الفصل الثالث

الحقوق والواجبات الشخصية

(١) حق الحياة

أول حق من حقوق الإنسان هو أن يعيش. وهو يكتسب هذا الحق من كونه شخصًا اجتماعيًّا محتمًا عليه أن يكون عضوًا في جسم المجتمع. وغاية المجتمع استمرار البقاء، فهو إذن ذو حق بالبقاء في مقابل حتمية عضويته هذه. بهذا الاعتبار يسوغ له أن يضحي بحياته لأجل بقاء المجتمع، وفيما سوى ذلك لا يسوغ؛ ولهذا يعدُّ الانتحار في نظر بعض المفكرين جريمة، فلا يسوغ للإنسان أن ينتحر؛ لأن انتحاره لا يوافق مصلحة المجتمع، وهو لم يُعطَ حق الحياة إلا على اعتبار أنه يستعمله لخير المجتمع العام كما تقدم القول.

ولما كانت غاية المجتمع استمرار البقاء كما علمت، واستمرار رقيِّه سنَّة له، وجب على المجتمع أن يكون ضنينًا جدًّا بحياة الأفراد، فلا يسمح بتضحيتها إلا اضطرارًا؛ لذلك لا يسوغ للدولة المتمدنة التي تشبعت بروح الأدبية أن تفرِّط بحياة أفرادها في الحروب، فلا تثير حربًا لأي سبب سوى الدفاع عن سلامة المجموع إذا تعرض للخطر. فكل حرب سببها المطامع الاستعمارية ونحوها إنما هي بلا شك جريمة لا تغتفر؛ لأنها تفريط بحق مقدس، وهو حق الحياة، لأجل مطامع غير جائزة ولا هي حلال. ولو كانت الأمم جمعاء تعترف أنها بالحقيقة أعضاء لجسم المجتمع الإنساني الأعلى، لكانت تعترف بأن كل حرب على الإطلاق جريمة.

يبتدئ حق الفرد بالحياة منذ يتكون جنينًا، وإن كان لا يعلم هذا الحق ولا يفهمه؛ لأنه منذ تكوَّن طفق يصير عضوًا في جسم المجتمع، كما كان غيره قبله، وينتظر أن ينضج ويصبح عضوًا عاملًا في المجتمع كما نضج غيره، وما تكوَّن المجتمع من أعضاء كانوا ناضجين قبل أن يتألف منهم، بل من أعضاء نضجوا عن يده وبفضله وتحت حمايته؛ ولهذا يعدُّ الإجهاض القهري لغير سبب صحي جريمة.

وربما توسع بعض الأدبيين في هذا الموضوع فجعل الامتناع عن الحمل تداركًا لكثرة البنين جريمة أيضًا، على أن هناك مبررًا لهذا الامتناع، وهو ضيق دائرة الرزق، بحيث لا يتسنى للعدد الأوفر من أعضاء المجتمع أن يعيشوا معًا أصحاء أقوياء كما تقتضي الحياة الاجتماعية.

هذا الحق يجلب معه واجبين مقابلين له؛ الأول: الواجب الشرعي، وهو المصوغ صياغة سلبية «لا تقتل»، بل يجب أن تحاذر من أن تقتل شخصًا آخر، وأن تعرض حياة آخر للهلاك، وإلَّا تقاصَّ أو تعاقب، فلا يسوغ لأحد أن يقتل آخر مهما كان الداعي، حتى ولو كان الآخر قاتلًا، وإنما يسوغ للمجتمع فقط أن يقضي على القاتل بالموت لاعتبار أنه عضو مريض في جسمه، وقد يخشى أن يعرض حياة الجماعة كلها للخطر، فيُبْتَر منه.

أما الواجب الأدبي: فهو أن يحافظ الفرد على حياته كأنها ليست ملكه وحده، بل هي وديعة عنده من قبل المجتمع، وعليه أن يحرص على نموها وتقدمها في العافية، وسلامتها من الأمراض، وأما تفريطه بحياته وصحته وسلامته فيعد إثمًا أدبيًّا، وفي بعض الأحوال يعدُّ أيضًا جريمة شرعية يعاقب عليها كما يعاقب شارب الخمرة في أميركا، ومستعمل المخدرات «الكوكايين والمورفين إلخ» في مصر.

(٢) حق الاسترزاق

ولا يخفى عليك أن واجب الحرص على الحياة وسلامتها وصحتها وعافيتها يستلزم واجب السعي والعمل؛ أي إن كل فرد مكلَّف أن يعمل لكي يعيش، وإلا فقدَ حقَّه بالحياة. وأحيانًا طبيعة الاجتماع تحرم الكسول المتقاعد عن العمل حقه أو مركزه في الحياة، وتعزله منه لتحل المجتهد محله.

ولكن المجتمع — لعيوب فاضحة في أنظمته الشرعية — لا يطلق هذه القاعدة ولا يجعلها مطردة، بل يسوغ لفئة من الكسالى أن يعيشوا عالة على المجتهدين، بل يسوغ لهم أن يمصوا دماء هؤلاء. وسبب هذا العيب في الأنظمة الشرعية هو ضعف الروح الأدبية في المجتمع، فإذا لم تكن الشريعة معتمدة على أدب النفس فلا تسلم من التغرُّض والغبن والحيف وسائر العيوب.

فواجب السعي والعمل للقيام بأود الحياة يستلزم حقَّ الفرد بالاسترزاق، وقد كان هذا الحق غامضًا من قديم الزمان، ومنكرًا حتى هذا الزمان الحاضر؛ لأن الرزق كان ولا يزال إلى اليوم متنازع الأفراد والأمم، فلا ينال الرزق إلا من يتيسر له تنازعه. ولما احتدم هذا النزاع في عهد تقدم الصناعة الآلية والتفنن المالي صارت وسائل الرزق نفسها متنازع الأفراد أيضًا، وصار المتمول مالكًا أعنة المسترزقات، فيمنحها لمن يشاء أو يمنعها عمن يشاء، ومتى شاء.

ولذلك تحوم صرخة أصحاب الدعوة الاشتراكية حول نقطة حق الاسترزاق؛ أي أن يكون الاسترزاق حقًّا لكل فرد على المجتمع، أو على الحكومة التي تدير المجتمع، ولا يتسنى الحصول على الحق إلا بحيازة الحكومة جميع ضروب الأعمال لكي توزعها على العاملين. وهذا هو النظام الاشتراكي بعينه؛ لذلك يعد هذا الحق ضائعًا ما دام النظام الفردي مستفحلًا.

وأما اهتمام بعض الحكومات أو بعض الجمعيات أو بعض أصحاب الأعمال في إيجاد أعمال للعمال العاطلين في بعض الأحيان، فلا يعدُّ تسليمًا بهذا الحق للمسترزقين أو تقريرًا له كحق شرعي، بل يعد من قبيل الإحسان والرحمة، ولا يعد حق الاسترزاق شرعيًّا إلا حين يصبح شريعة على نحو ما تقدم.

(٣) حق الحرية

لقد علمت فيما مضى أن تحقيق المثل الأعلى الأدبي يتوقف على إرادة الفرد الحسنة؛ ولذلك يجب أن يكون الفرد حرَّ الإرادة لكي يسعى ويعمل لأجل المثل الأعلى. وقد بحثنا في فصل سابق عن معنى الحرية وحدودها، فليُراجَع هناك. وأما هنا، في سياق البحث في الحق والواجب، فنقول: إن حق الحرية الشخصية يجب أن يكون مرافقًا للحق بالحياة، ولكنه في تاريخ التمدن جاء متأخرًا عنه، فبعد أن امتنعت الأمم عن قتل الأسرى في الحروب كتسليم بحق الحياة للفرد، بقي الرق زمنًا طويلًا، وما ألغي الرق والنخاسة إلا في القرن الماضي؛ إذ عم الاعتراف بحق الحرية لكل فرد.

ولكن بقي إلى الآن نوع من الرق لا يقل حيفًا عن الرق المعروف، وهو رق العامل لصاحب العمل، وتدخل المتمول في حرية العامل في دائرة سلوكه للحرص على حياته. وقد بحثنا مليًّا في أن الحرية المطلقة مستحيلة؛ إذ لا يستطيع الإنسان أن يفعل كل ما يلذُّ له أن يفعله، فحق الحرية الذي يجوز للإنسان أن يتمتع به منحصر في دائرة عمله الذي يرمي إلى ترقية نفسه بحسب سنن المجتمع.

وحق الحرية هذا يوجب على الفرد أن يستعمله في الغايات الحسنة المعقولة؛ لكي يكون عمله مطابقًا لمصلحة المجتمع، وبشرط ألا يعرقل حرية الآخرين أو ينقضها، إلا إذا كانت هذه العرقلة مساعدة للآخرين في ترقية أنفسهم الأدبية، فيحق لك أن تَحُول دون انغماس شخص في الفساد، أو أن تمنع استبعاد شخص لشخص آخر، أو أن تقاوم استبداد الظالم، أو أن تتلافى الدعارة أو نحو ذلك. وحاصل القول أنه يجب عليك أن تعامل الأشخاص كأشخاص اجتماعيين لا كأنهم أمتعة وسلع.

(٤) حق المساواة

هذا الحق يتصل بحق الحرية، وهو ناشئ من نسبة الفرد للمجتمع كعضو فيه، فإذا كان كل فرد جزءًا من المجتمع لازمًا له، فهو كغيره ذو حق بالتمتع بجميع مزايا المجتمع، كما أن عليه واجب الخضوع لأنظمة المجتمع كسائر الأفراد، فكما أنه مساوٍ لهم في هذا الخضوع يجب أن يكون مساويًا لهم في التمتع بثمرات المجتمع، لا يختلف عنهم إلا بمقدار ما يستحقه من هذه الثمرات.

لم يكن هذا الحق معترفًا به حتى القرن الأخير؛ فقد كان لطبقة الأعيان امتيازات ليست للعامة. وبعد الثورة الفرنسية صُرِّح بحق المساواة — والحرية والإخاء — للجميع. وكان هذا الحق مقصورًا على الذكور إلى عهد غير بعيد، وأما الآن فقد أخذت معظم الأمم تجيزه للنساء أيضًا.

(٥) الحق السياسي

حق المساواة جرَّ معه الحق السياسي، وهو أن تكون الآلة السياسية مُدارة بإرادة الجمهور لا بإرادة أفراد ممتازين. وقد تأيَّد هذا الحق في نوع الحكم الديموقراطي المستند على الرأي الاجتماعي الغالب. وبموجب هذا الحق صار لكل فرد حق الانتخاب، ولكنه لا يزال في جانب من الأمم غير مطلق؛ ففي بعضها يُحرَم منه فريقٌ من العامة كمُنتخِبين ومُنتخَبين، وفي بعضها يُحرَم فريقٌ كمُنتخِبين فقط، على أنه كحق أدبي يجب أن يعم كل فرد بالغ ذكرًا وأنثى.

(٦) حق التعليم

تأخر ظهور ذينك الحقين السابقين بسبب تأخر تعميم التعليم؛ لأن الأهلية لهما تستلزم المعرفة، فكان يُحرم منهما من كان عديم المعرفة أو قليلها؛ ولذلك لكل فرد حق بالتعلُّم لكي يحصل عليهما، ما دام هو جزءًا في ذلك الكل، وعليه من الواجبات والخضوع للنظام كما على غيره. لكل فرد حق أن يتعلم من علم الجماعة بقدر طاقته، وإلا كان مغبونًا في تحمله المسئولية، وهو محروم حق التأهل للقيام بها.

ومن الظلم أن يعاقب المذنب عن جهل. نعم، إنه لا يتيسر لكل فرد أن يزكن جميع المعارف، وإنما له الحق بأن يجد جميع وسائل التعليم متيسرة له، فيتناول منها ما يستطيعه؛ لذلك جعلت الأمم الراقية التعلم إجباريًّا ومجانيًّا في الدرجات الأولى؛ لأنها اعترفت بهذا الحق العام، وكما أن للفرد حقًّا بالتعلُّم، عليه واجب أن يتعلم، فإذا أبى أن يتعلم كان مخلًّا بواجبه.

(٧) حق الملكية

ما دام النظامُ الاجتماعيُّ فرديًّا لا اشتراكيًّا، والأفرادُ مضطرين إلى تنازع الرزق أو للتزاحم في أبوابه، فللفرد حق فيما يحصل عليه من عقار أو مرفق لقاء عمل يعمله، وللنظام الاجتماعي أن يحمي له هذا الحق، وإلَّا فإذا حُرم حق امتلاك ما يحصل عليه، فلا يستطيع أن يكون جزءًا صالحًا في كل المجتمع، ولا يستطيع أن يسعى ويعمل إلى المثل الأعلى الأدبي الذي عليه أن يوجه مساعيه إليه. وهذا الحق يوجب على الفرد أن يستعمل ملكه بأسلوب يطابق مصلحة المجتمع.

ولكن هذا الحق يسقط إذا كان النظام اشتراكيًّا؛ إذ يصبح العقار والمرافق مشاعًا، والعمل فيها موزعًا على الأفراد، ونتيجته توزع الإنتاج حسب استحقاق العاملين.

(٨) حق التعاقد

كذلك ما دام النظام فرديًّا فللفرد حق التعاقد مع فرد آخر، وعلى كل منهما واجب تنفيذ العقد للآخر. وإنما يجب أن يكون التعاقد ضمن دائرة الحلال؛ أي إنه لا يجوز التعاقد فيما يناقض الحرية وسائر الحقوق الأخرى، فلا يصح التعاقد بين اثنين بحيث يكون الواحد رقيقًا للآخر، أو أن يكون أحدهما مغبونًا فيعطي أكثر مما يأخذ، أو أن يكون التعاقد على أمر مما يستحيل أو يتعذر على أحد الفريقين أن ينفذه. فلا يجوز أن تعقد اتفاقًا مع عامل على أن يشتغل في النهار ساعات أكثر مما تستطيع القوة البشرية أن تفعل، ولا تصح المعاقدة مع غلام غير بالغ. كل هذه العقود باطلة لا لأنها غير شرعية فقط، بل لأنها غير أدبية لما فيها من الحيف والغبن.

(٩) حق العقيدة

وهناك حق حرية الفكر والرأي. وهو حق محدود، فيجوز لكل فرد أن يعتقد ما يشاء، والاختبار كفيل بأن يقرر صواب عقيدته أو ضلالها، وله أن ينشر عقيدته، إذا لم يكن في نشرها ما يقلقل نظام المجتمع، ويؤدي به إلى الفوضى، أو إذا كان فيها ما يناقض المبادئ الأدبية التي رسخت وأصبحت من أركان المُثُل العليا.

لحرية الفكر وبث الرأي شأن في رقيِّ المجتمع؛ لأن التطور الاجتماعي السائر إلى المثل الأعلى إنما هو نتيجة ما يدخل إلى المجتمع من الآراء الجديدة التي تنقح العادات والتقاليد. ولا خطر من إطلاق حرية الرأي ما دام هناك عقل اجتماعي يزن، ورأي عام يؤيد أو ينبذ. وأما قتل حرية الفكر فيبلي المجتمع بالجمود والسكون، والسكون بؤرة للتعفن، فاستعمال الخرافات والأضاليل حول التقاليد المتقادمة عفونة ترُدُّ المجتمع إلى الوراء، وتبعده عن المثل الأعلى.

(١٠) حق الطفولة

للأطفال الذين يتأهبون لأن يكونوا أعضاء صالحين في جسم المجتمع حقوق يخولهم إياها هذا التأهب. هم ضعاف قاصرون يحتاجون إلى الحضانة والتربية والتعليم. أما الحضانة ففي عواطف الوالدين ما يكفي لها، وأما التربية والتعليم فهما حق للأطفال على المجتمع برمته؛ لذلك جُعل التعليم إجباريًّا ومجانيًّا، بحيث لا يعذر الوالدون إذا قصروا عن تعليم أولادهم، ويعاقبون إذا منعوهم عن التعلم.

كذلك للأطفال حق الحماية من الإجهاد قبل النضوج؛ فلا يجوز أن يستخدموا في عمل في وقت القصور؛ لئلا تستنفد قواهم ويتوقف نموهم، ولئلا يُحرموا حقهم من العلم.

(١١) حق الجمهور على المجتمع

للجمهور الذي يخضع لنظام المجتمع، والذي يتعاون في الحرص على حياته، وعلى ترقيته، حقوق عامة على المجتمع لا يمكن الفرد أن يحصل عليها منفردًا، كحق حفظ الصحة العمومية مثلًا. فعلى حكومة المجتمع أن تقي صحة الجمهور من الأوبئة بالطرق المختلفة، وكحق توفير المتنزهات العمومية، وتنظيم المدينة ونظافتها، إلى غير ذلك مما لا يتسنى للفرد أن يقوم به، وكحق تلافي الحوادث الخطرة والكوارث ونحو ذلك مما لا داعي للتبسط به وهو معروف.

هذه أهم الحقوق والواجبات، فإذا تأملتها فهمت أن مجمل معناها هو أن لنا حقًّا بالوسائل اللازمة لترقية حياتنا الاجتماعية في أفضل سبيل إلى الخير الأعظم للجماعة التي نحن أعضاء فيها؛ ولذلك نحن ملزمون أن نستخدم هذه الوسائل في أفضل الأساليب التي تؤدي إلى هذه الغاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤