رجال مُلهَمون

(قصة عن معركة صغيرة قرب سيفاستوبول)

في قرية أورالية نائية غنَّت فتيات روسيات. وكان غناء إحداهن أعلى وأكثر شجنًا من غناء الأخريات، وسالت الدموع على وجهها، ولكنها واصلت الغناء لكيلا تتخلف عن صديقاتها، ولكيلا يلحظن شقاءها وحزنها. كانت تبكي من الحب ومن ذكرى شخصٍ كان الآن يحارب. وكانت تتوق إلى رؤياه لتشفي بقربه غليل قلبها الذي أضناه الفراق.

أما هو فكان يركض الآن في ساحة القتال مندفعًا إلى الأمام ووجهه مغطًّى بالدم والعرق. كان يركض مختنقًا من خور الموت ويصرخ من ضراوة الغضب. كان مصابًا بجرح رصاصة في خده، والدماء تسيل من هذا الجرح أسفل عنقه، وتجف على جسده تحت القميص. وأراد أن يمزق عنه قميصه، لكنه كان بعيدًا عن متناول يده تحت السترة ومعطف البحارة. لم يكن يحس سوى بجرح صغير في وجهه، فلم يفهم سبب هذا الضعف الشديد ولماذا تتلاحق أنفاسه عاجزة عن مساندة جسده، عندئذٍ مزَّق ياقة سترته المزررة؛ إذ لم يكن ثمة مجال للضعف بل كان بحاجة إلى بعض الوقت؛ لأنه كان يهاجم راكضًا، عبر حقل جيري مغطًّى بشيح ذابل. وبالقرب منه، عن يمينه وشماله ومن خلفه، اندفع رفاقه إلى الأمام، وقلوبهم تخفق في إيقاع واحد مع قلبه، محافظة على الحياة والأمل في مواجهة الموت.

ارتمى على وجهه منصاعًا لحافزٍ لحظي؛ لذلك الإحساس الحاد بالخطر، الذي يجعل العين تغمض قبل أن تصيبها الإبرة. هو نفسه لم يفهم في البداية لماذا ارتمى فجأة على الأرض، ولكنه، عندما غرد الموت فوقه بدفعة طويلة من الرصاص، تذكَّر أمه التي أنجبته. هي التي وهبت ابنها الحبيب، مع الحياة، قدرة سرية على حماية النفس من الموت، قدرة تعمل أسرع من الفكر؛ وذلك لأنها أحبته وأعدَّته في رحمها للحياة الخالدة … إلى هذا الحد كان عظيمًا حبها.

مر الرصاص فوقه. ومن جديد نهض واقفًا، مذعنًا لضرورة القتال، ومضى إلى الأمام. ولكن الضعف المضني كان يعذب جسده، فخاف أن يموت وهو يركض، وأمامه كان العريف بروخوروف ممددًا على الأرض.

لم يعد في وسعه بعدُ أن ينهض؛ فقد صرعته رصاصة في عينه، فانطفأ الضياء والحياة فيه دفعة واحدة. وفكر البحار المندفع إلى الهجوم: «ربما أحبته أمه أقل من حب أمي لي، أو أنها نسيته» وأحس بالخجل من فكرته هذه العارضة. لقد كان بالأمس يتحدث إلى بروخوروف، ودخنا معًا وتذكرا أيام الخدمة في سفينتهما التي لم يعد لها وجود. وأحس بالرغبة في الانبطاح إلى جوار بروخوروف ليقول له إنه لن ينساه أبدًا، وأنه سيموت في سبيله، بيد أنه لم يكن لديه ثمة وقت لوداع صديقه … كان عليه فقط أن يقاتل في سبيل ذكراه. وأحس الآن بالراحة، وتلاشى الضعف المضني في جسده، والذي كان يخشى بسببه أن يموت وهو يركض وكأنه تولى مسئولية الحياة نيابة عن صديقه الراحل، وانتقلت قوة الشهيد إلى جسده هو. واندفع بصراخ ضارٍّ إلى الخندق، إلى ملجأ العدو، فرأى هناك وجهًا رماديًّا لشخص غريب، وأحس برائحة كريهة غريبة، فصرع العدو بضربة بكعب البندقية في جبينه لكيلا يعود يقتلنا ويعذب شعبنا برعب الموت. ثم استدار البحار في ظلمة الخندق وأشرع بندقيته ضد عدو آخر، ولكنه لم يذكر إن كان قد قتله أم لا؛ إذ سقط فاقد الوعي محتبس الأنفاس بسبب موجة انفجار؛ فقد أخذت المدفعية الألمانية تدك المواقع الألمانية التي يهاجمها البحارة الروس لتجعل من هذا المكان أرضًا حرامًا.

تطلع مفوض الكتيبة الأول بوليكاربوف بالمنظار إلى أرض القتال من بعيد. ورأى أولئك الذين سقطوا ولم ينهضوا بعد ذلك، وأولئك الذين تغلبوا على نيران الخصم المواجهة وبلغوا خنادق العدو على سفح التبة ليقضوا عليه بحراب البنادق وكعوبها. وانطبع في ذاكرته كيف خر بروخوروف صريعًا، وكيف توقف الموجه السياسي الثاني أفاناسيف واقتعد الأرض على مضض، وكيف تقدم البحار كراسنوسلسكي نحو العدو في خط متعرج ولكن بعناد؛ إذ يبدو أنه قد جُرح، وإن تحمل آلامه حتى النهاية.

كان الجناح الأيسر والجناح الأيمن ما يزالان يتقدمان، ولكن القلب لم يعد موجودًا. فقد اندحر القسم الأوسط من الوحدة المهاجمة كله واستلقى على الأرض تحت النيران. ولم يعرف المفوض بوليكاربوف هل بقي هناك أحد على قيد الحياة أم لا؛ ولذلك قرر أن يمضي إلى هناك بنفسه، فزحف على الأرض قدمًا.

من ورائه كانت سيفاستوبول، وأمامه كان طريق دوفانكوي المسفلت. وإلى اليسار قليلًا انعطف الطريق متجهًا إلى الجنوب رأسًا، نحو سيفاستوبول. وفي مقابل استدارة الطريق، على الجانب الآخر، امتد حقل شيح، ومن بعده قليلًا انتصبت التبة التي كان يحتلها الألمان. ومن فوقها كان العدو يرى المدينة … آخر حصن وملاذ للشعب الروسي في القرم.

وبلغ الجناحان الأيسر والأيمن لمشاة البحرية المهاجمين سفح التبة واختفيا في تضاريس الأرض وفي خنادق العدو حيث اشتبكا في قتال بالسلاح الأبيض. وتوقف العدو عن إطلاق النار. ونهض بوليكاربوف بطول قامته وركض على السفح. وانضم أربعة بحارة من الجناح الأيمن إلى بوليكاربوف، واندفعوا إلى الأمام في أثر المفوض، مستغلين الهدوء الذي حل على هذه الأرض المميتة التي لم تبرد نارها بعد.

ولاحظ بوليكاربوف البحار نيفيدوف الملقى قتيلًا فعصر الحزن قلب المفوض. تذكر نيفيدوف، شهيد المجد الآن، والذي كان من قبل شخصًا مرحًا، جذابًا، ولكن صعب المراس. وها هو الآن يرقد قتيلًا وقد أصبح خلف المفوض الراكض إلى الأمام.

من خط الدفاع الألماني الثاني فتحت عدة رشاشات نيرانها بغتة وفي وقت واحد. وكان هذا الخط يمتد قرب قمة التبة تمامًا. وكانت نيرانها قاسية دقيقة التسديد، فالتفت بوليكاربوف صوب الجنود وأصدر إليهم إشارة بأن ينبطحوا وانبطح هو نفسه أمامهم.

وعلاوةً على الرشاشات بدأت الهاونات تقصف، وأصبحت النيران المختلطة هوجاء وبلا تمعن. وقال بوليكاربوف لنفسه: «لمَ كل هذه النيران ضد خمسة؟ يضربون بذعر، دون حساب!»

وأدار بوليكاربوف وجهه إلى الخلف بحذر، نحو الجنود. كانوا منبطحين كلٌّ في ناحية، وبصورة سليمة وقد التحموا جيدًا بالأرض، ملتصقين بها بشدة، بحثًا عن حمًى من الهلاك.

كانت المسافة إلى الخط الألماني الأمامي الذي اقتحمه البحارة في الجناحين تبلغ حوالي مائة متر، وهي نفس المسافة إلى الوراء، إلى طريق دوفانكوي.

اشتد قصف الهاونات، ومرقت أجسام قذائف الهاون القصيرة البدينة وهي تعوي فوق أجساد البشر، وتمزقت أشلاء، كأنما بفعل غضبها الداخلي المحتدم. وأصبح البقاء في هذا المكان مستحيلًا، وإلا هلكوا هباء.

واندفع بوليكاربوف إلى الأمام صائحًا: اتبعوني! لنهجم على الملاعين، أولاد اﻟ … ولكن قذيفة الهاون مرت بجواره وانفجرت غير بعيد، بينما مزق الرصاص الهواء بغزارة بدا معها أن الهواء يجف ويتفتت.

ونظر المفوض إلى البحارة … كانوا ممددين بلا حركة … والموت الحديدي يحرث الهواء فوق قلوبهم تمامًا، وأرواحهم تحافظ على نفسها.

وأحس بوليكاربوف بصدمة الهواء المعول في وجهه فالتصق بالأرض ثانية. ومر سرب من قذائف الهاون الثقيلة فوق الفصيلة. تمدد المفوض مستديرًا نصف استدارة نحو رجاله ليرى إن كانوا جميعًا أحياء أم لا. ووجدهم لا يزالون أحياء حتى الآن. فاسيلي تسيبولكو هو وحده الذي لم تندَّ عنه حركة وهو ملقًى على وجهه. واقترب منه المفوض زحفًا فرأى أن تسيبولكو بدأ يتحرك هو الآخر … وإذن فهو أيضًا حي. وأخذ تسيبولكو يرفع وجهه عن الأرض من حين لآخر، ويعود يلتصق بها تمامًا. كانت شفتاه المتورمتان المشققتان من الريح منفرجتين، وراح يلصقهما بالأرض ويرفعهما عنها ثم يقبل بهما الأرض ثانية بنهم، وقد وجد في ذلك تهدئة لنفسه وتسرية عنها. وتطلَّع دانييل أودينتسوف بإمعان إلى عود شيح أصبح الآن عزيزًا عليه. وقال بوليكاربوف: «كل ذلك حسن، ولكن آن لنا أن نتقدم». ومن جديد صاح بالبحارة الذين لم يسمعوه على الأرجح في هدير النيران وأزيزها: اتبعوني!

وانتصب واقفًا وقد التفت للحظة صوب الجنود. ونهض الجنود جميعًا، إلا أن انفجار دانة مدفع قربهم أجبرهم على الانبطاح ثانية، وألقت موجة الانفجار بالمفوض نفسه على الأرض.

وفي المرة الثالثة نهض المفوض في صمت، ولكنه سقط فورًا دون أن يدرك هو نفسه السبب، فاستعر غيظه على تلك القوة المعادية التي صرعته. وأفاق بعد فترة قصيرة فأحس بالبرودة تسري فيه، وكأنه يذوب ويتقلص كل ما بداخل جسمه، ولكن ذهنه ظل صافيًا وحيًّا كما كان، فكان المفوض يعي تصرفاته. رأى ذراعه اليسرى التي بترتها شظية القذيفة عند الكتف تقريبًا. وكانت هذه الذراع المستقلة ملقاة الآن بجوار جسده. وتدفق دم داكن من زنده متسربًا عبر بقايا كم المعطف. ومن جرح الذراع المبتورة سال الدم أيضًا ببطء. كان ينبغي أن يسرع، فلم يبقَ من الحياة إلا القليل.

أمسك المفوض بوليكاربوف بذراعه اليسرى من كفها، ونهض واقفًا وسط هدير النيران وأزيزها. ورفع يده المبتورة، النازفة بآخر دماء الحياة، فوق رأسه كالعلم، وصاح في دفقة غضب من قلبه المستشهد في سبيل الشعب الذي أنجبه: إلى الأمام! في سبيل الوطن، في سبيلكم! ولكن البحارة كانوا قد سبقوه. اندفعوا عبر سيل النيران المميتة نحو مواقع العدو الأمامية، وهم يحسون الآن بالتحرر والسعادة، وكأنما كشف لهم المفوض بوليكاربوف بحركة واحدة سر الحياة والموت والانتصار.

ونظر بوليكاربوف في أثرهم بعينين قريرتين شاحبتين من الضعف، وتمدد على الأرض في النزع الأخير.

اقتحم اثنان من البحارة الخنادق القصيرة الأولى للعدو، وغاصا فيها. وكان إيفان كراسنوسلسكي يرقد في أحدها فاقد الوعي ولكنه ما يزال حيًّا. وبجواره انطرح قتيلان ألمانيان مطوحين.

كانت الخنادق محفورة بعمقٍ كافٍ، فلم تشكل نيران العدو من الخط الثاني خطورة هنا.

وقال تسيبولكو لأودينتسوف: نحن هنا سكان!

فوافقه أودينتسوف: هنا معلوم! هنا كمطعم على الكورنيش … لا غير!

وسأله تسيبولكو: وكيف استقر الأولاد هناك؟

فنظر أودينتسوف خارج الخندق وقال: بقوا في ذلك الملجأ. هناك أكثر راحة.

وأسعف تسيبولكو وأودينتسوف كراسنوسلسكي فعاد إلى وعيه. واتضح أنه، بالإضافة إلى جرح خده، مصاب بجرح نافذ في الصدر. وقد التصق قميصه الداخلي بجسده في موضعين: بجوار ثديه الأيمن حيث دخلت الرصاصة، وبجوار شامة في ظهره حيث خرجت. وضمد تسيبولكو كراسنوسلسكي بمقدرة وحذر وقد مزق قميصه وصنع منه أربطة. وكانت الجراح الخارجية على جسد كراسنوسلسكي قد جفت وبدأت تلتئم، أما تأثير الرصاصة داخل الجسم فلم يكن معروفًا.

وسأله تسيبولكو: كيف حالك الآن؟ هل ستذهب بعد المعركة إلى المستشفى أم تستغني عنها تحت النيران؟

فقال كراسنوسلسكي: الآن أحسن بكثير. كانت حالتي سيئة أثناء الهجوم، استولى عليَّ الضعف تمامًا، وإلى أن بلغت العدو لوحني الهواء وملأني الغيظ فشفيت. وهنا تعبت ثانية بعد أن قضيت على اثنين. أما الآن فلا بأس. السيئ أن تصاب في البداية، وأنت في أول المعركة، فعندئذٍ تحارب بنصف قوتك. أما الآن فلا بأس، نجوت من الموت.

ولكن كراسنوسلسكي كان يتنفس بصعوبة، والعرق يتصبب من وجهه.

استرح! — صاح به تسيبولكو مغطيًا بصوته على هدير نيران العدو — وسوف نحارب بدونك مؤقتًا.

وعثر تسيبولكو على موضع في طرف الخندق، وراح يتطلع من هناك إلى ناحية العدو. أما أودينتسوف فألقى بالقتيلين الألمانيين خارج الخندق ونظفه من كتل التربة ومن الشظايا، ومن كل ما لا يلزم للحياة والقتال.

واقترب المساء، وأصبحت نيران الألمان خفيفة، وكانوا يطلقونها الآن من أجل الإنذار فقط، وقد أجَّلوا الأساسية، فيما يبدو، إلى يوم الغد.

وسأل كراسنوسلسكي: وأين مفوضنا الرفيق بوليكاربوف؟

فقال أودينتسوف: سنخليه ليلًا من الميدان. أمثاله من الناس لا يعمرون طويلًا في الدنيا، ولكن الدنيا تقوم على أمثاله إلى الأبد.

فقال تسيبولكو: مضبوط! قال: إلى الأمام، في سبيل الوطن، في سبيلكم! … أي في سبيلنا أنا وأنت! كنا جميعًا الوطن بالنسبة له، وها هو قد مات.

وسأل كراسنوسلسكي: هل نزف حتى الموت؟

فأجاب تسيبولكو: بالضبط!

وهبط الظلام على التبة، ولكن سيفاستوبول كانت مضيئة؛ فقد توهجت فوقها أربع ثريات من صواريخ الإنارة، وأطلقت مدفعية العدو الثقيلة من بعيد نيرانها على جسد المدينة. ومن ظلام البحر وجهت مدافع سفننا نيرانها إلى العدو عبر المدينة. وحدج تسيبولكو وأودينتسوف بانجذاب في المدينة، وفي سطح البحر اللامع ببريق الموت والمتلاشي في عالم الظلام المتربص، حيث كانت تندلع الآن ومضات مدفعية السفن الضاربة.

وتمدد كراسنوسلسكي في قعر الخندق وأغفى ليستريح. كان نائمًا، وجسده المريض يستريح، ولكن تيارًا هادئًا من الفكر والخيال كان يتدفق في وعيه. أخذ يصغي إلى معركة سيفاستوبول المدفعية، ويحس بالتراب المتساقط عليه من جدران الخندق مع اهتزاز الأرض، ويبتسم لعروسه في القرية الأورالية النائية. إنها تشعر الآن هناك بالهدوء والدفء والطمأنينة، فلتنم ولتستيقظ في الصباح، ولتعش طويلًا، حتى الشيخوخة، ولتكن شبعى وسعيدة معه أو مع شخص طيب آخر إذا ما أدركت المنية كراسنوسلسكي مبكرًا هنا، ولكن من الأفضل أن تكون معه، وليجد الشخص الآخر فتاة أخرى طيبة أو أرملة، فهناك أرامل لا بأس بهن.

أما في القرية الأورالية النائية فقد تلاشت منذ أمد بعيد أغنية الفتيات الوحيدات، إذ تجاوزت الساعة هناك نصف الليل بكثير، وعما قريب ينبغي أن يستيقظن للأعمال الريفية. وكانت عروس إيفان كراسنوسلسكي نائمة هي أيضًا، وقد كفت الآن عن البكاء. كان وجهها الرائع لا عن جمال أنثوي بل عن سيماء الدهشة والبراءة، هادئًا الآن، لا ترتسم عليه سوى سعادة رقيقة وادعة … فقد كانت تحلم بأن الحرب انتهت، والقطارات المحملة بالجنود تعود بهم إلى ديارهم، بينما تجلس هي وتخيط على وجه السرعة مزقًا صغيرة من القماش مختلفة الألوان لتعد غطاءً جميلًا للبطانية، تمضيةً للوقت إلى حين عودة فانيا.

في نصف الليل انتقل الموجِّه السياسي نيكولاي فيلتشنكو والبحار يوري بارشين من الملجأ إلى الخندق. وأبلغهم فيلتشنكو أمر القيادة: ينبغي احتلال موقع على طريق دوفانكوي؛ إذ يوجد هناك جسر ترابي، والمانع هناك أقوى من هذا السفح الأجرد، وينبغي الصمود هناك حتى هلاك العدو. وعلاوة على ذلك ينبغي عليهم قبل طلوع الفجر أن يفحصوا الأسلحة ويستبدلوها بأخرى جديدة إذا كانت القديمة غير صالحة أو غير ملائمة، ويحصلوا على الذخيرة.

وأثناء انسحاب البحارة عبر حقل الشيح وجدوا جثة المفوض بوليكاربوف فحملوها ليدفنوها ويحموها من تمثيل العدو بها. فكيف يمكنهم فوق ذلك أن يعبروا عن حبهم لرفيقهم الشهيد الصامت؟

ترك الموجه السياسي نيكولاي فيلتشنكو قيادة الفصيلة لدانييل أودينتسوف ومضى إلى الخطوط الخلفية، إلى سيفاستوبول، حيث مركز الإمدادات، ليعجل بنقل الذخيرة.

كانت صواريخ الإنارة تهبط من السماء ببطء وبلا انقطاع، الواحد تلو الآخر. وشكلت الآن أيضًا أربع ثريات … أربع مجموعات من الصواريخ تحت كل مظلة. وكانت رشاشاتنا المضادة للطائرات تصيبها بسرعة ودقة لتطفئها، ولكن العدو يقذف من السماء بمشاعل جديدة بدلًا من المنطفئة، فتلقي على المدينة وضواحيها — البحر واليابسة — نورًا شاحبًا حزينًا يشبه نور الأحلام.

وفي طرف المدينة كان بعض السكان المدنيين ما يزالون يقطنون في أحد المساكن الجماعية لعمال البناء. ورأى فيلتشنكو امرأة تنشر الغسيل عند مدخل المسكن، وطفلين، صبيًّا وصبية يلعبان لعبة ما على الأرض البيضاء. ونظر فيلتشنكو إلى الساعة … كانت الساعة الواحدة ليلًا. يبدو أن الأطفال كانوا يأخذون قسطهم من النوم نهارًا عندما تكون نيران المدفعية قليلة في هذا القطاع، وفي الليل يسهرون ويلعبون. واقترب الموجه السياسي من السور الحجري المنخفض الذي يحيط بفناء المسكن الجماعي. كان الصبي، وهو في حوالي السابعة، يحفر الأرض بمجرفة ليصنع قبرًا صغيرًا. وبالقرب منه كانت عدة قبور صغيرة … أربعة صلبان من الشظايا الخشبية تنتصب فوق كثبان القبور، بينما راح يحفر القبر الخامس.

وأمرته أخته التي كانت أكبر من أخيها وأعقل منه، في حوالي التاسعة أو العاشرة: احفر الآن قبرًا أكبر! أقول لك ينبغي حفر قبر كبير، جماعي، فالموتى عندي كثيرون. الناس يموتون، وأنت القوة العاملة الوحيدة، لا تلاحق … احفر أكثر، احفر أكبر وأعمق، قلت لك!

وكان الصبي يحاول أن يرضي أخته وهو يسرع في حفر الأرض بمجرفته.

وأخذ فيلتشنكو يراقب في صمتٍ لعبة الموت هذه التي يمارسها الأطفال.

وانصرفت أخت الطفل إلى البيت وسرعان ما عادت. كانت تحمل شيئًا ملفوفًا في ذيل ثوبها.

وسألت أخاها الكادح: لم يجهز بعد؟

فأجاب الأخ: الأرض هنا صلبة.

فعنَّفت الأخت أخاها: يا لك من روماني كسول!

وأخرجت الشيء من ذيل ثوبها ووضعته على الأرض وأخذت المجرفة من أخيها وبدأت تحفر. ونظر الصبي إلى ما أحضرته أخته. ورفع من الأرض كتلة طينية طولها حوالي شبرين، تشبه قليلًا جسد إنسان. وكانت على الأرض، ستة أجساد مثلها؛ أحدها بدون رأس واثنان بدون سيقان؛ فقد تفتت.

وقال الصبي بحزن: إنها سيئة. الناس ليسوا هكذا.

فأجابت أخته.

بل يوجد ناس هكذا. الدبابات هرستهم، كل واحد بطريقة مختلفة.

ومضى فيلتشنكو إلى مقصده. «شقيقتاي أيضًا تلعبان الآن لعبة الموت في مكان ما بأوكرانيا — فكر الموجه السياسي، وتحرك في قلبه الحزن المألوف والوحشة القديمة إلى دار أبيه المدمرة — ولكنهما في الغالب لم تعودا تلعبان؛ فقد ماتتا … ينبغي أن نُنسي الحياة لمن علموا الأطفال لعبة الموت … أنا نفسي سأُنسيهم الحياة!»

خلف الجسر الترابي لطريق دوفانكوي كان أربعة بحارة يحفرون قبرًا للمفوض بوليكاربوف.

وتوقف أودينتسوف عن الحفر وقال: المفوض قال إننا بالنسبة له كل شيء؛ إننا الوطن، وهو أيضًا بالنسبة لنا الوطن. لن أدفنه في الأرض!

وألقى أودينتسوف بالجاروف وجلس بلا عمل.

فقال تسيبولكو له: هذا لا يصح، عيب. ينبغي أن ندفنه وإلا مزقته النيران غدًا أشلاء. سنخرجه فيما بعد. أما الآن فسندفنه مؤقتًا إلى حين النصر! … هيا يا دانييل، عيب!

ولكن دانييل كان عازفًا عن العمل. وحفر بارشين وتسيبولكو تجويفًا غير عميق في سفح الجسر الترابي، ومددا فيه بوليكاربوف ووجهه إلى أعلى، ولم يهيلا عليه التراب. كانا يريدان أن يبقى الآن معهم لكي يستطيعوا أن ينظروا إليه في ساعتهم العصيبة. ووضع البحاران ذراع المفوض المبتورة الميتة بطول صدره، وفوقها وضعوا ذراعه اليمنى وكأنها فوق السلاح.

ثم أمر أودينتسوف كلًّا من بارشين وتسيبولكو بالنوم حتى الفجر. أما كراسنوسلسكي فنام من تلقاء نفسه باعتباره مريضًا، وراح يشخر في نومه وهو يستنشق عبير أعشاب القرم الجافة. ورقد بارشين وتسيبولكو في قناة مريحة غطتها أعشاب طرية عند سفح المنحدر، وتكوَّرا كالأطفال، وسرعان ما غابا في النوم متدفئَين بحرارة جسديهما.

وظل أودينتسوف ساهرًا وحده. ومضى الليل في تراشق مدفعي ضعيف. وفوق المدينة تلألأ ضوء العدو المرعب الكاشف. وما زال الوقت طويلًا حتى مطلع الفجر.

في الصباح ستستأنف المعركة. وكان أودينتسوف ينتظرها فلم يعد ثمة مجال للحياة في الدنيا بعد الآن، ولا بد من الذود عن حق الشعب الروسي الأصيل بقوة الجندي التي لا تقهر. وفكر البحار بجوار رفيقيه النائمين: «الحق معنا. ونحن في وضع صعب، ونفوسنا تتعذب. والفاشست يعملون لإمتاع أنفسهم؛ فمرة يسكرون حتى الثمالة، ومرة يسلبون فتاة شرفها، ومرة يطلقون النار عليَّ. أما نحن فقد عُلِّمنا أن نأخذ الحياة بجدية، أُعدِدنا للحقيقة الخالدة. نحن قرأنا لينين. ولكني لم أقرأ كل شيء بعد، سأقرؤه بعد الحرب. الحقيقة موجودة، وهي مدونة عندنا في الكتب، وستبقى ولو متنا جميعًا. أما ضوء العدو الشاحب في السماء، وكل قوة الفاشية … فهي كابوسنا الرهيب. سيموت فيه الكثيرون دون أن يفيقوا، ولكن البشرية ستستيقظ، وسيعود الخبز يكفي الجميع، وسيقرأ الناس الكتب، وستصدح الموسيقى، وتحل أيام هادئة مشمسة بسحب في السماء وستشيد المدن والقرى، وسيعود الناس إلى بساطتهم، وتصبح نفوسهم عامرة.»

وفجأة تخيل أودينتسوف نفسًا خاوية في جسد ميت متحرك، وفي البداية يقتل هذا الميت جميع الأحياء، ثم يفقد نفسه بعد ذلك لأنه لا معنى لوجوده، وهو لا يدرك ذلك فيصبح دائمًا في حالة من القلق المسعور.

وقف أودينتسوف وحده على جانب منحدر الطريق وتطلَّع إلى الأمام، إلى ناحية العدو المبهمة. وقف معتمدًا على البندقية، رافعًا ياقة المعطف، وراح يفكر ويحس بكل ما ينبغي أن يراود إنسانًا خلال حياة طويلة؛ لأنه لم يكن يعرف هل ستطول حياته أم تقصر؛ ولذلك أخذ — تحوطًا — يمعن التفكير حتى النهاية.

ثم بدأ الخيال، بديل السعادة البشرية هذا، يتحرك في وعي أودينتسوف وأخذ يدفئه. تخيل كيف سيحيا بعد الحرب. سيُنهي المدرسة الموسيقية التابعة للفيلهارموني التي كان يدرس فيها قبل الحرب، وسيصبح موسيقارًا. سيصبح عازفًا على البيانو، وسيؤلف، إن استطاع، موسيقى جديدة يتردد فيها صوت القلب الذي هزته الحرب والمنية، وتعبر عن عهد الحياة الجديد المقدس.

ونظر أودينتسوف إلى رفاقه … تسيبولكو وبارشين نائمان، وكراسنوسلسكي نائم أيضًا وقد اخترقت الرصاصة صدره، والمفوض نائم إلى الأبد. ما أصعب مرقدهم على الأرض القاسية؛ فليس لمثل هذا العالم ولدتهم أمهاتهم وأنشأهم شعبهم، وليس لكي تنتزع العظام من أجساد أطفالهم. وتنهد أودينتسوف: ما أكثر ما ينبغي عمله في الدنيا بعد الحرب، بعد انتصارنا، إذا ما أردنا أن يصبح العالم مقدسًا وحيًّا، إذا ما أردنا ألَّا يتحول قلب الجندي الذي مزقه الحديد في الحرب إلى رفاتٍ منسي.

وفي الفجر وصل الموجه السياسي فيلتشنكو ومفوض الفوج لوكيانوف في سيارة. وحملا معهما الذخيرة والأسلحة والتموين.

وتفقَّد لوكيانوف الموقع وحمل معه إلى المدينة جسد بوليكاربوف وقد وعدهم أن يعود في الصباح إلى هذا القطاع. وأمر فيلتشنكو أودينتسوف بأن يرقد ليستريح؛ لأن المقاتل الذي لم ينل حظه من النوم ليس بشغيل في الحرب.

قال فيلتشنكو: اذهب لتنام! بالمعاطف لا يسبحون، وبالقفاز لا يحصدون، وبدون نوم لا يحاربون.

ورقد أودينتسوف في القناة بجوار كراسنوسلسكي الذي كان يغط في النوم وقد علا شخيره، وتكيف مع طبيعة الأرض ونام. لم يكن يشعر برغبة في النوم، ولكن طالما كان ذلك ضروريًّا فقد نام.

طلع الفجر. وعدَّل نيكولاي فيلتشنكو أوضاع جنوده النائمين لتصبح نومتهم مريحة فلا تنمل أيديهم وأرجلهم وجذوعهم. وعندما كان يقلبهم كانوا يدمدمون بالسباب ولكنه كان يردعهم قائلًا: هكذا سترتاح أكثر يا فهيم! سترى أمك في المنام.

كان يود الآن أن يلقي نظرة على أمه ولو في المنام، وكان مستعدًّا أن يدفع غاليًا لكي يعانق من جديد جسدها الهزيل ويقبِّلها في عينيها الباكيتين.

وحل الهدوء. فمدافع العدو البعيدة ومدافع سفننا التي لم تكن تضرب من قبل إلا نادرًا، كفت الآن تمامًا عن إطلاق النار، وانطفأت المشاعل فوق سيفاستوبول، وأطبق السكون إلى درجة بعثت الألم في الآذان، فسمع فيلتشنكو طرطشة الأمواج على الحاجز في الخليج. بيد أنه في هذا الصمت كان يجري عمل شاق وعاجل يقوم به أسطوات الحرب: الميكانيكيون، وعمال التجميع، والبرادون، وعمال الوقود، وعمال التركيب، وكل من يعد الآلات الحربية للعمل.

تطلع فيلتشنكو إلى رفاقه. كانوا مستلقين في آخر نومة قبل الاستيقاظ. كانت وجوههم جميعًا مكشوفة، فراح فيلتشنكو يتأمل كل وجه على حدة؛ لأن هؤلاء الرجال كانوا يمثلون بالنسبة له في الحرب كل ما يحتاج إليه الإنسان وكل ما هو محروم منه؛ لقد حلوا بالنسبة له محل الأب والأم والإخوة والأخوات وحبيبة الفؤاد والكتاب الأثير؛ كانوا يمثلون بالنسبة له الشعب السوفييتي كله في صورة مصغرة، وقد استوعبوا كل طاقة روحه الباحثة عن وصال.

كان فاسيلي تسيبولكو يتنفس في نومه من فمه المفتوح كالأطفال. لقد كان سائق جرار من محافظة دنيبروبتروفسك، وقد خاض عدة معارك، وكان يجيد القتال بحرية، ولكنه يصبح عبوسًا بعد القتال، أو في فترات الهدوء المؤقت، وذات مرة بكى. وسأله فيلتشنكو في تلك المرة بغضب: «ماذا بك؟ هل أنت خائف؟» فأجاب تسيبولكو: «لا أيها الرفيق الموجه، أنا لا أخاف شيئًا. ولكني شعرت الآن بأن أمي تحبني وتتذكرني وهي تخشى أن أموت هنا … وأحسست بالشفقة عليها!» وروى تسيبولكو أنه كان يصنع في مزرعتهم التعاونية شتى الأشياء والوسائل لتيسير الحياة على البشرية؛ فقد جعل طاحونة الهواء ترفع المياه من البئر إلى الخزان. وفي مزارع الخضروات نصب تسيبولكو فزاعات طيور رهيبة، تتحرك أيضًا بقوة الريح، فتئزُّ وتُعْوِل وتلوِّح بأيديها ورءوسها، فكانت لا تقض مضاجع الطيور الجارحة فحسب، بل ولا تدع أحدًا ينعم بالهدوء. وأخيرًا فقد راح تسيبولكو يتناول عشبًا مطهوًّا، كان يعتبر من قديم الأزل في تلك المنطقة غير صالح للطعام. ولم يمرض بسبب ذلك العشب ولم يمت، بل على العكس، ازداد قوة؛ مما أشاع الاعتقاد بأن هذا العشب هو حقًّا طعام مفيد.

كان تسيبولكو يهوى التفكير في الأمور بعقله هو. وكان يرى العالم سرًّا رائعًا، وكان ممتنًّا وسعيدًا بأنه ولد ليعيش هنا بالذات، على هذه الأرض، كأنما كان هناك من يملك سلطة أن يحدد له اين يعيش، هنا أم في مكان آخر.

وتذكَّر فيلتشنكو كيف استلقى هو وتسيبولكو منذ أربعة أيام في حفرة جيرية. وزحفت ثلاث دبابات ألمانية على وحدتهم. وأصاخ تسيبولكو السمع إلى حركة الدبابات فالتقطت أذناه هدير محركات الديزل المنتظم. وقال تسيبولكو حينذاك: «أتسمع يا نيكولاي أنفاس الديزل المشدودة المنتظمة؟ آه ها هنا القوة والانضغاط!» كان فاسيلي تسيبولكو يستمتع بصوت محركات الديزل القوية. ورغم إدراكه أن الفاشست يركبون هذه الآلات ليقتلوه، لم يرَ ذنبًا للآلات هنا؛ لأنها من صنع عباقرة الفكر والعمل الأحرار، وليس من صنع قتلة العمال هؤلاء، قتلة العمال هؤلاء، الذين يركبونها الآن. وأطل تسيبولكو برأسه من الحفرة وقد نسي الخطر ليتمكن من رؤية الآلات جيدًا. كان يهيم بجميع الآلات في العالم أجمع ويعتقد عن يقين بأنها جميعًا في صفنا؛ أي في صف الطبقة العاملة؛ لأن الطبقة العاملة هي أم جميع الآلات والمعدات.

وها هو تسيبولكو نائم، وعيناه البريئتان المتطلعتان إلى العالم بدهشة وبمشاعر طيبة مغمضتان الآن، والتصق شعره الأسود تحت عمرته من عرق النهار القديم، ولم يعد وجهه النحيل يحمل ملامح الصبا السعيد؛ إذ غار خداه وانطبقت شفتاه في توتر دائم. كان يواجه الموت كل يوم ويبعده عن شعبه.

وزفر الموجه السياسي وقال: فلتعش يا فاسيا حتى الشيخوخة.

كان إيفان كراسنوسلسكي يعمل قبل الحرب في تعويم الخشب في الأورال، طوافًا. وكان يقاتل باجتهاد وتدبير وكأنما يؤدي عملًا شاقًّا ولكنه ضروري ومفيد. وفي فترات الهدنة بين المعارك وأثناء الراحة كان يعيش في صمت، ولا يعقد صداقات حميمة مع رفاقه؛ تلك الصداقات التي يتحد فيها كل قلب بشري بغيره من القلوب، لكي تحمي نفسها وكل واحد منها من الموت بقوتها الكبيرة المشتركة، ولكي تستمد القوة من أفضل الرفاق إذا ما تخاذلت إحدى النفوس الوحيدة في مواجهة قدرها المهلك.

وكان فيلتشنكو يدرك لماذا لم يكن كراسنوسلسكي بحاجة إلى مثل هذه الصداقة. فقد كان مشدودًا إلى الحياة بقوة أخرى لا تقل عنفوانًا. كان في حمى حبه لعروسه؛ لتلك الفتاة البعيدة في الأورال؛ لذلك الكائن الغريب الهادئ الذي أمد قلب البحار بالبسالة والسكينة. وقد لاحظ فيلتشنكو من زمان، حتى قبل الحرب، إن كراسنوسلسكي عندما كان ينزل إلى الشاطئ في إجازة، لم يكن يغازل الفتيات في سيفاستوبول أبدًا، وقليلًا ونادرًا ما يشرب الخمر، ولم يكن ينساق لطيش الشباب … لا لأنه لم يكن قادرًا على ذلك، وإنما لأن ذلك لم يكن يشغل باله أو يسليه، وكان مثل هذا اللهو العادي يشعره بالملل. كان يعيش غائبًا في سعادة حبه. كان يتملكه شعور دائم واحد، لا يمكن استبداله بأي شعور آخر أو تجزئته أو الانصراف عنه ولو لفترة. لم يكن في مقدور كراسنوسلسكي أن يفعل ذلك، وكان يقاتل بضراوة وإصرار دائم لأنه أراد على الأرجح بمأثرته الحربية أن يعجل بيوم النصر، لكي يشرع بعده في القيام ببطولة أخرى … بطولة الحب والحياة المسالمة.

كان كراسنوسلسكي شخصًا طويل القامة، ذراعاه كبيرتان وقادرتان على العمل، وجسده وافر وذو قوة بدنية بادية … وكان من المفروض أن يعربد في الحياة، ولكنه كان وديعًا وصبورًا … كانت ثمة قوة رقيقة لا تُرى تتحكم في هذا الكيان الجبار وتوجه سلوكه بدقة سامية.

واستغرق فيلتشنكو في التفكير وهو يراقب كراسنوسلسكي: ما أعظم الحياة وما أروعها، ولا مجال للموت.

أما يورا بارشين فقد جرح أربع مرات، وكانت إصابته في اثنتين منها خطيرة، ولكنه لم يمت. كان صغير الجسم، متوسط القوة، مرحًا، جَلودًا، مستعدًّا لإلقاء نفسه إلى التهلكة في سبيل متعته، ويستبعد احتمال موته إلا بعد موت آخر وغد في العالم. وأثناء الخدمة في الأسطول، قبل الحرب، سقط مرتين من ظهر السفينة في مياه الخريف الباردة قبل أن يصبح مفهومًا أنه يفعل ذلك عمدًا … وذلك حتى يأمر طبيب السفينة بصرف الكحول له لتدفئته من البرد. وكان لبارشين صديقات كثيرات يحبهن في سيفاستوبول، وكن يبادلنه الحب أيضًا ولا يغرن من بعضهن البعض، الأمر الذي كان غريبًا على الطبيعة النسائية. بيد أن سر جاذبية يورا بارشين كان بسيطًا، وكان إدراكه يضاعف الإعجاب به. كان هذا السر يكمن في سخاء روحه الطيب وفي نكرانه الساحق لذاته في سبيل أي شخص عزيز عليه، وفي مرحه الدائم. كان بوسعه أن يأخذ على عاتقه جريرة رفيقه ويؤدي العقوبة بدلًا منه، وكان بمقدوره أن ينقذ صديقته إذا ما احتاجت إلى مساعدته. وذات مرة كان في مهمة في فيودوسيا وتعرف هناك على فتاة من أهل المدينة. وإذ أحست الفتاة أنه رجل حقيقي؛ فقد رجته أن يصنع معروفا ويتزوجها زواجًا شكليًّا. كانت بحاجة إلى ذلك لأنها كانت تخجل من أمومتها لطفل أنجبته من شخص حبيب هجرها ورحل إلى جهة مجهولة دون أن يعقد قرانه عليها. وبالطبع وافق بارشين عن طيب خاطر على عمل هذا المعروف للمرأة الشابة. وفي زيارته التالية لفيودوسيا تم الزفاف، وبعد الزفاف جلس طول الليل بجوار فراش زوجته الاسمية، وظل الليل كله يروي لها الحكايات والوقائع، وفي الصباح قبلها في جبينها كأخته ومد لها يده مودعًا. ولكن قلب المرأة التي ظلت تسمعه طوال الليل تحركت أحاسيسه نحو الزوج الوهمي، وتعلق به، فأبقت يد بارشين في راحتها ورجته: «ابقَ معي!» فسألها البحار: «إلى متى؟» فهمست المرأة: «إلى الأبد»، فرفض بارشين بارشين قائلًا: «لا يمكن، فأنا طائش»، ورحل عنها إلى الأبد.

كان الناس عندما تتبدى لهم روح بارشين، يشعرون بنوع من الضعف أمام نبع الحياة هذا المكشوف، السخي الصافي الذي لا تنفد قوته المبذرة، ويتخلون عن مألوف أهوائهم وعاداتهم. كانوا ينسون الغيرة في الحب لأن قلوبهم وأجسادهم تحس بالخجل من بخلها، ويتجاهلون حسابات العقل، ويتولد فيهم إحساس خفيف جديد بالحياة، وكأنما مسَّتهم قوة سامية بسيطة لفترة قصيرة وجذبتهم وراءها.

كان من الصعب معرفة العمل الذي كان يمارسه يورا بارشين قبل الحرب، قبل استدعائه قبل استدعائه للخدمة في الأسطول لأنه كان يقول لهذا غير ما يقوله لذاك، بل ويقول أشياء مختلفة للشخص الواحد. لم تكن الحقيقة عن نفسه تهمه، بل كان يهمه الخيال، وتبعًا لما يمليه خياله يقول تارة إنه كان خراطًا في مصنع المعادن في لينينجراد (وبالفعل كان ملمًّا بالخراطة) وتارة مهرجًا في حديقة كيروف العامة، وتارة طباخًا في سفينة تجارية. وكان يملأ الاستمارات الرسمية بنفس عدم الدقة هذا؛ مما أثار كثيرًا من الالتباس.

وفي الحرب كان بارشين يشعر بنفسه متحررًا ولا يحس خطر الموت. كان قلبه يطفح بأحاسيس الحياة وذهنه مشغولًا بالخيال، فكانت هذه الخاصية لديه أشبه بساتر من النيران ضد مخاوف الخطر. وكان الموت لا يجد له مكانًا في هذا الكيان القوي المترع بالسعادة.

جرح أربع مرات. أربع مرات اقتحم الصلب جسده، فلم يستطع أن يستقر هناك، فعاد البحار إلى الحياة أربع مرات؛ ولذلك آمن بارشين بأنه سيبقى على قيد الحياة، حتى نهاية الحرب وسيشهد يوم انتصارنا.

كان الموجه السياسي فيلتشنكو ينظر الآن إلى بارشين المتكور في رقدته من البرد، وإن ابتسم وجهه لحلم مجهول يراوده.

وقال الموجه السياسي بصوت مسموع: كم أشفق عليكم جميعًا أيها الشياطين! حسنًا … إذا هلكنا فسيولد آخرون ليسوا بأسوأ منا. المهم أن يكون هناك وطن، أرض حبيبة ليولد عليها البشر …

وتصور فيلتشنكو الوطن كحقل ينمو فيه البشر، الأشبه بأزهار مختلفة الألوان، وليس بينهم زهرة واحدة تشبه الأخرى تمام الشبه؛ ولذلك لم يستطع أن يفهم الموت أو يُسلم به. فالموت يقضي على ما ظهر إلى الوجود مرة، ولم يكن له مثيل، ولن يتكرر أبدًا. ولا يمكن للأسى على الشهيد أن يكون سلوى وعزاء. ولهذا كان فيلتشنكو يقف هنا … من أجل أن يوقف الموت، ولكيلا يكابد الناس أحزانًا لا عزاء لها. ولم يكن يدري بعد، ولم يجرب كيف ينبغي أن يلقى الموت هو نفسه ويعانيه، كيف ينبغي أن يموت بحيث تخور قوى الموت بعد لقائه.

تلفت الموجه السياسي حوله. كانت ثمة سيارة تندفع نحو الجسر الترابي، إلى مواقعهم. وفي مكان بعيد أطلقت بطارية للعدو نيرانها دفعة واحدة، وردت عليها مدفعيتنا من سيفاستوبول. لقد بدأ يوم العمل في الحرب. وأضاءت الشمس من قمم التبات، وانساب ضياؤها الرقيق ببطء على الأعشاب والخمائل والمدينة والبحر، لكي تواصل الحياة سيرها. لقد آن الأوان لإيقاظ الرجال.

نهض البحارة وهم يتأوهون وينفخون ويدمدمون بكلمات مختلفة، وراحوا ينظفون ملابسهم مما علق بها من أوساخ وأعشاب.

وأصدر فيلتشنكو أمره.

وزع السلاح والذخيرة على الأفراد!

ووزع البحارة الأسلحة التي وصلت إليهم ليلًا … البنادق والذخيرة والقنابل اليدوية والزجاجات الحارقة وثبتوها في أماكنها على أجسادهم. وأبقى البعض على بنادقه القديمة إذ اعتادها. وسحب تسيبولكو جانبًا مدفع رشاش جديدًا وجلس ليضبطه.

ووصل مفوض الكتيبة الأول لوكيانوف بالسيارة. واصطف. فحياهم المفوض: مرحبًا يا رفاق!

ورد عليه البحارة التحية. وتفرس لوكيانوف في وجوههم ثم صمت.

وبعد قليل قال: التعزيزات ستأتي فيما بعد لقد وصلوا المحطة ليلًا وهم الآن يتسلحون. أنتم الآن فصائل الطليعة الضاربة. ومن خلفكم خط مشاتنا. نتوقع أن يشن العدو هجومًا بالدبابات. فهل ستستطيعون صده يا رفاق؟ هل ستتمكنون من منع العدو من الوصول إلى سيفاستوبول؟

فأجاب بارشين: كيفما كان أيها الرفيق المفوض الأول!

رمى المفوض بارشين بنظرة صارمة، ولكنه استشف وراء كلمات البحار المازحة عزمًا جدِّيًّا فعدل عن توبيخه.

وقال المفوض: ينبغي صد العدو وسحقه! سيفاستوبول خلفنا، وأمامنا وطننا الكبير كله، روسيا الخالدة. والعدو مثل دودة الشعر يتغلغل في عمق أرضنا، التي لا حياة لنا بدونها … فلنحصد العدو هنا بالنار! ولنقاتل كما قاتل الروس من سالف العصور … حتى آخر رجل آخر، وآخرُ رجل حتى آخر قطرة دم، حتى آخر نَفَس!

ثم تحدث المفوض مع الموجه السياسي فيلتشنكو، على حدة فأخبره بالمعلومات الضرورية وبتعليمات القيادة، ثم عرض على البحارة أن يأكلوا جيدًا ويشبعوا لفترة طويلة.

– الأكل مسألة هامة بالنسبة للجندي! — قال المفوض لوكيانوف مودعًا، ورحل حاملًا معه بندقيتين قديمتين تم استبدالهما.

وانكب البحارة على خبز القمح والسجق والمعلبات. وقال تسيبولكو معربًا عن رأيه: بعد أكلة كهذه يحسن حرث الأرض! تستطيع حرث الأراضي البكر بسهولة دون أن تتعب.

فقال أودينتسوف: ينقصنا حساء الكرنب، ولحم بقر ساخن.

وقال بارشين آسفًا: حبذا لو موَّنَّا القلب بالوقود … بقليل من الفودكا.

فقال كراسنوسلسكي مؤنبًا بارشين: دعك من هذا لسنا مقبلين على عرس.

فضحك بارشين وقال: يا سلام! إنه يرعاني. طيب، الخمرة لم تأخذ إجازة مفتوحة، فبعد الحرب يا فانيا سأمرح في عرسك.

وعندئذٍ سأجرع من فم الزجاجة!

فقال كراسنوسلسكي موضحًا: عندنا في الأورال لا يشربون من الكئوس ولا من فم الزجاجات. عندنا يجرعون من الجرادل، لا يشربون من الأوعية التافهة.

فقال بارشين موافقًا على الفور: سأسكن الأورال إلى الأبد.

وبعد الإفطار قال فيلتشنكو لأصدقائه: أيها الرفاق. لقد كشفت استخباراتنا للقيادة خطة العدو: اليوم سيهاجم الألمان سيفاستوبول. وعلينا اليوم مجرد أن نُثبت ما هو معنى حياتنا، وسنُري العدو اليوم أننا رجال ملهَمون؛ ملهَمون بلينين وستالين، أما أعداؤنا فهم مجرد جلود بشر خاوية، محشوة بالخوف من الطاغية هتلر! — وهتف نيكولاي فيلتشنكو بحماس وهو يسطع قوة — سوف نسحقهم، سوف ننطح حثالة الطاغية!

فصاح بارشين: تمام. سننطح الطاغية!

وأصاخ فيلتشنكو السمع ثم أمر: استعد! إلى المواقع!

وشغل مشاة البحرية مواقعهم على منحدر الطريق في خنادق حفرتها الوحدة التي عسكرت هنا من قبل.

كان المكان خاويًا في الناحية الأخرى من الطريق، في حقل الشيح وعلى سفح التبة، حيث عشش الألمان. ولكن من مكان بعيد تناهى حفيفٌ منتظم لا يكاد يُسمع، وكأنما سار على الرمل آلاف الأطفال بأقدام صغيرة.

وسأل تسيبولكو مخاطبًا فيلتشنكو: نيكولاي ما هذا؟

فأجاب فيلتشنكو: يبدو أن الفاشست اخترعوا مصيبة جديدة أخرى … سنرى! حيلة من الحيل، يريدون بها أن يخيفونا أو يخدعونا.

اقترب الحفيف، وكان قادمًا من ناحية التبة، غير أن سفوحها وحقل الشيح المتصل بأسفلها ظلت خاوية كما كانت.

وقال تسيبولكو: ربما أصبح الفاشست غير منظورين! ربما اخترعوا مادة يُدهن بها الشخص فيختفي من مجال الرؤية!

فوبخه فيلتشنكو بحدة.

إذن ارقد في الخندق بسرعة ومت رعبًا!

فقال تسيبولكو: هذا مجرد كلام. ظننت أنها ربما تكون آلة جديدة … الآلات لا ذنب لها. إنها علم!

فأعرب بارشين عن رأيه قائلًا: فليكونوا منظورين أو غير منظورين، ينبغي أن نسحقهم سحقًا على السواء.

وقال كراسنوسلسكي: لا يصح أن نموت دون مقابل! لا يجوز!

فأمره فيلتشنكو: صه! اسكت!

وحدج في الأمام. كان الغبار يثور على سفح التبة المعادية، يمينًا ويسارًا في منتصف المسافة تقريبًا بين القاعدة والقمة. كان ثمة شيء يتحرك من الجانب الآخر للتل، من خلف كتفَي التبة.

وقف البحارة بطول قاماتهم في الخنادق متسمرين وهم يتطلعون عبر حافة المنحدر وعبر الطريق إلى تلك الناحية.

وضحك بارشين وقال: إنها غنم! إنه قطيع غنم جاء إلينا من الحصار.

فرد فيلتشنكو: إنها غنم، ولكنها لا تأتي إلينا بدون غرض.

فقال أودينتسوف: ليس بدون غرض … سنأكل كبابًا ساخنًا.

– صه! — أمر الموجه السياس — انتباه! الرفيق تسيبولكو، إلى الرشاش!

فرد تسيبولكو: تمام إلى الرشاش أيها الرفيق الموجه.

الجميع إلى البنادق!

فردَّ البحارة: تمام إلى البنادق.

انحدرت الغنم في تيارين ملتفَّين حول التبة وراحت تهبط منها وتتحد في حقل الشيح في تيار واحد. واتجه القطيع مباشرة نحو طريق دوفانكوي. وأصبح ثغاء الغنم المذعورة مسموعًا الآن؛ إذ يبدو أن شيئًا كان يقلقها فأسرعت تعدو بخطوات قصيرة بقوائمها النحيلة. وفجأة توقفت إحدى الشياه والتفتت إلى الخلف، فاصطدمت بها الشياه الخلفية وتجمعت فحدث ازدحام، ومن زحمة الشياه نهض شخص في معطف أخضر رمادي ولوَّح بسلاحه للحيوانات.

– «شاة ذكية!» قال فيلتشنكو في نفسه عن تلك الشاة التي توقفت، وقرر أن يتحرك.

– تسيبولكو، وجِّه الرشاش إلى الأوغاد في وسط بهائمنا!

فرد تسيبولكو: أراهم!

ورأى فيلتشنكو الآن وسط الشياه ستة ألمان آخرين يركضون محنيين في زحمة قطيع الغنم.

تسيبولكو!

– «تمام، أرى الهدف بوضوح!» أجاب جندي الرشاش وهو يرتعش من نفاد الصبر أمام الرشاش.

وصاح الموجه السياسي: تسيبولكو! لا تقتل الغنم عبثًا، إنها أصيلة. اضرب!

وانطلق الرشاش. وغرد تيار الرصاص في الهواء. وسقط عدوان على الفور، وقفزت الشياه الخلفية برشاقة وهدوء من فوق جثث الساقطين.

وصلت الغنم إلى حافة الجهة الأخرى من سفح الجسر تقريبًا. وأصبح من السهل الآن تمييز الألمان وسط كتلة الغنم الكثيفة. كانوا حوالي خمسين شخصًا. وراح بعضهم يطلق نيران رشاشاتهم على جسر الطريق وهم يركضون، بينما اندفع الآخرون إلى الأمام في صمت.

وأمر فيلتشنكو كراسنوسلسكي بأن يأخذ مكان معاون جندي الرشاش، بينما فتح هو وبارشين وأودينتسوف نارًا دقيقة مسددة من البنادق على حملة الرشاشات الألمان.

كان مدفع تسيبولكو الرشاش يعمل بضراوة وكفاءة مثل قلب صاحبه وعقله. وكان نصف الأعداء قد سقطوا صرعى على الأرض، ولكن حوالي عشرين ألمانيًّا أو أكثر ظلوا أحياء. وتمكنوا من بلوغ الجانب المقابل من منحدر الجسر الترابي وانبطحوا هناك. ولم يعد بالإمكان إصابتهم لا بالمدفع الرشاش ولا بالبنادق. وعلاوة على ذلك تدفقت الغنم وأصبحت تسير الآن فوق رءوس البحارة مباشرة وهي ترتعش وتجأر بالشكوى كالأطفال من هذه الحياة الرهيبة وسط البشر.

وومض خاطرٌ في ذهن بارشين: «أوه، الألمان يسوقون إلى سيفاستوبول طعامًا جيدًا!»

وصاح فيلتشنكو: تسيبولكو! أفسح لنا سكة إلى الأمام، عبر الطريق! اضرب على الغنم!

راح تسيبولكو يحصد الغنم التي عبرت جسر الطريق نحو وحدتهم. وسقطت الشياه الأمامية القريبة، بينما أدركت الشياه الراكضة خلفها أين الخلاص فاندفعت يمينًا ويسارًا بعيدًا عن الناس.

وصاح فيلتشنكو: الجميع إلى القنابل اليدوية! إلى الأمام!

واندفع بقنبلة يدوية عبر الطريق وألقى بها على الألمان. وكانت الشياه المذعورة ما تزال تركض عبر الألمان ناثرة بعرها فراح الألمان يحصدونها بالسيوف ليتخلصوا من هذه الشياطين التي اتخذوا منها ساترًا لهم.

أعمل البحارة قنابلهم بسرعة، فخلطوا دماء الغنم وعظامها بدماء أعدائهم وعظامهم.

وعاد البحارة إلى مواقعهم.

وسأل تسيبولكو مخاطبًا فيلتشنكو: كيف الحال؟

فقال الموجه السياسي: بسيطة. حاربنا أكثر ضد الغنم.

وزفر بارشين: وهل هذا قتال! هذا لا شيء.

وسمح لهم فيلتشنكو بالتدخين: دخِّنوا قليلًا.

وجمع كراسنوسلسكي الغنم المقتولة من السفح ووضعها في مكان واحد لتنقل ليلًا إلى المدينة لإطعام الناس.

ومن خلف التبة بدأت مدفعية العدو تطلق نيرانها على الطريق وعلى الخطوط الواقعة خلف البحارة. كانت المدافع تضرب على مهل، وعلى فترات متباعدة، ولكن بقصفٍ ملحٍّ، ليس بهدف الإصابة بقدر ما هو تحديد خط الدفاع السوفييتي. ويبدو أن الألمان كانوا يتوقعون ردًّا؛ لأن مدافعهم كانت تصمت بين الحين والحين، وكأنها تصغي وتفكر. ولكن الدفاع لا يرد. فيعاود الألمان قصفهم المتباعد وكأنما يستجوبون محادِثهم.

جاء المفوض لوكيانوف ركضًا مع وثبات قصيرة بتعزيزات — حوالي نصف سرية مشاة بحرية — وضعها على جناحَي وحدة فليتشنكو، تاركًا له زمام المبادرة في هذا القطاع.

وبعد أن استمع لوكيانوف إلى بلاغ الموجه السياسي عن معركتهم الصغيرة مع الألمان وسط الغنم أفضى باستنتاجه الخاص: حسنًا. ذلك كان استطلاع قوة من جانبهم. أما المعركة فستأتي فيما بعد.

وانصرف المفوض. وبعد قليل تحولت المدفعية الألمانية إلى القصف القتالي العاصف. وأدرك فيلتشنكو غرضهم فقال: يُخلون الطريق أمامهم. إذن ستهجم الدبابات قريبًا.

وسحب وحدته إلى الملجأ المسقوف بطبقة واحدة فقط من الجذوع الرفيعة، ولكن الجو هنا كان أهدأ مع ذلك. وبقي فيلتشنكو نفسه عند مدخل الملجأ لكي ينظر عبر الجسر الترابي ويراقب ظهور الدبابات.

حرثت قذائف المدافع الطريق وجوانبه حتى الأساس، وتشوهت جثث الغنم والألمان بعد الممات، وكانت التربة تغطيها تارة فتدفنها وتارة أخرى تعريها.

انبعث الغبار من السفح الأيسر للتبة عند قاعدتها حيث كانت تتصل بحقل شيحي سبخي. ولم تخفَّ وطأة نيران المدفعية. وخرج جسم الدبابة الأمامية الداكن إلى حقل الشيح، وتبعتها دبابات أخرى. وتقدمت تحت ساتر نيران المدفعية.

اختبأ فيلتشنكو في الملجأ إثر انفجار قريب أهال عليه السخام الأسود والتربة. وقال في نفسه: «ينبغي أن أظل سليمًا. ستصمت المدافع الآن.»

وعندما سكتت المدافع أعاد فيلتشنكو وحدته إلى موقعها. واقتربت الدبابات من الجسر. وكان عددها حتى الآن سبعة؛ أي حوالي دبابة ونصف لكل مقاتل.

وصاح فيلتشنكو ناحية تسيبولكو: فاسيا! الرشاش إلى مزاغل الرؤية في الدبابة الأمامية! كراسنوسلسكي، بارشين — الزجاجات والقنابل! هيا! اضرب!

وأطلق تسيبولكو دفعة أولى، وثانية، ولكن الدبابة واصلت تقدمها نحو البحارة بكل عنفها وجبروتها. وزحف بارشين وكراسنوسلسكي عبر الجسر الترابي إلى الناحية الأخرى من الطريق.

وصرخ فيلتشنكو: سدِّد جيدًا يا رشاشجي!

وأحكم تسيبولكو التسديد وهو يتلمس مزغل الرؤية بسيل الطلقات، بكل قوة الإحساس في يده التي استطالت، وأنشب رصاصه في مزغل الدبابة. واندفعت الدبابة مستديرة بحدة حول نفسها نصف دائرة على جنزير واحد، ثم خمدت في موضعها، مستجيبة لحركة سائقها المتشنجة إذ عاجله الموت. ورفع كراسنوسلسكي هامته للحظة بجوار الدبابة وقذف نحوها زجاجة حارقة. وارتفع عمود قطراني أسود من جسم الدبابة، ثم ظهرت النار من قلب الدخان واشتعلت لهبًا عاليًا حارًّا.

وحوَّل تسيبولكو نيران رشاشه إلى الدبابات الأخرى. أطلق في البداية دفعات قصيرة محكمة متلمسة، ثم أنشب في الهدف سيلًا طويلًا لاسعًا مميتًا. وكان كراسنوسلسكي وبارشين يقاتلان وراء جسر الطريق. كانا يختبئان في حفر القذائف، وخلف كتل التربة المنسوفة، ووراء جثث الشياه النافقة، وينهضان للحظة، فيقذفان الزجاجات والقنابل على الآلات المزمجرة.

وبقي فيلتشنكو وأودينتسوف خلف الجسر ينتظران ساعتهما. وعلى الفور تصاعد الدخان الكثيف من دبابتين أخريين ثم لفهما لهيب ساطع. وبقيت على قيد الحياة أربع دبابات. ولكن الألمان يبخلون بالخسائر، ولا يحبون إنفاق ما لديهم، حتى النهاية.

توقفت الدبابات الأربع واستدارت في مكانها، كاشفة المشاة خلفها.

وصاح فيلتشنكو: فاسيا! هيا! على الأفراد، اضرب!

وأنشب تسيبولكو تيار النيران في مشاة العدو الذين ارتموا فورًا على الأرض.

وانطلق فيلتشنكو وأودينتسوف عبر الجسر، ولكن كراسنوسلسكي وبارشين سبقاهما. كانا قد اقتربا زحفًا على البطون من مشاة العدو المنبطحين، ونهضا قليلًا، وقذفاهم بأولى القنابل اليدوية.

وانسحبت الدبابات الأربع السليمة في صمت ولم تطلق نيرانها لأن المشاة الألمان والبحارة الروس اختلطوا في ميدان القتال وقد يؤدي إطلاق النار إلى إصابة الألمان.

وألقى فيلتشنكو وأودينتسوف بالقنابل اليدوية على أجساد المشاة الداكنة. ولم يمكن رشاش تسيبولكو الأعداء من رفع رءوسهم. وعندما كانوا ينهضون قليلًا، يصليهم تسيبولكو نيرانًا محكمة حاصدة. وإذا تحركوا أو زحفوا تحول تسيبولكو إلى «الرف»؛ أي إلى غرز الرصاص في الأرض بزاوية خلال أجساد الأعداء. ولكن جندي الرشاش كان يواجه مهمة صعبة؛ إذ كان عليه ألا يصيب رفاقه الذين اقتربوا من العدو.

غير أن الألمان أيضًا كانوا ذوي فطنة؛ إذ أدركوا أنه من الأفضل لهم أن ينسحبوا مؤقتًا من أن يموتوا معجلًا. فقفز حوالي ثلاثين شخصًا من الأرض معًا وهم يعولون وركضوا في إثر الدبابات. وقذفهم فيلتشنكو وأودينتسوف بالقنابل، ثم أطلقا عليهم نيران بندقيتيهما، فسقط حوالي عشرة أشخاص على الأرض من جديد. أما بقية المشاة — وكانوا حوالي الخمسين — فلم يعد بمقدورهم أن ينهضوا أبدًا.

وأطلق تسيبولكو آخر دفعة طويلة على الراكضين فأردى سبعة آخرين بينما استمر الرمي عليهم من الجناحين.

عاد البحارة إلى مواقعهم في الجسر الترابي، والتي أصبحت مأهولة ومألوفة كالمنزل. عادوا مرهقين. مثلما بعد عمل شاق، ونعسوا على الفور مستغلين الهدوء الذي ساد الهواء والأرض. وبقي فيلتشنكو وحده يقظًا للحراسة.

وبعد نصف ساعة مرقت الطائرات الألمانية المنقضَّة فوق حقل الشيح والطريق المسفلت على ارتفاع منخفض. وراحت تطلق نيران رشاشاتها على الأرض المثخنة بالجراح وتقصفها بالقنابل في الوقت نفسه. ولم يستيقظ البحارة النائمون في الخندق، ولم يوقظهم فيلتشنكو الساهر، فما زال اليوم طويلًا، وما زال أمامهم قتال، فليستريحوا الآن.

حل الهدوء مرة أخرى بعد رحيل الطائرات. وفي هذا السكون صاح شخص مناديًا فيلتشنكو باسمه.

كان طاهي البحرية روبتسوف يركض بحذاء الجسر الترابي، حاملًا في يده اليمنى بجهدٍ وعاءً كبيرًا مطليًّا بلون الحرب الكالح … ترموس الميدان الإنجليزي.

وقال الطاهي البحري باقتضاب ولباقة: جئت بالطعام! أتسمح بتضييف الجنود أيها الرفيق الموجه؟

فقال فيلتشنكو بلهجة مهمة: أسمح لك.

فانحنى الطاهي قائلًا: أشكرك. أين تأمر بتجهيز المائدة للكباب الساخن، الملتهب؟ اللحم من عندكم!

فسأله فيلتشنكو مندهشا: وكيف استطعت إعداد الكباب بهذه السرعة؟

فأجاب الطاهي موضحًا: استخدمت يدي الماهرة أيها الرفيق الموجه فاستطعت! أنتم أيضًا تلاحقون بإعداد لحم الغنم، ونصف الجبهة الآن يعرف أخباركم. الناس يعرفون حتى عدد الشياه التي أصبتموها. بالفعل!

فضحك فيلتشنكو قائلًا: ومن أين عرف الناس ذلك إذا كنا نحن لا نعرف؟

فقال الطاهي: الجبهة مثل شارع القرية … ما لا حاجة إلى معرفته تجد الجميع يعرفونه، وما ينبغي أن يُعرف تجدهم نسوة!

وعثر روبتسوف على مكانٍ مستوٍ بجوار الجسر مباشرة، ففرش مفرشًا أبيض، ورتب أدوات الطعام عليه، ووضع الأطباق — وكان كل ذلك في درج خاص في الترموس — ثم أخرج من الترموس وعاء من الألومينيوم تصاعدت منه روائح اللحم الشهية.

وكان البحارة النائمون أثناء الغارة الجوية قد استيقظوا، فخرجوا من الملجأ إلى العراء وقد جذبتهم رائحة اللحم.

وسأل فيلتشنكو الطاهي بصرامة: ما هذا المطعم الذي افتتحته أثناء الحرب؟

فأجاب الطاهي موضحًا: المطعم في الجبهة مفيد أيها الرفيق الموجه. إنه لا يعرقل النصر، كلا، أبدًا! أما النعش فلا داعي له؛ لذلك لم أحضره. إنما المطعم شيء عظيم أيها الرفيق الموجه … إنه تذكرة للجنود بزمن السلم!

تفحص البحارة مطعم روبتسوف الميداني باهتمام، ثم تطلعوا في وقت واحد إلى الطاهي وقهقهوا بملء حناجرهم الشابة المرتاحة. وقال بارشين محذرًا روبتسوف: سيصيبونك في الوعاء على رأسك طالما تركض في الخطوط الأمامية أيها الطاهي!

فاستبعد الطاهي هذه التوقعات: كلا، أنا يقظ، سأبقى حيًّا. أنا أبذل جهدي من أجلكم، لكي أغذي أجسادكم!

فقال تسيبولكو: كذاب! دعك دعك من الكذب!

فاعترف الطاهي: ولكني أكذب قليلًا يا فاسيا! حسنًا، أنا أيضًا أريد أن أحصل على شيء أعلقه في صدري!

فسأل كراسنوسلسكي بصوت متحشرج: وما الذي تريد أن تعلقه في صدرك؟

فقال الطاهي: حسنًا، ليكن وسامًا، لتكن ميدالية، فأنا أطعم الجنود تحت النيران، فهل الطاهي أقل من الممرضة؟

فقال أودينتسوف: يا له من طاهٍ عظيم! إنه بطل ووصولي معًا، يمكن منحه ميدالية أو صفعة! وله الحق في الاثنتين دفعة واحدة!

فلم يطق تسيبولكو صبرًا وقال: هات الأكل!

فدعاهم الطاهي: تفضلوا. أفواهكم كانت مشغولة بالكلمات، فلا مكان فيها للكباب.

وجلست وحدة فيلتشنكو كلها على العشب حول المفرش، وأُمر الطاهي بالحراسة والنظر إلى الأمام لمراقبة العدو.

وبعد أن فرغ البحارة من الأكل قرروا أن الطاهي «يستطيع». وكانت هذه الكلمة تعني في لغتهم الودية أعلى درجات التقدير لعمل ما، وقد استخدموها الآن للتعبير عن تقديرهم لعمل الطاهي في إعداد الكباب.

صاح بارشين في رويتسوف: أيها الطاهي، إنك تستطيع!

فردَّ الطاهي بلامبالاة: أعرف. أنا أيضًا من العاملين المبدعين!

فقال أودينتسوف: سيكون لهذا الطاهي شأو بعيد. فلديه الموهبة والوقاحة.

وبعد الغداء اصطف البحارة. وأمرهم فيلتشنكو: انتباه! إلى الطاهي انظر!

كان ذلك تعبيرًا حربيًّا عن الشكر على الكباب، فانصرف الطاهي إلى الخطوط الخلفية راضيًا تمامًا عن عمله البطولي في إطعام الجنود.

وبقي البحارة وحدهم. وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف النهار. وعيَّن فيلتشنكو أودينتسوف حارسًا، وأمر بقية جنوده بالراحة. واستلقى الجنود على سفح الجسر ليتدفئوا قليلًا في شمس الربيع.

وقال بارشين محنقًا من عادته في الشرب بعد الأكل: يا للشيطان، لقد عطشت! ليس هناك أفضل من القتال، ففيه لا ترغب في شيء! وما إن تبدأ حياة السلم حتى تجد نفسك دائمًا راغبًا في شيء ما … مرة في الأكل، ومرة في الشرب، ومرة في النوم، ومرة تشعر بالملل، ومرة …

وعدَّد بارشين بالتفصيل ما يحتاج إليه الشخص في حياة السلم، حتى إن هذا الشخص لا يجد متسعًا للعيش لأنه مشغول دائمًا بتلبية احتياجاته. واتضح أن المقاتل هو وحده الذي يحيا حياة حرة سعيدة عندما يخوض المعركة الضارية … فحينذاك لا يحتاج إلى الشرب أو الأكل، كل ما يحتاجه أن يبقى حيًّا، وتكفيه هذه السعادة وحدها …

وقال أودينتسوف من على الجسر: أرى الدبابات!

فأصدر فيلتشنكو أوامره: إلى أماكنكم! استقبلوا الدبابات بالنار!

وخرج إلى الموقع وراح يعد الدبابات التي خرجت من وراء التبة في صبر. كانت خمس عشرة دبابة؛ ثلاث دبابات لكل جندي، وكانت في المرة الماضية دبابة ونصفًا. وإذن فقد ضاعف الألمان الجرعة. وعلى الفور بدأ قصف مدفعي سريع. راح الألمان يطلقون نيرانًا غير مركزة لصرف انتباه الروس وتشتيت قواهم على جبهة واسعة بدفع الدبابات لاختراق الدفاع بغتة في مكان واحد.

وقال تسيبولكو بعد أن أحصى الدبابات: إنهم يحترموننا … انظر كم دبابة حشدوا ضدي وحدي. اقسم خمس عشرة على خمسة، ثم اضرب في قوة ألف حصان! أنا راضٍ.

وأطرق أودينتسوف. فضجيج الدبابات المنطلقة المقترب، ونيران المدفعية، والإصرار القلق الصاخب المبالغ فيه من جانب العدو … كل ذلك بدا له غير جدِّيٍّ … كل ذلك، رغم خطورته، كان أشبه بتصرف شخص يهاجم خوفًا، ويحاول النجاة من الهلاك بالهرولة والتكشير عن الأنياب.

تقدمت الدبابات الجبارة في خط مباشر. ربما كان الألمان يريدون الآن الوصول إلى طريق دوفانكوي، ثم يندفعون عبر الطريق إلى سيفاستوبول مباشرة، فهذه الطريقة تبدو أكثر استعراضية.

أصاخ تسيبولكو السمع عبر صرير الجنازير وقرقعة الأجسام الحديدية إلى صوت محركات الديزل المنشد السريع الإيقاع وقال لنفسه: «أوه، كل هذا ضدي! مرحبًا يا حضرة المهندس رودولف ديزل! أنا لست غاضبًا منك، أنا أحترمك لاختراعك العظيم للمحرك … أنا تسيبولكو، البحار البسيط والإنسان العظيم!»

وقال فيلتشنكو مخاطبًا الجميع: يا رفاق!

ورغم أنه تحدَّث بصوت خافت، وكان الصخب شديدًا، سمعه الجميع.

يا رفاق، أريد أن أقول لكم إن المعركة ستكون صعبة. أريد أن أقول لكم إننا لا نستطيع أن ننسحب، سوف نقاتل هنا حتى العظام.

فقال بارشين: وبالعظام أيضًا يمكن القتال. انتزع من الهيكل العظمي واضرب. ألم يرد المفوض الرفيق بوليكاربوف أن يقاتل بذراعه المبتورة!

وقال فيلتشنكو: يا رفاق! أقول لكم يا أصدقائي إن قلبي يشعر الآن بما تشعرون به، ولهذا فأنتم تفهمونني جيدًا. إنني آمركم أن تصمدوا على هذه الأرض ولا تموتوا حتى نقاتل طويلًا، وإلى أن نسحق هنا دبابات العدو وعظامه!

واقترب تسيبولكو من فيلتشنكو وقبَّله. ثم تبادلوا القبل جميعًا وكل منهم يحدق في وجه الآخر ليحفظ ذكراه الخالدة.

وبقلب مطمئن قرير تفقَّد كل بحار منهم هندامه واستعد للقتال وشغل موقعه. وشملت نفوسهم الآن السكينة والراحة. وبارك كل منهم الآخر وهم يقدمون على أعظم وأرهب وأغمض ما في الحياة، على ما يدمرها وما يخلقها، على الموت والنصر … وفارقهم الخوف لأن ضمير كل منهم إزاء رفيقه الذي يواجه نفس المصير قهر فيه الخوف. وامتلأت أبدانهم قوة فأحسوا بأنفسهم قادرين على إنجاز عمل كبير، إنهم لم يولدوا لكي ينفقوا حياتهم ويدمروها في التمتع الفارغ بها، بل لكي يعيدوها ثانية للحق وللأرض وللشعب … ليعطوا أكثر مما أخذوا ساعة الميلاد، كيما يتضاعف مغزى الوجود البشري. فإذا لم يتمكنوا الآن من قهر العدو، وإذا ما استشهدوا دون أن ينتصروا عليه، فلن يتغير في الدنيا شيء بعدهم، وسيكون الموت مصير الشعب والبشرية. وراحوا بعدهم يتطلعون إلى الدبابات الزاحفة عليهم ويتوقون أن تسرع في زحفها، ولم يكن في وسع شيء أن يشفي غليلهم سوى القتال الضاري.

خرج مشاة العدو من وراء الدبابات مهاجمين جناحَي وحدة فيلتشنكو، فاستقبلتهم نيران بحارة فيلتشنكو وبحارة نصف السرية الذين جاء بهم لوكيانوف. وإذن فلدى جناحَي فيلتشنكو همومهما ولا يمكن التعويل على مساعدة منهما. ثم إن هذين الجناحين الأيمن والأيسر، لم يكن بهما سوى ثلاثين جنديًّا في كل منهما بينما كان العدو يهاجم بقوة نصف كتيبة على كل جناح.

جرت هناك في الجناحين رماية نارية سريعة، أما في الوسط، في خط تقدم الدبابات؛ فقد أمر فيلتشنكو بالكف عن إطلاق النار حتى لا يكشف للعدو عن قوتهم القليلة.

وكان على فاسيلي تسيبولكو أن يبدأ المعركة ضد الدبابات. وأمره فيلتشنكو أن ينتظر حتى تقترب الدبابات إلى مسافة مائة متر.

وعندما اقتربت الدبابة الأمامية اندفعت واثبة إلى الأمام، فضاعفت جميع الدبابات خلفها من سرعتها بحدة.

عند ذلك بدأ تسيبولكو المعركة. كان قد ضبط المدفع الرشاش من مدة طويلة وهو يتابع حركة الدبابة بجهاز التسديد. والآن فتح نيران الرشاش. كانت يد تسيبولكو المدربة وقلبه الحساس يعملان بدقة، فأصابت أول دفعة رصاص مزغل الدبابة الأمامية، فانحرفت الدبابة جانبًا وتوقفت في ذروة اندفاعها بين يدي سائقها الصريع. بيد أن الدبابة الثانية اندفعت بضراوة جسورة إلى جسر الطريق، مقتحمة وحدة فيلتشنكو اقتحامًا مباشرًا، في الوجه تقريبًا. وفي لحظة خاطفة سبقت تفكيره هبَّ تسيبولكو مكيفًا جسمه كله، وألقى بحزمة القنابل اليدوية تحت هذه الدبابة.

نسي تسيبولكو نفسه ورفاقه، ودوى انفجار قريب أصم آذان مجموعة المقاتلين، وطرحتهم موجة الانفجار أرضًا. وجمدت الدبابة في مكانها، ثم بدأت تنزلق ببطء، تحت ثقل وزنها، على الجانب الآخر للجسر الترابي، الذي بقي نصف جسم الدبابة معلقًا فوقه. ونهض تسيبولكو، وضرب ذراعه اليسرى على حجر ليطرد منها الألم، ولكن الألم لم يختفِ وظل يعذبه … كان دم كثيف غزير يسيل من عضلاتها الممزقة ويخرج منها عبر الكف. أفضل شيء لو تقطع هذه الذراع تمامًا، لكي لا تعيقه، ولكن لم يكن هناك ما تقطع به ولا وقت للانشغال بذلك.

ظهرت دبابتان على الطريق دفعة واحدة. ونسي تسيبولكو إصابة ذراعه وأجبرها على العمل وكأنها سليمة. وانكب على الرشاش ثانية وراح يطلقه على الدبابات مباشرة محاولًا أن يصيبها في فتحات الدروع. ولكن الرشاش صمت، فلم يعد هناك ما يتزود به بعد انتهاء الشريط الأخير. عندئذٍ لم يتح تسيبولكو للدبابات فرصة، فانقض بطول قامته على الدبابة الأقرب وألقى بحزمة قنابل تحت جنزيرها الذي كان ينهش الأرض في سيره. ودوى انفجار حاد مولول، وراحت النار تمزق الصلب، وصمتت الدبابة المحطمة إلى الأبد.

لم يسمع تسيبولكو صوت الرصاص المنطلق من رشاش هذه الدبابة. لكنه أحس الآن وكأنما استقرت في جسده مخلوقات صغيرة غريبة، راحت تنهشه من الداخل. كانت هذه المخلوقات في بطنه وصدره وزوره. وأدرك أنه مصاب كله، وأحس بحياته تذوب وتتلاشى، وبالبرودة والخواء يسريان في قلبه، فرقد على كتل التربة وتكوَّر، كما كان ينام في طفولته مع أمه تحت الغطاء ليتدفأ.

ولم يمكِّن إيفان كراسنوسلسكي الدبابة الثانية من التقدم نحو سيفاستوبول. ركض نحوها قاطعًا عليها الطريق، وألقى عليها ثلاث زجاجات حارقة، الواحدة تلو الأخرى. واشتعلت الدبابة، وقطعت مسافة قصيرة قبل أن تتوقف لتحترق تمامًا. والتفت كراسنوسلسكي نحو رفاقه … كانت أربع دبابات أخرى قد أفلتت وراحت تطلق مدافعها ورشاشاتها من الحركة للإرهاب وزحف أودينتسوف وبارشين في المنطقة الواقعة خارج تأثير الضرب. وألقى بارشين وهو راقد زجاجة على الدبابة، فالتصق السائل الحارق بالدرع واشتعل لهبًا. ومرت قذيفة معولة بجوار رأس كراسنوسلسكي، فاستشاط المقاتل غيظًا من احتمال أن يقتله الفاشست وصرخ في الدبابة بصوت رهيب، ناسيًا أن أحدًا هناك لن يسمعه، ثم ألقى بزجاجة على جسد الدبابة المميت بحركة حادة محكمة التسديد، وأبهجته نيران الحريق. وبقيت لديه زجاجة حارقة واحدة. وألقى بنفسه في حفرة؛ لأن دبابة جديدة اندفعت نحوه متخطية الدبابة المشتعلة. والآن أدرك كراسنوسلسكي شعور الرضا بالتسيُّد؛ فقد دمر دبابتين، وبوسعه أن يدمر واحدة أخرى، وبذلك يقلل من الموت في الدنيا ويخفف عن البشر. وكأنما كان كراسنوسلسكي، بتدميره للعدو، يجمِّع الخيرات، وكان يدرك جدوى عمله. واندفعت الدبابة إلى الأمام وهي تنشر النار في الفضاء، واطئة، عنيدة، جبارة.

قفي يا لئيمة! — صاح كراسنوسلسكي في الدبابة وغرز في صلبها المقرقع زجاجته اليتيمة.

ولفح اللهب الدبابة. وارتد غطاء البرج منفتحًا، وظهر هناك وجه عدو مبهم الملامح. وامتشق كراسنوسلسكي بندقيته، ولكن العدو كان أسرع منه إلى مسدسه السريع الطلقات، فسقط كراسنوسلسكي على الأرض بقلب مزقه الرصاص، وتطلع إلى السماء وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأسف على عروسه التي ستبقى يتيمة بدونه لأن احدًا لن يحبها كما أحبها هو. وأغمض عينيه، المليئتين بالدموع، لكيلا يفتحهما بعد ذلك أبدًا.

وقذف بارشين الزجاجة في الدبابة السليمة التالية، التي اندفعت على الطريق مباشرة نحو سيفاستوبول. ولكن اللهب لم يمسك جيدًا بها فواصلت الدبابة سيرها وهي تتخلص من الدخان واللهب بفعل سرعتها. عندئذٍ ركض بارشين في إثرها بقنبلة، ولكن فيلتشنكو وأودينتسوف اصطادا هذه الدبابة قبله. فجَّرا بالقنابل عجلاتها وجنزيرها، حتى إن المعدن تطاير منها، فاستدارت الدبابة في مكانها وخمدت. ولكن بارشين لم يعد بوسعه أن يتوقف، فألقى عليها بالزجاجة لكي يكون موت العدو أكيدًا.

كانت الدبابات تشتعل فوق الطريق، ولكن دبابات جديدة حولت اتجاهها مندفعة عبر حقل الشيح في محاولة للوصول إلى منعطف الطريق بالالتفاف حول الدبابات المشتعلة المدمرة. وخشية أن يصابوا بنيران العدو الذي كان يضرب الآن بقذائف الشظايا من الدبابات المقتربة، قفز فيلتشنكو وأودينتسوف وبارشين إلى أقرب خندق ومضوا عبره إلى الملجأ.

وفي عتمة الملجأ تفحَّص فيلتشنكو رفيقيه بانتباه ليرى هل أصيبا وهل تسرَّب الخوف إلى قلبيهما. كان أودينتسوف وبارشين يلهثان ووجهاهما مغطيان بالسخام والوحل، ولكن عيونهما أشرقت بضياء القوة والتعطش إلى القتال.

وسأل فيلتشنكو مخاطبا بارشين: ماذا يا يورا؟

فأجاب بارشين بصوت أبح: لا بأس! هيا نوقفهم كلهم، أنا لا أخاف فقد رأيت الموت واعتدته.

راح بارشين وهو لا يدري في اضطرابه ماذا يفعل وكيف يكبح نفسه، يمسح بكفه السوداء جدار الملجأ الترابي.

هيا نسحقهم أيها القائد! وإلا فسأذهب وحدي! … أنا لم أحب الشعب أبدًا كما أحببته الآن؛ لأنهم يقتلونه. إلى أي درجة أوصلونا … لقد أصبحت وحشًا! صب في فمي البارود من الطلقات وسأفجر بطني فيهم!

فقال فيلتشنكو وهو ينزع عن كتفه البندقية: أنت نفسك تعرف أنه لم يعد لدينا طلقات.

وكان أودينتسوف يرتجف من الأسى والغضب.

ودمدم بصوت خافت: هيا إلى الموت! ليس في الدنيا الآن ما هو أفضل.

وكانت نيران العدو تدوي قريبة منهم. وأحكم فيلتشنكو في صمت ربط قنبلة إلى حزامه، وترك قنبلتين لرفيقيه. وبخلاف هذه القنابل الثلاث لم يعد لديهم أية ذخيرة لملاقاة العدو. ولذلك كان لا يجوز لهم الآن أن يخطئوا الهدف أو يضربوا بضعف. كان عليهم الآن أن يسددوا بدقة ويصيبوا مقتلًا من الضربة الأولى.

لم يأمر فيلتشنكو رفيقيه بشيء. وخرج من الملجأ فاختفى في هزيم القصف المدفعي للدبابات المندفعة وصرير جنازيرها وهي تسحق أحجار الطريق. وزحف حتى بلغ منعطف الطريق وسكن هناك للحظة.

وربط كلٌّ من أودينتسوف وبارشين قنبلة يدوية في حزامه على نحو ما فعل فيلتشنكو، وخرجا إلى النيران، لملاقاة دبابات العدو. وشاهدا فيلتشنكو الرابض عند منعطف الطريق حيث ينبغي أن تظهر الدبابات الملتفة حول الآلات المدمرة، واختبآ في إحدى الحفر. كانا يدركان أن أهم شيء بالنسبة لهما الآن أن يظلا على قيد الحياة ولو بضع دقائق أخرى، ومن ثم أخذا يحافظان على حياتهما بحذر وخشية.

وكان فيلتشنكو هو الآخر منفعلًا. كان يخشى أن يكون قد أخطأ التقدير، وبدلًا من أن تتجه الدبابات إلى الطريق فستمضي بحذائه من الجانب الآخر. وإلى أن يركض عبر الطريق ويصل إلى الدبابات يكونون قد حصدوه بالرشاش فيموت كحيوان أحمق ذليل ويصبح أضحوكة أمام الأعداء. كان يتعذب وهو يصيخ إلى ضجيج الآلات المقتربة في الناحية الأخرى من جسر الطريق، ويخشى أن تفلت منه سعادته الأخيرة هذه. كانت الدبابات تطلق النار الآن أخف من السابق، ومن المدافع فقط، مسددة نيرانها إلى خط الدفاع الأقرب إلى سيفاستوبول والواقع خلف البحارة. وبعيدًا من الجناحين تردد طوال الوقت إطلاق النار من البنادق والرشاشات؛ فقد كانت وحدات بحارة أسطول البحر الأسود القليلة العدد تصد الألمان المندفعين إلى الأمام.

عبرت الدبابة الأمامية الطريق قبل أن تبلغ المنعطف وراحت تهبط الجسر إلى تلك الناحية التي رابط فيها فيلتشنكو. يبدو أن قائد الدبابة أراد أن يخترق خط الدفاع عبر الحقل.

وخففت الدبابة الجبارة الثقيلة سرعتها وهي تنحدر بحذر على جانب الجسر الترابي. يبدو أن قائدها لم يكن يرغب في الاندفاع بها كيفما كان واستهلاك أجهزتها الثمينة. وراحت ضلوع جنازير الدبابة تسحق الحشائش الحية البائسة النابتة على جانب المنحدر، وشاة نافقة وعظامًا جافة لشخص ما من زمن بعيد، وتضغطها بنفس الدرجة في تراب الأرض الصبور.

رفع فيلتشنكو رأسه. لقد أتى دوره ليصيب هذه الدبابة وليموت هو أيضًا. وانقبض قلبه حنينًا إلى الحياة المعهودة. ولكن الدبابة قد هبطت من جانب الجسر، فرأى فيلتشنكو بقربه الجسد الحي الحار لمعذبته المدمرة. ما أقل ما ينبغي عمله لتزول وليختفي من على وجه الأرض هذا المعدن الكئيب الذي يسحق أرواح البشر وعظامهم. بحركة واحدة كان يمكن أن يتقرر هنا مصير العالم وماذا يسود: معنى الحياة وسعادتها أم اليأس الأبدي والفراق والهلاك.

عند ذاك خفق قلب نيكولاي فيلتشنكو في قوة منطلقة وأعجاب مستعر. كانت سعادته وحياته السامية أمامه ومن حوله، وهو الآن يعيشها بنهم وشغف ملتصقًا بالأرض، ودموع السعادة تسيل من عينيه، لأن الموت الساحق سيتوقف الآن فوق جسده وينهار عاجزًا على الأرض بإرادة قلبه وحده. وربما يبدأ منه هو تحرير البشرية الآمنة التي ولدت مشاعر الحب في قلبه لها بفضل أمه المحبة، ولينين، والوطن السوفييتي. كان مصير حياته البسيط ممتدًّا أمامه، فشعر نيكولاي فيلتشنكو بالراحة إذ تقبلته روحه بيسر، روحه المستعدة للموت والناشدة له كما تنشد الحياة.

نهض بطول قامته، ونَضَا عنه السترة، وفي لحظة خاطفة أصبح أمام ضلوع جنزير الدبابة القاسية، الزاحفة عليه من أعلى، والتي زفرت في وجه هذا الإنسان الوحيد حرارة محركها. وسدد فيلتشنكو جسده الذي اعتاد أن يستجيب له، وألقى بنفسه في أعشاب الشيح تحت الجنزير القاضم بعرض مساره. سدد بإحكام، بحيث تجيء القنبلة المربوطة على بطنه في وسط عرض حلقة الجنزير، وألصق وجهه بالأرض نافثًا آخر زفرة حب وحقد.

ورأى بارشين وأودينتسوف ما فعله فيلتشنكو، وشاهدا كيف توقفت الدبابة فوق عظام الموجه السياسي وقد زلزلها الانفجار. وألقى بارشين في فمه بقبضة طين وراح يلوكه وهو لا يعي ما يفعل.

وقال أودينتسوف: نيكولاي مات. ونحن أيضًا حان دورنا.

وظهرت خمس دبابات جديدة على الطريق وبدأت تهبط ببطء على المنحدر متجنبة الدبابة المدمرة.

ونهض البحاران.

وقال بارشين بصوت خافت: دانييل!

فأجابه أودينتسوف: يورا!

وبدا وكأن كلًّا منهما يضع صاحبه في قلبه، لكيلا ينساه ولا يفرقه عنه الموت.

وقال بارشين وقد داخلته الطمأنينة والمرح: إيه، لذكرانا الخلود!

واندفعا نحو الدبابات في نصف دائرة ليقابلاها وجهًا لوجه. غير أن أودينتسوف سقط على الأرض قبل أن يتمكن من الالتحام بالدبابة؛ لأن جندي الرشاش في الدبابة بدأ يحصد بالرصاص صدر البحار وهو يكاد يلاصقه. لكن أودينتسوف، وهو يحتضر، تحامل على جسده المحطم بقوة قلبه وحده الذي لما يزل يخفق، وزحف لملاقاة الدبابة … فمزقه الجنزير هو والقنبلة، محولًا حياته إلى لهب ونور انفجار.

وركض بارشين إلى دبابة أخرى، وتشبث بحاجزها، وتمكَّن من ركوب الدبابة المعادية مسافة قليلة، وبعد أن سمع انفجار جسد أودينتسوف، ترك الحاجز وركض إلى الأمام سابقًا الدبابة. وهناك نَضَا بارشين عنه السترة وعرى بطنه بالقنبلة المربوطة عليه، لكي يرى الأعداء ذلك الذي يواجههم. ثم انتظر حتى اقتربت منه الدبابة، وارتمى بحرية وتقدير تحت الجنزير.

توقفت الدبابات الأخرى، السليمة بعدُ، على الطريق ومشارفه. ثم تحركت بجنازيرها متجهة نحو بعضها البعض وقفلت عائدة، عبر حقل الشيح، إلى ملجئها خلف التبة. كانت تستطيع أن تقاتل أي عدو، ولو كان أرهب الأعداء. لكنها لم تعرف كيف تخوض قتالًا ضد رجال جبابرة، يفجرون أنفسهم ليقضوا على عدوهم. لم تكن تعرف كيف تتغلب على ذلك، وفي الوقت نفسه لم تشأ أن تُمنى بالهزيمة.

وها قد انتهى كل شيء. وحملة الرشاشات الألمان، الذين التفوا من الجناحين حول موضع قتال البحارة ضد الدبابات، صمتوا حتى قبل ذلك، فبعضهم قُتل، والباقون على قيد الحياة غاصوا في الخنادق.

لم يبقَ ظاهرًا في مكان قتال الوحدة التي قادها الموجه السياسي فيلتشنكو سوى الدبابات الميتة ورجل واحد حي. بقي فاسيلي تسيبولكو وحده حيًّا. وأدرك أنه سيموت قريبًا، لكنه كان لا يزال حيًّا بعد. كان قد زحف إلى حافة الطريق منتحيًا عن المكان الذي خاض فيه رفاقه القتال ضد الدبابات، فرأى كل ما دار هناك تقريبًا.

وها هو الآن يرى كيف اقتربت إحدى وحداتنا الحربية من الطريق قادمة من الخطوط الدفاعية في تشكيل انتشار. وبسبب النزيف والضعف كان تسيبولكو يرى كل شيء بوضوح تارة، وتارة أخرى تغيم الدنيا في عينيه ويفقد وعيه.

عندما أفاق تسيبولكو رأى حوله أناسًا، وعرف بينهم المفوض لوكيانوف. وضمد الجنود تسيبولكو، ثم حملوه على أيديهم ومضوا إلى سيفاستوبول. وأحس بالراحة وهو محمول على أيدي الجنود، فراح يروي لهم وللوكيانوف الذي كان يحمله معهم كل ما رآه اليوم على قدر ما استطاع. ولكنه لم يتمكن من رواية كل شيء، فقد صمت ومات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤