المقدمة

قبل خمس وعشرين سنة ألَّفت كتابي «العقل الباطن» فلقي إقبالًا عظيمًا بين القراء وانتفع كثير منهم به؛ لأنه صادف حاجةً في نفوسهم، وكان هذا الكتاب تأليفًا ولم يكن ترجمة؛ لأني أُوثِرُ التأليف لما فيه من إيجازٍ هنا وإسهابٍ هناك بالقدر الذي أراه في الجمهور العربي القارئ واختلاف حاجاته، وهذه ميزات لا تتوافر في كتابٍ مترجَم ولو كان مؤلِّفه من أعظم السيكلوجيين؛ إذ هو يَكْتُب لمجتمعٍ غير مجتمعنا.

وقد وجدت أن الحاجة تمسُّ في الوقت الحاضر إلى كتابٍ أوفى وأكثر إسهابًا؛ أولًا: لأن الذين قرأوا «العقل الباطن» يستطيعون أن يفهموا وأن يطلبوا أكثر منه، وثانيًا: لأن السيكلوجية قد سجَّلت كثيرًا من التقدم؛ فالكاتب يسعه أن ينير ويفسر ويشرح كثيرًا من التصرفات في الصحة أو المرض أو السلوك، أكثر مما كان يستطيع قبل ٢٥ سنة، وخاصة بعد أن قام كثير من مؤلفينا في مصر بشروح سيكلوجية مُطوَّلة أو موجزة.

والتصرف البشري إما تصرفٌ عاقل، وإما تصرفٌ زائغ، والفرق بينهما هو فرقٌ درجي وليس نوعيًّا. ومع أني قد الْتَفَتُّ كثيرًا إلى التصرف العاقل، فإني احتجْتُ إلى أن أمَسَّ تصرف الزائفين لما يُلقي هذا من ضوء على تصرُّف العقلاء؛ لأن الزيغ النفسي إنما هو في صميمِهِ مبالغة في ناحية معينة من الاتجاه النفسي، وكما تُعْرَف الصحة من المرض في أعضاء الجسم، كذلك تُعْرَف النفس السليمة من اتجاهاتِ وتصرفاتِ النفس الزائغة.

وإذا كان الدجالون الذين يعالِجُون الأمراض أو الشذوذات النفسية قد تَفَشَّوْا في أيامنا؛ فإنما يرجع هذا إلى شيوع الجهل بين الجمهور.

والسبيل إلى وَقْفِ هؤلاء الدجالين لن يكون إلا بِنَشْر المعارف السيكلوجية الصحيحة التي يستطيع القارئ أن يسْتَرْشِد بها في سلوكه، وأن يعرف بها زيف هؤلاء الدجالين.

وكل إنسان مُتَعَلِّمٍ يجب أن يكون طبيبًا نفسيًّا إلى حَدٍّ ما. ولا يصح هذا القول على الناس من ناحية الطب العضوي؛ لأن الرجل المتعلم لا يأتمِنُ نفسه على تناول جرعة من الزرنيخ كي يتقوى بها، ولكن هذا الرجل المتعلم يستطيع أن يعرف مقدارًا كبيرًا من السيكلوجية يسترشد به في سلوكه وتصرفه، وليس في الطب النفسي زرنيخ.

والطبيب النفسي الذي يُطالَب بمعالَجة الطفل الزائغ، والزوجة الناشزة، والزوج النافر، والنزوة الانتحارية، واللياقة الحرفية، والإضراب عن الاهتمامات الدنيوية، والسرور أو الحزن في غير مناسَبتَيْهما، هذا الطبيب يحتاج إلى دراساتٍ واسعة متشعبة في فَهْم الطبيعة البشرية؛ إذ يجب أن يدرس البيولوجية والفلسفة والاقتصاد والاجتماع والدين والتاريخ والآداب؛ لأن الواقع أن مشكلاتنا النفسية هي في النهاية مشكلات فلسفية؛ أي إنها تتصل بمَوْقِفنا العالمي وما نرغب في تحقيقه في هذه الدنيا، وهل نحن نتجه إلى أهداف حسنة أم قد انخدعنا بأهداف زائفة؛ أي: ما هي الخارطة النفسية التي نرسمها لشئون هذا الكوكب الروحية والمادية؟

وبديهي أن العلم الأمثل هو الذي يستطيع أن نُعَبِّر عن حقائقه بالأرقام أو ما يقاربها في الصحة، ولا يمكن أن يقال هذا عن السيكلوجية في أيامنا. وإن كان مقدار كبير من المعارف السيكلوجية الآن يقوم على أساس من التجارب والأرقام. ولكن الطب العضوي نفسه كذلك لم يَبْلُغ الكمال، بل هذا الكمال لم يبلغه أي علم، على أن الاتجاه التجريبي في السيكلوجية سوف يحقق شيئًا كثيرًا من الوصول إلى هذا الهدف.

وألغاز الحياة كثيرة. والسيكلوجية تحاول أن تَسْبُر أعماقها وتنشد لها حلولًا، وهي كل يوم تحقق نصرًا بعد نصر.

وهذا الكتاب هو مجهود لنشر الحقائق، بلغة القرن العشرين العربية، عن السيكلوجية العصرية.

وقد اخترت ثلاث كلمات جديدة؛ فإني استبدَلْتُ بعبارة العقل الباطن كلمةَ: الكامنة؛ أي: العقل الكامن؛ وذلك لأن العبارة الأولى تُوهِم الركود، أما الثانية ففيها معنى النشاط والتربص، وكلاهما من صفات الكامنة التي تتربص بنا، وأحيانًا تتغلب علينا.

والكلمة الثانية هي الوجدان بدلًا من الوعي؛ لأن الأولى أصح لغةً من الثانية؛ لأن الوعي مشتق من فِعْلِ وعى، وليس فيه معنًى غير الحفظ؛ ومن هنا الوعاء؛ أي: الإناء الذي نحفظ فيه شيئًا، ولكن الوجدان مشتق من فِعْلِ وَجَدَ؛ أي: كيف تجد نفسك؟

والكلمة الثالثة هي الكظم بدلًا من الكبت، وقد اخترتها لأنها أصح لغةً، ولأن الجمهور يعرفها من عبارة كظم الغيظ. وقد يعاب عليها أننا نكظم ونحن على وجدان، وأن الكظم السيئ يحدث بلا وجدان. ولكن هذا التمييز يمكن أن نلتفت إليه في التفسير والإيضاح.

أما سائر الكلمات السيكلوجية مثل: السيكوز والنيوروز والهستيريا والنورستينيا والسيكوبائية، وما إليها؛ فقد أبقيتها على أصلها اللغوي الذي يتعارف به جميع السيكلوجيين على هذا الكوكب مهما اختلفت لغاتهم الوطنية، ولكل علم لغة يتعارف بها علماؤه، وهي تختلف من اللغات الوطنية؛ ولذلك لا يصح ترجمة هذه الكلمات، وقد وفَّيتُها إيضاحًا.

ورجائي أن أنفع القراء، فأثير اهتمامهم واستطلاعهم، وأستفز ذكاءهم إلى الاستزادة.

سلامة موسى

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤