأعلى أدبية من سائر المبادئ؛ لأنهما تحت حكم الشخصية الإنسانية التي هي أقرب إلى المثل الأعلى. والفرق بين الفضيلة والحق والصواب هو أن الفضيلة مبتغاة كحلية للشخصية بقطع النظر عن العلاقة مع الغير.

وستتضح لك جميع هذه الرئيسيات في تضاعيف الفصول التالية.

(٢) الحكم بالنسبة إلى الفاعل

(٢-١) الحكم على الفعل لا على الفاعل

تقرر في ذهنك، فيما تقدم، أن الحكم يكون على الفعل صوابًا أو خطأ، حقًّا أو باطلًا، جيدًا أو رديئًا، ولكن الفعل صادر عن فاعل، فهل يتناول الفاعل أيضًا؟ هل نحكم على فلان أنه مصيب أو مخطئ إذا كان فعله صوابًا أو خطأ؟ هبْ أن زيدًا رمى عَمْرًا بتفاحة وهو يريد أن يفقأ عينه بها، ولكن عَمْرًا تلقاها بقبضته وأكلها، فنتيجة الفعل كانت جيدة، ولكن قصد زيد كان سيئًا. فالحكم على الفعل اختلف عن الحكم على الفاعل، كذلك الحكم يختلف فيما لو رمى زيد التفاحة إلى عمرو لكي يأكلها فأصابت عينه؛ فالفعل سيئ والفاعل حسن القصد.

إذن إصابة الحكم تتوقف على الفعل وما اقترن به من إرادة وقصد وداعٍ، فإذا كانت الإرادة صالحة، والطريقة التي تُنفِّذُ بها الفعل جيدة، والداعي للفعل جيدًا؛ كانت النتيجة جيدة، فالحكم على الشخصية تابع للحكم على الإرادة والقصد والداعي الذي رمى إلى الغاية. قد يخيب الفعل فلا يبلغ الغاية المقصودة، فهل نعد الفعل خطأ أو غير جيد؟

قد ينبري زيد لتخليص عمرو من الغرق، ولكنه قد لا ينجح، أو قد يكون فعله سببًا آخر لإغراق زيد، أو ربما غرق معه، فلا نعدُّ فعله خطأ؛ لأنه حسن القصد. لا نحكم على النتيجة، بل على القصد والإرادة والداعي، ونقول: إنه فعل حسنًا؛ لأن الداعي كان إنقاذ عَمْرٍو، وقد أراد إنقاذه وفعل قاصدًا الإنقاذ. وأما فشله فلا يعد خطأ، وإنما إذا كان لا يحسن السباحة وقد انبرى للفعل حكَمنا على تهوُّره لا على قصده، وقلنا: إن تهوره كان خطأ، وأما فعله فكان حسنًا.

(٢-٢) الحكم يرجع للإرادة الصالحة

ففي رأس عوامل الحكم عامل الإرادة الصالحة؛ فهي تعين الحكم الصالح، والفعل الصادر منها يعد صالحًا ولو كانت النتيجة خطأ كما علمت. وإنما لكي تكون الإرادة صالحة يجب أن تكون مقرونة بالحكمة التعقلية السامية؛ فكل إرادة صالحة على هذا النحو تفضي إلى نتيجة صالحة، ولا نتيجة صالحة تنتج عن إرادة رديئة، وإن نتجت عنها النتيجة الصالحة فلا تنسب إلى الإرادة السيئة، بل إلى ظرف عارضٍ حوَّل الفعل إلى نتيجة حسنة رغم الإرادة.

لذلك لا يمكن أن نقول: إن زيدًا أصاب، أو هو على حق، أو أحسن الفعل، إذا كانت إرادته رديئة، ولو أدى عمله إلى فعل حسن. فإذا رمى الصياد طُعْمًا للسمكة بسِنَّارة، فأكلت السمكة الطعم ولم تعلق في السنارة؛ ففعله سيئ للسمكة؛ لأنه كان ينوي صيدها لا إطعامها، وإذا أقرض زيدٌ عَمْرًا مالًا بربًى فاحشٍ، فانتفع عَمْرٌو بالمال نفعًا عظيمًا ثم ردَّ المال لزيد؛ فلا يعدُّ عمل زيد صالحًا وإن كان قد نفع عَمْرًا؛ لأن نيته كانت سيئة، وهي انتهاز فرصة حاجة عَمْرٍو للمال لابتزاز ربًى فاحش منه.

(٢-٣) الحكم على الفاعل يتوقف على حكم الإرادة الصالحة

على أن المقاصد تختلف، والنيات تختلف من حيث الغاية والداعي إليها، فقد تكون صالحة قليلًا أو كثيرًا، حسب صلاحية الإرادة وصلاحية الحكمة المتضمنة فيها؛ فقد ينوي زيد أن يساعد عَمْرًا في مشروع، فيشترك معه فيه بغية إنجاحه، ولكن عَمْرًا طائش وجاهل فلم يحسن القيام بالمشروع. فزيد حسن النية، ولكنه قليل الحكمة، فلم يفطن لقلة أهلية عَمْرو للمشروع، فتعقله غير صالح. وإليك مثلًا أبسط: أحسن زيد على فقير بشلن، ولكن الفقير أنفق الشلن على الخمرة فسكر وعربد. فإرادة زيد لم تكن صالحة؛ لأنه كان يعرف أن هذا الفقير سكِّير، فكان يجب أن يعطيه رغيفًا لا شلنًا.

إذن يتناول الحكم على الفعل الحكم على الفاعل أيضًا بقدر ما للفاعل من الإرادة الصالحة، والتعقل الحسن. والحكم على الشخصيات يتوقف على ما لها من الإرادات الصالحة المقرونة بالحكمة والمواهب التي تُحسن الحكم.

(٢-٤) لا حكم على محركات الفعل الغريزية

إذا كان الحكم يتناول الداعي للفعل أيضًا، كما علمت، فهل يجوز الحكم على محركات الفعل الغريزية وأشباهها؟ هبْ أن زيدًا فوجئ بأفعى ظهرت بين رجليه فخاف فهرب، فهل نقول: إنه كان يجب عليه أن يقتلها لا أن يخاف وإلا فهو جبان؟ نعم، جَبُنَ في تلك اللحظة، ولكن الجُبن ليس خلقة فيه؛ فلا نحكم عليه بالجُبن؛ لأن هربه لم يكن بإرادته، بل بانفعاله. لو رآها من بعيد لانبرى تعقله وقرر مهاجمتها وقتلها. وهنا يريد فيفعل؛ فالحكم عليه بأنه جبان أو شجاع يجوز حين يكون له وقت للتفكير والإرادة، ولكنه لا يجوز في حالة المفاجأة؛ لأن الهرب كان بلا إرادة، بل بفعل المحرك وحده، وهو الانفعال النفساني؛ أي الخوف.

إذن لا يصح الحكم بالخطأ أو الصواب على المحرك ما لم تنبرِ الإرادة لتسيير الفعل؛ ولهذا يُعذر الغضوب إذا ضرب، والسكران إذا تمادى في الشرب وعربد؛ لأنه أصبح بلا إرادة، وإنما يلام هذا لأنه ابتدأ بالشرب، وذاك لأنه تسرَّع.

نحكم على الشخص إذا كان يستسلم لغرائزه وعواطفه وانفعالاته ونقول: إنه ضعيف الإرادة، عاجز عن ضبط هواه؛ فالحكم ليس على عمله، بل على شخصيته؛ لأنها غير حسنة، غير صالحة.

•••

في كل ما تقدم تكلمنا عن طبيعة الحكم المجرد من غير نظر إلى الحاكم وكيفية الحكم والقواعد التي يستند إليها، فمن هو الحاكم أو الفيصل أو القاضي؟ الضمير. وفيما يلي تبسُّط كافٍ فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤