الفصل الخامس

الفضائل

(١) ماهية الفضيلة

(١-١) القيام بالواجب

إذا نظرنا إلى الواجبات من وجهة صدورها وجدنا لها قاعدتين؛ القاعدة الأولى: داخلية، وهي التي ننظر إليها من جهة صفات الشخصية التي تؤدي إلى إدراك الواجب والقيام به، والقاعدة الثانية: خارجية، وهي الأنظمة الاجتماعية التي تهيئ ظرفًا أو ظروفًا للقيام به.

فلكي يقوم المرء بالواجب ينبغي أن يعرفه ويقصد أن يفعله، وأن تكون الأحوال الاجتماعية موافقة للقيام به بحسب السنن الاجتماعية؛ ففي الشخصية الذاتية غرائز وأميال نفسانية، وفي الشخصية الاجتماعية شعور بإرادة الخير للمجتمع وللقريب أو الجار، فالواجب يقضي بالتوفيق بين الجانبين بحيث لا تفنى مصلحة الفرد ولا تنثلم مصلحة الجماعة.

ولا يتعذر هذا التوفيق على حسن النية؛ لأن الشخصيتين مندمجتان معًا ولا تنفكان، ولا يتعذر على ذي النية الصالحة أن يحل القاعدة الأدبية محل المحركات الغريزية للفعل في تصرفه.

فالشخصية التي تستطيع أن تسيطر على نبضاتها الطبيعية، وتخضعها لحكم القاعدة الأدبية لكي تقوم بالواجب تعد شخصية فاضلة. وهذه الاستطاعة تعد فضيلة، أي إن المقدرة على القيام بالواجب على هذا النحو فضيلة، والفضيلة لفظة واسعة المعنى.

(١-٢) سجية الفضيلة

فالفضيلة إذن هي سجية في الشخصية تستميل الإرادة الحسنة إلى السلوك المنحصر ضمن دائرة فكرة المجتمع والمطابق لإرادته، والرذيلة «المضادة للفضيلة» هي ضد الإرادة الحسنة بتأثير العادة أو الغرائز أو الأميال، التي وإن كانت في بعض الأحوال تئول إلى فعل بعض الحسن، أو إلى فعل الحسن الوقتي، تكون عدوة لخير المجتمع. السلوك بحسب الفضيلة يرضي الشخصيتين الذاتية والاجتماعية، والسلوك بحسب الرذيلة لا يرضي إلا الشخصية الذاتية فقط، ومع ذلك لا يضمن سعادتها القصوى.

ليست الفضيلة فعلًا أو سلوكًا، وإنما هي قوة مضمرة لتحريك الفعل بمقتضى الواجب؛ فهي إذن أمر حسن بحد ذاته. وحسنها يجعل الفعل حسنًا ومرغوبًا فيه لنفسه من غير نظر إلى الغاية؛ فالشخصية تتمثل باتصافها بالفضيلة. والسعادة إنما هي السلوك بحسب الفضيلة، والفعل بحسبها يصبح غاية لا واسطة؛ لذلك تستلزم الفضيلة — وهي قوة مضمرة كما قلنا — جهادًا للقيام بالواجب. إذن إرادة الخير من غير فعل الخير لا تعد فضيلة.

(١-٣) تبويب الفضائل

لذلك يتعذر جدًّا تبويب الفضائل وتفصيلها من جهة الشخصية الذاتية، أو من جهة الشخصية الاجتماعية؛ ولا سيما لأن الفضائل تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والجماعات.

على أن أفلاطون ردَّ الفضائل إلى أربعة أصول رئيسية، وهي: التعفف، والشجاعة، والحكمة، والعدل، الذي هو مبدأ عام يربطها جميعًا.

ولا يخفى أن هذه الأصول منغرسة في المجتمع بفعل نُظُمه التي تربط الأفراد فيه. وقد جرى معظم الكتاب الأدبيين على تفصيل أفلاطون هذا إذا أمكنهم أن يحللوا هذه الأصول إلى سائر الفضائل الأخرى كفروع لها. وبتحليلها يمكن التوصل إلى منشئها، ونسبة بعضها إلى بعض، ووظيفتها في السلوك الإنساني. أما نحن فنضيف إليها المحبة والإيمان ونعدلها كما ترى فيما يلي.

(٢) الاعتدال

(٢-١) التعفف والشجاعة إلى جانبي الاعتدال

قلنا آنفًا: إن في الشخصية الذاتية أميالًا وغرائز وعواطف إلخ، وهي أداة اللذة والألم، فإذا أطلقت للغرائز والأهواء الحبل على الغارب اندفعت في السبيل الأقصر إلى السرور الأقرب من غير نظر إلى العواقب القصوى، ولا سيما لأن غرائز الإنسان ليست كغرائز الحيوان تكفي وحدها لإرشاده في سبيل الحياة الأمين، بل هي متهورة طائشة، ولا بد من إرشاد التعقل لها وتدريبه إياها؛ لذلك كان لا بد من فضيلتي الشجاعة والتعفف لتدربا تلك الأهواء والغرائز في السبيل المؤدي إلى اللذة أو السعادة العظمى. والتعفف في اللغة هو الكف عما لا يحل ولا يجمل قولًا أو فعلًا والامتناع عنه.

وقد علمت أن السرور والألم نقيضان متعاقبان، بمعنى أن وجود الواحد ينفي الآخر، أو أن انتفاء الواحد وجود للآخر، وعلمت أيضًا أن الطريق إلى لذة أعظم قد يستلزم التجاوز عن لذة أقل، أو المرور بألم قليل بالنسبة إلى تلك اللذة.

(٢-٢) وظيفتا الشجاعة والتعفف

في السلوك إلى تلك الغاية القصوى المقرونة باللذة العظمى تكون وظيفة الشجاعة الإقدام على الألم العارض، أو تحمله في السبيل إلى الغاية، ووظيفة التعفف ضد اللذة الصغيرة الحائلة دون الوصول إلى الغاية.

فكلا الشجاعة والتعفف إذن يقضيان بتحايد اللذة وتلقي الألم، في السبيل إلى الغاية الأوفر لذة، فكأنهما فضيلة واحدة هي مقاومة الأهواء والأميال والعواطف والشهوات التي تغُرُّ النفس باللذة الوقتية أو القليلة، فتحرمها لذة أعظم وأدوم، ولكنها فضيلة ذات وجهين: الواحد إيجابي أو هجومي، وهو وجه الشجاعة، والآخر سلبي دفاعي، وهو التعفف، وقد مثلها ديوي بقوتين: الواحدة منفذة، وهي الشجاعة، والأخرى مُنظِّمة، وهي التعفف.

(٢-٣) هما وجهان لفضيلة واحدة

وأما أنهما وجهان لفضيلة واحدة مختلفا الوظيفة على هذا النحو؛ فلأنهما متصاحبان في كل سلوك إلى غاية معينة. ففي كل فعل تجد داعيًا للكثير أو القليل من التعفف؛ أي قمع الشهوة، ومن الشجاعة؛ أي تحمل ألم هذا القمع؛ فالسكير التائب عن الكأس متعفف؛ لأنه قمع شهوته للكأس، وشجاع لأنه تحمل غصص الشوق إلى الكأس، والمحسن الذي جاد بقدر من المال لعمل خيري متعفف؛ لأنه قمع الشهوة للمال، وشجاع لأنه تحمل ألم فراق المال، ومنقذ الغريق متعفف لأنه قمع أنانيته، وشجاع لأنه عرَّض نفسه للخطر.

وترى من هذين المثالين الأخيرين أن قدر كل من الشجاعة والتعفف فيهما مختلف، فالشجاعة في تخليص الغريق أعظم من الشجاعة في احتمال ألم فراق المال، ولكن التعفف في قمع الأنانية أضعف من التعفف في قمع شهوة المال.

فمن ذلك ترى أن طبيعة الأميال والغرائز والشهوات والعواطف من جهة، والظروف المتضمنة الأفعال من جهة أخرى تعين القدر اللازم من كل من الشجاعة والتعفف، بحيث يتوازنان في الفعل لكي يعتدل في وجهته إلى الغاية الفضلى.

فإذا زاد أحدهما على الآخر انتفى أن يكون فضيلة، كما لو غاص شجاع في الماء وراء قرش رماه آخر فيه، أو كما لو هجم على بيت يحترق لكي يستخلص من متاعه شيئًا؛ فشجاعة كهذه إلى حد التهور لا تعد فضيلة، كذلك إذا تعفف الطماع عن ترويح النفس في النزهة والملاهي ضنًّا بالمال إلى حد أن يعتل جسمه. التعفف كهذا إلى حد البخل لا يعد فضيلة.

(٢-٤) الاعتدال ميزان الفضيلتين

إذن الاعتدال هو ميزان التوازن بين الشجاعة والتعفف، هو الفضيلة المركزية التي يعد الشجاعة والتعفف وجهيها: الواحدة إيجابية منفذة، والآخر سلبي منظم كما سبق القول؛ فهما كالعضلتين إلى جانبي المرفق تحركانه، فترتخي الواحدة بقدر ما تشتد الأخرى لكي تمتد الساعد إلى الجهة المرغوبة.

لذلك يصح القول: إن الاعتدال فضيلة الفضائل، وإنه وسط بين طرفي التفريط والإفراط، وكل منهما رذيلة، فالجسارة فضيلة؛ لأنها وسط بين الجبن والتهور، والكرم فضيلة؛ لأنه وسط بين البخل والإسراف، والشمم فضيلة؛ لأنه وسط بين العفة والكبرياء إلخ. ففي كل هذه الفضائل يشتد التعفف والشجاعة من جانبي الفضيلة بقدرين من القوة متكافئين، بحيث يجعلانها تعتدل في المنهج القويم.

(٢-٥) التعفف اقتصاد بالقوى الأخلاقية

قلنا: إن التعفف باللغة العربية هو الكف عن كل ما لا يحل ولا يجمل لا قولًا ولا فعلًا، أو الامتناع عنه، وقد أطلقناه هنا على قمع الشهوة والامتناع عن الرغبة وصد الغرائز، وبالإجمال هو مقاومة الميل النفساني وردُّه إلى نقطة الاعتدال، فهو بهذا المعنى اقتصاد بالقوى الأخلاقية؛ لأنه يحول دون التفريط بها.

فكل الفضائل السلبية التي تضبط بها شهوات النفس؛ كالصبر والحلم والقناعة والتواضع والدعة إلخ، مشتقة من فضيلة التعفف، وإنما تتفاوت قيمتها ويختلف فضلها باختلاف الأحوال التي تتضمنها.

وفي عهد الرقيِّ الأدبي تعد الطهارة في رأس الفضائل التعففية، والمراد بها طهارة النفس من الأدران الآثام، الطهارة القلبية الخالصة التي لا يطلب إثباتها بشهادة شهود غير شهادة الوجدان والضمير. هذه الفضيلة تضمن حسن السلوك؛ لأن النية الحسنة تضمن الفعل الحسن.

(٢-٦) الشجاعة إسراف في القوى الأخلاقية

كما أن التعفف هو الإعراض عن اللذات الكاذبة المغرية ومقاومة التهيجات الغرارة، كذلك الشجاعة هي مقاومة عوامل الألم والخوف، والشجاعة نقيض التعفف من حيث الاقتصاد في القوة؛ فالتعفف يضنُّ بالقوى الأخلاقية فلا يفرِّط بها. وأما الشجاعة فتبذلها وتسرف فيها.

والشجاعة تظهر في أشكال مختلفة، أهمها التجلد والاحتمال لدى الألم، والمواظبة والمثابرة لدى المصاعب، والجسارة والإقدام لدى المخاطر والمخاوف، والصراحة بالحق لدى مقيدات الحرية الخارجية، وبالإجمال تعدُّ الشجاعة ولاء للمثل الأعلى رغمًا من حيلولة الألم أو الخطر دونه.

(٣) المحبة

(٣-١) العدل والحكمة في جانبي المحبة

إن التعفف والشجاعة، اللتين ألممنا بهما فيما تقدم، هما فضيلتان مختصتان بالداخلية الشخصية، وقلما يكون لهما تدخل في نُظُم المجتمع؛ فهما تعنيان الفرد أكثر مما تعنيان الجماعة، إلا متى سلكت الجماعة مسلك الفرد كأمة أو دولة أو جمعية فتنسبان لها.

أما الفضيلتان الأخيرتان اللتان نحن بصددهما فتختصان بعلاقة الفرد مع الجماعة، فالعدل يمنح كل ذي حق حقه، ويمنع التحيز والتغرض والتشيع، وأما الحكمة فترشد إلى الحق، وكلتاهما تجتمعان في المحبة كوجهين لها على نحو اجتماع التعفف والشجاعة كوجهين للاعتدال.

وقد حسب بعض الأدبيين المصلحين المحبة أساس جميع الفضائل، فالمحب لا يكذب على محبوبه ولا يسرقه ولا يخونه ولا يؤذيه إلخ، ولكن لا تعد المحبة فضيلة إلا إن كانت موجهة من الفرد إلى المجتمع. وأما الحب الموجه من فرد إلى فرد آخر معين فلا يعد فضيلة؛ لأنه إذا عصم المحب عن أذية محبوبه فقد لا يعصمه عن أذية غير محبوبه أو أذية المجتمع. فالمحبة — كفضيلة — هي سجية اعتبار الإنسانية حبيبًا للمحب كيفما تمثلت له وتجلت؛ ولذلك المحبة تشمل الصدق والأمانة، وهما ركنا العدل.

فإذا كانت محبة الإنسانية سجية للمرء، كانت من الجهة الواحدة حكمة ترشد الضمير إلى الحق، ومن الجهة الأخرى عدلًا يوجه الحق إلى صاحبه، فالعدل والحكمة متلازمان في توجيه السلوك إلى خير المجتمع.

(٣-٢) روح المحبة الحكيمة العادلة

فروح هذه الفضيلة المحبة الحكيمة العادلة هي سيطرة فكرة المجتمع أو الرأي العام على فعل الفرد، باعتبار أن طبيعة المجتمع يجب أن تكون الداعي للسلوك وقاعدته الأدبية، لا أن يكون التغرض والتحيُّز والتشيع ونحو ذلك، مما ينتج عن النوابض النفسية والأهواء الشخصية، محركًا للسلوك وقاعدة له.

يكون العدل فضيلة الفرد حيث لا محاكم توجبه، وتكون الحكمة فضيلة حيث لا نظام ولا شريعة تحدِّد الحق وتعينه، وإنما يعد القضاء العادل والقانون المحق الحق والمزهق الباطل فضيلتي الجماعة أو الأمة، ولا سيما إذا كانت الجماعة تخضع للقضاء والقانون الدوليين.

(٣-٣) تميز العدل الأدبي على العدل القضائي

العدل كفضيلة فردية إنما هو قضاء وتنفيذ معًا، خلافًا للعدل القضائي، فهو حكم فقط، والتنفيذ منوط بقوة أخرى قد تحسن التنفيذ أو تسيئه، كما أن القضاء نفسه قد يكون حسنًا أو سيئًا بالرغم من عدالة القانون، كما كان لعهد تركيا العثمانية؛ حيث كان القانون عادلًا، ولكن لا القضاء ولا القوة التنفيذية كانا عادلين.

العدل الفردي أنقى من العدل المدني القضائي، وأقرب للصواب، وأضمن للحق منه، فهو مستمد من روح الجماعة على الإطلاق، وصادر من محكمة الرأي العام، ولكن العدل المدني قلما يخلو من التشوُّه بالتغرُّض والتحيُّز والتشيع؛ لانحصار القوة الاشتراعية في طبقة أو فئة خاصة من الناس، فلا بد أن تشذَّ بهم مطامعهم وأغراضهم النفسانية عن جادَّة الحق؛ لذلك تجد الشرائع الدينية مهما كانت ديموقراطية الروح لا تخلو من التحيز والتغرُّض، وهي دائمًا تحت عملية التنقيح والتعديل.

لاحظتَ مما تقدم أن العدل ميزان الحقوق، كالاعتدال ميزان الشجاعة، فهو بهذا المعنى: الإنصاف بين خصمين أو مختلفين على حق، هو ضد التغرض الذي هو اضطراب ميزان الحق.

(٣-٤) تحول العدل إلى رحمة

وقد علمت آنفًا أن اليد التي ترفع هذا الميزان إنما هي يد الرأي الاجتماعي العام، والرأي العام الذي ينظر إلى الفرد كجزء من الكل الاجتماعي يحمل هذا الفرد أن يحرص على العدل ويحبه ويجريه في حياته. على أن هذا الرأي الاجتماعي إذا كان راقيًا كان للعدل عنده صورة أخرى أرقى وأجمل، وهي صورة التسامح مع الضعيف، وتتمة ما فيه من نقص؛ بإعطائه مما في القوي من زيادة؛ لكي يصلح أن يكون جزءًا عاملًا في ذلك الكل الاجتماعي، فالعدل إذا ارتقى صار رأفة فرحمة، والرحمة تمنح للفرد الذي حال عجزه دون القيام بواجبه للمجتمع، ومن الرحمة يشتق الإحسان والإسعاف أيضًا، وهو أعلى صور العدل.

ونقول: إن الرأفة والرحمة والإحسان صور من العدل؛ لأنها واجبة من الواجبات الاجتماعية في المجتمع الراقي الصاعد في سلم الرقي إلى الكمال. وقد حسب معظم الناس الرحمة والإحسان ضد العدل، أو هما شيئين آخرين غير العدل؛ لأنهم غفلوا عن أن الرحمة والإحسان هما سجيتان للإنسانية، فحين يطلب المعدم الإحسان يطلبه «باسم الإنسانية»، وحين يقدم المحسن الإحسان يقدمه لأجل الإنسانية، ومثله الرحمة، وعدالة الإحسان — أو الرحمة — أو حقانيته مؤسسة على تمثيله رغبة المجتمع الخفية أو الكمينة ككل في سعادة الفرد كجزء منه؛ ولذلك قبول الشكر والثناء لأجل الإحسان ينقض الوجه الأدبي في الإحسان، ويخرجه من دائرة الاستحقاق الإنساني، فكأنه أصبح خدمة بأجر أو سلعة بثمن.

فلذلك لكي يكون الإحسان مبدأ أدبيًّا يجب أن يصنع عن يد المجتمع، وأن يناله الفرد المحتاج إليه من المجتمع؛ لأنه حق للفرد الضعيف على المجتمع، كما أنه حق للمجتمع على الفرد القوي؛ لهذا تطور الإحسان في الأمم الراقية، فمن جهة أنشأ الأغنياء الموسرون الجمعيات الخيرية والمعاهد والملاجئ المجانية لكل ضعيف وبائس ومحتاج، كما أن الحكومة من جهة أخرى حظرت الشحاذة والاستعطاء؛ لأن المعاهد والملاجئ تسد حاجة المحتاجين. وبهذا الأسلوب أصبح الإحسان مبدأ أدبيًّا كواجب على القويِّ نحو المجتمع، وكواجب على المجتمع نحو الضعيف. فالقوي يحسن على الضعيف عن يد المجتمع.

(٣-٥) الحكمة هي معرفة النسبة الاجتماعية

وجدنا في مباحثنا الآنفة في الفضيلة على العموم، وفي العدالة على الخصوص، أن جذور الفضيلة منغرسة في النسبة التصورية التي بين الكل والجزء؛ أي بين المجتمع والفرد. أما هذه النسبة فقائمة في مطاوعة سنن الحياة الاجتماعية. والعدالة تتوقف على قوة نظرنا للكل في الجزء، أي نظرنا للمجتمع مثلًا في الفرد، أو بعبارة أخرى: إدراك ما يحق للفرد من الحصة في حياة الجماعة. هذه هي نواة الحكمة؛ أي إن الحكمة تجعلنا نفهم هذه الحقيقة، وكلما اتسع علم الإنسان أفضى به علمه إلى إدراك كنه هذه الحقيقة، ولكن كيف يُعرَف أن للفرد حقه في حياة المجتمع، وكيف تعرف قيمتها.

لا بد من حدة النظر لإدراك النسبة بين الكل والجزء؛ ليُعرف نصيب الفرد فيها، وكذلك لا بد من إدراك أن هذه النسبة من أجود الغايات الأدبية التي ينبغي أن يتجه إليها سلوك الإنسان الأدبي؛ فالحكمة المكملة للعدل في فضيلة المحبة إنما هي إدراك أن سنة الحياة هي وجود هذه النسبة بين الكل والجزء — الفرد والمجتمع — وأن هذه النسبة هي أجود الغايات الأدبية. ففي كل مسلك من مسالك الإنسان ينبغي تحقيق وجود هذه النسبة بين الفرد والمجتمع، فإن كانت قائمة على قاعدة إرادة الخير للجماعة، والمطابقة لنُظُم نجاح المجتمع كانت نسبة جيدة، فإدراك الشخص صاحب السلوك جودة هذه النسبة على هذا النحو هو الحكمة عينها، وقول سقراط: إن الفضيلة معرفة؛ أي أن تعرف الحق فتفعله، مقارب لتعريفنا الحكمة كما تقدم. والقول الأصح هو أن فعلك للحق أفضل أساليب معرفتك إياه.

فإذا كان إدراك هذه النسبة وجودتها عادة في الإنسان أو سجية كانت الحكمة فضيلة له، وكانت قوة الحكم في المواقف الأدبية خلقة فيه، فقلما يشذ عن قاعدة العدل حين يحسن النية، وإذا كانت هذه الفضيلة عادة أصلية فيه تسنى له أن يسرب سائر الفضائل ويُنقِّحها ويُقوِّمها جيدًا.

(٣-٦) توسع معنى الحكمة

وقد عني سقراط وغيره من الفلاسفة القدماء ومن جرى مجراهم بالحكمة أكثر مما تحتمله من المعنى؛ فقد عنوا بها عمق النظر، أو عمق التبصرة وإصابة كبد الحقيقة؛ ولذلك حملوها كثيرًا من المسئولية إلى أن قربوها إلى الضمير، وكادوا يقربونها إلى البديهة؛ فالحكيم في نظرهم يكاد يكون معصومًا من الخطأ.

ربما كانت الحكمة في العصور القديمة تحتمل هذا المعنى؛ إذ كانت مطالب الحياة أبسط وأقل، وخطط السعي أقصر وأقل تلوِّيًا، والنسبة بين الفرد والمجتمع أقل متانة. أما الآن وهذه النسبة أشد توثقًا، والعلائق بين الأفراد أكثر تعقدًا، ومثيرات العواطف والشهوات والانفعالات أكثر تعددًا وتواترًا، ناهيك عن تعاظم قوى الوجدان لكثرة تروضها بالمعارف بحيث أصبحت تتدفَّق في منافذها، وتفاقم ضروب التمتع التي لا يتسنى دائمًا إشباعها، كل ذلك جعل مهمة الحكمة صعبة جدًّا؛ لأنه مهما كان النظر بعيدًا وحادًّا، والتبصرة عميقة، فلا يسلم العقل من الضلال عن العدل.

(٤) الإيمان

بقيت فضيلة لم يُشر إليها أحد من علماء الآداب، في سياق بحثهم في الفضائل، وهي فضيلة الإيمان؛ إيمان الفرد بقوة هذه النسبة بينه وبين المجتمع قوة تداني الألوهية، القوة الحاضرة في كل مكان، والقادرة على كل شيء، القوة التي يُعتصَم بها في جهاد الحياة، ويُستنَد إليها في الملمات، ويستعاذ بها من الكوارث والنكبات ويحتمى بها من غارة الأعداء، القوة التي يُلتمَس منها العدل والرحمة والعون. وبهذا الإيمان ينبري الفرد للتضحية في سبيل سلامة المجتمع.

فإيمان الفرد بهذه القوة في نسبته إلى المجتمع يقرر أدبية شخصيته، ووجود الفضائل الأخرى فيه، فإذا خلا من هذا الإيمان ضعفت فضيلة العدل فيه، وتضعضعت فضيلة الحكمة منه، ولم تعد الشجاعة ولا التعفف فضيلتين، بل تضحيان سجيتين شخصيتين خلوًّا من الأدبية.

فلذلك يعد الإيمان أساس جميع الفضائل الأربع، كما تعد المحبة أسَّ فضيلتي العدل والحكمة، ومنه تفرعت الثقة المتبادلة بين الأفراد؛ لأنه متى استتب إيمان الأفراد بمجتمعهم كان كل فرد مطمئنًّا على حقه، ضامنًا حمايته، كما أنه يثق بقيام العدل من تلقاء نفسه بينه وبين جاره.

(٥) تربية الفضائل

تختلف الفضيلة عن الخلق المحرك للفعل بأنها لا تنتمي كثيرًا للغريزة كما ينتمي الخلق إليها، بل هي تنمو وتقوى بالرياضة النفسية والتربية والتعليم؛ الفضيلة تتوقف على القلب الطيب الذي جُعل في المرء، لا على النبضة الغريزية التي تكيف الخلق.

فالشجاعة تكون فضيلة حين تكون نبضة قلب، فإذا صدرت كحركة لتلبية غريزة الغضب لا تكون فضيلة، بل تكون خلقًا، وربما كانت تهورًا.

كذلك الإحسان يعد فضيلة متى كان سمحة نفس بغية تلافي سقم في عضو في المجتمع، ولكنَّه إذا كان شفقة لتلافي ألم في نفس المشفق لا يكون فضيلة، بل يكون خلقًا يتحرك مؤقتًا لعامل حرَّكه محرك الفعل.

فالفضيلة ترتكز على الرأي السديد والنظر الصائب في الأمور أكثر مما ترتكز على النبضات الغريزية؛ ولهذا تتغذى من التربية والتعليم والرياضة النفسية، ويحتمل أن تنمو وتقوى كثيرًا وقليلًا، فالتربية تؤثر في تنقيح الفضائل أكثر وأسرع مما تؤثر في الغرائز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤