الفصل الثاني

في سبيل الارتقاء الأدبي

(١) سنن التطور الارتقائي

(١-١) تنازع الفضيلة والرذيلة

التمدن كما نعرفه الآن وكما عرفنا تاريخه الماضي بعضه نتيجة أفعال الصالحين، وبعضه نتيجة أفعال الطالحين، وبعض أنظمته حقة صالحة وجيدة، وبعضها باطلة وسيئة، فالفضيلة والرذيلة تعملان فيه معًا دائمًا متنازعتين. وهو كما هو الآن مصاقب لكلتيهما، وكلما تغلبت الفضيلة على الرذيلة في معركة تطورية خطا التمدن خطوة في سُلَّم الرقي، والعكس بالعكس، وربما كان التمدن الحالي، كما نعرفه الآن، غير مهيأ لكي يلاشي الرذيلة وشرورها بتاتًا، ولا لكي يجعل الفضيلة وحدها سيدته.

على أن ما عرفناه من تاريخه إلى الآن يدلنا على أن فوز الفضيلة على الرذيلة، أو الخير على الشر أغلب، ولكن ليس هذا التغلب مطردًا؛ فقد يتغلب الخير اليوم والشر غدًا، وقد يتحسن أحد الأنظمة ويصلح لخير المجتمع فيجد ظرفًا غير ظرفه، ويُحدِثُ نظامًا آخر يُغلِّب الشر على الخير، مثال ذلك عصرنا الصناعي الاختراعي هذا؛ فما من أحد يجهل أو ينكر أنه أعظم العصور نعمة لبني الإنسان، فقد نشأ فيه النظام الصناعي الجديد الذي طرح عن عاتق البشر تسعة أعشار الجهاد العضلي، وضاعف المصنوعات أضعافًا، فلا ريب أنه بركة للنوع البشري.

ولذلك كان منتظرًا أن يزيد رخاء الناس، ويخفف غلواء تنازعهم للرزق، وبالتالي تقل الشرور والجرائم، ولكن النتيجة جاءت بالعكس؛ لأن هذا النظام الصناعي الجديد طوح بالنظام الاقتصادي في بيداء الاستقطاب المالي، فزاد المتمولين غنًى، والعمال فقرًا، وجدَّد للحياة حاجيات عديدة تغري النفس بها، فالأغنياء يتمتعون بها، والعمال يتوقون إليها، ولا يستطيعون التمتع لفقرهم؛ فيتذرع بعضهم إليها بالوسائل غير الشريفة.

وكذلك لأن الفقراء ضعفاء، يستغل الأقوياء أتعابهم فلا يبقى لهم حول ولا قوة لترقية أنفسهم في المعرفة والتهذيب والأخلاق، فيتطوحون مكرهين في الفساد، كذلك الأغنياء من الجهة الأخرى، وقد تمكنوا من استثمار أتعاب العمال، لم يبقوا في حاجة إلى الكدح والعمل، فيشغلون أوقاتهم وينفقون أموالهم في الفساد إلا من ندر منهم.

فترى مما تقدم أن النظام الصناعي الذي يفاخر به عصرنا كل العصور الماضية بمحامده قد أفسده النظام الاقتصادي الموروث الذي بني على نظام سياسي إفرادي استبدادي سابق؛ أي غير ديموقراطي.

وفيما يلي نبحث في سنة الارتقاء الأدبي، وكيفية تطور الحياة الأدبية وتقدمها:

(١-٢) عناصر الحياة الأدبية

تتألف الحياة الأدبية من أربعة عناصر رئيسية:
  • (١)

    مبدأ أدبي يُسلِّم به المجتمع كمثل أعلى يمثله شكل من أشكال الحياة العملية، كنموذج يقتبسه الفرد ولو من غير انتباه أو من غير شعور باقتباسه.

  • (٢)

    أنظمة اجتماعية تتحدد بها أفعال الفرد.

  • (٣)

    أساليب السلوك حسبما ألفها الفرد واقتبسها بانتباه لاقتباسها أو بغير انتباه، فكانت عادة.

  • (٤)

    الروحانية الأدبية؛ وهي تشبع النفس بالمبدأ الأدبي الأعلى.

وهذا العنصر الأخير ثابت لا يقبل التغير؛ فإما أن يكون الفرد متشبعًا به أو غير متشبع. وأما العناصر الثلاثة الأخرى فقابلة التغير والتجدد؛ فأي عنصر منها إذا تجدد أحدث تنافرًا بينه وبين العنصرين الآخرين.

(١-٣) تنافر عناصر الحياة الأدبية

لكي تتوافق العناصر الثلاثة ويعود التوافق والتوازن فيما بينها، لا بد أن يحدث تطور فيها جميعًا؛ لذلك ترى دائمًا تنافرًا بين هذه العناصر لتجدد متوالٍ فيها حينًا بعد آخر.

مثال ذلك: أن من المُثُل العليا أو المبادئ الأدبية التي يتوخاها الإنسان المتمدن المساواة، ومن الأنظمة الاجتماعية ما يؤيد هذه المساواة؛ كالنظام القضائي الذي يجعل جميع الأفراد متساوين أمام القانون، ومنها ما ينافي هذه المساواة؛ كنظام الاقتصاد الذي يؤذن أن يتفاوت الناس في تقاسم حاصلات الأعمال، بعكس النسبة بين تفاوت الناس في الجهاد في العمل. زد على ذلك أن أفعال الناس مخالفة لهذا المثل الأعلى الذي ينشدونه، فيندر أن تجد من يسلك سلوكًا يدلُّ على أنه يعامل الناس كمساوين له في الحقوق والواجبات.

إليك مثلًا آخر أوضح: السلام رغيبة كل فرد؛ لأنه الضامن الوحيد لاستثمار الفرد ثمرة عمله، والقوانين والأنظمة التي تؤيد السلام تشتمل على قوانين وأنظمة حربية أيضًا، كأن الحرب أمنية منشودة أيضًا، وبعض أعمال الناس محصورة في الاستعدادات الحربية، ولا ريب أن معظمهم ممن ينشدون السلام ويرغبون فيه.

مثال ثالث أيضًا: الحرية الشخصية والقومية، كحق أساسي من حقوق الإنسان، رغيبة تنشدها الأمم المتمدنة، والقوانين الدولية الخصوصية تؤيد هذا المبدأ الأدبي، ولكن القوانين الدولية العمومية تناقضه، وتجيز للأمة القوية أن تستبد بالأمم الضعيفة لتستعمرها. والفرد الأوروبي يؤيد حرية الإنسان كحق طبيعي في دائرة بلاده، ويعمل خلاف هذا المبدأ خارج بلاده.

كذلك الاحتفاظ بكنية الأسرة كمبدأ سامٍ حرصًا على سلامتها من مزيج أجنبي لا يضمن نقاوتها من المزج، والترقية في وظائف الحكومة حسب قانون الأقدمية لا يضمن دائمًا أن يترقى الأكثر أهلية إلى المنصب الأعلى، والدبلوم لا يدل دائمًا دلالة صادقة على الاستحقاق، كما أن الاستحقاق لا يضمن النجاح دائمًا.

وعملية التطور في كل أمة وشعب تقوم بالتوفيق بين هذه العناصر: المثل الأعلى والنظام والعادة، كلما تجدد عنصر منها جد تنافر بينها، ومتى كان هذا التطور جاريًا على سنة التطور الارتقائي العامة كانت أدبية المجتمع صاعدة في سُلَّم الرقي. وهذا ما يحدونا للبحث في سنَّة التطور الارتقائي من الوجهة الأدبية، وكيف يتمشى التطور الأدبي عليها.

(١-٤) ما هو التطور الارتقائي؟

لفظ التطور أو التحول من طور إلى طور، أو من شكل إلى شكل، لا يفيد معنى الارتقاء. التحول يحتمل أن يكون تسفلًا لا ارتقاء، فلا بد إذن من وصف التطور بالارتقائي احترازًا من التطور التسفلي. مع كل ذلك لا بد من تبيان ماهية الارتقاء وتحديده؛ لئلا يشكل علينا التمييز بين الارتقاء والانحطاط، ونخطئ في بعض الأحوال فنحسب المنحط راقيًا؛ فقد نعد أجناس الطيور أرقى من الفئران مثلًا، وما هي كذلك في سلم التطور الحيواني.

لذلك أشغل الفيلسوف سبنسر الجانب الأعظم من كتابه المبادئ الأولى، الذي هو كمقدمة لفلسفته، في تعريف التطور الارتقائي معتمدًا بالأكثر في ذلك على الحقائق العلمية التي اكتشفها دارون. وقد استخرج من مباحثه الضافية تعريفًا للتطور جعله كسنة طبق عليها التطور في العوالم المادية والحيوية والعقلية والاجتماعية والأدبية. ولا تزال أولياته التطورية إلى الآن ذات مقام في الفلسفة، ومستندًا لكثير من الباحثين.

فالتطور الارتقائي حسبما حدده سبنسر هو تحول البسائط المنفصلة وغير المحدودة الأشكال إلى مركبات متصلة أو مؤتلفة محدودة الأشكال، وفي أثناء هذا التحول تتجمع المادة وتنطلق منها القوة. فالكون كله آيل من التشتت المضطرب إلى التكتل المنظم الهادئ.

وما تبسَّط فيه سبنسر في كتابه لشرح هذا التعريف لا يمكن أن يُبسَط في بعض هذا الفصل، وإنما لكي يفهم القارئ معنى تحوُّل البسائط المنفصلة إلى مركبات مؤتلفة نلفتُ نظره إلى التطور الإجمالي الذي حدث في العالَم الحيوي «البيولوجي»، ونرجو منه أن يقارن بين الدودة والهرة مثلًا؛ فيجد أن الدودة قليلة الأعضاء، فما هي إلا أنبوبة تمر فيها المواد الترابية المائعة، وجدرانها الداخلية تمتص منها المادة المغذية، وهناك بعض أنابيب تحتوي على سوائل بسيطة لهضم الغذاء وتحويله إلى مادة الجسم.

ومع ذلك ليست أجزاء الدودة شديدة الارتباط بعضها ببعض؛ فإذا انقطعت الدودة نصفين استغنى كل نصف عن الآخر، وعاش لنفسه ونما دودة كاملة. وأما الهرة فتشتمل على أجهزة مختلفة الوظائف للهضم والامتصاص والتيار الدموي والتنفس والعصب إلخ، وكلها تعمل متوافقة مؤتلفة لغاية واحدة؛ وهي إحياء الجسم كله، ولكن إذا قطع منها جزء فلا يستطيع أن يعيش مستقلًّا عن الكل، وإذا كان جوهريًّا للكل فبقطعه يموت الكل.

والدودة والهرة ترقتا من أصل حيوي مكروبي واحد، كما أن سائر الحيوانات ترقت بعضها من بعض، والإنسان من جملتها؛ فحيث تجد الجسم أكثر أجهزة، والأجهزة أكثر تركبًا تعلم أن الحيوان أرقى؛ ولهذا الاعتبار يعد الإنسان أرقى جميع الحيوانات؛ ولا سيما لفرق ظاهر بينه وبين أشباه الإنسان في الدماغ والجهاز العصبي.

كذلك نلفت نظر القارئ إلى العقل الإنساني والعقل الحيواني؛ فيجد أن الأول أكثر قوًى من الثاني، وقواه أوسع مدًى، ونلفت نظره أيضًا إلى العالَم الاجتماعي؛ فيجد أن الأمة المتمدنة أكثر أنظمة من القبيلة الهمجية، بل يجد أن الأمة الواحدة اليوم أرقى منها أمس، بتعدد أنظمتها وتشعبها وتفرعها، وتخصص فئاتها بها. فالاقتصاديات التي كانت متاجرة بسيطة، ومقتصرة على المقايضة والنقل بين المنتج والمستهلك، أصبحت تشتمل على عمولة ومتجر وصرافة وضمانة خسارة إلى غير ذلك من التشعبات. وكلما تشعبت الأنظمة وتعددت مشتبكة بعضها ببعض زادت المجتمع تكتلًا، وزادت تكتله متانة.

هذا هو معنى التطور الارتقائي كما شرحه سبنسر ومثَّل عليه في جميع عوالم المادة والحياة والعقل والاجتماع وأدب النفس أيضًا. وسنَّة هذا التطور هي كما بسطها دارون واستخلصها في خمس عبارات: «الانتخاب الطبيعي» كنتيجة «لتنازع البقاء» «وبقاء الأصلح» «والوراثة الطبيعية» «ومصاقبة الحي للبيئة». والارتقاء الأدبي الذي نحن بصدده يتمشى على هذه السنَّة بالمعنى الذي تقدم بيانه.

(١-٥) العبقرية تنشئ تجديدًا في العناصر

ولا يخفى عليك أن القوة الأدبية هي أهم عامل من عوامل التطور الاجتماعي؛ فلا يخطو الاجتماع خطوة في تطوره الاجتماعي إلا لأن مبدأ جديدًا أو نموذجًا للحياة جديدًا نشأ في العقل الاجتماعي، فأحدث في المجتمع تطورًا جديدًا، فإن كان هذا المبدأ صالحًا لحياة المجتمع ولنموه، وكان يزيده تكتلًا ومتانة، ويوثق ارتباط أجزائه بعضها ببعض، تمكن فيه، واضطر النظام الموافق له أن يتعدل ويتنقح بمقتضاه، واضطر الأفراد أن يتعودوا السلوك بموجبه: يضطرهم لذلك بما يغريهم به من جودة فوائده لهم. وإن كان غير صالح لحياة المجتمع، ولا هو مفضٍ إلى نموه أحدث اضطرابًا في المجتمع، كما يحدث التسمم المكروبي اضطرابًا في الجسم، وبعد حين يتقيَّؤه جسم المجتمع أو يتغوطه، أو يفرزه ويتطهر منه.

ينشأ المبدأ أو النموذج الجديد في الحياة من العبقرية التي ينجبها المجتمع نفسه في دائرة من دوائره الحيوية، مثال ذلك: أن العبقري الصناعي غوتمرغ اخترع الطباعة؛ فسهَّل نشر المعارف، واتفق أن الكتاب المقدس كان محجوبًا عن الجمهور في ذلك الحين، ومحصورًا في دائرة الإكليروس، وكان البحث في العقيدة الدينية محظورًا على العلمانيين، فكان عليهم أن يقبلوا قانون الإيمان كما سنَّته الكنيسة بلا اعتراض.

وقام حينئذٍ العبقري المصلح لوتيروس بمبدأ الحرية الدينية، واستخدم نظام النشر الجديد؛ أي الطباعة، لنشر مبدئه، ونشر التوراة والإنجيل؛ فوقع النزاع بين الاستعباد والاستقلال الفكريين، وأخيرًا نجح الثاني، فهنا تعاون نظام جديد «الطباعة» مع مبدأ جديد «الحرية الفكرية في الدين»، وقلبا مبدأ «الرق الفكري» وغيَّرا تعود الناس إياه.

فالعبقرية التي تظهر كل حين بعد آخر تنشئ مبادئ وأنظمة جديدة، وتنزلها إلى ميدان تنازع البقاء. فهي كمحدثات الظواهر العضوية في أجسام الأحياء١ التي تظهر كل حين بعد آخر كشواذ فيها، فإن توافقت مع البيئة وفاز الحي الذي بدت فيه في معركة تنازع البقاء؛ تسلسلت بالوراثة من جيل إلى جيل، وثبت ذلك النوع الجديد في دائرة الحياة وإلا انقرض.

هكذا العبقريون في العلوم والفنون والآداب — والمصلحون هم عبقريون في أدب النفس — يستنبطون مبادئ أدبية، أو نظريات فلسفية، أو اختراعات مادية، أو أنظمة اجتماعية كلها جديدة، فتُنازِعُ الموجودَ من نوعها البقاءَ؛ ولهذا تجد دائمًا في المجتمع مبادئ جديدة تنازع مبادئ أدبية قديمة، وأنظمة جديدة تنازع أنظمة قديمة، وعادات حادثة تنازع تقاليد متقادمة، وكذلك تجد تنافرًا بين المبادئ ونماذج الحياة، وبين الأنظمة والعادات. ومهمة عملية التطور هي أن تنفي هذا وتثبت هذاك؛ لكي توفق بين العناصر الثلاثة: المبدأ والنظام والعادة.

فإذن كل تطور اجتماعي إنما هو نتيجة تطور أدبي، أو هو مرافق لتطور أدبي يناسبه، أو هو مستلزم تطورًا أدبيًّا. والعبقريون هم أدوات عملية التطور، والمصلحون منهم هم أداة التطور الأدبي الخاص اللازم للتطور الاجتماعي.

(١-٦) كيف يصلح المصلحون؟

ولا يخفى عليك أن جانبًا كبيرًا من الناس يعملون وفق المبادئ والأنظمة القائمة في المجتمع، وينسجون على منوال النماذج التقليدية الموجودة في بيئتهم، فهؤلاء يسيرون في التيار، وقلما يفكرون فيما فيه من أمواج التناقضات المضطربة. وهناك فريقٌ آخر يفكرون أكثر مما يفعلون؛ لأن أمواج التناقضات المضطربة تحرض ذكاءهم للتفكير في الأنظمة والمبادئ ونماذج الحياة المتباينة، واستخراج مبادئ وأنظمة ونماذج متوافقة يستتب بها سير المجتمع في طريق قويم، ويزيد تكتله متانة.

يفكرون في أدبيات قومهم وما يختلط فيها من مبادئ قويمة صالحة لتكتل المجتمع واستتبابه على قاعدة الحق الكافلة سلامه وأمنه، ومن مبادئ باطلة تهدد سلامه ومتانته بالاختلال والتحلل. هؤلاء هم طائفة المفكرين الأدبيين من العبقريين، هم الأفراد القلائل الذين تعشقوا الفضائل والحق، والذين يبتغون أن يرفعوا أدبية قومهم درجة أو درجات. يتعشقون الفضيلة والحق إلى حد أن يضحوا بأنفسهم لأجلها.

هم طائفة المصلحين ككنفوشيوس وبوذه وموسى وسقراط وأرسطو والمسيح وبولس ومحمد إلخ. وكل امرئ صالح النية والعمل إنما هو مصلح في بيئته إلى حد، ولكن هؤلاء الذين ذكرناهم كانوا أكثر تماديًا في الإصلاح، وكانت مبادئهم أوسع انتشارًا وأشد تأثيرًا في حياة المجتمعات الأدبية.

(١-٧) كيف يحدث الإصلاح؟

الإصلاح هو التطور الأدبي الذي نحن بصدده، فمتى كان في المجتمع عناصر حيوية متباينة أو متناقضة كان وجودها كافيًا للدلالة على ضرورة إيجاد مبدأ أو نموذج جديد، أو على إيجاد نظام جديد؛ لأن النظام أو المنهج الذي يتعذر تطبيق السلوك عليه يُشعر الجمهور، أو على الأقل المفكرين منهم، بأنه غير صالح ويجب أن يُلغى، مثال ذلك: نظام الرقِّ؛ فقد وجد أنه جائر لأنه ليس عدلًا ولا حقًّا أن يكون فريقان من ذرية آدم الواحد عبدًا والآخر سيدًا.

ناهيك عن أنه غير صالح لمتانة المجتمع ورُقِيِّه؛ فأُلغي. وفي بعض الأحوال تكون العادة مخالفة للمبدأ، فتتكيف لكي توافق المبدأ، كما هو حادث الآن في مسألة السفور. وأحيانًا يحدث في الحياة الاجتماعية اضطراب بسبب العادات والمبادئ، فيتنازع الفريقان إلى أن تتغير العادات حسب المبادئ، أو المبادئ حسب العادات.

مثال ذلك: الرفق بالحيوانات. إلى أي حد يجب الرفق بها؟ فقد يبالغ البعض بهذا الرفق إلى حد أن يمنع تشريحها حيَّة لفائدة العلم، أو إلى حدِّ أن يمنع صيدها، أو إلى حد أن يمنع أكلها. وقد يعارض فريق آخر بكل ذلك؛ باعتبار أن الحيوانات ليست من جنس الإنسان لكي يعمها المبدأ الأدبي، وتشترك في نعمه مع الإنسان، بل هي مخلوقة لنفع الإنسان. فوظيفة المصلح أن يجد المبدأ الذي يوجب الرفق بالحيوان لا رفقًا بالحيوان نفسه، بل رفقًا بشعور الإنسان نفسه تجاه الحيوان.

مثال آخر: معاملة الأطفال. إلى أي حد يجوز تصرف الوالدين بأولادهم، ويجب منعهم من هذا التصرف؟ متى يجوز للأب أن يقسو على ابنه؟ وفي أي سنٍّ يجوز أن يشتغل الغلام؟ وإلى أي حدٍّ يجب أن يتعلم إجباريًّا؟

كل هذه المسائل وأمثالها تحدث اضطرابًا في حياة المجتمع؛ لوجود التباين بين المبادئ والأنظمة. والتطور المنشود يوفق بين النظام والمبدأ والعادة.

(٢) تاريخ التطورات الأدبية القومية

(٢-١) وحدة المبدأ الأدبي

قد يتعذر تفصيل التطورات الأدبية التي تقلب عليها المجتمع الإنساني منذ تكونه متكتلًا إلى اليوم: أولًا؛ لأن المبادئ الأدبية المتطورة إنما هي بضعة سلاسل ممتدة من بدء تكتل المجتمع إلى الآن جنبًا إلى جنب، ومتفرعة في سياق تسلسلها، وفي كثير من المواقع مشتبكة بعضها ببعض، وبعض فروعها مندمج ببعض بحيث يتعذر استقراؤها واستقصاء أصولها، وثانيًا: لأن المبادئ الأدبية مهما أمكن تمييز بعضها عن بعض، فإنها ترجع إلى مبدأ رئيسي واحد، ربما تعذر التعبير عنه لاتساع معناه وتفرعه إلى معانٍ مختلفة، بحسب اختلاف الظواهر الاجتماعية التي يظهر فيها.

لقد اتضح لك في الفصول المتقدمة أن المبدأ الأدبي الرئيسي، أو المثل الأعلى في الأدبية هو النموذج الذي إذا ترسمه الفرد في سلوكه، ونسج على منواله، كانت أفعاله متفقة حتمًا مع سائر أفعال الآخرين الآيلة إلى توثيق عرى المجتمع ونجاحه وتصاعده في سُلَّم الرقي.

وكذلك علمت أن الفرد الأدبي هو الشخص الذي يعتقد ويحس أن كيانه متوقف على كونه جزءًا من كل المجتمع، وأنه لذلك هو ذو شخصية أخرى اجتماعية غير ذاتيته الفردية، وشخصيته هذه أعلى من ذاتيته، وأنه لكونه كذلك يتطبع بذلك المثل الأعلى، ويترسم نموذجه في سلوكه لكي تتفق أفعاله مع أفعال الآخرين الآيلة لرقي المجتمع.

فإذا تمثلت لك هاتان الحقيقتان، سُهل عليك أن تتصور معنى المبدأ الأدبي الرئيسي المنبث في الجسم الاجتماعي كانبثاث المبدأ الحيوي «البروتوبلاسم» في الجسم الحيواني، والذي هو نواة كل شخصية فيه كنواة «البروتوبلاسم» في كل خلية حيوانية، فإذا تمثل لك معنى المبدأ الرئيسي هكذا، فقلما يهمك اسمه أو اللفظ المعبِّر عنه، فلك أن تسميه «الجودة» — ولكنَّها لفظة مبهمة ومطلقة المعنى جدًّا؛ فقد تضللك — ولك أن تسميه «الفضيلة».

وهذه وإن كانت تطلق على مبادئ أدبية متنوعة مختلفة، فهي محدودة المعنى قد لا تتناول في بعض الأحوال معنى المبدأ الأدبي الأعلى كما فهمته آنفًا. وعندي أنه إذا عبَّرنا عنه بلفظة «المحبة» يقل الالتباس، أو ينتفي تمامًا في التعبير عنه في مختلف المواقف؛ لأن المحبة مركبة من جميع الفضائل كضياء الشمس المركب من جميع أشعة الألوان، فالمحب يعدل ويصدق ويشفق ويساعد ويضحي إلخ، وإذا بحثت عن القوة التي تربط الفرد بالمجتمع وجدتها المحبة بعينها؛ فلذلك إذا بحثنا عن المثل الأعلى في الأدبية، أو المبدأ الأدبي الرئيسي الذي يصوغ نموذج الحياة الاجتماعية وجدناه في «المحبة».

ولذلك نتتبع تقلبات التطورات الأدبية ونحن ندور في بحثنا حول محور المحبة وما يتفرع منها من المبادئ الأدبية.

(٢-٢) تطور المحبة وارتقاؤها

نجد فعل المحبة الأول في تكوين الحويصلة الاجتماعية «العائلة»؛ فالمحبة العائلية ناشئة من جرثومتين مقترنتين؛ الأولى: حنو الأمومة — الأقدم عهدًا من حنو الأبوة — والثانية: الحب الزوجي، ثم تفرعت إلى التعاطف بين أعضاء الأسرة، والصداقة بين أفراد العشيرة، فالقبيلة، فالقوم، فالأمة. ولما صارت سجية اجتماعية صارت عطفًا من فرد على مجموع أفراد القوم، ولما تمثل هذا المجموع بجسم اجتماعي صار حب الفرد لهذا الجسم الاجتماعي يسمى «حب الوطن».

ولما أصبح هذا الحب الاجتماعي؛ أي حب المجتمع، مبدأ واحدًا بعينه رئيسيًّا لكل قوم، وكان هو إياه بعينه في جميع الأقوام؛ صار التعاطف بين جميع الأقوام نتيجة طبيعية. وهو ما يعبر عنه ﺑ «الإنسانية» و«حب الإنسانية».

هذا مجمل تطور المبدأ الرئيسي «المحبة» في تاريخ الاجتماع، ولكنه وهو متدرج اعتورته عدة تطورات جانبية وتقهقرية كانت تفضي إلى تفرع مبادئ أدبية مختلفة تستلزم نشوء أنظمة متنوعة أيضًا كما ترى فيما يلي:

(٢-٣) تحوُّل المحبة إلى احترام

أول هذه التطورات هو أن جانبًا من الحب البنوي، الذي هو رد فعل الحب الوالدي، تكيف أو تزيَّا بزي «احترام» الابن للأبوين، أو لأعظمهما سلطة. وهذا الاحترام هو رد فعل لهيبة هذه السلطة، وكلما تباعد هذا التفاعل في السلالة ازداد تزيي المحبة بالاحترام. فاحترام الحفيد للجد أكثر من احترام الابن للأب، ولكن حبه أقل. وعلى هذا النحو يجتمع احترام أفراد الأسرة في زعيمها، ثم في زعيم العشيرة إلخ، كما أنه كلما تقادم عهد الجد أو الزعيم؛ أي كلما بَعُد التفاعل بين الجانبين، عظُم مقام الجد الزعيم إلى أن يصبح نصف إله، وكلما تقادم عهده عظمت ألوهيته حتى يصبح أخيرًا إلهًا كاملًا.

(٢-٤) تأليه الزعيم

فترى أن أول فرع تفرع من المحبة في أثناء تطورها كان الزعامة، ومن هذه في أول عهدها العريق في القدمية نشأ نظام الألوهية أو التأليه، فكان الطور الأول من الألوهية طور إنصاف الآلهة، أو زعماء القبيلة الأبطال، ثم تلا دهره دهر الآلهة الكاملين، وهم نخبة أولئك الأنصاف. وقد صقل تناقل الروايات أساطيرهم، فجعلها مفعمة بالخوارق التي تليق بعظمة الألوهية وقدرتها، ثم تلا ذلك الدهر دهرنا الحالي الذي توحدت فيه الآلهة، أو بالأحرى استخلص منها العقل البشري المتفلسف فيها إلهًا واحدًا أعظم منها جميعًا.

وربما كان موسى أول من قال بالإله الواحد الأعظم، ولكنَّه لم ينف وجود الآلهة الآخرين نفيًا باتًّا، بل تصورهم ضعفاء جدًّا بالنسبة إلى يهوه، ثم جعلت فكرة تعدد الآلهة تضعف رويدًا إلى أن بقي في العقل الإنساني إله واحد فقط لا يوصف، مع أنه كان لعهد موسى يوصف بأنه رب الجنود ورب الأرباب، وبأنه يغضب ويندم إلخ.

(٢-٥) نشوء الاشتراع

وفيما كان نظام الألوهية يتطور هكذا، كانت المحبة التي هي نواته تتزيَّا بزي الاحترام حتى صار الاحترام تعبدًا وتقًى. فالتقوى إنما هي محبة متطورة، هي مبدأ أدبي أعلى، هي نموذج سامٍ للحياة. ونشوء هذا المبدأ استلزم وجود نظام اشتراع الوصايا الدينية وما يقارنها من العقاب والثواب الدنيويين والأخرويين. وزبدة هذه الشرائع في وصايا موسى العشر التي أولها إيجاب عبادة الله، وباقيها العدل في معاملة الغير. وقد ردَّها جميعها المسيح إلى أصلها بقوله: «حب الله وحب قريبك كنفسك.» فما خفي عليه أنَّ أسَّ الفضائل المحبةُ.

هنا يتضح للقارئ أن رئيسيات الفضائل التي نصَّ عليها في وصايا موسى العشر: المحافظة على الحياة والصدق والأمانة والعفة والعدل، كلها مشتقة عن المحبة، أو هي موجودة فيها.

(٢-٦) نشوء نظام الحكم

وفيما كان نظام الألوهية وما استلزمه من نظام الاشتراع بمقتضى مبدأ التقوى يتطور كما علمت، كان نظام الحكم إلى جنبه ينمو ويتطور أيضًا.

ولقد فهمت فيما تقدم أن أول سلطة ظهرت في المجتمع كانت سلطة الأب في العائلة؛ لأنه لم يكن بد من انحصار قوة العائلة في إرادة واحدة، لكي تستطيع هذه الإرادة أن تدير أفعال أفراد العائلة بأسلوب يجعلها متوافقة لمصلحة المجموع، فانحصرت قوة أفراد العائلة في إرادة الأب — وأحيانًا في إرادة الأم٢ — فكانت له السيطرة على شئون الأولاد ثم الأحفاد ما دام حيًّا، وبعد موته يتولاها كبير الأسرة.

وهكذا كلما عظمت الأسرة عظمت سلطة كبيرها بنسبة قوة الأسرة نفسها، ومتى تضخمت الأسرة إلى عشيرة فقبيلة صار كبيرها زعيمًا. وقد علمت أنه كلما بعدت النسبة بين الزعيم والأفراد قلَّت محبة الأفراد للزعيم، وكثر احترامهم له، أو بالأحرى تحوَّلت المحبة إلى احترام، كما أن عطف الزعيم يقلُّ وهيبة سلطته تعظم.

على هذا النحو نشأت سلطة الزعيم وتطورت وتكيفت إلى أن أصبح الزعيم أو شيخ القبيلة ملكًا واسع السلطة عظيم النفوذ. وإذا كانت قوة الجماعة متجمعة بحكم النظام الاجتماعي الطبيعي في إرادة الزعيم أو الشيخ أو الملك كما علمت، فمتى عظمت قوة الجماعة الممثلة في إرادته ظهرت إرادته لجانب من أفراد القوم مستبدة. ولكي يستطيع هذا الزعيم أو الملك أن يحافظ على سلطته، يجب أن يحافظ على وحدة جماعته، وتلافي فوضاها التي تمزقها؛ فلذلك يضطر أن يستبد، ومهما كان حكيمًا فلا بد أن تتدخل شهواته في سلوكه، فتلون استبداده بألوان الظلم والجور.

(٢-٧) نشوء العدل والرحمة

كان النظام اللاهوتي والسياسي دهرًا طويلًا متحدين أو مؤتلفين؛ فكان الكهنة حكامًا؛ ولذلك كانت الشرائع السياسية هي نفس الشرائع الدينية تقريبًا، فكانت سلطة الحكم تتأيد بتهديد العقابين الدنيوي والأخروي، وعلى الخصوص بالوعد بالثواب الأخروي. وكان المبدأ الرئيسي الذي تنتظم فيه حلقات الشرائع هو مخافة الله — بدل محبة الله — وطاعة وصاياه، ولكي يبقى الجسم الاجتماعي متكتلًا لم يكن بد من أن تكون قاعدة الوصايا الإلهية العدل، ولكن لم يكن العدل نفسه المبدأ الأدبي الذي يبتغيه الفرد، بل كانت طاعة الشريعة «العادلة» هي بغية الفرد؛ لأن هذه الطاعة تقي الفرد من العقاب وتمنيه بالثواب.

نشأ العدل في الشريعة المزدوجة — الدينية والسياسية — كوسيلة أو واسطة لحفظ كيان المجتمع، وتوطيد سلطة الحكم التي تدبر أفعاله وشئونه؛ لأن الاختبار الطويل أثبت أن العدل أساس الملك، والحق أفضل ضامن للسلم. كان العدل واسطة لا غاية، ولكن كلما اتسعت معرفة النوع البشري وعظمت حكمته كان يفهم هذه الحقيقة، ويعظم معنى العدل في يقينه إلى أن صار يتطبع به، وإلى أن صار العدل سجية فيه، فأصبح العدل غاية لا واسطة.

وقد علمت في فصل الفضائل أن الرحمة والشفقة مشتقتان من العدل، أو أن سجية العدل ترقت في الإنسان إلى أن صارت رحمة ورأفة ومسامحة في بعض الأحوال؛ ولذلك كان هذا التطور في المبدأ سببًا للتطور في الشريعة. كانت شريعة موسى العدل؛ أي «عين بعين وسن بسن»، فجاءت شريعة المسيح؛ أي التسامح «من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر»، أي سامحه ولا تنتقم منه.

وفي الشرائع السياسية الآن كثير من عناصر الرحمة والرأفة.

(٢-٨) انفصال نظامي الدين والسياسة

علمت في بدء هذا الفصل أن المبدأ الأدبي هو الذي يكفل تكتل المجتمع ونموه ورقيه؛ فإذا ارتقى المجتمع إلى حد أن لا يعود المبدأ كافيًا لرقيه، اقتضى أن يتغير المبدأ. فلما ارتقى المجتمع في العلم والصناعة، ونضجت الحكمة في العقل البشري، وصار الإنسان يدرك قيمة الشخصية في كيان المجتمع؛ أصبح النظام المزدوج الديني السياسي في كثير من فروعه غير صالحٍ لحياة المجتمع: أولًا: لتحجر تقاليده القديمة وتصلُّبها بحيث لم تعد لائقة للجديد. وثانيًا: لأن النظام القديم كان مضيِّقا دائرة الحرية، ولا سيما الحرية السياسية. والحكمة الناضجة لا تتفق مع تضيُّق دائرة الحرية. وثالثًا: لأن الحكم الفردي المطلق، الذي هو هيكل ذلك النظام، أصبح متقلقلًا وهو على مناكب النفوس الحرة المنتقضة تحت عبء الاستبداد. فلذلك انفصل النظامان الديني والسياسي، واستقل ثانيهما بالحكم الزمني، فكان انفراد النظام السياسي مخليًا الطريق لتقدم الديموقراطية التي نبتت منذ زمن طويل، ولكنها كانت تختنق بين أشواك الاستبداد.

كان المبدأ الأدبي الرئيسي في عهد ذلك النظام القديم متحجرًا، كذلك النظام كان نظرية إيمانية يجب أن تقبل بلا مناقشة ولا جدال؛ لأنها صادرة من سلطة سماوية، ولكن منذ جعل النظام السياسي يحاول الإفلات من النظام الديني صار المبدأ الأدبي الأعلى نظرية عقلية يسلم العقل بها اقتناعًا بأنها صالحة لحياة المجتمع ونموه ونجاحه؛ ولهذا صارت يرغب فيها لذاتها، كذلك الحقيقة العلمية والفلسفية كانت بنت الوحي فأصبحت بنت البحث.

(٢-٩) نشوء الديموقراطية

بقيت سلطة الزعيم مسيطرة وعامة مدة ما كان القوم ينظرون إلى الزعيم أو الشيخ أو الملك كشخص ممتاز بتسلسله من جدِّه نصف الإله، أو الإله الكامل، أو أجداده الآلهة، أو أنه يمثل الإله على الأرض، فكان القوم ينظرون إلى القوة التي في يده كأنها مستمدة من الإله أو الآلهة، ولكن لما نضجت المعرفة البشرية، وصار القوم يشعرون أن قوة الزعيم أو الملك إنما هي مستمدة من قوتهم، بدليل أنهم إذا تألبوا عليه استطاعوا خلعه، صاروا ينظرون إلى السلطة الحكومية كشبح ممثل مجموع قوة الجمهور؛ فيمكن أن يظهر هذا الشبح في شكل ملك يرث الملك، أو حاكم ينتخبه الشعب، أو قائد حربي يقود الشعب في حرب ينقذه بها من عدوان أعدائه، فمنذ طفق القوم أو الشعب يخلع ملوكًا وينصِّب ملوكًا نبتت جرثومة الديموقراطية.

وقد رأينا نبتها في عهد حكم القضاة الإسرائيليين، وفي بعض أدوار تاريخ العرب، وفي أثينا القديمة وفي رومية أختها، ولكنها بقيت ضعيفة عدة قرون؛ لأن الحكم الفردي ما زال مرافقًا لها يخنقها، وما ترعرعت إلا في أول القرن الماضي حين استطاعت قلب سلطة العرش الإنكليزي في الولايات المتحدة الأميركية وقلب عرش فرنسا، وما زالت تترعرع إلى الآن وتُقلِّب العروش حتى لم يبق منها إلا أقلها.

(٢-١٠) المساواة

ففي عهد الحكم الفردي المطلق كان المبدأ الرئيسي أن الناس متفاوتون في القيمة؛ لأن فريقًا منهم من سلالات آلهة أو نواب آلهة، فما هم والعامة بمتساوين في الحقوق والواجبات؛ ولذلك كانت الشريعة تسري على العامة فقط. وأما النبلاء فهم فوق الشريعة، أو أن شريعة النبلاء غير شريعة العامة. وهكذا كان العدل مشوَّهًا ومثلومًا، ولكن بعد تلاشي الحكم الفردي المطلق ونهوض الحكم الشعبي أو الجمهوري؛ فقد أصبح المبدأ الرئيسي «المساواة»، أو هو العدل المطلق من غير اعتبار للفئات والطبقات. كذلك كان الحق السياسي في العهد القديم محصورًا في النبلاء؛ لأنهم من سلالة الآلهة أو كالملوك نواب الآلهة، فلما أخذ الحكم الفردي يتلاشى صار عامة الشعب يتقاسمون الحق السياسي لقاء ما يمدون السلطة الحاكمة من قوتهم.

(٢-١١) تحرير المرأة

من التطورات الناشئة التي أخذت دورًا مهمًّا في تاريخ المدنية، فكان لها شأن خطير في التطور الأدبي أيضًا تطور منزلة المرأة في المجتمع؛ فقد كانت المرأة في دور من أدوار الاجتماعية الأولى سيدة الأسرة أو العشيرة وزعيمتها بالفعل. كانت كذلك حين كان الزوج ينضم إلى عشيرة زوجته مدة غير معينة، حتى إذا هجرها بقي أولاده مع أمهم أولادًا للعشيرة يكتنون بكنيتها، وبطبيعة الحال تكون الكنية كنية الأم وسيدة العشيرة أم الأمهات. فهذا الدور يسمى دور الأمومة، ولم يزل منه أثر إلى اليوم في بعض القبائل الأميركية،٣ ثم لما حلَّ دور الأبوة٤ محل دور الأمومة، وصارت الزعامة والسلطة للأب فالجد؛ بدأ شأن المرأة يضعف لتقييدها بواجبات العائلة إلى أن أصبحت منزلتها أخيرًا كمنزلة العبدة، وانقضت أدهارٌ طويلة وشأن المرأة يرتفع فيها تارة، وينخفض أخرى، إلى أن بلغت إلى منزلتها المساوية لمنزلة الرجل في جميع البلاد المتمدنة.

بنسبة ارتفاع منزلة المرأة أو انحطاطها كانت العقيدة بجوهرها تتطور؛ ففي بعض أدوار انحطاط منزلتها كان يعتقد أن نفسها دون نفس الإنسان قيمة، وعقلها بين عقل الإنسان والحيوان، حتى في عصور العلم الأخيرة كان فريق من العلماء يحاولون إثبات أن دماغ المرأة يختلف عن دماغ الرجل، وأن مراكزها العقلية أضعف من مراكزه. فتطور العقيدة في قيمة شخصية المرأة كان يقضي بتطور حقوقها وواجباتها ومنزلتها وحريتها.

(٣) تاريخ التطورات الأدبية الأممية

فيما تقدم قصرنا البحث في التطور الأدبي على ما يحدث منه في دائرة القوم الواحد، أو الأمة الواحدة، ولكن هناك تطورًا أدبيًّا آخر يحدث في دائرة أوسع؛ دائرة الإنسانية التي تشمل عديدًا من الأمم أو جميع أمم النوع البشري، فلا نُدْحة من إعطائه حقه من البحث.

(٣-١) الحرب

علمتَ آنفًا أن المبدأ الرئيسي الذي هو روح حياة القبيلة والأمة، ومنه تتفرع سائر المبادئ الأدبية، وبه يحيا المجتمع وينمو ويرقى؛ إنما هو المحبة. فالمحبة لازمة لربط أجزاء المجتمع بعضها ببعض كلزوم الجاذبية، أو الألفة الكيماوية؛ لربط عناصر الجسم بعضها ببعض، ولكن المحبة وحدها لا تكفي لحفظ كيان المجتمع، كما أن الجاذبية لا تكفي وحدها لحفظ كيان المركبات، بل لا بد من الدافعية أيضًا لرد المركبات الغريبة عنها.

هكذا لا بد للقبيلة أو أي جماعة من نقيض المحبة أو البغض لصد القبائل أو الجماعات الأخرى ما دامت مباينة لها في الدم والأنظمة والعادات؛ لئلا تهتضمها أو تنازعها بقاءها؛ فبقوة البغض هذه كانت القبائل تستطيع أن تدافع عن كيانها ضد منازعاتها بقاءها؛ لذلك كان شبوب الحروب بين القبائل والأمم أمرًا طبيعيًّا لا نُدْحة منه، ولذلك كانت الشجاعة الحربية فضيلة وكانت الجندية نظامًا مقدسًا، وكذلك كان السبي واغتنام الغنائم والاسترقاق حلالًا.

فمن ذلك ترى أن العدل ينحصر في دائرة القبيلة أو الأمة ولا يتجاوزها إلى سواها، وكان حفظ وصايا موسى العشر محصورًا ضمن دائرة الشعب الإسرائيلي، وخارج هذه الدائرة يجوز للإسرائيلي أن يقتل وينهب. هكذا كان نظام جميع الأمم في عهد موسى وقبله يدفعون إتاوات للأعيان، ويتجندون لهم عندما ينفخ بوق الحرب.

ولما كان نظام الرق هذا وافر النفع الاقتصادي للأسياد صار في بعض الأزمنة حرفة رجال الحرب، فكانوا يغزون القبائل المنحطة، ويأسرون أحداثها ويخطفونهم؛ ليبيعوهم عبيدًا لمن ينتفعون بعملهم. ومن ثم لعبت النخاسة دورًا طويلًا، ولا سيما في القرنين السابقين؛ إذ كان النخاسون يصطادون الزنوج من غربي أفريقيا ويبيعونهم في أميركا.

ولا يخفى عليك أن النخاسة على هذا النحو إنما هي شذوذ شرير في نظام الرق؛ لأن الرق الناجم عن الحرب انتهى باندماج الأرقاء مع مسترقيهم في أمة واحدة، ولكنَّ النخاسة كانت استرقاقًا مصطنعًا مفتعلًا في ظهر المدنية، فظهرت جريمة شنيعة. وقد شعر أهل الجيل الماضي بفظاعتها فقاوموها حتى ألغوها وحرَّموها باتفاقات دولية عامة.

(٣-٢) الإنسانية العامة الشاملة

كان الأمر كذلك لتباين الأمم والأقوام والقبائل في الأخلاق والعادات والتقاليد والعقائد، وسبب هذا التباين قلة الاتصال فيما بينها لأسباب مختلفة: منها صعوبته، ومنها شدة الحذر من أن يكون ذريعة للغارات، ولكن على تمادي الزمان سهل الاتصال بين الأمم تدريجًا، وتعددت المعاملات فيما بينها، وقلَّ ذلك الحذر؛ فصار اتصالها يسهل اختلاطها. وهذا يسهل اقتباس بعضها تقاليد وعادات البعض.

وعلى التمادي تقاربت في المبادئ والأخلاق، ولا سيما في عصرنا الحاضر، فكان هذا التقارب قاضيًا بتوحيد المبادئ واشتراك الأمم في المبدأ الرئيسي، وتعميم الشرائع فيما بينها. وهكذا صار يتلاشى البغض بين الأمم وتقوى المحبة؛ استعدادًا لنشوء جسم اجتماعي أعظم وأعم تشترك جميع الأمم فيه كأجزاء له، حتى إذا تكوَّن هذا الجسم الاجتماعي الأعم حلَّ «حب الإنسانية» محل «حب الوطن».

فالقوانين الدولية العامة والمعاهدات الدولية والاتحادات الدولية؛ كالبوسطة، والمؤتمرات الأممية، والعلائق المالية والتجارية إلى غير ذلك من اشتباك مصالح الأمم واتفاقاتها، كل هذا يُكوِّن تدريجيًّا، ولو ببطء، ذلك الجسم الاجتماعي العام الذي تكون «الإنسانيةُ» مبدَأَه الرئيسي الأعلى. وتحت لفظ الإنسانية تنطوي كل الفضائل الأممية إذا شئت: الحرية الأممية، والمساواة الدولية، والإخاء القومي، بحيث يكون لجميع الأمم ميزان واحد، وشكل حق واحد.

(٣-٣) الاسترقاق والإقطاع

كان من نتائج البغض الطبيعي القديم بين القبائل ما كان يتلافى هذا البغض نفسه، فكأنه كان قاتلًا لنفسه أو محولًا نفسه إلى توادَّ أمميٍّ؛ فقد علمت أن الحروب بين القبائل كانت أمرًا طبيعيًّا لا نُدْحة منه لكيانها. ومن نتائج الحرب أن القبيلة الغالبة تُفني القبيلة المغلوبة تنكيلًا لكي تحل محلها، وتغنم مقتنياتها.

هكذا كانت نتيجة الحرب في أدوار الهمجية الأولى، ثم لما ترقت العقلية البشرية اكتشفت أمرًا أفضل من التنكيل بالأعداء المغلوبين كلهم؛ وهو أن يسبي الغالبون نساء المغلوبين كأنهن من ضمن الغنائم، ثم صاروا يَسْتَبْقُون أولادهن أيضًا فيربونهم كعبيدٍ لهم، وينتفعون بتشغيلهم، ثم صاروا يعفون عن الرجال أيضًا ويأسرونهم ويستعبدونهم. فالرق حل محل التنكيل بالأعداء المكسورين، وكان من نتائج الاسترقاق اختلاط الغالبين والمغلوبين، واندماجهم على التمادي كشعب واحد في الدم والعادات والأخلاق.

وبعد أن يكون البغض علة علاقة عدائية بين القومين يصبح الوئام علاقة ودادية بينهما. ترى شاهدًا واضحًا على هذا التطور العجيب في القرون الوسطى حين كان الرق يتحول إلى نظام اقتطاع الأراضي؛ فقد تحول العبيد إلى مزارعين بالمحاصة، ثم تحول هؤلاء المزارعون إلى ملَّاك أراضٍ.

(٣-٤) ارتقاء الروحانية

هذا مجمل أهم التطورات الرئيسية التي حدثت في تاريخ المجتمع الإنساني، ولا يخفى أن كل تطور اجتماعي إنما هو نتيجة تفاعلات عقلية داخلية وبيئية خارجية؛ ولذلك لا بد أن يصحبه تطور عقلي وتطور جسماني أيضًا. والتطور الروحاني إنما هو نتيجة تفاعل العقلية بالنوابض الجسمانية تحت تأثير العوامل الخارجية. إذن هو مصاحب حتمًا لكل تطور اجتماعي، ففي غضون تلك التطورات التي تقلبت عليها الأنظمة الاجتماعية والمبادئ الأدبية كانت الروحانية البشرية تتطور أيضًا وتترقى، متدرجة من القسوة الوحشية والفظاظة الهمجية، إلى المصادقة فالمؤاخاة ضمن القوم الواحد، إلى المسالمة بين الأقوام، إلى المعاملة العادلة بين الإنسان والإنسان من أي سلالة كان، إلى الرفق والرحمة بكل إنسان، إلى الإنسانية العامة المطلقة.

فبين نفسية الإنسان الهمجي القديم الذي كان يستحل دم إنسان آخر من غير قبيلته ومقتناه وعرضه واسترقاق ذريته، ويُعِدُّ هذه الاستباحة شريعة محترمة فيها ضمانة لبقاء هيئات عشيرته ونفسه، وبين روحانية إنسان اليوم الذي يعتقد أن جميع الناس على اختلاف دمائهم وألوانهم، وتفاوتهم في العقلية والرقي، هم إخوة متساوون في الحقوق والواجبات والحرية، والذي يتألم لألم أمة إذا نكبت نكبة مهما كانت بعيدة عنه، والذي يضحي بكثير من سروره لأجل خدمة الإنسانية العامة إلخ. بين تلك النفسية الوحشية وهذه الروحانية الصافية فرق عظيم كالفرق بين الثُّريَّا والثرى.

فهذا الرقي العظيم الذي تدرجت فيه روحانية الجنس البشري المتمدن إلى أن بلغ إلى هذه الدرجة من الإنسانية التي هي المثل الأعلى، كان دائمًا مصاحبًا للرقي الاجتماعي، وفي كثير من الأحوال قائدًا له. وكان لهذه الروحانية تأثير عظيم في ترقية المجتمع الإنساني العام، وربما كانت الآن أعظم فعلًا منها في كل زمان.

فمقاومة النخاسة وتحريمها، والرفق بالحيوان، وملاجئ الضعفاء، والمستشفيات الخيرية، ومعاهد العلم التي يتبرع بها الخيرون، والإسعاف المجاني العاجل، والصليب الأحمر والهلال الأحمر والمياتم، إلى غير ذلك مما لا يحصى من المبرات المجانية التي يتبرع بها ذوو تلك الروحانية الملائكية؛ إنما هي نماذج ذلك المبدأ الأدبي الأسمى «الإنسانية».

ففي أثناء ارتقاء المبدأ الأدبي واقترابه إلى مثله الأعلى كانت نفسانية الجنس البشري نفسها تترقى أيضًا، كما أن العقلية الإنسانية كانت تترقى مع ترقي الاجتماعية. ومجمل الارتقاء الإنساني إنما هو حاصل تفاعل هذه العناصر الأربعة: الأدبية والروحانية والعقلية والاجتماعية متساوقة. وفي يقيني أن الروحانية في مقدمتها لأنها مادة الجمال الذي هو غرض الطبيعة الأقصى.

(٣-٥) اعتراض على تأثير الروحانية وردُّه

وهنا قد يلوح في خاطر القارئ المدقق ما لاح في خاطر بعض الباحثين الأدبيين؛ وهو: إذا كان المبدأ الأدبي يتطور ويترقى بمقتضى حاجة المجتمع إلى العوامل التي تحفظ كيانه، فإذا تغير ظرف من ظروف الاجتماع اقتضى تغير المبدأ الأدبي وتغير العادة؛ لكي تتوافق عناصر الحياة الاجتماعية الثلاثة! إذا كان الأمر كذلك؛ فيكون الفضل في تطور الأدبية أو المبدأ الأدبي للظروف البيئية وغيرها، ولا شأن للروحانية الأدبية في هذا التطور، بل إن هذه الروحانية هي نتيجة ذلك التطور.

وقد مثَّل بعضهم على هذه النظرية بمسألة إلغاء الرق والنخاسة، فقال: إن هذا الإلغاء حدث بعد الاقتناع أن تحرير العبيد أفيد للمجتمع من الرق، في هذا العصر الذي اتسع فيه مجال الصناعة كل الاتساع، وأصبحت الحاجة إلى العمال أشد منها في كل زمان؛ فالعامل الحر يعمل أكثر جدًّا مما يعمله العبد، ناهيك عن أن العبد المقيد بسيده لا يذهب إلى المعمل، كذلك يقال: إن تحرير المرأة اقتضته الحالة الاقتصادية أيضًا على هذا النحو، فلم يحدث بتأثير الروحانية المتعشقة الإنسانية.

ربما كان هذا التعليل صحيحًا فلا ينفي تأثير الروحانية في تقرير هذا العمل الإنساني: إلغاء الرق وتحرير المرأة؛ لأنه إذا لم تتأثر النفس البشرية الراقية من الحيف الواقع على فريق من البشر، ولا تتألم لألم هذا الفريق، فلا يحدث هذا الاقتناع المشار إليه آنفًا؛ لأن المنتفعين من الرق لا يقتنعون بسبب كهذا لإلغائه قبل أن يقمعوا شهوة طمعهم بعرق جبين العبيد، ولا يقمعون هذه الشهوة إلا إذا كانت روحانيتهم قد ارتقت إلى حد تعشق الإنسانية، وصار خير المجتمع غرضهم الأقصى.

ثم إن الذين قاموا بمهمة إلغاء النخاسة لم يقوموا بها إلا بدافع الإنسانية، وإذا كانوا قد حاولوا أن يبرهنوا للقوم أن الإلغاء نافع للمجتمع فمن قبيل الدعاية.

فحيث تقتضي الظروف الاجتماعية تغيير مبدأ أدبي، فإذا كان المبدأ الجديد المطلوب إنسانيًّا انبرت الروحانية، فالذي أيد إلغاء الرق وتحرير المرأة ليس كونهما نافعين للمجتمع من الوجهة الاقتصادية؛ بل لأن الروحانية الإنسانية التي نحن بصددها زكَّت هذا التعليل ووافقت عليه.

فالروحانية الإنسانية لازمة لترقية المبدأ الأدبي. ولكي يثبت المبدأ الأدبي الجديد لا بد من ابتغائه لنفسه لا كواسطة، وإلا فابتغاؤه كواسطة يدل على مرض الروحانية الأدبية، وبالتالي تتغلب الشهوات والنوابض الجسدية على الروحانية الأدبية، وتقتل فيها المبدأ الأدبي الأعلى.

(٣-٦) الدعاية للمبدأ الأدبي

لم يقتصر الرقي الأدبي على إدراك المبدأ الأعلى وتشبع النفس الصالحة به، بل شمل أيضًا الدعاية له، وقد علمت أن الحكمة من الفضائل الرئيسية، ووظيفتها إرسال أشعة الروح الأدبية على السلوك كي يجري في المجرى القويم على هدى. ولا تتشبع النفس بالروح الأدبية إلا عن يد المعرفة، وما لطَّف أخلاق الناس ودمَّث طباعهم إلا العلم، وما أشبع نفوس الناس بالعطف وحب الإنسانية إلا المعرفة، وما ترفعت عن الدنايا والخسائس والمخازي والرذائل إلا النفوس المتشربة بالمعرفة والعلم، وما فعلته الشرائع الدينية والسياسية في تدميث الأخلاق وتهذيب النفوس في قرون وأدهار فعلت المعارف أعظم منه في عصور قصيرة.

لذلك كان من خصائص المبدأ الأدبي الذي يجعله الإنسان الراقي نموذجًا لحياته، الدعاية لهذا المبدأ ونشره؛ فالدعاية نفسها غاية أدبية تراد لذاتها لا كواسطة لغاية.

كانت المعرفة في أزمان التاريخ القديمة احتكارًا لكهنة الدين الذين كانوا رجال السياسة أيضًا، وكان اللاهوت والسياسة مندمجين معًا، وكان العامة محرومين من الاطلاع على أسرارهما؛ ولهذا كان جانب من علوم الكهنة سحرًا وتدجيلًا على العامة المغفلين. هكذا كانت المعرفة أسيرة رجال الدين والسياسة عند المصريين القدماء ومعاصريهم البابليين والفرس والماديين، حتى عند الإسرائيليين كانت النبوءات ألغازًا.

وعند اليونان والرومان كانت الصراحة أسرارًا مقصورة على الكهنة والكاهنات، وفي القرون الوسطى كان اللاهوت احتكارًا للإكليروس، والعلم والفلسفة مقيدين بالكنيسة؛ فما تجيزه الكنيسة يجوز، وما تحرمه تعاقب من يقول به أو تضطهده كما اضطهدت غاليلو، وكما اضْطُهِد المسيح وسقراط من قبله.

وهكذا كان تقييد المعرفة وحبسها عن العامة من أسباب بطء الرقي الأدبي، ولكن كما ضعفت السلطة الفردية باستقواء الديموقراطية، واتسعت دائرة حرية الفرد، انطلقت المعرفة من عِقالها، وصارت فضيلة مباحة لكل فرد. والآن صار نشرها مبدأ أدبيًّا أسمى يرام غاية لا واسطة لمن يرومه، فمؤلفو الكتب والوعاظ والخطباء والكتبة على اختلاف أنواعهم إنما هم دعاة المبدأ الأدبي، ومعاهد العلم وأنديته التي ينشئها أهل الفضل من الأميركان وغيرهم في الشرقين وفي بلادهم إنما هي دعاية لنشر المعرفة مجانًا؛ بغية ترقية الفضيلة في الجنس البشري. ولعل المسيح أول من قال بالدعاية للفضيلة؛ إذ قال لتلاميذه: «اذهبوا إلى جميع العالم واكرزوا.»

ولا يخفى عليك أن استمرار نشر المعرفة على هذا النحو في جميع أنحاء المعمور يرقي الأمم جميعًا إلى مستوى واحد، ويؤهلنَّ إلى اعتناق مبدأ الحق الواحد تحت راية الإنسانية العامة الشاملة، ويعدهنَّ للارتباط في جسم اجتماعي واحد أعلى يكنَّ هن أجزاءه. حينئذٍ يصبح كيان كل أمة ونجاحها متوقفًا على سلامة هذا الجسم الأممي الأعلى، كما أن سلامة الفرد ونجاحه الآن يتوقفان على سلامة المجتمع الذي هو جزء منه.

حينئذٍ تكون الهيئة الاجتماعية على أقرب مسافة إلى المثل الأعلى.

(٤) أهم عيوب الأنظمة الأدبية

قد يستدل القارئ من خلال نبذات هذا الفصل أن العالم الإنساني يكاد يقبض على ناصية المثل الأعلى في الفضيلة؛ لأننا وجهنا البحث في وجهة الرقي الأدبي وحده، وقلما التفتنا إلى ما يعتوره من المبادئ والأنظمة التي تثلم أدبية المجتمع وتحطها؛ ولذلك يبقى بحثنا ناقصًا إذا وقفنا هنا ولم نلم بثلمات الأدبية الرئيسية.

(٤-١) العيب الاقتصادي

لقد علمت في طالع هذا الفصل أن من سنن التطور أن نشوء أنظمة جديدة مخالفة للمبدأ الأدبي العام تستلزم إما تنقيح المبدأ لكي يطابق النظام، أو تنقيح النظام لكي يطابق المبدأ، ومن ثم تتنقح العادة في السلوك لكي تطابقهما معًا. وقد حدثت في العصر الأخير تطورات علمية وعملية أحدثت نشوء نوعين من الأنظمة رئيسيين.

أما التطور العلمي الذي حدث، فهو اكتشاف كثير من نواميس الطبيعة وأسرارها كنواميس البخار والكهرباء. وهذا الاكتشاف أوجب تطورًا عمليًّا أيضًا، وهو اختراع وسائل عديدة لاعتقال قوى الطبيعة واستخدامها في الصناعة والمواصلات. وهذه الاختراعات أوجبت التعديل في ناحيتين نلم في كل منهما على حدة: أولًا: أن تقدم الصناعات وتقدم الاقتصاديات إلى جانبها كنتيجة لها أفضيا إلى الاستقطاب المالي؛ أي جَعْل فريقٍ من الناس يقبضون على ناصية المال، وجَعْل فريقٍ آخر يعمل تحت أمرة المتمولين وتحت رحمتهم. هذا الاستقطاب لم يكن من قبل، أو أنه كان ضعيفًا، ولم يستفحل هذا الاستفحال الهائل إلا في عصر الاختراعات؛ ولذلك اختل التوازن في المجتمع، وانتفى مبدأ المساواة أو مبدأ العدالة في الحقوق والواجبات، تلاشى الرق شكلًا أو صورة، ولكنه تجدد جوهرًا، وأصبح الرق الاقتصادي أفظع من الرق الشخصي، فالعامل الذي يشتغل الآن وهو حر الإرادة والفعل أصبح عبدًا للمتمول القابض على ناصية المشروعات العملية، أصبحت أسباب معيشته تحت رحمة المتمول، أصبح عرضة للهلاك جوعًا، مع أن الرقيق الذي كان قبله كان أقل عُرضة منه للفناء؛ لأن سيده كان ضامنًا معيشته.

كانت الديموقراطية وجهة تطور المجتمع، فلما تلاشت الأريستوقراطية السياسية برسوخ الديموقراطية السياسية نشأت للأسباب المتقدم ذكرها أريستوقراطية أخرى، وهي أريستوقراطية المال: أصبحت السلطة الاقتصادية في يد فريق المتمولين. وهكذا تقلقل المبدأ الأدبي الأعلى، وتداعى مبدأ التساوي أو مبدأ التكافؤ في الحقوق والواجبات، أصبح لفريق حقوق عظيمة جدًّا وواجبات خفيفة جدًّا، ولفريق آخر العكس؛ أي حقوق قليلة وواجبات ثقيلة. إذن المثل الأعلى الذي يضمن بقاء المجتمع وسلامته ورقيه انتقض؛ ولذلك مُني المجتمع بثورات الاشتراكيين ومشاغباتهم واعتصاباتهم إلى غير ذلك مما يهدد المجتمع بالخراب.

إذن لا بد من تعديل الأنظمة الاقتصادية تعديلًا كبيرًا؛ لكي يعود المثل الأعلى — التكافؤ بين الحقوق والواجبات — إلى مقامه الأول؛ ولكي يتوطد المجتمع على أساس العدل والإنصاف، يجب أن تستتب الديموقراطية الاقتصادية في المجتمع كما استتبت قبلها الديموقراطية السياسية بعض الاستتباب أو معظمه. هذا هو العيب الرئيسي الأول الذي يُعاب به المجتمع الإنساني في الوقت الحاضر؛ فهو عيب في نظامه الاقتصادي بالأكثر، وهو يدل على أن الروحانية الأدبية في الأشخاص لم تزل ضعيفة. يدل على أن هذه الروحانية لم تشمل جميع الأفراد، يدل على أن فريقًا كبيرًا من الناس لم يزالوا منحطي الأدبية؛ ولا سيما لأن معظمهم يعلمون هذا العيب، ويفهمون أن الحق غير قائم، وأن العدالة مثلومة، ولكنهم لا يريدون أن يضعوا الحق والعدالة في نصابهما.

(٤-٢) فظاعة الاستعمار

ذلك عيب في كل مجتمع في كل أمة تقريبًا، هو عيب شعبي داخلي على كل أمة أن تصلحه على حدة. وأما العيب الثاني فهو دولي موجود في علاقات الأمم بعضها مع بعض، هو عيب الأريستوقراطية الدولية؛ وهو أن بعض الأمم تتسلط على أمم أخرى، وبواسطة هذا التسلط تبتز حقوقها، وتستثمر أتعابها. وفي كثير من الأحوال تعاملها بالاستبداد والإرهاق كأنها رقيقة لها. وحجتها في هذا التسلط: أولًا؛ أن الحق للقوة، ثانيًا: أن هذه الأمم الضعيفة غير متمدنة، وتلك تدعي أنها تمدنها، ثالثًا: أن بلادها ضاقت بها، فهي مضطرة أن تستعمر بلادًا غيرها لكي تعيش؛ ولا سيما لأن بلادًا غيرها واسعة تحتمل زيادة السكان. ونحن نفند هذه الحجج تفنيدًا أدبيًّا.
  • (١)

    أما إن الحق للقوة فيناقض المبدأ الأدبي الأعلى؛ لأن الحق حق سواء أيدته القوة أو لم تؤيده، وإلا لكان حق الحياة والبقاء منحصرًا في أمة واحدة؛ أي أقوى الأمم، بل لكان هذا الحق منحصرًا في شخص واحد أو جماعة واحدة صغيرة على الأكثر. إذن لماذا المعاهدات الدولية؟ وعلى أي أساس أقيمت هذه المعاهدات؟ أليست مبنية على أن الحياة حق لكل فرد ولكل أمة؟ ولماذا الرفق بالحيوان وهو أضعف من الإنسان؟ فالحق للقوة مبدأ فاسد أدبيًّا، ثم إنه فاسد اجتماعيًّا؛ لأن الهيئة الاجتماعية الكبرى لا تستتب على مبدأ «الحق للقوة»، فالحروب الدولية المتعاقبة نتيجة هذا المبدأ.

    وما دام هذا المبدأ قائمًا؛ فالسلم مهدد دائمًا، ولو كان مبدأ «الحق حق» نافذًا لأنه المثل الأعلى للمجتمع الإنساني العام؛ لانتفت الحروب. الحق الذي «يعلو ولا يعلى عليه» هو حق كل أمة بالبقاء والحياة على قدر جهادها في العمل على قاعدة العدل، هو العدل بين الأمم.

  • (٢)

    أما أن الأمم القوية تتسلط على الأمم الضعيفة لكي تمدنها، فهو إفك وبهتان فظيعان؛ لأن الواقع مناقض لهذه الدعوى على خط مستقيم، فما من أمة استعمرت أمة أخرى إلا كبلتها بسلاسل من حديد، ومنعت تقدمها في المعارف والأعمال والمشروعات، وأوجبت عليها أن تبقى متأخرة لكي تستطيع الاستحكام منها، واستثمار أتعابها، ولا نظننا في حاجة إلى ذكر الشواهد وهي ناطقة في جميع بلاد الشرق بلا استثناء، وسلوك الدول المستعمرة سبة لها ولعنة عليها؛ لأنه محض ابتزاز واغتصاب واستعباد، ولا ندري كيف تكون الحرب الأفيونية المشهورة تمدينًا.

    إذا كان الغرض من الاستعمار هو التمدين — كما يزعمون كذبًا بلا خجل — فلا بد له من أمرين؛ الأول: أن يكون صادرًا عن نية حسنة من الفريقين؛ أي تريده الأمة القوية المستعمِرة والأمة الضعيفة المستعمَرة. وهذه الإرادة غير موجودة لا عند هذه ولا عند تلك، ثانيًا: وإذا فرضنا أن الأولى حسنة النية، ولكن الثانية ليست حسنتها، فلا بد من وجود سلطة عليا تخوِّل الأولى حق التسلط على الأخرى لكي تُمدِّنَها، ولا نعرف سلطة عليا تمنح هذا الحق غير سلطة الله. وأما أن تتفق بعض الدول العظمى على ادعاء هذا الحق لها، وتتقاسم المستعمرات فيما بينها، فلا يُبَرْهِنُ على سلامة نية هذه الدول. والواقع يشهد على أنهن سيئات النية، وإذا كانت نياتهن فيما بينهن سيئة ورديئة، فكيف يُنتظَر أن يُحسِّنَ النيةَ نحو الأمم الضعيفة؟! وإذا كانت جمعية الأمم التي اقتُرحت لكي تكون كمحكمة عدل بين الأمم لم تنصف أمة، فكيف ينتظر أن تكون سلطة الدول المستعمِرة عادلة؟! فهذه الحجة فاسدة أيضًا.

  • (٣)

    بقيت حجة الاستعمال المستندة إلى ضيق البلاد بأهلها: بهذا العذر تدعي الأمةُ حقَّ استعمار بلاد واسعة قليلة السكان لكي تعيش. في هذه الحجة شيء من الحق. إذا كانت مجاهل أفريقيا لا يقطنها إلا قبائل متوحشة قليلة، وهي واسعة جدًّا تحتمل أضعاف أضعاف ما فيها من السكان؛ فيحق للأمم المتمدنة أن تستعمرها، ولكن على شرط أن لا يُبيد هذا الاستعمار أهلَها؛ فهم بَشَرٌ لهم حق البقاء والحياة.

    والإنسانية التي هي المثل الأعلى في الأدبية توجب على الأمم المتمدنة أن تحفظ هذا الحق للسكان الأصليين، كما فعلت الأمة الأميركية الحديثة في معاملة سكان أميركا الحمر. وأما استعمار آسيا وشواطئ أفريقيا الشمالية فلا مبرر له؛ لأن سكانها يملئونها وهم في درجة من التمدن تُقدِّرهم على مجاراة سائر الأمم المتمدنة في المدنية، فاستعمار بلادهم إنما هو اغتصاب وانتهاب، ولا رائحة للتمدين فيه البتة.

هذا عيب ثان في الهيئة الاجتماعية، عيب استفحال الأريستوقراطية الدولية، عيب ينقض المثل الأعلى الإنساني، عيب يدلُّ على انحطاط الروحانية الأممية، عيب يهدد الهيئة الاجتماعية كلها بالخراب إذا بقيت هذه الأريستوقراطية الأممية مستفحلة هذا الاستفحال.

هذا العيب يدلُّ على أن الشخصيات المتمدنة — الأوروبية خاصة — لا تزال ناقصة الروحانية الإنسانية؛ لأنها لا تزال تنظر إلى الحق الطبيعي محصورًا في قومياتها، كما كان الإسرائيليون لعهد موسى ينظرون إلى أن حق الحياة والبقاء لهم وحدهم، وأنهم هم شعب الله الخالص.

فالعالَم الإنساني لا يضمن سلمه، ولا يستتب مجتمعه ما لم يتأيَّد المبدأ الإنساني الأعلى، وهو أن حق البقاء والحياة والتمتع هو حق كل أمة على الأرض. وهذا يستلزم أن يتعدل النظام الدولي على قاعدة الديموقراطية الدولية.

فإذا استتبت الديموقراطيتان الاقتصادية والدولية في العالم الإنساني قرب العالَم إلى المثل الأعلى كثيرًا، ولكن هل يقف العالَم الإنساني عند هذا الحدِّ في الرقي؟ ألا يمكن أن تحدث تطورات اجتماعية جديدة في العالَم تنشئ أنظمة جديدة كهذه الأنظمة تقلقل المثل الأعلى كما فعلت سابقاتها؟ هذا في عالَم الغيب، ولكنَّه محتمل، والله أعلم.

١  وهي التي اصطلح العلماء على تسميتها Mutation.
٢  راجع علم الاجتماع الثاني، باب ٣، فصل ٢، صفحة ٢٥٠.
٣  انظر علم الاجتماع، الجزء الثاني، الباب الثامن، الفصل ٢، صفحة ٢٥٠.
٤  أيضًا صفحة ٢٥٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤