العاطفة والوجدان

نستطيع بعد أن بلغنا هذه المرحلة من الكتاب أن نعود إلى هذا الموضوع بزيادة في التوسع.

فنحن البشر نواجه هذه الدنيا بثلاثة رجوع تؤدي إلى التفاهم بيننا وبين الوسط:
  • (١)

    الرجع الانعكاسي: كالضوء يفاجئني بعد الظلام فأغمض عيني، أو النار تلامس يدي فأجذبها، فهنا رجع يحملني على تَصَرُّف معيَّن هو الإحجام أو الهرب، كما أني أرى الطعام وأنا جائع فيجري لعابي، فهنا استجابة تحملني على الاقتراب والأكل.

    وهذا الرجع قد يكون مباشرًا أو معدولًا؛ أي: مكيفًا، قد نُقِلَ من أصله إلى شيء آخر يتصل بالأصل، ونحن في هذا الرجع المباشر نشترك مع أَحَطِّ الحيوانات كالإسفنج، ولكننا نمتاز بأننا — وبعض الحيوانات العليا — نستطيع نقله من أصله كالجرس يدق فيجري لعاب الكلب لأنه تعوَّد وَضْع الطعام له مع دَقِّ الجرس، فصار الدق وَحْده يُجْرِي لعابه ويُذَكِّره بالطعام.

    وهناك السيكلوجيين، مثل بافلوف وواطسون، من يقول: إن كل نشاطنا الذهني (النفسي) هو رجوع معدولة؛ أي: مكيفة، ولكن هذا القول يعني في النهاية أن كل تفكيرنا إنما هو ذاكرة لا أكثر.

  • (٢)

    ثم هناك الرجل العاطفي حين اشمئز من منظر يغثي النفس في الشارع، وهناك الاستجابة العاطفية حين أدخل الدار السينمائية وأَلْتَذُّ برؤية الاقتحامات والأشخاص.

    وقد يقال هنا: إن العاطفة هي الرجع الانعكاسي، ولكن قليلًا من التأمل يبين أن الرجع الانعكاسي مفاجئ سريع زائل كطرفة العين عند وقوع القذى بها، ولكن العاطفة بطيئة مثابرة كما يحدث حين أرى فتاة جميلة أتأملها ثم أذكرها بعد رؤيتها بيوم أو بشهر.

    وليس شك مع ذلك في أن أساس الرجع العاطفي هو الرجع الانعكاسي، ولكني في الرجع الانعكاسي أتحرك بسرعة، وأَفِرُّ أو أقبل فلا أفكر، ولكني في الرجع العاطفي أتريث، وفي تريثي أجد الفرصة للرؤية والتفكير.

    وصحيح أننا عندما نتأمل حيوانًا حتى من الحيوانات العليا يواجه أنثى لا نعرف هل هو يستجيب إليها استجابة انعكاسية أو عاطفية، وحياتنا الحضارية قد أفسدت علينا هذا التمييز؛ لأن رجوعنا العاطفية والانعكاسية قد صارت بالحضارة معدولة، أي: مكيفة؛ أي: صارت مُرَكَّبات، ولكن يجوز لنا أن نقول — دون أن نبتعد كثيرًا عن الحقيقة: إنه كلما انحط الحيوان صارت مواجهته للدنيا انعكاسيةً؛ فإذا ارتقى صارت هذه المواجهة عاطفية تتيح ببطئها ومثابرتها شيئًا من التفكير.

    والمقارنة هنا تشبه المقارنة في شأن الذاكرة؛ فإن لنا ذاكرة بدائية نحس بها حين نتأمل مصباحًا مشتعلًا ثم نغمض العين، فتبقى صورته مائلة لا نندثر إلا بعد دقيقة أو نصف دقيقة، وواضح أن ذاكرة كثير من الحيوانات لا تزال في الغالب باقية على هذا المستوى أو تزيد قليلًا، ولكن ذاكرتنا نحن قد تجاوزت هذا المستوى إلى أني أستطيع أن أدرس العلوم والفنون، وأَذْكُر حادثًا مضى عليه أربعون أو خمسون سنة.

    فالذاكرة البشرية — على مثابرتها السنين الطويلة — تعود مثلًا إلى الذاكرة الضفدعية أو السمكية على زوالها بعد دقيقة، وكذلك الرجع العاطفي في الإنسان يعود مثلًا إلى الرجع الانعكاسي في السمك.

    أجل. إن الأصل واحد، وما زلنا نتلمس هذا الأصل فنجده، ولكن ما أعظم الفرق! ثم هذا الفرق لم يعد كميًّا فقط، بل صار نوعيًّا؛ لأن الانتقال من الرجع الانعكاسي السريع الزائل إلى الرجع العاطفي المثابر الباقي قد أتاح التفكير.

  • (٣)

    ثم نحن البشر نواجه الدنيا بشيء ثالث؛ ليس هو الرجع الانعكاسي، وليس هو الرجع العاطفي، بل هو الوجدان.

وهنا يثب علينا بافلوف وواطسون ويقولان: ما هو الوجدان؟ أليس هو جملة رجوع انعكاسية معدولة؟ ألغوا هذه الكلمة «وجدان»؛ لأننا ليس عندنا ما نواجه به الدنيا سوى الرجوع الانعكاسية.

ولكن هل نستطيع إلغاءها؟

إني أؤلف هذا الكتاب الذي تقرأه بوجدان اجتماعي ثقافي، وأستطيع أن أحلل البواعث التي وصلت بي إلى مقعدي هنا أمام مكتبي، وأقف على الرجوع الانعكاسية أو العاطفية المعدولة؛ أي: المكيفة التي بعثتني على التأليف، ولكن ماذا في هذا؟

إن القول بأن وجداني هو مجموعة من الرجوع الانعكاسية، كالقول تمامًا بأني لست مؤلَّفًا من لحم وشحم ودم وعظم، إنما أنا مؤلَّف من كربون وهيدروجين وأوكسجين وحديد وفسفور وصوديوم، إلخ.

إن الماء مؤلف من هيدروجين وأكسجين، ولكن خصائص الماء ليست خصائص هذين العنصرين، ونحن هنا لسنا إزاء إضافة وجمع يساويان كَمًّا، وإنما نحن إزاء إضافةٍ وجمع يساويان كيفًا؛ أي: انبجاسًا جديدًا لم يكن للحي به عهد من قبل.

في الأصل رجوع انعكاسية موضعية لا تتيح التفكير لسرعة زوالها.

ثم رجوع انعكاسية قد صارت عواطف عامة بطيئة مثابرة فأتاحت التفكير وهذا انبجاس جديد، وهو تفكير ذاتي انفعالي ولكنه تفكير نشترك نحن والحيوان فيه.

ثم عواطف مباشرة أو معدولة قد تجمَّعَت في الإنسان، فلم يكن حاصل تجمعها زيادة الكم، بل كانت انبجاسًا جديدًا في الكيف فأحدثت الوجدان.

والخطأ الأصلي عند بافلوف وواطسون أنهما يخلطان بين العادات الجسمية والنفسية وبين التفكير الوجداني، فأنا أشرب الشاي كل يوم برجوع انعكاسية كَوَّنَتْ عندي عادة ليس فيها تفكير، ولكني أكتب هذا الكتاب بوجدان أحاول فيه أن أتخلص من عواطفي وأن أفكر التفكير الموضوعي المنطقي، وهناك بلا شك عادات ذهنية كثيرة، غير العادات النفسية، تعود إلى انعكاسات أو عواطف، وكذلك ليس شك في أن كثيرًا بل كثيرًا جدًّا من تفكيرنا يعود إلى عواطفنا ورجوعنا الانعكاسية، وهذا هو التفكير الذاتي أو الانفعالي.

وقد سبق أن قلنا: إن معظم أخطائنا في التفكير يعود إلى أننا ننظر ونفكر بالنظر والتفكير العاطفيين، ومن شأن التفكير العاطفي أنه يتحيز جزءًا من كلٍّ فإذا تغلبت على عاطفة الجوع فكَّرْتَ في الطعام فقط، فأنا هنا ذاتي انفعالي في تفكيري، ومجال هذا التفكير صغير، ولكن التفكير الوجداني يحملني على خمسة أو ستة اعتبارات، مثلًا قيمة الإقلال من الطعام حتى لا يثقل عليَّ فأنعس، ومثل تجنب اللحم لأن أحماضه كثيرة، ومثل تجنب الملح لأنه يزيد الضغط، ومثل ضرورة البطء في الأكل للمؤانسة، ومثل تأمل الآنية الجميلة للذة الفنية، إلخ.

فكل هذه اعتبارات اتسع بها مجال التفكير، وصحيح أنها مؤلفة من عواطف مختلفة، ولكن تَجَمُّع هذه العواطف لم يؤد إلى جَمْع وإضافة فقط، بل أدى إلى تفكير كَيْفِيٍّ هو الوجدان، فصار تفكيري موضوعيًّا منطقيًّا واسعًا بدلًا من أن يكون عاطفيًّا انفعاليًّا فقط، كما أن تجمع الأكسجين والهيدروجين لم يؤد إلى جَمْعٍ وإضافة فقط، بل أدى إلى تغيُّر كيفي بإيجاد الماء.

حين تسودني العاطفة يكون تفكيري تسليميًّا. كالمحب يسلم بجمال حبيبته تسليمًا أعمى، وكالجائع يأكل أي شيء، ولكني حين تسودني الوجدان أنتقد وأحلل، والاختراع والاكتشاف كلاهما من الوجدان.

التفكير العاطفي يسير عفوًا، بل أحيانًا قسرًا لا تملك رده كما يحدث في أحلام اليقظة؛ أي: الخواطر السائبة، أما التفكير الوجداني فيسير بإرادتنا، نوجهه كما نريد، وعندما تمرض النفس يغيب الوجدان، وترتد إلى التفكير العاطفي القهري الذي لا تستطيع التخلص منه، ونحن نرث غوغاء من الشهوات والعواطف نتعلم في المجتمع كيف نتسلط عليها وننظمها ونعبئها جنودًا في خدمة الوجدان، وعلى قدر نجاحنا في هذا التسلط أو التنظيم تكون سلامتنا النفسية وتصرفنا الحسن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤