الفصل الأول

معنى الحياة الأدبية

(١) غاية الحياة القصوى

ما هي الحياة؟ ولماذا نحيا؟ ما الغرض الأقصى من حياتنا؟

لا ننظر إلى الحياة في تحليلها من الوجهة البيولوجية بل من الوجهة الأدبية.

(١-١) غرض الحياة

إذا قلنا: إن الغرض من الحياة التمتع بالملذات، وجدنا كثيرًا من الملذات تجني على الحياة فتقتل الحياة والملذات معها، فكأنَّ الملذات تقضي على نفسها. وهنا يطرأ علينا هذا السؤال: أيُّ الملذات إذن أفضل لنا؟ طبعًا تقول: هي تلك التي لا تقضي على الحياة، فما هي إذن؟ في كل فعل من أفعالنا نرمي إلى غرض يشبع شهوة من شهواتنا، حتى المعقولة، حتى العقلية.

فلكي نهتدي إلى الملذة الفضلى نتمثل شخصيتنا كأنها أمر مجرد عنَّا، ونرى إن كانت هذه الملذة موافقة أو منافية أو قاتلة لها. السكر ملذة ولكننا نمتنع عنه لأنه قاتل لشخصيتنا. ففي كل فعل من أفعالنا يتمثل لدينا تمثال شخصيتنا، وإدراكنا وجودها يستدعينا للتعقل والتدبُّر. وهذا الاستدعاء هو التصرف الأدبي الذي نحاول أن نعصمه من الخطأ.

كل الناس يضعون اللذة هدفًا لسلوكهم، وربما كان بعضهم يجعلونها قاعدة الحياة أو غرضها الأقصى، ولكن المتعقل يفهم أن الحياة ليست وسيلة لإرضاء الشعور المنبث فيها فقط، بل هناك أمور أخرى تتضمنها الحياة، وترمي إلى تحقيق حركتها الحيوية، لا بحكم التعقل والإرادة فقط، بل بحكم الغريزة الفطرية أيضًا، وأهمها:
  • أولًا: الحرص على بقاء الفرد.
  • ثانيًا: الحرص على بقاء السلالة.
  • ثالثًا: إدراك الذاتية الأدبية كمركز دائرة الحركة الحيوية.
  • رابعًا: النزعة إلى التعاظم.

(١-٢) الحرص على بقاء الفرد الذاتي

الحرص على بقاء الذات هو النزعة الأولى المتضمنة في الحياة، والبقاء أول مرمًى ترمي إليه أفعال الحياة الأدبية، ولكنَّ في سلوك المرء كثيرًا من الأفعال التي تضلُّ السبيل إلى هذا الهدف، ولو اقتصر الإنسان على الغريزة الحيوانية العاملة للحرص على البقاء لهلك في يومه الأول؛ لأن عقليته أضعفت هذه الغريزة فيه، بدليل أن الطفل لا يعيش يومًا بلا حضانة أمه، خلافًا للحيوان الأعجم الذي يتكل في حياته كثيرًا على هذه الغريزة.

فعقلية الإنسان تولَّت قسمًا كبيرًا من هذه المهمة وأخذته عن عاتق الغريزة؛ فلا بد له من عقليته للحرص على بقائه. وهذا الالتزام يعين فضل الأدبية في الحرص على البقاء، فإذن الحياة الأدبية ليست الحياة البيولوجية فقط، بل هي الحياة العقلية أيضًا.

(١-٣) الحرص على بقاء السلالة

الحرص على بقاء السلالة نزعة أخرى للحياة، وبقاء السلالة هو غرض للحياة أعظم من غرض بقاء الفرد؛ فإذا كان الفرد لا يرمي بأفعاله إلى هذه الغاية «بقاء السلالة»، بل إلى مسرة نفسه فقط، فهذه المسرة تُفضي إلى تلك الغاية نفسها. إذا كنت تتزوج لتسرَّ نفسك بعائلتك، فهذه المسرة كافلة الحصول على حفظ السلالة الذي هو غاية الحياة، وإذا كانت الطبيعة قد أوجدت هذه المسرة كوسيلة للحرص على بقاء السلالة، فوجود هذه المسرة لهذا الغرض كافٍ لأن يعين أنها غاية أدبية؛ فالحرص على بقاء السلالة إذن أعظم نزعة من نزعات الحياة الأدبية.

(١-٤) إدراك الذاتية كمركز الحركة الحيوية

تتميز الحياة الإنسانية عن الحياة الحيوانية بأنها تشتمل على ذاتية متصورة فيها؛ أي إن في عقلية الإنسان صورة لذاتيته، وليس في عقلية الحيوان هذه الصورة على الأرجح: الإنسان يستطيع أن يقيم في مخيلته صورة لذاتيته يجردها عن نفسه، وينظر إليها كشخص مستقل عنه، وهي التي يسميها «أنا»، ولكن الضمير «أنا» قد لا يكفي لتجريد الذاتية العقلية وإقامتها كصورة متمثلة في الذهن، وإنما الضمير «أنت» يجعل هذا التجريد حين يخاطب الإنسان نفسه محاسبًا أو معاتبًا أو مغريًا أو غير ذلك، فيقول لنفسه: لماذا فعلت هكذا يا هذا؟ هل أنت مجنون؟

ففي مخاطبة النفس على هذا النحو يتضح للمرء جيِّدًا أن لذاتيته صورة في ذهنه كشيء قائم بذاته مستقل عنه، ويشعر أن هذه الذاتية هي المركز الذي تصدر منه أفعاله، وترجع إليه نتائجها، هي المركز الذي يقرر الغرض من الفعل، وهي المركز الذي يبتغي نتيجة الفعل، سارَّةً كانت أو مؤلمة.

في هذه الذاتية المتصورة تتجمع جذور الغرائز والسجايا والأخلاق تحت سيطرة التعقل، فهي تحرك الأفعال مترسمة نتائجها قبل الوصول إليها، متمتعة بمسراتها المتصورة قبل الحصول عليها. فتمركزها على هذا النحو إنما هو نزعة أخرى من نزعات الحياة، والحياة تنزع إلى هذا التمركز منذ بدء تكونها.

وتطور الطفل في أثناء نموه إنما هو اتجاه إلى هذا الغرض، فأول ما يبتدئ أن يفهمه الطفل هو أنه شيء آخر مستقل عن الأشياء المحيطة به، ومتى صار يعبر عن نفسه بلفظة «أنا» يشرع يميز ذاتيته عن ذاتيات غيره، والأشياء التي حوله، بل يميز أنه هو «عند نفسه» ذاتية أعلى من الذاتيات التي تحفُّ به، يشعر أنه غاية الوجود القصوى، وأن الكون خلق لأجله، فكأن طبيعة الحياة تربي فيه إدراك الذاتية بهذا الغرور كما تُربى الثمرة الزاهية في كمِّ الزهرة، حتى متى استتم وجدانه، وتحقق وجود ذاتيته كما هي، انتفض منه هذا الغرور كانتفاض الزهرة الزاهية عن الثمرة اليانعة بعد نضجها.

مع ذلك لا تخلو الذاتية الناضجة من الغرور، كما أن الثمرة الناضجة لا تخلو من تلوُّن الزهرة؛ لأن هذا الاعتداد بالذاتية أو التباهي بها هو نفسه عملية تجردها التصوري، فالمرء لا يستطيع أن يعجب بنفسه إلا حيث يتمثل ذاتية فخمة في ذهنه، كما تتمثل امرأة طيف جمالها في المرآة.

في هذه الذاتية يختلف الناس بعضهم عن بعض ويتمايزون، وتختلف أفعالهم باختلاف ذاتياتهم؛ ولذلك تعدُّ الذاتية مركز الحياة الأدبية أو نواتها.

(١-٥) النزعة إلى التعاظم – الرقي

لا نشعر أننا متمايزون عما حولنا فقط، بل نشعر أننا مسيطرون على ما حولنا، ولا نشعر شعورًا فقط، بل ندرك أننا ذوو قوة ذاتية مستقلة عن قوة الطبيعة العامة، وبهذه القوة نستطيع أن نؤثر في ظروف الحياة ونكيفها كثيرًا وقليلًا، ونرى أننا بها نستطيع أن نسيطر على قوى الطبيعة ونخضعها لخدمتنا.

بهذا الشعور — شعورنا بالاستقلال عما حولنا وبالسيطرة على ما حولنا — نشعر أن فينا نزعة إلى الاستعلاء والتعاظم على كل ما حولنا. وهذه النزعة تدفعنا إلى ابتغاء أجود الأحوال التي يقتضيها ذلك التعاظم؛ أي إن توفقنا إلى تحسين أحوالنا الداخلية والخارجية، وبالجملة توفقنا إلى ترقية ذاتيتنا. هذه النزعة هي نزعة الرقيِّ المتمركزة في دائرة النوع الإنسانيِّ بين سائر الدوائر الكونية.

فهذه النزعة، نزعة الاستعلاء والتفخم التي يمتاز بها الإنسان على الحيوان وسائر ما حوله من الأشياء، إنما هي نبضة من نبضات الحياة الأولية، والغرض الأعظم من أغراض الحياة، بل إن الطبيعة جعلت هذا الغرض الأعظم في الحياة واسطة لغرض أبعد منه؛ وهو الارتقاء إلى جهة المثل الأعلى في الجودة، فالطبيعة ترمي إلى التمثل بأجود مثال لها، والحياة أجود أمثلتها، ولكنها غير قانعة بهذا المثال، ولا هي واقفة عند هذا الحد، بل تريد أن تبتدع من الحياة مثالًا أجود أيضًا؛ ولذلك ابتدعت الحياة الأدبية، ومنها ابتدعت الحياة الإنسانية العليا، ومن يدري ماذا تبتدع بعد ذلك؟

(٢) المثل الأعلى

(٢-١) الإنسانية العليا هي المثل الأعلى

إذن ترى أن معنى الحياة أو الغرض الذي ترمي إليه هو الحسن الأحسن، أو الجيد الأجود، أو الجميل الأجمل. وقد علمتَ أيضًا أن الوجهة التي تتجه إليها الطبيعة في حركاتها هي الإنسانية العليا المتكونة من الحياة العقلية الأدبية. فغاية الحياة القصوى كما دربتها الطبيعة إليها هي المثل الأعلى في الإنسانية، وما الإنسانية إلا أجمل جمال عقلي أدبي، واللذة التي تحدث من جراء الحركة الحيوية في اتجاهها إلى هذا المثل الأعلى إنما هي غاية قصوى للفرد، ولكنَّها ذريعة إغرائية لغاية الحياة القصوى؛ أي الإنسانية العليا.

فنحن نفعل الأمور التي نعتقد أنها أفضل اللذات؛ أي اللذة التي ما نفعله لأجلها يؤدي إلى المثل الأعلى، لماذا؟ لأن هذا الفعل يكفل أولًا: بقاء الفرد، وثانيًا: بقاء السلالة، وثالثًا: السير في الجهة القويمة إلى المثل الأعلى. فترى أن السلوك الأجود المؤدي إلى اللذة الفضلى هو الذي يؤدي إلى غاية الحياة القصوى التي نحن بصددها، لا إلى إرضاء شعورنا بالحسن، ولا إلى إرضاء مشتهياتنا الشخصية.

(٢-٢) المثل الأعلى ميراث الطبيعة للإنسان

إن إرضاء مشتهياتنا هذه هو غاية قصوى لنا، ولكنَّه ليس غاية قصوى للحياة الأدبية، بل هو لها ذريعة إلى غايتها القصوى التي هي المثل الأعلى في الإنسانية. فسلوكنا الأجود لا يرمي إلى إرضاء شعورنا فقط، بل إلى إرضاء الحياة الأدبية بالأولى.

لو كانت الحياة قد وجدت لإرضاء مشتهيات الذاتية الإنسانية فقط لما كان ثمة مثل أعلى؛ لأن الغاية تقف حينئذٍ عند حدٍّ في الارتقاء، وبالتالي لا يكون ثمة رقيٌّ، ولكن وجود الرقيِّ واطراده يثبتان أن معنى الحياة أو نزعتها ليس إرضاء النفس، بل الرقيِّ في سلم المثل الأعلى في الإنسانية الجميلة، وما إرضاء النفس إلا ذريعة لهذا الرقيِّ. فنحن في سعينا إلى الحسن الأفضل نسير نحو المثل الأعلى، سواء أردناه نفسه غاية لنا، أو أردنا لذة السلوك المؤدي إليه غاية لنا، وكلما دنونا من المثل الأعلى رأينا مثلًا آخر أبعد منه فنسعى إليه، واطراد سعينا إليه هو الرقيُّ.

فمعنى الحياة الأسمى هو الرقي، والإنسان أو النوع الإنساني مستمر على هذه السُّنَّة، فذاتيته وعقليته وإرادته إنما هي أدوات هذا السير، والحياة محرِّكة أو مدرِّبة هذه الأدوات في سيرها، وما الإنسانية العليا إلا المثل الأعلى المضمون في قلب الطبيعة، وقد خصت به الإنسان، فهو تراثها.

(٢-٣) سُنَّة الحياة

إذن سُنَّة الحياة أولًا: الحركة؛ أي فعل شيء، ثانيًا: كيفية هذه الحركة التي تُعيِّنها طبيعة الإنسان النابضة بقوة حركة الحياة، ثالثًا: أن ضمانة بقاء الحياة وجزاءها على هذه الحركة هما إرضاء هذه الطبيعة الإنسانية النابضة.

فأنت تفعل أفعالك بقوة حركة الحياة، وتوجه فعلك في الجهة التي تقتضيها نوابض طبيعتك، واللذة التي تنالها من نتيجة فعلك إنما هي جزاء الحياة لك على فعلك، وبالوقت نفسه يكون فعلك ضامنًا بقاء الحياة مستمرة في رقيِّها إلى المثل الأعلى.

يتضح لك مما تقدم أن القاعدة الأدبية الرئيسية؛ أي القاعدة الأساسية للحق والواجب هي أن يكون فعلك متجهًا إلى غاية الحياة القصوى؛ أي الترقي على سلم المثل الأعلى، فإذا كان فعلك متجهًا في هذه الجهة كان راميًا إلى الحسن الأفضل، وما اللذة التي تنالها من جرائه إلا غاية لك. أما هو فواسطة لقضاء غرض الحياة الأقصى.

(٣) الشخصية الاجتماعية

رأيت فيما تقدم أن معنى الحياة البشرية أو غايتها القصوى، أو غرض الطبيعة الأقصى منها — الإنسانية العليا — استلزم وجود ذاتية مجردة في الإنسان غير ذاتيته الطبيعية؛ ذاتية أدبية. وهذه الذاتية هي مركز شخصية أخرى له غير شخصيته البيولوجية الحيوية، هي شخصية أدبية اجتماعية؛ ولذلك ينبغي أن نتبسط كفاية في تبيان هذه الشخصية.

(٣-١) اندماج الذاتية الأدبية بالمجتمع

الشخصية البيولوجية مستقلة بحياتها: هي شخصية الفرد الطبيعية القائمة بنفسها، والمستوفية عدة الحياة في داخلها، فتقوم بأفعالها في نفسها لنفسها. وأما الشخصية الاجتماعية التي تتمركز فيها الذاتية الأدبية فهي مندمجة في جسم المجتمع كعضو من أعضائه، فتفعل أفعالها الأدبية بحسب ما تقتضيه بيئتها، وتتكون أدبياتها وأحكامها الأدبية مما تقرر في هذه البيئة. ولكي نعلم مقدار اندماج الذاتية الأدبية أو الشخصية الاجتماعية بالمجتمع، ونفهم كيفية عضويتها فيه، نبحث في مقدار استقلال الفرد عن المجتمع ومقدار علاقته به؛ أي إلى أي حدٍّ هو مستقل عن الجماعة، وإلى أي حدٍّ هو مقيد بها.

(٣-٢) الإنسان ابن الاضطرار لا الاختيار

يولد الإنسان ولا يلبث يعي وجوده حتى يرى نفسه مقيدًا بقوانين وأنظمة تثلم حريته، وتضيِّق دائرة استقلاله. فلننظر: هل يمكن للإنسان أن يولد ويشب ويكبر إلى أن يصير إنسانًا مسئولًا وهو في مطلق حريته؟

فأولًا: أنه لا يولد باختياره، وما كانت له أقل إرادة أو اختيار في مجيئه إلى هذا العالم؛ فهو مولود الاضطرار لا الاختيار، ومتى ولد كانت ذاتيته كالشمع تنطبع فيه شخصيته، أو إن شئت أن تقول: إن شخصيته الطبيعية تكون كالشمع تُطبع فيه ذاتيته الأدبية، فهل في وسعه أن يرسم لنفسه ذاتية أو شخصية خاصة به، أو أن يطبع نفسه بالشخصية التي يريدها؟

وهل يستطيع أن يبتدع لنفسه شخصية جديدة مختلفة عن شخصيات الناس، أو على الأقل عن شخصيات من هم حوله؟ أليس مضطرًّا أن ينطبع بالطابع الذي وجد قبله له ولغيره؟ فالولد منذ يولد إلى أن يشب ويكبر إنما هو مدين بشخصيته للعوامل الاجتماعية التي تُكوِّنها؛ لأن نفسه مسبوكة بقالب فكرة الاتصال بالأحوال والحوادث الماضية والحاضرة والمستقبلة، فلا غنى له عن الاقتباس من الاختبارات الجارية، فهو يُجمِل في حياته هذه الاختبارات الماضية والحاضرة، ويصوغ شخصيته منها. يقتبس عاداته من ذويه وقومه كما اقتبسوها هم من أسلافهم، وينهج المناهج التي نهجوها وينهجونها.

(٣-٣) تكون الشخصية من مواد الأنظمة الاجتماعية

فمنذ تتكوَّن في الطفل عقليته يشرع يقتبس تصوراته مما حوله، وأول ما يتناوله هو اللغة. واللغة ليست ملك أبويه، ولا هي ميراثٌ له، بل هي نظام اجتماعي كونته الأجيال السالفة والحاضرة؛ فهو إذن يقتبس نظامًا نظمه المجتمع، ومتى انتقل من حجري والديه إلى المدرسة والكلية، وجعل يتلقن العلم على أساتذته، كان يقتبس علم الأجيال الماضية والحاضرة؛ لا علم أولئك الأساتذة؛ لأنهم هم اقتبسوه مثله وأضافوا إليه، حتى الكِتاب الذي يدرسه ليس من بنات أفكار مؤلفه وحده، بل هو زبدة اختباراته واختبارات كثيرين كتبوا قبله.

ومتى دخل إلى دائرة السعي والعمل كان في مدرسة أخرى يقتبس منها اختبارات السابقين والحاليين، وإذا عمل كان يسبك في أعماله مجمل اختبارات الآخرين على الأسلوب الذي يتهيأ له، ولكنَّه مهما تفنن في السبك فلا يستغني عن المواد التي اقتبسها.

كذلك أخلاقه الأدبية التي يصوغ منها شخصيته إنما هي مصوغة من مواد الأنظمة الاجتماعية المختلفة؛ فهو يصوغ نفسيته الأدبية من عادات قومه وتقاليدهم، ومن أنظمة المجتمع المدنية والدينية والأدبية والاقتصادية إلخ.

فنرى مما تقدم أنه مدين بشخصيته ليس لوالديه ولا لأساتذته ولا لذويه الذين يعاملهم، بل للمجتمع برمته؛ لأن كل فرد مثله اقتبس كما اقتبس. فجميع أفكاره وتصوراته قد صيغت في القالب العام الذي أُعِدَّ من قِبل المجتمع لكي تصاغ به شخصية كل فرد، «وتكون هذه الأفكار والتصورات حسنة وصائبة ومناسبة له وللمجتمع بالنسبة: أولًا؛ إلى ما بلغت إليه اللغة من درجة الرقي، وما احتوته من المعارف والصور العقلية، ثانيًا: إلى درجة التعليم التي بلغ إليها الوسط الذي يقيم فيه، ثالثًا: إلى القوة العقلية التي ورثها من سلالته.»١

(٣-٤) تضامن الفرد مع المجتمع

زد على ذلك أن الفرد في سعيه إلى الرزق الذي هو حق طبيعي لا يستطيع أن يتنصَّل من الارتباط بالجماعة، فلا يستطيع أن يقوم بعمل من غير أن يستعين بأعمال الآخرين؛ فالآلة التي يعمل بها صنعها غيره، واخترعها آخر قبله، والمواد التي يستعملها في صنعه استخرجها آخرون بطرق اكتشفها واخترعها آخرون قبلهم.

والسوق التي يقايض فيها حاصل عمله إنما هي دائرة يشتبك فيها آخرون معه، وكيفما حاول أن يستقلَّ وجد نفسه مشتبكًا بمعاملة آخرين على أساليب وأنظمة اتفق عليها المجتمع؛ فهو إذن في سعيه إلى الرزق يتعاون مع الآخرين تحت سيطرة النظام الاجتماعي. حتى الرجال العظماء العبقريون، مهما كانوا مبتكرين ومتفردين إلى حد أن يقال: إنهم صنعوا شخصيتهم بأنفسهم، لم يستغنوا عن اختبارات المجتمع وأنظمته، حتى ولو استطاعوا أن يكيفوا هذه الأنظمة.

وحاصل ما تقدم أن الفرد في المجتمع شخصية غير كاملة، أو هو فيه عضو ناقص؛ فلذلك هو يحتاج إلى حيِّزٍ أوسع من حيِّز الفردية ليستتم فيه شخصيته، يحتاج إلى الحيز الاجتماعي.

(٤) جسمانية المجتمع

(٤-١) طفولة الاجتماعية

وإذا تقرر فيما تقدم أن الفرد لا يمكن أن تقوم له قائمة بذاته مستقلًّا عن المجتمع؛ لأنه يستمد كل شخصيته من حياة المجتمع الماضية والحاضرة، بل هو عضو مندمج في المجتمع حتمًا، تبدو لنا النظرية الاجتماعية، وهي أن المجتمع جسم حي قائم بذاته ذو أعضاء توزعت عليها الوظائف الحيوية القائمة بعملية حياته، وأعضاؤه هم شخصيات الأفراد الأدبية.

وإنما هو لم يبلغ في رقيِّه الجسماني إلى الدرجة التي ارتقى إليها جسم الإنسان؛ فهو يكاد يعادل في درجته درجة الأحياء المائية الواطئة، التي إذا قطعتها إربًا إربًا أصبحت كل قطعة منها حيًّا قائمًا بذاته؛ ذلك لأن ارتباط أعضائه بعضها ببعض أقل متانة منه في الأحياء العليا؛ ولذلك يمكن تقطيعه كتلك الأحياء الدنيا، فالاجتماعية لم تزل في عهد البساطة أو الطفولة.

(٤-٢) هل جسمانية المجتمع مجاز أم حقيقة؟

وقد يتراءى للناظر في أمر جسمانية المجتمع أنه أمر مجازي لاختلاف بين الطبيعتين؛ ففي الجسم الحي كل طائفة عضوية من خلياته تختلف عن الأخرى بِنْيَةً كما تختلف عنها وظيفة. والأمر ليس كذلك في جسمانية المجتمع؛ فإن كل فرد كالآخر بِنْيَة، ولكنه يختلف عنه وظيفة؛ فالسياسي والعالِم والصانع متماثلون بِنْيَة، وكان ممكنًا أن يكون السياسي صانعًا، والصانع عالمًا.

ولكن إذا انتبهنا إلى أن جسمانية المجتمع ليست مادية، بل هي نفسية عقلية وجدنا أن المشابهة بين جسمانية الحي وجسمانية المجتمع ليست مجازية، بل هي أقرب إلى الحقيقة منها إلى المجاز؛ فإن السياسي سياسي بعقليته لا ببدنه، وكذلك العالِم والصانع والتاجر، وما صار الفرد سياسيًّا أو صانعًا أو عالِمًا إلا لأن عقليته معينة لهذه الوظيفة.٢

(٤-٣) تطور جسمانية المجتمع

وكون المجتمع جسمًا متطورًا يقضي حتمًا بأن تكون جسمانيته متطورة أيضًا حسب سنَّة الرقيِّ؛ ولذلك نرى أن ارتباط أعضائه آيلٌ إلى المتانة تدريجًا، فمع التمادي يصبح هذا الارتباط أشدُّ فأشدُّ إلى أن يصبح بتر أحد أعضائه مفضيًا إلى هلاكه، بل نحن نرى الآن أنه إذا أضرب فريقٌ من العمال عن العمل عرَّض جميع الأمة للتهلكة.

إذن هذا الارتباط الذي جعل المجتمع جسمًا واحدًا متوقفًا بعضه على بعض هو علة تضيق دائرة استقلال الفرد، وكلما اشتد هذا الارتباط ضاقت دائرة استقلاله، وإذا تمادى المجتمع في رقيه على هذا النحو قاربت قيمة الاستقلال إلى الصفر.

(٤-٤) نظرية الاثنينية

ترى مما تقدم أن هذه العلاقة الوثيقة بين الفرد والمجتمع جعلت للإنسان شخصيتين؛ الأولى: طبيعية حيوية «بيولوجية» ترمي بأفعالها إلى مصلحة الذات؛ فنبضتها إذن الأنانية، ونزعتها الحرص على بقاء الذات الفردية، والثانية: اجتماعية أدبية ترمي بأفعالها إلى مصلحة المجتمع؛ فنبضتها إذن غيرية، ونزعتها الحرص على بقاء السلالة أو المجتمع.

ولما كان بقاء الذات الفردية متوقفًا على بقاء المجتمع كانت الغيرية آيلة إلى مصلحة الأنانية؛ فالغيرية مشتقة من الأنانية بالرغم من أن الشخصية الفردية مشتقة من المجتمع، لأن نتيجة الغيرية القصوى أو غايتها آيلة إلى الذات الفردية. فالإنسان يرى في عمل الخير للآخرين وفي خدمة المجتمع لذة لنفسه، حتى المجرم الذي يعتدي على حقوق المجتمع ويزيغ من وجه القضاء يأبى أن يزول القضاء؛ لأنه يحتاج إليه لحماية حقوقه الشخصية، وفيما هو يختلس من حقوق الأمة يأبى أن تزول أنظمتها التي تكفل له السلامة في الطريق والمنزل، وتسهل له الراحة في الانتقال والمعاملة.

(٥) مركز القاعدة الأدبية

(٥-١) نشوء الحق والواجب

رأيت أيضًا أن هذه العلاقة الوثيقة بين الفرد والمجتمع، التي جعلت للإنسان شخصيتين متمايزتين، إنما هي نظام محكم يستلزم وجود حقوق وواجبات متبادلة بين الفرد والمجتمع، وإلا فلا تثبت هذه العلاقة ولا تقضي الوطر المبتغى منها؛ وهو حفظ بقاء الفرد نفسه.

لذلك كان على شخصية الفرد الاجتماعية الغيرية واجبات تقلص كثيرًا من دائرة حقوق شخصيته الطبيعية الأنانية، تلك الشخصية التي ورثت من الطبيعة الحيوانية حقوقًا واسعة. وبالطبع، الحق الذي للفرد هو واجب على المجتمع، والواجب الذي على الفرد هو حق للمجتمع؛ ولذلك كان ثمة حقوق للإنسان وحقوق للمجتمع، وواجبات على كلٍّ منهما.

فمن الجهة الواحدة نرى أن الفرد جاء إلى العالم مصطحبًا حقوقًا طبيعية لا يزال يُقرها النظام المدني، وهي كما أقرَّتها قوانين الدول الأساسية ودساتيرها: حق الحرية الشخصية، وحق الامتلاك، وحق مقاومة الضغط، وحق السعي إلى الرزق. وقد أضافت الأنظمة الاشتراكية إلى هذه الحقوق حق المرأة بالمساواة مع الرجل. ومن جهة أخرى، نرى للنظام المدني حقوقًا على الإنسان؛ كالضرائب والسيطرة، في مقابل حمايته لشخصه وحقوقه وما يمتلكه.

ولكن ربما تمايزت حقوق الفرد وحقوق النظام؛ أي الحكومة؛ فقد تلتبس حين يتداخل بعضها ببعض، حتى يكاد يتعذر تحديد كل فريق منها وفصله عن الآخر، وإنما بالإجمال يقال: إنه بقدر ما تتضح حقوق الفرد الطبيعية ولا تتصل بنظام المجتمع وحكومته؛ فليس للحكومة حق التدخل.

(٥-٢) اصطدام حق الفرد بحق المجتمع

حقوق الفرد وحقوق النظام الحكومي تتداخل في كثير من الأحيان بحيث يتعذر التمييز بينهما، مثال ذلك: أن الحرص على الحياة أهم حقوق الفرد؛ ولذلك يعدُّ أمرًا حسنًا، ولكن إذا تدبرنا حقوق الاجتماع نجد أنها في بعض الأحوال تستغرق حق الفرد حتى حقه بالحياة؛ ففي حالة الخطر على المجتمع برمته تصبح حياة الفرد ثانوية عنده إذا كان متدبرًا، ويرى أن اقتصاره على الحرص على حياته وعلى حياة عائلته ليس بالأمر الأحسن، بل هناك حق أعظم وأحسن منه؛ وهو الدفاع عن المجتمع لدرء الخطر عنه، فإذا كان الفرد حينذاك يخلي نفسه من كل علاقة مع المجتمع كان منتحرًا؛ لأن سلامته وسلامة أسرته تتوقف على سلامة المجتمع.

وكذلك المبرة، وإن كانت ليست أمرًا أنانيًّا بل هي أمر غيريٌّ؛ أي إنها تتجه لمصلحة الغير، فما خلت من كونها لمصلحة الذات أيضًا، فحين نرغب في الخير للآخرين يكون فينا شعور بلذة لنا أيضًا. فهذا الشعور هو شيء فينا يُنشئُه ابتغاؤنا للمثل الأعلى الذي نتوخاه في الحياة، كذلك العطف أو الحب الذي يحملنا على إرادة الخير لمن نحبه أو نعطف عليه هو بالحقيقة أمر أناني؛ لأنه ينشئ فينا شعورًا بلذة لنا.

وإذا كان الأمر كذلك، فارتباط الأفراد بالجماعة على نحو ما تقدم شرحه يوجب توسيع دائرة حقوق النظام الاجتماعي إلى حد أن تمسَّ الدائرة كل حق طبيعي للفرد كثيرًا أو قليلًا؛ وبالتالي يجعل الأدبية أمرًا جوهريًّا للحياة الإنسانية — يحتم على الفرد واجبات لغير نفسه — يقضي بتقديم الغيرية على الأنانية.

(٥-٣) غريزية الغيرية

وهذا القضاء الاجتماعي الطبيعي أنشأ على تمادي الأزمان في نفسية الإنسان غريزة الغيرية؛ أي إرادة الخير للغير كما للنفس، وأنشأ هذا الشعور الباطني في الإنسان بلذة العطف على الغير، وبلذة المبرة وعمل الخير للآخرين؛ ولذلك لا يكون ضِيق دائرة الحرية الفردية منقصًا لسعادته كما نتوهم، لأن اللذة التي يفقدها من نقْصِ أنانيته يجدها في غيريته. واليوم نجد أناسًا يستلذون تضحية شهواتهم الشخصية في سبيل خدمة الإنسانية. ورئيس الجامعة الأميركية، الدكتور ضدج، في بيروت، مثلٌ واضح على هذا.

(٥-٤) معنى الحق والواجب

نرى أيضًا أن الذاتية الاجتماعية التي لكل فرد في الأمة لا تُري الفرد أن أفعال الآخرين مساعِدة لأفعاله فقط، بل هي مادة أفعاله أيضًا؛ ولذلك ليست شخصيته قائمة بتبادل النسبة بينه وبين الآخرين على قاعدة التعاون، بل هي قائمة بوقف الذات على فعل الخير للآخرين؛ ففي ابتغائه الخير للآخرين يبتغي الخير لنفسه، وحينما يبتغي الخير لنفسه وحده مستقلًّا يكون منتحرًا، وحين يحب نفسه فقط يبغضها، وحين يحرص على ذاتيته يفقدها، وبالعكس حين يعرض نفسه للضياع في مصلحة الجمهور يجدها.

إذن هذا منشأ الواجب والحق، ولولا لزوم هذا التفاني في الحرص على مصلحة المجموع لما كان للحق والواجب معنًى؛ إذن موضع الحق والواجب هو في نسبة الجسم الاجتماعي إلى أجزائه، أو في نسبة الفرد إلى المجتمع. ومعنى الواجب هو الضغط الذي قضى به تأثير فعل المجموع على الفرد في الظروف السابقة التي تهيأت له، والحق هو الحرية التي يمنحها المجموع للفرد معترفًا له بها، باعتبار أنه من أجزائه الحيوية. هذا هو حق الفرد وواجبه.

وأما حق المجتمع فهو في تصور الفرد أنه جزء من المجتمع، وفي طاعته لأنظمة المجتمع وقوانينه، والحرص على سلامته. وواجب المجتمع هو في اعتبار أن هذا الفرد حيوي منه، وعليه أن يحرص على حيويته.

(٥-٥) معنى القاعدة الأدبية

بعد هذا البيان يتضح لك أن القاعدة الأدبية هي أن تكون جميع أفعال الفرد متجهة إلى خير المجموع، ومتفقة مع حركة المجموع. وبالطبع إذا كانت كذلك كانت مقتصرة عن دائرة حقوق الآخرين، ومتفقة مع أفعال الآخرين الذين يعملون لخير المجموع أيضًا.

وهو أمر طبيعي أيضًا أنه متى كان الفرد ذو الشخصية الاجتماعية الأدبية يعمل لمصلحة المجموع، وبالمصاقبة لأعمال الآخرين الذين يعملون لمصلحة المجتمع، كانت جميع المبادئ الأدبية؛ كالصدق والأمانة والاستقامة والوفاء، قانون حياته الأدبية، وشريعة ضميره الصالح. وحينئذٍ قلما يضل السبيل عن كيفية تطبيق أفعاله على هذه المبادئ.

فترى مما تقدم أن مركز القاعدة الأدبية الرئيسية هو في هذه العلاقة بين الفرد والمجتمع. وسينجلي للقارئ هذا الموضوع أكثر في الفصل التالي.

١  عن علم الآداب لمويرهد، صفحة ١٧٣، طبعة سنة ١٩٢١.
٢  اقرأ الباب الأول من كتابنا علم الاجتماع الثاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤