العواطف المكظومة تلد العمل الفني

يختلف الأدباء والشعراء والفنانون في أساليبهم وأهدافهم، ونستطيع أن ننتفع بما يؤلفون دون أن نعرف الجهود التي ترجع إليها هذه الأساليب والمناهج.

ولكن المؤلف لا يؤلف في الفن، حيث الميدان يتسع للعواطف والأذواق والاتجاهات والأخلاق، إلا إذا كان قد وَجَدَ في حياته ما يحمله على اتخاذ خطة دون أخرى، وهدف دون آخر.

ولذلك نحن نفهم الكتاب أو القصيدة أو الرسم أو اللحن أكْثَرَ إذا عَرَفْنَا حياة المؤلف والتفاصيل الخاصة بما لقي من أفراح أو أتراح، وبما نزل به من كوارث أو مصادمات، وبما كان له من علاقات اجتماعية أو عائلية؛ لأنه وهو يؤلف إنما يتوسع بشخصيته، وينقل إلى الجمهور إحساساته؛ إذ هو يتخيل الخيال أو يحلم الحلم الذي يسد عنده نقصًا في حقائق الواقع.

وليس من شك إذن في الارتباط بين حياة الكاتب وفنه، فقد نجد كاتبًا يدأب في الدفاع عن الحرية وينضوي إلى الحركات التحريرية ويسرف ويضحي، بحيث نكاد نحس أنه يشذ عن المألوف، وهو في شذوذه هذا يتأنق ويتفوق؛ لأن غرامه بدعوته يحمله على العناية حتى يصل إلى غايته، وهذه العناية هي الفن.

اعْتَبِر صبيًّا نشأ في بيت يتسلط عليه أبٌ قاسٍ محافظ يمنع ابنه من الاستمتاع بالمسرات المألوفة، أو هو يحمله على اتخاذ أساليب من السلوك المرهق بدعوى الوقار، أو اعتبر صبيًّا آخر قد لقي طغيانًا وهو صبي من شقيقه الأكبر، بحيث لم يكن ليستطيعَ الدفاع عن نفسه لحداثة سنه، أو اعتبر تلميذًا وَجَدَ من معلمه في السنوات الأولى من الدراسة الابتدائية عنتًا بلا مُبَرِّر، ففي كل هذه الحالات نجد هؤلاء الصبيان، عندما يَبْلُغون سن الرجولة، كارهين لكل أنواع السلطة الحكومية أو الاجتماعية أو الدينية، أو هم على الأقل يتوجسون منها.

وهم في هذه الكراهية أو هذا التوجس يبحثون هذه السلطة ويحاولون الوصول إلى رذائلها ونقائصها؛ كي يبرروا موقفهم منها، وهو موقف الكراهة أو التوجس.

وهنا نجد إذن ذلك المؤلف الذي يسرف في الدفاع عن الحرية وينضوي إلى الحركات التحريرية؛ لأن دفاعه عن حريته الشخصية قد استحال إلى دفاعٍ عن حرية الشعب كله، وكراهته للحاكم المستبد أو القانون الجائر هي — في صميمها — كراهة للأب القاسي الذي عَرَفَه في طفولته، أو لقواعد الوقار التي قَيَّدَت نشاطه وهو مراهق.

وليس الفن الذي يتجسم في قصة أو رسم أو أبيات من الشعر أو ألحان من الموسيقا، أو حتى في مقال عابر، ليس الفن سوى التفريج عن عواطف محتبسة؛ أي: مكظومة، لم يكن في مستطاع الفنان أن يفرج عنها في الواقع فأفرج عنها في الخيال، وهو إذا لم يكن قد فعل ذلك في الخيال، لكان قد أدى به الكظم إلى التفريج عنها بالخمر أو الجريمة أو الجنون.

وقد قال فرويد: «كلنا مرضى»، وهو يعني بهاتين الكلمتين أن لكل منا كظومه واحتباساته وكروبه، التي تحتاج إلى التفريج، وقد يكون الانتقام تفريجًا، ولكن الأخلاق المتمدنة التي نأخذ بها، والاعتبارات الاجتماعية التي يجب أن نراعيها، تحول بيننا وبين الانتقام، وإذن نحن نحلم ونتخيل حالًا أسعد من الواقع.

فإذا كنا على شيء من القدرة على التأنق على التعبير، استحالت أحلامنا إلى أعمال فنية كالشعر أو الرسم أو القصة أو المقالة، ثم اتجهت حياتنا الفنية تلك الوجهة التي اقتضتها ظروفنا العائلية الأولى أيام الطفولة، وأيضًا مركزنا الاجتماعي.

والعواطف المكظومة هي التي تلد العمل الفني؛ فإذا لم نكظم الحب فإننا لن نؤلف عنه الشعر، وإذا لم نُحِسَّ العجز في حياتنا الشخصية فإننا لن ننشد التفوق الاجتماعي أو الفني، وإحساسنا بالضعف يحملنا على أن نتقوى بالرياضة البدنية أو الذهنية.

ولذلك يجب — إذا استطعنا — أن نعرف حياة المؤلف وظروفه العائلية، كي نصل إلى الجذور التي جعلتْه يتخذ أسلوبًا دون آخر؛ لأن هذا الأسلوب هو أخلاقه التي تعلمها أو اضْطُرَّ إلى اتخاذها منذ صباه، والأغلب أيضًا أن الهدف الذي نصبه لنفسه قد تَعَيَّنَ منذ صباه، ولا بد أن الصورة التي اتخذها هذا الهدف قد اختلفت من الصورة التي كان يرسمها لنفسه أيام الصبا، ولكن هذا الاختلاف لم يكن في النوع، وإنما كان في الدرجة واللون فقط؛ أي: كان الاختلاف فنيًّا.

ومن هنا قيمة الترجمة الذاتية يكتبها المؤلف عن حياته، وهو بالطبع لن يقول كل شيء، ولكنه يرسم لنا المراحل الزمنية والبيئية التي تنتمي إليها مبادئه وأهدافه، وقد تكون القصة التي يؤلفها بخياله أصْدَقَ من ترجمته التي يَذْكُر فيها حقائق حياته؛ ذلك لأنه يُحِسُّ من حرية البَوْح والاعتراف في القصة الخيالية ما لا يُحِسُّ في الترجمة الذاتية.

إن سيكلوجية فرويد تُسَمَّى «سيكلوجية الأعماق» لأننا نتعمق الشخصية ونحاول أن نَرُدَّ ما فيها من تفوُّق أو تخلُّف، أو اتجاه سديد أو انحراف سيئ، إلى العوامل الأولى أيام الطفولة، وإلى المركبات النفسية الخاصة، وإلى مَحَابٍّ ومَكَارِهَ قد رسخَتْ، حتى لم يَعُدْ في المستطاع التخلص منها، ويمكن أن نتعرف أسلوب الكاتب وهدفه إذا تعمقنا نفسه وهبطنا على المشكلات القديمة التي كانت تشغله أيام صباه.

ونستطيع مثلًا أن نعرف كثيرًا عن المؤلف إذا نحن تأملنا الكلمات التي تتكرر في مؤلفاته؛ لأن هذا التكرار لا يأتي عبثًا، ذلك أننا حين نحب شيئًا نلهج به، ولهجتنا تدل على اتجاهنا.

وكذلك نستطيع أن نعرف الكثير عنه، حين نتأمل المجازات والاستعارات التي يؤثرها على غيرها؛ لأنها أحلامه التي تنْبُع من نفسه، وليست أحلام النوم عندنا سوى مجازات واستعارات مقلوبة، بحيث نُكْسِب الهدف المعنوي تعبيرًا ماديًّا كأن أطير نحو السماء عندما أُعَبِّر عن تشوقي إلى الرقي أو إحساسي به، أو أسقط من الشرفة حين أُعَبِّر عن سقوطي الاجتماعي.

فنحن هنا إزاء رموز تجري في الأحلام وتَدُلُّ على مشكلاتنا الشخصية، ولكنَّ للأديب أيضًا رموزًا تجري على قَلَمِهِ وهي تنبع من أعماق نفسه، وتكراره لها يدل على سلوكه ونَظْرَتِهِ للمجتمع والحياة.

ثم النزعة العامة في مؤلَّفاته تُوَضِّح لنا مَوْقِفَه من المشكلات الاجتماعية والسياسية.

ولكن هذه «الأعراض» لن تكشف لنا شخصية المؤلف، ولن تفسر لنا اتجاهاته؛ إلا إذا عَرَفْنا حياته العائلية الأولى وموقفه الاجتماعي.

هل كان فقيرًا في طفولته وقد عَذَّبَتْه الفاقة؟

هل شقي في معيشته العائلية، وهل كابد قسوة من أبويه؟

هل هو ينتمي إلى الأقلية أم إلى الأكثرية في الشعب؟

هل نجح أم خاب في حياته المدرسية؟

مثل هذه الأسئلة تُنِيرُنا، إذا استطعنا أن نحصل على الإجابات الصحيحة عنها؛ أي: عن كثير من البواعث التي تبعث الفنان على اتخاذ اتجاه أو أسلوب معيَّن.

وهذا التعمق السيكلوجي للفنانين والمؤلفين، ودلالة حياتهم العائلية الأولى في إنتاجهم الأدبي أو الفني، وفي مذاهبهم الاجتماعية أو السياسية، لا يمكن أن نُحَقِّقَه إلا إذا كان هؤلاء قد اعتادوا التأليف عن حياتهم الشخصية، ومما يُؤْسَف عليه كثيرًا أن قليلين من أدباء العرب قد عَرَفُوا الترجمة الذاتية، ولو أنهم كانوا قد عرفوها ومارسوها لأنارونا عن عصرهم وبيئتهم وأوضحوا لنا العوامل التي كَوَّنَتْ مؤلفاتهم وفنونهم.

وفي عصرنا وبيئتنا المصرية لا تزال «الترجمة الذاتية» بعيدة عن الوجدان الأدبي، وهذا نقْص عظيم نأسف عليه نحن، كما سوف يأسف عليه أَكْثَرَ، أجيالنا القادمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤