الذاكرة والتخيل

في الفصل الأسبق حاولنا أن ننتقل من تفكير العاطفة الحيواني إلى تفكير الوجدان البشري، وقلنا: إن الوجدان يشبه أن يكون مجموعة من العواطف تحملنا على مواقف التردد والاختيار، فتنتقل بهذا الموقف من الانفعال إلى الوجدان.

ولكن هنا ثغرة تستحق الملء هي الذاكرة، وقد سبق أن أومأنا إلى منشأ الذاكرة حين أشرنا إلى رسم المصباح يبقى في العقل بعد إغماض العين نحو دقيقة أو أكثر، فنحن:
  • (١)

    نذكر المصباح دقيقة أو أكثر بعد إغماض العينين.

  • (٢)

    ونتخيل المصباح دقيقة أو أكثر بعد إغماض العينين.

فمن هنا نعرف أن الذاكرة هي الأصل للتخيل، وما دمنا نذكر ونتخيل فإننا نفكر؛ أي إننا ونحن في خلوة نستعيد الصور؛ أي: نتذكرها ونتخيلها، ولكننا لا نتذكرها كما لو كانت صورًا فتوغرافية طِبق الأصل؛ لأننا نسلط عليها عواطفنا، فنختار منها ما نحب استعادته لأنه يسرنا مثلًا، ونستبعد ما نكره منها لأنه لا يسرنا؛ ولذلك نحن نهدف من التذكر والتخيل إلى غاية، فنختار هذه الصورة وننبذ تلك الأخرى، وهذا نوع من الاختراع؛ لأننا نؤلف صورًا مختارة نجد فيها خيالات نرغب في استدامتها، ونحن نحرك هذه الصور ونخلطها، أو نغير ما فيها طبقًا لغاية.

ونكاد نقول: إن التذكر هو الأصل في الحياة؛ لأننا ننمو — سواء أكُنَّا من الحيوان أم من النبات — بالذاكرة، ولا عبرة بأننا ندري بهذه الذاكرة أو لا ندري؛ أي: لا عبرة بأننا على وجدان بهذه الذاكرة، أو هي كامنة فينا لا ندريها، إنما الواقع أننا لا نستطيع أن نفر من الفرض الذي يُحَتِّم علينا بأننا ننمو من الجنين إلى الطفل إلى الصبي إلى الشاب إلى الشيخ بذاكرة عضوية موروثة، كذلك نحن نَرْضَع في الطفولة بذاكرة؛ أي: ما نُسَمِّيه غريزة إنما هو ذاكرة، بل إن قصة التطور هي في النهاية قصة الذاكرة النوعية؛ أي: ذاكرة النوع البشري أو غيره من أنواع الحيوان والنبات.

فالوراثة والغريزة البيولوجيتان في الحيوان والنبات كما نراهما في النمو والسلوك إنما هما ذاكرة كامنة غير وجدانية.

والذاكرة البشرية التي نتعلم بها إنما هي أيضًا من هذا الطراز؛ أي: لا تختلف من الوراثة والغريزة، والذاكرة عندنا — كما قلنا — تؤدي إلى التخيل والتوهم؛ أي إنها تؤدي في النهاية إلى التفكير بالعاطفة أو بالوجدان، ونحن نعرف من اختباراتنا أننا حين نستلقي مثلًا بعد الغداء، ونسترخي ونشرع في الخواطر؛ أي: أحلام اليقظة، إنما نبدأ هذه الخواطر أو الأحلام باستذكار حادثة سابقة تتسلل لنا منها خيالات وصور فنأخذ في تحسينها؛ أي: تحسين هذه الخيالات والصور، وهذا يدلنا على أننا نستذكر حادثة ماضية دون غيرها؛ لأن لنا هدفًا منها، هو هذا التحسين. كأننا نقول: ما هو السلوك الأمثل الذي كان ينبغي في هذه الحادثة؟ وإذا ترجمنا هذا إلى الغاية الهدفية فنقول: ما هو السلوك الأمثل لي إذا عادتْ مثل هذه الحادثة؟

وقد سَبَق أن قلنا: إن الوجدان هو مجموعة من العواطف المتضاربة التي تحملني على وقفة التردد والاختيار، فلا أنساق منفعلًا في عاطفة واحدة، والآن نقول: إن أداة الوجدان في الاختيار هي الذاكرة التي تحملني على التخيل والتوهم، فأحقق هذا الاختيار بالمقارنات بين ماضي اختباراتي وبين الظرف القائم، ولي هدف في كل ذلك هو التزامُ ما يسرني وتجنُّبُ ما يؤلمني.

ولكننا هنا نحتاج إلى التنبيه بأن الذاكرة ليست كالعادة؛ لأني وأنا أمارس العادة لا أحتار، ولكني في الذاكرة أحتار، والعادة آلية جامدة لا تقبل التنقيح والتغيير، ولكن الذاكرة حيوية هدفية؛ أي: ترمي إلى غاية.

العادة مثل غسل الوجه أو شرب الشاي مجموعة من الرجوع الانعكاسية أو العاطفية التي تتكرر بلا تنقيح أو اختيار.

ولكن الذاكرة تخيُّل وتوهُّم وخواطر تؤدي جميعها إلى تفكير يختار هذا وينبذ ذاك من الخيالات والخواطر، وقد يكون هذا التفكير عاطفيًّا، ولكنه قد يكون أيضًا وجدانيًّا موضوعيًّا.

ويمتاز الإنسان على الحيوان امتيازًا عظيمًا؛ لأن ذاكرته أطول وتخيُّله أَوْسَع باللغة التي تُزَوِّد الفرد بذكريات ثقافية تتسع بها آفاق وجدانه الزمني والجغرافي.

وعندما نتأمل الخيالات والصور التي نؤلفها من ذكرياتنا الماضية نجد أنها تأليف جديد لا يتقيد بالرجوع الانعكاسية «التي يقول بها واطسون وبافلوف»؛ ذلك لأننا نؤلف ونخترع ونَزِيد ونَنْقص وننقح ونغير، ويجري كل هذا على أسلوب كُلِّيٍّ غير تفصيلي؛ أي إننا في التخيل نأخذ بالكليات لا الجزئيات.

وهنا نذكر كوهلر صاحب مذهب الكلية الطرازية أو «جيشتالت» الكلمة الألمانية التي يتبعها لهذا المعنى، فقد وجد أن السيكلوجية التي تقول بأن الفهم ينشأ من مجموعة الانعكاسات ليس صحيحًا؛ فالطفل الذي يرى الكلب لا يجمع اختباراته له ويكون فَهْمُه له جزءًا بعد جزء، فيعرف الذنب ثم الوجه ثم الأقدام ثم يتحسس الشعر، ويجمع هذا كله إلى الصوت والرائحة، إلخ، وإنما هو يدرك صورة كلية مجموعة من الكلب لأول ما يراه، وهذه «الكلية» هي شرط أساسي في الفهم، فنحن عندما نسمع لحنًا لا نأخذ في تحليله إلى أنغامه المؤلف منها كي ندركه كلًّا كاملًا، والصورة التي نراها لا نحاول عندما نريد تفهُّمها إلى تقسيمها أجزاء نفهم منها الجزء بعد الجزء، وإنما نفهمها كلها.

وهذه هي طبيعة الفهم عندنا، حتى إنه إذا رسم أحدٌ منا مثلثًا ناقصًا أكملناه — ونحن ننظر إليه — في ذهننا، فطبيعة أذهاننا أن نفهم الأشياء بكلياتها وليس بأجزائها.

وهنا نجد فرقًا واضحًا بين «جيشتالت» وبين التحليل الذهني؛ فإن «جيشتالت» تقول: إن تحليل الفكرة إلى أجزائها خطأ؛ لأننا عندما نفكر نعمد إلى ذلك بالكليات وليس بالأجزاء، ثم بين «جيشتالت» وبين السلوكية فرق آخر، وهو أن الثانية تقول: إن كل ما نتعلمه هو استجابات ميكانية نخطئ ونصيب فيها، حتى نقع على الصواب فنلزمه ونتجنب الخطأ، ثم يتكرر الصواب فيصير عادة، ولكن «جيشتالت» تقول بأننا نفهم المسائل بطبيعة أذهاننا؛ لأننا نستحضر منها كلًّا منظمًا فنحل المسألة الواقعة أمامنا بالعودة إلى ما يَتَوَهَّمُه ذهننا من «تنظيم كلي».

وقد أجرى كوهلر وغيره تجارب مع القردة العليا تثبت هذا «التنظيم الكلي» فقد وضع موزًا خارج القفص، وكان بالقفص قرد وعنده عصوان قصيرتان، ولكن يمكن إذا تَدَاخَلَتَا أن تطولا وتعودا عصًا واحدة، فعدما حاول القرد أن يصل إلى الموز بالعصا ووجد قِصَرَها جمع العصوين وقَعَدَ بعيدًا عن الموزة، ثم لعب بالعصوين حتى أدخل طرف الواحدة في طرف الأخرى فطالت، واستطاع بذلك أن يجذب الموزة من خارج القفص.

فهنا نجد أن القرد لم يفكر تفكيرًا ميكانيًّا عن عادات واستجابات سابقة قد تعلمها بطريقة الخطأ والصواب، وإنما هو تَخَيَّل المسألة أمامه كاملة تامة، ثم شرع يخترع الطريقة التي يحقق بها خياله، وهذا هو ما نفعله نحن أيضًا كلما فَكَّرْنا في حل مسألة، نتوهمها محلولةً ثم نعود فنتوسل إلى الحل بذرائع مختلفة، وهذه بالطبع خلاصة قصيرة جدًّا لجيشتالت، ولكنها تعطي القارئ فكرة عامة عن هذه السيكلوجية التي يجب أن توضع جنبًا إلى جنب مع التحليل النفسي ومع السلوكية في فهم التخيل (التصور) أي: التفكير الذهني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤