الضمير

يجب أن نميز بين الوجدان والضمير؛ لأن بعض الكُتَّاب أوجدوا تميعًا سيئًا بين الكلمتين، فالوجدان هو أن أَجِدَ نفسي؛ أي: أُفَكِّر، وأُحِسُّ أني أفكر، فلا أنساق كالنائم أو الذاهل في عاطفة غالبة، فتفكير الحيوان هو تفكير العاطفة التي تسوقه، حتى لا يدري ما يفعل، كالكلب يضع أنفه إلى الأرض ويطلب الطعام، كأنه نائم أو حالم، أو كالذكر من الحيوان يطلب الأنثى فيجري خلفها كالمجنون لا يبالي أية عقبة.

فهنا نَجِدُ عاطفةَ تَحَرُّك الحيوان ولا نترك له مجالًا للوجدان؛ أي إنه لا يدري ما يفعل، ونحن أحيانًا نسلك هذا السلوك حين يطرأ علينا ما يغضبنا فننفجر ونثور؛ فإذا هَدَأْنَا وشَرَعَ أحد الحاضرين يلومنا على ما فعلنا أجبنا: «كنت متهيجًا، لم أَدْرِ ما فَعَلْتُ.»

وهذا السلوك العاطفي نراه كثيرًا في الأم عند وفاة ابنها، فإنها تهذي كأنها نائمة أو حالمة؛ فإذا ذَكَّرْنَاها بما فَعَلَتْ بعد ذلك بمدة لم تَذْكُر شيئًا.

ففي كل هذه الحالات وأشباهها نسلك سلوكًا ذاتيًّا أعمى كالحيوانات بلا وجدان؛ أي: لا ندري ما نفعل، ولا نفكر التفكير المنطقي الموضوعي الذي هو ميزة الإنسان الكبرى، وإن تكن هذه الميزة مقصورة على أوقات قليلة من حياتنا الفكرية، وبدهي أن الوجدان يؤدي إلى شيئين:
  • (١)

    التفكير الحسن القائم على اعتبارات موضوعية منطقية.

  • (٢)

    الضمير؛ أي إننا نُحِسُّ المسئولية الاجتماعية ونتقيد باعتباراتها.

نقول: إن الوجدان يؤدي إلى المنطق وإلى الضمير.

والمنطق تفكير محض قد لا يداخله أي اعتبار أخلاقي.

ولكن الضمير تفكير اجتماعي تَدَاخَلَهُ الاعتبارات الأخلاقية.

ونحن حين نعيش في مجتمع ننتهي إلى الأخذ بمقاييسه ومثلياته بإيحاء القدوة وباللغة التي يتكلم بها أفراده؛ إذ تتعين لنا القيم بكلمات هذه اللغة، ولهذا السبب لا يزيد الضمير على مستوى المجتمع الذي نعيش فيه، إلا إذا كان الشخص فذًّا يستقل في تفكيره ويرى رؤيا لا يراها الأفراد العاديون، كما هي الحال في الثائرين والمصلحين والأنبياء والقديسين؛ فإن ضميرهم يسمو على المجتمع؛ لأنهم يتخيلون مجتمعًا راقيًا له مقاييس أخرى.

والضمير هو في جميع الحالات صراع يَضْعُف أو يقوى بين عاطفتين أو أكثر، فهو صراع بين الأنانية والغَيْرية؛ أي: هل نُؤْثر مصلحتنا الذاتية وإن يكن بها ضَرَرٌ لغيرنا، أو نؤثر مصلحة هذا الْغَيْر أيضًا فنسلك السلوك السوي بين المصلحتين؟ أي إن الضمير صراع بين الأنانية الذاتية وبين واجبات المجتمع، وبدهي أن رجلًا يعيش وحده بعيدًا عن الناس لا يمكن أن يكون له ضمير؛ لأننا بالضمير نطالبه بأن يكون صادقًا نبيلًا كريمًا مغيثًا للملهوف تقيًّا يعرف المروءة ويتجنب الغش والفسق والخداع والكذب، ولكن ما دام يعيش وَحْدَه كيف يمكنه أن يمارس ما نطالبه به ولمصلحة مَنْ يَفْعل هذا؟

فالضمير اجتماعي؛ أي إنه الصورة التي يُقَدِّمها المجتمع لنا كي نعيش ونسلك على رسمها؛ ولذلك يختلف الضمير من أمة لأخرى، فضمير المرأة في سيلان أو تِبِتْ لا يؤلمها عندما تتزوج جملةَ رجال في وقت واحد، في حين نحن نشمئز من هذا السلوك، بل إن الضمير يتغير عندما تتغير الظروف؛ فإننا نستنكر القتل في الشارع أو البيت، ولكنا نجيزه للجندي في المعركة أو للطيار فوق المدينة.

ومع أن المجتمع الذي نعيش فيه يُعَمِّم بيننا قيمًا اجتماعية وأخلاقية؛ فإننا ننقسم طبقات وطوائف دينية أو ثقافية؛ ولذلك تختلف ضمائرنا؛ فالفلاح الأجير لا يُدْرِك من معنى الحرية ما يدركه عضو في هيئة سياسية مكافحة، وفي مديريَّتَيْ قنا وسوهاج نجد أفرادًا بضمائر يدوية تنشد الفضيلة بالانتقام والثأر، ويُحِسُّ هؤلاء الأفراد وَخْزًا في ضمائرهم عندما يهملون الانتقام والثأر.

وحين نقول: «رجل ليس له ضمير» إنما نعني بهذا القول أن غرائزه الانفرادية قد تَغَلَّبَتْ على غرائزه الاجتماعية، وكثير من الإجرام يعود إلى هذا الاتجاه، والغرائز الانفرادية؛ أي: تلك التي تبعثنا على أن ننشد مصالحنا الخاصة دون مراعاةٍ لمصالح المجتمع، هي أقدم غرائزنا وأثبتها في كياننا النفسي؛ أي إنها الحيوان الذي لا يزال حيًّا فينا، وهي فطرية لا تحتاج إلى تعليم وتربية، أما الغرائز الاجتماعية فجديدة، ولذلك نتعلمها من المجتمع بالقدوة والدين والعادات واللغة والكتاب والمدرسة، ولهذا السبب نَجِدُ أن الحيوان الاجتماعي يمتاز بضميرٍ ما؛ لأن الاجتماع يَضَعُه بَيْن اختيارين يُحْدِثان له وجدانًا — هو بالطبع دون وجداننا بكثير، ولكنه؛ أي هذا الوجدان — يحمله على أن يُقَدِّرَ مسئوليته أمام المجتمع كي يُقَدِّر مصلحته الذاتية.

انْظُر إلى الكلب وأنت تأكل؛ فإنه يشره إلى الطعام ولكنه يُحْجم لأنه يخاف، وهو في هذا التردد بين الشره والخوف يَحْدُث له وجدان يُحَرِّك ذكاءه ويجعله يُحِسُّ بالمسئولية، والكلب حيوان اجتماعي يعيش معنا ويصادقنا، ونحن — في منطقه الكلبي — كلاب مثله، ولكن انظر إلى القط الذي لا يتأخر عن خطف ما في الطبق إذا جاع، والقط بالطبع حيوان انفرادي، يعيش في بيوتنا ولكنه لا يشترك معنا في عواطفنا؛ فإذا خرجنا لم يتبعنا، وإذا دخل علينا غريب لم يهاجمه كما يفعل الكلب؛ ولذلك نحن نعجز عن تعليم القط السلوك الاجتماعي الذي يوافقنا، ولكنا ننجح مع الكلب في هذا التعليم.

ونحن والكلب من الحيوانات الاجتماعية التي نجد فيها بذرة الضمير، ولكن يجب ألا نفهم من هذا أن الضمير يتكون بالفطرة؛ فإن نظرة عاجلة في أنحاء العالم تدل على أنه ليس كذلك، وأنه يكسب بالتعليم، وأن ما نَعُدُّه رذيلة في أُمَّة قد يكون فضيلة في أخرى، كظاهرة الضمد (زواج المرأة جملة رجال) التي قلنا إنها شائعة في سيلان وتِبِتْ.

والضمير مؤلف من ثلاث ذوات:
  • (١)

    الذات البيولوجية؛ أي: ما وَرِثْنَا من الحيوانات في الملايين من السنين الماضية، وهي أَحَطُّ ذواتنا التي نطلب بها حاجتنا البدائية؛ كالطعام والأنثى والسيطرة، ولكنها مع انحطاطها أثبت ذواتنا ودوافعها أقوى الدوافع عندنا؛ لأنها غرائز وشهوات، وهي كامنة في الأكثر وجدانية في الأقل.

  • (٢)

    الذات الاجتماعية، وهي مؤلفة من التقاليد والعادات والأفكار الاجتماعية التي نستخدمها لمصلحة الذات البيولوجية السابقة دون مخالَفة للمجتمع الذي نعيش فيه، وهي وجدانية في الأكثر كامنة في الأقل.

  • (٣)

    الذات العليا التي تتألف من الدين والأخلاق والمثليات، التي تحملنا على أن نُنْكِرَ على أنفسنا بعض المباهج، ونحن نَكْسِبها في الطفولة من الأبوين، ولكننا ننقحها بعد ذلك.

وضميرنا مؤلف من هذه الذوات الثلاث، ولكن الذات الأولى تتغلب في المجرم وتجعله أنانيًّا لا يبالي المجتمع، في حين أن الذات الثانية تتغلب في الإنسان العادي الذي لا ينحط ولا يرتفع، أما الذات الثالثة فتمتاز بها الصفوة في الأمة، ووَخْز الضمير هو في النهاية الألم الذي نُحِسُّه للصراع القائم بين هذه الذوات الثلاث في أنفسنا، والضمير السليم هو الذي تتغلب فيه الذات الثالثة على الذاتين الأُولَيَيْن، أو على الأقل تتغلب فيه الذات الثانية على الأولى.

ونستطيع أن نقول بعبارة أخرى:

إن ضمير المجرم في الأغلب مُؤَلَّف من الذات الأنانية العاطفية التي يجري نشاطها الأكبر في الكامنة.

ضمير الرجل العادي في الأغلب مُؤَلَّف من الذات الاجتماعية العاطفية أو الوجدانية.

والرجل السامي مؤلف من الذات الوجدانية المثقفة، وإن كانت جذور هذه الذات ترجع إلى الإعجاب بالأب أيام الطفولة واتخاذ أسلوبه باعتباره البطل الذي نحب أن نقتدي به.

ولكن ليس فينا واحد، ولا واحد، إلا وهو مؤلف من الذوات الثلاث التي تتداخل وتندغم في نفسه وتكون له ضميرًا، وإذا اخْتَلَفَ أَحَدُنا من الآخر فالاختلاف درجي، وليس نوعيًّا، في تَغَلُّبِ أو زيادةِ إحدى الذوات على الأخرى.

وهنا يجب أن نعرف كلمةً هي «التسويل»؛ فإن النفس تُسَوِّلُ؛ أي: تُسَوِّغ أحيانًا، نوعًا من السلوك المنكر بتعليلات وتدليلات وجدانية، حتى يهدأ الضمير ونقبل على عملٍ، ما كنا لِنُقْبل عليه لو كان وجدانُنا سليمًا وكانت ذاتُنا العليا متغلبة على الذاتيين الاجتماعية والأنانية، كما نفعل مثلًا حين نقول: إن الغاية تبرر الوسيلة، فنُعَذِّب الحيوانات كي نصل إلى استنتاج علمي، أو حين يعمد الطيار في الحرب إلى إلقاء القنابل على المدينة في ظلام الليل فيقتل الرجال والنساء والأطفال، وهو يبرر هذا بأن الوطنية تقتضيه وأن السِّلْم سيتم في النهاية، وكثيرًا ما نعمد نحن إلى التسويل في حياتنا العائلية، كما نفعل حين نضرب الأطفال بحجة تعليمهم، مع أن الضرب قد لا يعني في هذه الحال أكثر من تغليب عاطفة الغضب على تعقل الوجدان.

والضمير الحسي عامٌّ لا يخلو منه — بل لا يخلو تمامًا — إلا المجرم المجنون؛ أي: الذي نستطيع أن نُعَلِّل جريمته بالنيوروز أو السيكوز، ولكن الضمير العقلي قليل جدًّا، وهو يحتاج إلى الذات العليا التي ذكرناها؛ فإن أي واحد منا لو طُلِبَ إليه أن يَقْتُل إنسانًا لَرَفَضَ، ولكنا لا نبالي قَتْل الجماهير في الهند، وعندما نقرأ هذا الخبر في الجرائد ننساه بسرعة؛ لأن ضميرنا في الحال الأولى يقوم على الحس، أما في الحال الثانية فيقوم على التصور بالعقل؛ ولذلك يمكن أن نقول: إن هناك الضمير الذكر الذي يتأثر ويتفرز للحوادث البعيدة الغائبة عن الحس، كما أن هناك الضمير البليد الذي لا يتحرك إلا عندما تتحرك الحواس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤