الفصل الثالث

الضمير

(١) قوة الضمير

(١-١) وظائف الضمير

الحكم يستلزم محكمة، والمحكمة في الأدبيات قائمة في نفس الإنسان، في عقليته، في شخصيته العاقلة؛ وهي الضمير. والضمير — بواسع معناه — مُشترعٌ وقاضٍ ومنفذٌ، ويمكن أن يكون زاجرًا وشاكيًا وشاهدًا أيضًا.

فالضمير «مشترع» حين يميز بين الصواب والخطأ، والحق والباطل، فيقول: هذا الفعل صواب أو حق، أو خطأ أو باطل، ويكون قاضيًا حين يأمر بالفعل الصائب والحق، وينهى عن الفعل الخاطئ أو الباطل، ويكون منفذًا حين يَسرُّ النفس بنتيجة الفعل الحسن أو الحق، أو يؤلمها بنتيجته السيئة أو الباطلة، ويكون زاجرًا حين يقدم الإنسان على الفعل الباطل أو السيئ فيردعه الضمير عن إتيان الفعل، ويتهدده بألم النفس، أو حين يتردد الإنسان في العمل الصالح فيأمره الضمير أن يفعل وإلَّا تهدَّدَه، ويكون شاكيًا أو شاهدًا بعد وقوع الفعل فيقول له: «لقد فعلت فلا تنكر.» ويعاقبه بالتبكيت والتأنيب.

ولكن هل يكون الضمير مصيبًا دائمًا في قضائه؟ هناك عوامل تعمل في اشتراع الضمير، وفي حكمه: فللعواطف والانفعالات تأثير على الضمير، وللوجدان أو التعقل شأن كبير، وللشرائع والعادات فعل فيه. وهناك مبادئ ونظريات متباينة متضاربة تلعب في الضمير؛ فالضمير إذن عرضة للخطأ والصواب في الحكم، ولذلك نبحث فيما يلي في الأركان التي يستند عليها الضمير في الحكم لكي يمكن أن يكون حكمه صائبًا إذا استوفاها.

(١-٢) المقاصد الحسنة

أول ما يتجلى للعقل — في أي أمر أو فعل — أن للإنسان حقًّا طبيعيًّا في أن يرمي بفعله إلى غاية حميدة له؛ لأنه محتاج إليها لحفظ كيانه، فإذا استوفاها سرَّت نفسه، ولكن تقوم لديه اعتراضات مختلفة؛ أهمها أولًا: هل يمس هذا الأمر مصلحة غيره؟ هل تحتك غايته بغاية غيره الحميدة فتنقضها أو تشوهها؟ (٢) هل تثلم غايته هذه مصلحة الجماعة أو تنقضها أو تعرقلها؟ (٣) هل هذه الغاية التي يرمي إليها هي أفضل غاية حميدة ممكنة له، أو هل هي حميدة حقيقية؟ أو هي الغاية القصوى الحميدة، أم هي مفضية إلى غاية بعدها سيئة؟

(١-٣) الضمير تحت تأثير الأخلاق والسجايا

فإذا تدخلت العواطف والانفعالات في الأمر فقد يلتبس الأمر على الضمير، ولا سيما إذا كانت العاطفة شريفة وحسنة. هب أنه التجأ إليك هارب فأَخْبَأتَه، ثم جاءك مطاردوه وسألوك عنه فأنكرت وجوده عندك إشفاقًا عليه، فهل يبرر ضميرك هذا الكذب؟ إذا كان مطاردوه أعداء له فقد يقول ضميرك: «لا بأس من الكذب؛ فقد خلصت حياته بهذه الكذبة.» وإذا كان مطاردوه شرطة يبتغون القبض عليه للمحاكمة، فقد خلصته ولكنك أثمت للعدل، فأيهما هنا أحق في ظنك: إخلاص حياته أو تسليمه للقضاء العادل؟ هنا تدخُّل العاطفة أفسد على الضمير حكمه.

إذن لكي تكون العواطف والأخلاق على العموم ذات شأن بالتدخل في أحكام الضمير يجب أن تكون مهذبة راقية إلى جهة المثل الأعلى، بحيث يمكن أن تقف عند حد الصواب فلا تطمس التعقل. نعم، إن الأخلاق الشريفة لا ترمي إلا إلى الغايات الشريفة، ولكنها قد تضل عن أشرف الغايات أو أفضلها؛ ولذلك يجب أن يصحبها التعقل دائمًا لكي يميز بين أفضل الغايات ويرشدها إليها.

الأم التي ترضع طفلها الذي نهاها الطبيب عن إرضاعه تغلبت عليها عاطفتها فابتغت الغاية السارة القريبة؛ وهي إشباع طفلها الذي يتألم من الجوع، حسب ظنها، وتعامَتْ عن الغاية القصوى؛ وهي شفاء ولدها. فضميرها ارتاح حين أرضعتهُ، ولكنه أقلقها حين استفحل مرض ابنها، فضميرها في أول الأمر لم يحكم في أي الغايتين أفضل؛ إشباع الابن وإسكاته عن البكاء الشديد أم شفاؤه؟ لأن العاطفة تغلبت عليها.

للعاطفة فضلٌ في التدخل إذا كان التعقل يوافق عليها ويقول لها: سيري في سبيلك؛ فالذي تدفعه المروءة لإنقاذ آخر من الخطر تكون مروءته قد لبت دعوة ضميره للفعل. والضمير يثيبها مسرة نفس بعد نجاح الفعل.

(١-٤) الضمير بإزاء الشرائع

الضمير ضعيف بإزاء الشرائع الدينية والمدنية؛ ولذلك تكون وظيفته القضاء فقط، فيقول لك: هذا موافق للشريعة فافعله، أو مخالف لها فلا تفعله، وإن فعلت فدونك عقاب الدنيا أو عقاب الآخرة، وإن كنت تسلم من عقاب الدنيا ولا تخاف عقاب الآخرة، أو لا تعتقد به؛ فيبقى ضميرك مؤنِّبًا لك، لا لأنك خالفت الشريعة فقط، بل لأن مخالفتها قد أضرت مصلحة غيرك أو مصلحة الجماعة؛ وذلك لأن الشرائع على الغالب ترمي إلى إقامة العدل والإنصاف بين الأفراد.

ولكن ليست كل الشرائع ضامنة للحق والصواب؛ ففي كل زمان ومكان يكتشف العقل البشري أغلاطًا في الشرائع يضطرب فيها ميزان الحق والصواب، فهل للضمير أن يخضع لهذه الشرائع إذا لم يكن مُكْرهًا على الخضوع لها؟ نقول مكرهًا؛ لأنه في حالة الإكراه يبطل عمل الإرادة؛ وبالتالي لا يعود السلوك ضمن دائرة الآداب؛ لأن السلوك لا يعد أدبيًّا إلا إذا كان مرادًا كما علمت.

كان الصيدونيون يقدمون أطفالهم محرقات على ذراعي تمثال مولوك النحاسي وهو حامٍ كالنار. ونحن نستفظع الآن هذا العمل، فهل كان ضمير الصيدونيين صالحًا في ذاك الحين؟ كان صالحًا عندهم؛ لأنهم كانوا ينفذون شريعة إلههم الدينية، ولكنه كان شريرًا في نظر الإسرائيليين معاصريهم؛ لأن هؤلاء كانوا يعتقدون بألوهية يهوه فقط، وهو شجَب هذه الشريعة.

ولا بد أنه كان بين الصيدونيين أفراد كثيرون أو قليلون أسمى عقلًا من العامة يفهمون أن مولوك ليس إلهًا حقيقيًّا، وإلا لما كان يسن هذه الشريعة الفظيعة؛ لأن الوجدان السليم من شوائب الخرافات يستفظعها، فهؤلاء ينهاهم الضمير عن طاعة هذه الشريعة، وإن أطاعوها أنَّبَهم.

(١-٥) الضمير منقح الشريعة

وفي التاريخ كثير من الشرائع الدينية التي يستنكرها العقل الآن؛ كشريعة وأد البنات، ودفن الزوجة حية مع زوجها الميت، كذلك في التاريخ شرائع مدنية لا يعتدل فيها ميزان الحق؛ كالنخاسة، والعبودية، والحكم الفردي المطلق، ونفي الحرية الدينية، واستعباد النساء إلخ.

فالضمير المستسلم للشرائع لاعتقاد أنها منزلة، أو أنها إرادة الحاكم المقدسة يعد ضعيفًا؛ ولذلك لا يحفل بحكمه وهي — أي الشرائع — مسيطرة عليه، فالشريعة مهما تراءت حسنة فإنما هي محتملة الشك في كونها حقًّا أو باطلًا، أو عدلًا أو ظلمًا؛ ولذلك يبقى للضمير السليم القوي مجال للحكم في صوابها وخطَئِها؛ لأن الضمير بالحقيقة ليس إلا قوة التعقل، وقد أضيفت إليه قوة الإرادة الآمرة بفعل الصواب والحق؛ فعليه أن ينقح الشريعة لكي تقرب إلى المثل الأعلى. والمثل الأعلى في الشرائع هو أن تكون الشريعة ميزان الحق والعدل بين أفراد الجماعة على التساوي.

فالضمير في كل قضية تعرض عليه ينصب هذا الميزان، فحيث يجد الشريعة منصفة بين الأفراد، ولا تسوغ أرجحية لواحد على آخر أجازها وأمر باتباعها، وحيث وجد أنها مجحفة بأناس ومتحيزة لآخرين إذِنَ بعصيانها، اللهم إلا إذا كان عصيانها يسبب فوضى الجماعة — والفوضى تئول إلى شر أفظع من شر طاعتها — فحينئذٍ يجيزها تحاميًا للشر الأعظم؛ فهو يبتغي الخير الأعظم متى تضاربت المقاصد. فالسلام العام أهم وأفضل من سلامة الفرد أو الأفراد من الغبن والإجحاف.

الاشتراكيون المعتدلون يرون أن النظام الإفرادي الحالي مجحف بالعمال، ومُمكِّنٌ للمتمولين من استثمار أتعاب أولئك؛ ولذلك يسوغ لهم ضميرهم قلب هذا النظام واسترداد تلك الحقوق المغصوبة بواسطة نظامهم الذي هيَّئُوه، معتقدين أنه أضمن لحقوق الأفراد عمومًا، ولكنهم لا يحاولون قلب هذا النظام بثورة؛ لئلا يكون شر الثورة أعظم من شر النظام الحالي، وضميرهم يقول لهم: إن السلام العام أعظم من سلامة العمال من غبن المتمولين لهم، وقلب النظام بالطريقة الانتخابية أفضل عاقبة من الثورة.

(١-٦) تأثير التقاليد والعادات على الضمير

وهناك عوامل أخرى تؤثر على الضمير في إصدار الحكم وهو يستند إليها أو يستمد الحقيقة منها، وهي: التقاليد والعادات غير المقررة كشرائع دينية أو أدبية، بَيْدَ أنها تُكوِّن رأيًا اجتماعيًّا. والرأي الاجتماعي لا يعد رأيًا عامًّا مطلقًا؛ لأن الرأي العام المطلق غير موجود، بدليل وجود الأحزاب المختلفة في الرأي؛ ولذلك يوجد مجال لحكم الضمير، لأنه لو كان الرأي عامًّا مطلقًا كان كشريعة فيضعف الضمير بإزائه، وكان للرأي العام سلطة عليه فقلما يطمئن لمخالفته.

فحين يقدم المرء على فعل يتساءل الضمير: هل هذا الفعل مطابق لعادات الجماعة وتقاليدها؟ هل إذا حدث هذا الفعل يستنكره الجمهور أو يستحسنه؟ فإن لم يكن الضمير مستسلمًا للرأي العام؛ أي إذا كان قويًّا، تساءل على نحو آخر: هل هذا الفعل يضر الجماعة أو لا يضرها؟ هل يوافق مصلحتها أو ينافيها؟

وقد يكون التقليد أو العادة مخالفًا للحق، فإذا كان الفعل المخالف لتقليد الجماعة مخالفًا للحق كان له حكمان؛ الأول: أنه يستوجب استنكار الجماعة له، وشجبهم فاعله، والثاني: أنه موافق لمصلحة الفرد والجماعة معًا. فأي الحكمين يقضي الضمير؟ مثال ذلك أنك ترغب أن تلبس البرنيطة وقومك يلبسون الطربوش، فإن لبستها هزءوا بك، ولكنك تعتقد أن البرنيطة أفضل من الطربوش؛ فكيف تحكم أن البرنيطة أفضل من الطربوش؟

(١-٧) التعقل مستشار الضمير

ترى مما تقدم أنه لا الأخلاق ولا الشرائع ولا التقاليد والعادات تعصم الضمير من الخطأ في الحكم، بل لا بد من التعقل في القضاء وإصدار الحكم، التعقل يميز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، إذا كان يضع نصب عينيه قاعدة للحق، فما هذه القاعدة؟ هنا يستلزم الأمر أن نبحث عن منشأ الضمير والتعقل.

(٢) منشأ الضمير

(٢-١) الضمير وليد الاجتماعية

الإنسان اجتماعي، ولولا اجتماعيته لما كان للضمير لزوم؛ لأنه وهو فرد مستقل يسعى لأجل بقاء حياته منازعًا الطبيعة بلا قيد ولا شرط، ولكنه لأنه اجتماعي مرتبط مع جماعته؛ ولذلك تضيق دائرة حريته وتتسع دائرة مسئوليته بقدر متانة الجماعة، فإذا فعل فعلًا مخالفًا لمصلحة الجماعة؛ كأن يضر الجماعة أو يضعفها، كان مستوجبًا العقاب، وكان الضمير أول ما يحاكمه ويقضي عليه. ترى مثل هذا الضمير حتى عند الحيوانات الاجتماعية؛ فإن الفرد منها يخاف أن يفعل فعلًا يخالف نسق حياة جماعته فلا يفعله، هو أطوع من الإنسان لنسق حياة الجماعة؛ لأن ضميره غريزي فيه.

للإنسان وهو اجتماعي ذاتيتان: ذاتية شخصية، وذاتية قومية. وهو يشعر أنه بسلوكه وحده لا يستطيع أن يحفظ حياته، يشعر أنه لا بد أن يكون سلوكه مطابقًا لسلوك الجماعة لكي يحفظ حياته، يشعر أن بقاء حياة الجماعة تتضمن بقاء حياته أيضًا، فإن تضررت الجماعة تضرر هو أيضًا، وإن نجحت الجماعة نجح هو أيضًا؛ فإذن لضمانة الحرص على بقاء ذاتيته يشعر أنه ملزم بالحرص على بقاء ذاتية جماعته. فالقاعدة الحقة التي يضعها نصب عينيه هي أن ما يفعله يجب أن يكون موافقًا لحياة الجماعة، وإلا فهو مخطئ في فعله.

(٢-٢) غريزية الضمير

قد يمكن للهمجي أن لا يفهم معنى ذاتية الجماعة كما نفهمها، ولكنه يشعر بهذه الذاتية التي لقبيلته؛ فإذا تعرضت لخطر من قبيلة أخرى هبَّ مع رفاقه للدفاع، فقد يترك زوجته وأولاده لكي يقاتل لأجل سلامة قبيلته. فضميره هو الذي حكم عليه بالاندفاع في القتال، فإذا تردد أو راوغ عاقبه ضميره قبل أن يعاقبه قومه، فكأنَّ الضمير غريزة فيه.

وبقوة هذه الغريزة تفوَّقت قبائل على قبائل، وبها بقيت قبائل وبدونها فنيت قبائل، فالفضل في الانتخاب الطبيعي الاجتماعي هو لهذه الغريزة؛ أي غريزة الضمير، وبفضل هذه الغريزة تضامنت القبائل، وتألفت الشعوب، وتكونت الأمم. ومع التمادي، تقوَّت هذه الغريزة فربطت الأفراد في جماعات، والجماعات في قبائل فشعوب فأمم. تقوَّت إلى أن صارت غريزة في الأمم، والأمم تحاسب بعضها بعضًا بحكم هذه الغريزة — الضمير. ترقى الضمير حتى صار غريزة الإنسانية. فالإنسانية العليا تفتخر بالضمير.

بقوة هذا الضمير يشعر الفرد الاجتماعي المتمدن أنه ليس فردًا مستقلًّا، بل هو جزء من نظام محكم ذي ذاتية قائمة بنفسها، وبموجب انتظامه في سلك الجماعة يشعر أنه ملزم بأن يوفق حياته مع حياة الجماعة، ويرتاح إلى هذا الالتزام لأنه يشعر أيضًا أن سلامته قائمة بسلامة الجماعة. من هنا نشأت بزرة الحكم الأدبي في هل هذا الفعل أو ذاك حق وصواب، فهو حق وصواب إذا كان ينطبق على مصلحة الجماعة أو يخالفها. وميزان المطابقة هو التساوي بين الأفراد والاستحقاق. هذا هو الحق بعينه الذي يستند الضمير إليه في قضائه.

(٣) سلطة الضمير

(٣-١) منشأ القوة الأمْرِيَّة في الضمير

قلنا: إن الضمير مشترعٌ وقاضٍ؛ مشترع لأنه يميز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب، على قاعدة الحق العام الموزع على الجماعة. وقد نال هذا المنصب بالوراثة؛ فصار غريزيًّا على تمادي الزمان، وهو قاض؛ لأنه يحكم ويأمر بتنفيذ الحكم حتى من غير أن يشير إلى سبب، فمن أين جاءته سلطة الأمر هذه وقوة التنفيذ؟ فهل هي سلطة خارجية أم سلطة داخلية؟

إذا قلنا: إنها سلطة داخلية، فهل نعني أن الإنسان يحكم على نفسه؟ وإذا كان الإنسان يحكم على نفسه بمطلق اختياره فلا يتمادى بالحكم إلى أن يعاقب نفسه إذا عصى أمر نفسه، ولكن الضمير يعاقبه ويؤلمه وهو جزء منه، فكيف ذلك؟

هذا ما يبرهن على أن الضمير وإن كان شيئًا من ذاتية الإنسان فقد أصبح بغريزته كشيء قائم بنفسه، مستقلٍّ بأمره ونهيه، ذي سلطان، كما أن الغريزة في الحيوان ذات سلطان عليه تدفعه إلى الفعل بلا إرادة؛ فهو إذن قوة مستقلة عن سائر القوى العقلية، ذات نفوذ خاص، مسيطرة على سائر الغرائز والأخلاق. وهو يتحكم فيها حتى إذا عصته وخزها وآلمها. هو مركز الذاتية الإنسانية الأدبية، وفيه إدارة حركة السلوك. بهذه القوة يمتاز الإنسان على الحيوان، وبها تتميز ذاتيته عن ذاتية هذا. وبهذه القوة أصبح الإنسان ذاتًا أدبية، أما الحيوان فليس كذلك.

(٣-٢) الشعور بالجزاء غريزي

على أن وظيفة الضمير، كما اتضح من هذا البيان، ليست مقتصرة على الحكم البديهي، بل هي مقرونة بشعور بنتيجة السلوك: شعور بالسرور والابتهاج إذا كان الفعل حقًّا أو حسنًا، أو شعور بالكآبة والقلق إذا كان باطلًا أو رديئًا. وهذا الشعور نفسه غريزي أيضًا؛ لأن المرء السليم العقل والنفس لا يستطيع قمع الشعور بالكآبة والقلق. ولولا غريزته هذه لكان الضمير آمرًا وناهيًا بلا سلطة نافذة، فما هذا الشعور إلا جزاء على الطاعة والعصيان.

(٣-٣) غريزية القوة الأمرية في الضمير

قد يقول زيد من الناس: أنا أعلم أن هذا الفعل خطأ أو غير حق ولكني أفعله، فماذا أو مَن يمنعني أن أفعله؟ فهل لضميره قوة على ردعه عن أن يفعله؟ قد لا يستطيع أن يردعه، ولكنَّه يستطيع أن يقلقه بالتأنيب والتوبيخ، فمن أين للضمير هذه القوة التي لا يستطيع المرء أن يتملص منها؟ هي غريزة أيضًا نشأت وترعرعت وقويت على تمادي الزمان. قويت عند الأقوام التي ترقت، وكان الفضل في رقيِّها لهذا الضمير الغريزي.

فالقوم الذي كان أقوى ضميرًا، وضميره أنفذ فعلًا وتأثيرًا في النفس؛ كان أثبت من غيره في مضمار تنازع البقاء، والقوم الذي كان أضعف ضميرًا تلاشى وانقرض؛ لأن قاعدة حكم الضمير هي الحرص على الحق الأصح الموزع على الجماعة بالتساوي. وبحكم سنة الانتخاب الطبيعي وبقاء الأفضل أو الأصلح بقيت الجماعات الأقوى ضميرًا، وانقرضت الجماعات الأضعف ضميرًا، وبحكم هذه السنة نفسها كانت غريزية الضمير تزداد رسوخًا في الجماعات الباقية.

(٣-٤) الضمير عامل من عوامل رقي الأمم

فالضمير لا يخرج عن سنة التطور، سنة النشوء والارتقاء، وكيف لا يكون متمشيًا على هذه السُّنَّة وهو أهم عنصر في عقلية الإنسان الاجتماعية، وعليه يتوقف الحرص على الحياة الاجتماعية وبنائها، كما يتوقف على سائر القوى العقلية الأخرى، بل له النفوذ الأكبر في هذا التطور؟ فلا بدع أن يكون غريزة في النفس كسائر القوى العقلية، يولد مع الإنسان، وينمو فيه، كما تنمو تصوراته وذاكرته وسائر قواه العقلية.

لذلك لا بدع أن يكون الضمير متنبهًا في كل فرد عند كل فعل ليحكم وليزجر، وإن كان تنبهه وتأثيره يختلفان باختلاف الأشخاص؛ فالأشخاص الذين يكون الضمير فيهم ضعيفًا لا يقاسون كثيرًا من تأنيبه، ولكنهم لا يسلمون سلامة مطلقة من تأنيبه. ولما كان تأثيره أظهر في الجماعة منه في الأفراد، لكون وظيفته الحرص على مصلحة الجماعة في الدرجة الأولى كما علمت؛ كانت الأقوام الأضعف ضميرًا أقل نجاحًا، وأكثر عرضة للانحطاط والتقهقر. ومَن لا يعلم أن الأمة التي يكثر فيها الكذب والخيانة والسرقة والإجرام يقلُّ بالإجمال فيها الرقي، بل تكون أقرب إلى الانقراض منها إلى البقاء؟!

•••

وهنا لا بد أن يلوح في ذهنك هذا السؤال: كيف يستطيع الضمير أن يميِّز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والجيد والرديء إلخ، لكي يجوز له أن يستخرج مبدأ أو يشترع شريعة، ولكي يمكنه أن يصدر حكمًا سديدًا ويقضي قضاء عادلًا، ولا سيما إذا قامت لديه ظروف مختلفة، وتراءت له نظريات متباينة يحار فيها؟

تجد الجواب في الفصول التالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤