الفصل الثاني

النظام الاجتماعي

(١) الشريعة

(١-١) نظام المجتمع

إذا كانت الهيئة الاجتماعية تعدُّ جسمًا قائمًا بذاته مؤلفًا من أعضاء هي الشخصيات الاجتماعية، كان ولا بدَّ لهذا الجسم عقلية قائمة بذاتها، وله روحانية أيضًا، وبالتالي كانت له أدبية ومثال أعلى وواجبات وحقوق وفضائل، كما للفرد. وكلها تقيد سلوكه وتحدد مناهجه، وكما أننا نقيس قيمة سلوك المرء على ما يقوله ويفعله ونقول عنه: إنه حسن أو صواب أو حق، كذلك بقدر ما يكون مجتمع من الناس منظمًا نقول: إنه مجتمع حسن النظام، عادل القوانين، حقَّانيُّ القضاء.

ونظام المجتمع الجيد أو العادل هو ما جعل حياة جميع أعضائه الاجتماعية المشتركة سائرة في طريق النجاح ما أمكن. وأما نظامه غير العادل فهو ما خوَّل جانبًا صغيرًا من أعضائه أن يستعبدوا جانبًا آخر أكبر، بحيث لا يستطيع هؤلاء أن يرقوا حياتهم الاجتماعية، ويتمتعوا بنصيبهم من مسرات المجتمع المشتركة وفوائده.

فلذلك من شأن علم أدب النفس أن يبحث في نظام المجتمع الذي يمس واجبات الفرد، كما أنه يلم بواجبات الأفراد الذين يتألف المجتمع منهم.

(١-٢) منشأ الشريعة

يزعم كثير من الكتبة أن القوانين والشرائع هي خلاصة العادات والتقاليد، وقد فُهم من زعمهم هذا أن القانون والشريعة كانا قبلًا عادة أو عرفًا؛ أي إن العادة١ والعرف سبقا الشريعة كمصدر لها، وإن الشريعة جاءت بعدهما مستمدة مادتها منهما.

ولكن طبيعة كل من العرف والعادة والشريعة تدلُّ على نقيض هذا الزعم؛ فالعادة والعرف قائمان بين الناس من غير قوة منفذة، بل يجري عليهما الناس اختيارًا من تلقاء أنفسهم. وأما الشريعة والقانون فتنفذهما قوة الحكومة، ولمخالفتهما عقاب، فإذا كان القانون مجموعة عادات يعمل بها الناس مختارين، فلماذا القوة المنفذة؟ أو لماذا يكف الناس عن العمل اختيارًا، بحسب العادة، متى صارت العادة قانونًا؟ أو بعبارة أخرى، لماذا تصبح العادة ثقيلة على الطبع متى صارت قانونًا؟ فترى مما تقدم أن ذلك الزعم باطل. وإذا فرضنا أن القوانين والشرائع نشأت من العادات فممَّ نشأت العادات قبلها؟ ولاستقصاء أصل الشريعة نعود إلى النسبة المستحكمة بين الفرد والمجتمع؛ حيث نجد جذور الشريعة فيها.

(١-٣) علاقة الفرد بالفرد بواسطة المجتمع

وهنا نحذر القارئ من خلط هذه النسبة بنسبة أخرى بين فرد وفرد وبين الأفراد؛ فإن هذه النسبة ثانوية، ولا عبرة فيها في النظام الاجتماعي، ولا يمكن أن يتوقف هذا النظام أو يترتب عليها. النسبة القائمة بين الفرد والمجتمع هي قاعدة كل نظام اجتماعي، والفرد يتصل بالفرد عن يد هذا النظام، ويتعامل فرد مع فرد بواسطة هذا النظام، وينال فرد من فرد حقًّا أو يؤدي واجبًا بواسطة هذا النظام؛ فالقاتل لا يقاضيه أهل القتيل، بل حكومة المجتمع؛ لأنه يعد مذنبًا لها، والمهضوم الحق لا يطلب حقه مِن هاضِمِه، بل من المحكمة، والمحكمة تأخذه من هاضِمِه وتردُّه له.

فلو استرد مهضوم الحق حقه المهضوم عنوةً لعوقب؛ لأنه يحسب معتديًا على النظام، ولو أبيح لكل شخص أن يسترد بقوته عنوةً حقه المهضوم لسادت الفوضى في المجتمع. فترى مما تقدم أن علاقة الفرد الاجتماعية الحقيقية إنما هي بالمجتمع لا بالأفراد.

(١-٤) الشريعة سبقت العادة

بعد هذا البيان نعود إلى منشأ العادات ثم الشرائع. لا يمكننا أن نتصور أن عادة نشأت في أمة أو قوم أو قبيلة بغتة، لا بد أن تكون قد نشأت أولًا في جماعة صغيرة جدًّا ثم اقتُبِست، لا بد أن تكون قد نشأت في الأسرة أولًا؛ حيث هناك رب أسرة ذو رأي حكيم وسلطة نافذة، رأى مثلًا أن أكل جيفة الحيوان الميت ضارة، فحرَّمه على أسرته، وأجاز أكل الذبيح فقط.

فهذا التحريم في أسرته شريعة ينفذها هو بالقوة، وقد يستحسن أفراد أسرات أخرى هذه الشريعة فيقتبسونها ويعملون بها اختيارًا، وقد يقتبسها أرباب أسرات أخرى فيوجبونها؛ فتكون عادة عند بعض، وشريعة عند بعض آخرين، فإذا غلب استحسانها، وأخيرًا عمت القوم كلهم وتعودوها، وصاروا يأتونها بلا تكلف؛ صارت عادة فتقليدًا، ولم تبق شريعة.

وإنما إذا بقي الناس يأبونها ويشجبونها، وكان بقاؤها يسوء شعائر أولئك جعلتها الهيئة الحاكمة شريعة منفذة القوة. وتبقى شريعة هكذا أمدًا طويلًا أو قصيرًا إلى أن تتعودها الأجيال، وتصبح عادة مستحكمة فيهم يأتونها اختيارًا؛ فتقل الحاجة إلى القوة لتنفيذها، وعلى التمادي تتلاشى شرعيتها، وتصبح عادة، وربما صارت على التمادي غريزة.

فالعادة بَنَتْ نواةَ الشريعة أولًا. وقد تكون الشريعة في بدء نشوئها حسنة جدًّا، فلا تلبث أن تنتشر كعادة لا كشريعة؛ لاستحسان الجمهور لها، فإذا بقي أفراد يناقضونها ويخالفونها اضطر المجتمع أن يعود إلى اشتراعها، وتستمر شريعة أمدًا طويلًا أو قصيرًا إلى أن يتعودها الجمهور، ويحسب مخالفتها معرة، فيبطل كونها شريعة، بل تصبح مبدأ أدبيًّا ينفذه الناس من تلقاء أنفسهم تحاميًا للمعرة. هكذا كان ستر العورة في أول الأمر شريعة منفذة بالقوة تحت طائلة العقاب، فلما ترقت أدبية الإنسان المتمدن وصار يستحي من كشف العورة، لم تبق حاجة لهذه الشريعة؛ إذ أصبحت عادة، ثم صارت مبدأ أدبيًّا.

فترى أن الشريعة نشأت من استحكام هذه النسبة بين الأفراد والمجتمع؛ لأن هذه النسبة تقضي بتبادل الحقوق والواجبات بين الفرد والمجتمع، والشريعة تعين هذه الحقوق والواجبات المتبادلة، والشريعة التي توجب واجبًا على الفرد تخوِّله في الوقت نفسه حقًّا على الآخرين؛ فحين تحرم السرقة أو النهب على الفرد وتهدده بالعقاب إذا نهب، تكون في الوقت نفسه حامية ماله من نهب الناهبين. هذا هو معنى تبادل الحقوق والواجبات بين الفرد والمجتمع.

والغرض الذي يرمي إليه العقل الاجتماعي من الشريعة هو حفظ كيان المجتمع، وضمانة نموِّ الحياة الاجتماعية المشتركة بين الأفراد، وتطبيع أعضاء المجتمع في طبيعة واحدة لإمكان سبكهم في قالب واحد. وهذا السبك يسهِّل اتحادهم في المجتمع، وإحكام ارتباطهم فيه.

(١-٥) قوة الشريعة

نتقدم الآن إلى موضوع نفوذ الشريعة، فهي، أو الأنظمة الاجتماعية عمومًا، تستمد قوتها من متانة النسبة بين الأفراد والمجتمع، وبقدر هذه المتانة تكون قوتها ونفوذها. ولما كانت هذه المتانة مختلفة ومحدودة؛ أي غير مطلقة، كان تنفيذ الشريعة محدودًا أيضًا. فلا نتوقع أن تنفذ كأنها شريعة الجاذبية أو الكهرباء، بل هي مرنة، فتكون في أحوال أقل أو أكثر عنفًا منها في أحوال أخرى، وتكون عند أمم أقوى منها عند أمم أخرى.

فالقبائل الرخوة الارتباط قليلة الاحترام للشرائع، والجماعات الفوضوية لا سلطة للنظام فيها، وحيث تكون النسبة متينة، وبعض فئات من المجتمع متمردة على الشريعة تكون الشريعة عنيفة، وحيث يتعود الجمهور النظام، ويتعقل مصالحه بحكمة؛ يطيع الشريعة عن طيب خاطر فتتوارى قوتها.

إذن قوة الشريعة تتوقف على المشادة بين فئة من أفراد المجتمع ونسبة جميع الأفراد للمجتمع. ولما كانت الحياة الاجتماعية كثيرة التقلب والتغير بمقتضى سنن التطور، كان لا بد من نشوء أساليب للحياة مختلفة تستلزم أن يتعودها الجمهور. وهيهات أن يتعودها سريعًا؛ لأن الرأي العام ينتشر ببطء كلي؛ ولذلك لا بد من إجراء هذه الأساليب بالقوة، فتنشأ لها شرائع، وتُنفَّذ هذه الشرائع في أول الأمر بعنف لما فيها من مناقضة للمألوف، ومن مقاومة للحرية الفردية، ثم على التمادي يتعود الجمهور الأسلوب الشرعي، فتتحول الشريعة إلى عادة، ثم إلى مبدأ أدبي كما تقدم القول.

فالشريعة وقر على الطبيعة البشرية، ولكنَّها ضرورة للحياة الاجتماعية، وعلى التمادي يخف وقرها، فما يفعله الإنسان في أول الأمر خوفًا من العقاب يصبح مع الزمان يفعله بحكم العادة، وأخيرًا يفعله بدافع الإرادة الأدبية؛ فالشريعة تنشأ أولًا، ثم تليها العادة، ثم تأتي الفضيلة أخيرًا.

هكذا الحشمة كانت في أول الأمر شريعة، ثم صارت عادة، والآن هي فضيلة؛ فإذن حيث تستتب الفضيلة تقلُّ الحاجة إلى الشريعة؛ لأن الفضيلة، وهي سجية في النفس، تقوم مقام الشريعة في الإيجاب والمنع، وهي كنور الهدى للضمير تساعده في تمييز الحقوق والواجبات. فالنفوس الراقية في سلم الأدبية إلى المثل الأعلى تقدس هذه الحقوق والواجبات، وتقوم بها من تلقاء نفسها، والنفوس القليلة الرقي تقوم بها بحكم الشريعة إلى أن تتعودها وتصبح سجايا فيها.

(٢) الحقوق والواجبات

(٢-١) الرأي الاجتماعي يعين الحقوق والواجبات

إذا كان الرأي الاجتماعي عامًّا، أو ندرت فيه المعارضة، أصبح الحق والواجب المعينان عادة، وإن كانت المعارضة فيه كثيرة شديدة، فلا بد أن يحدث أحد أمرين: إما أن تقوى المعارضة فتسقط العادة الجديدة وتتلاشى، وتلاشيها دليل على عدم صلاحيتها في الظروف التي نشأت فيها، وإن كانت المعارضة قليلة والرأي الاجتماعي غالبًا، فيسن لذينك الحق والواجب شريعة؛ فإذن الرأي الاجتماعي كبيرًا أو صغيرًا يعين الحقوق والواجبات، والرأي العام أو الاجتماعي الغالب يسن شريعة الحقوق والواجبات.

(٢-٢) نسبة الحق والواجب

وبين الحق والواجب نسبة متينة لا يمكن نفيها؛ لأنه بنفيها ينتفي كل من الحق والواجب أنفسهما — هي نسبية كنسبة الإيجاب والسلب، أو الدفع والجذب أو الأخذ والعطاء — فإذا كان هناك آخذ فلا بد أن يكون ثمة مُعطٍ. وليس الأمر هكذا فقط، بل إذا أخذ الآخذ شيئًا فلا بد أن يعطي شيئًا آخر مكافئًا له، فيأخذ المعطي الشيء في مقابل ما أعطى؛ أي إن كل شخص آخذ ومُعطٍ، فإذن توجد نسبتان: نسبة بين الشخصين المتبادلين، ونسبة أخرى بين الأمرين المتبادلين؛ ولهذا قلنا: إن هذه النسبة مزدوجة بين الحق والواجب، تجعل ارتباطهما متينًا جدًّا بحيث يستحيل انفكاكهما، وفي الوقت نفسه تضمن التوازن بين الجانبين.

فكل حق يجلب معه واجبًا على صاحبه، كما أن كل واجب يخوِّل حقًّا لمن فرض عليه هذا الواجب.

وطرفا الحق والواجب هما: الفرد والمجتمع؛ لأن النسبة التي بينهما كما عرفتها آنفًا هي أساس نسبة الحق والواجب، أي إن المجتمع مسئول عن الحقوق التي للفرد، كما أن الواجبات على الفرد مفروضة عليه من قبل المجتمع. وأما الحقوق والواجبات التي بين الأفراد فثانوية في الأهمية.

(٢-٣) الحقوق والواجبات الشرعية والأدبية

ثم (١) إن من هذه الحقوق والواجبات الثانوية في الأهمية ما هو شرعيٌّ؛ أي إنه ينفذ بقوة النظام الاجتماعي «الحكومة»؛ لأنه لم يصبح عادة يأتيها الناس اختيارًا، ولا بد من تنفيذه لأنه ضروريٌّ لحياة المجتمع ورقيِّه. ومعظم هذا الضرب من الحقوق والواجبات هو ما يخص العلاقة بين الأفراد، وعليه يتوقف حفظ الأمن، والسلامة من الفوضى، والحرص على جري النظام في مجراه. (٢) منها ما هو أدبي يترك أمر تنفيذه لأدبية النفس الراقية، ومعظمه يخص العلاقة بين الفرد والمجتمع؛ ولهذا تسوهل فيه لقلة الخطر من التساهل.

مثال ذلك أن الشريعة تحمي الملكية وتعاقب من يتعدى على ملك غيره، ولكنها لا توجب على صاحب الملك أن يستعمل ملكه بحكمة بحيث يئول لنفع المجتمع؛ فالفرد حرٌّ قانونًا أن يستعمل ملكه كما يشاء، ولكنَّه أدبيًّا ليس حرًّا في ذلك، بل عليه أن يستعمله بالأسلوب الذي يفيد المجتمع، أو لا يضر به على الأقل.

فليس للغني أن يبدد أمواله في اللهو والبذخ الخليع والفحش ونحو ذلك؛ لأنه يكون حينئذٍ مرضًا في جسم المجتمع، كذلك ليس للتاجر الذي قضت الأحوال بأن يقع في قبضته وحدها صنفٌ من السلع أن يحبس هذا الصنف عن الناس لكي يتسنى له أن يضاعف الثمن، مع أن الموجود منه يزيد على المطلوب، ولا يحق لصاحب القدر الكبير من الأراضي أن يعطل بعضها لكي يتسنى له أن يرفع أجرة البعض الآخر.

إذن حقوق الإنسان تقتصر على الأشياء التي يصحُّ لأجل خير المجموع العام أن يمتلكها. ولأنه يمتلكها على هذا الاعتبار هو ملزم أدبيًّا أن يستخدمها لأجل الخير العام، فالإنسان بحد ذاته ليس له من حق بتاتًا، وإنما لأنه جزء من المجتمع هو ذو حق فقط بما يستطيع أن يستعمله بأسلوب يتفق مع الخير العام. فإذن الحقوق هي منح من المجتمع للفرد؛ ولذلك ليس للفرد مطلقًا الحرية في التصرف فيها.

وفيما يلي أهم الحقوق الرئيسية التي تتمثل للذهن قبل الواجبات التي تصحبها أو تلازمها.

١  والتقاليد عادات متقادمة. راجع علم الاجتماع للمؤلف، الجزء الأول، الباب الثاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤