الزيغ الجنسي

شيوع الأمراض النفسية في الأفراد هو برهان على أن المجتمع نفسه سيئ؛ لأن هذا الشيوع يدل على كظوم كثيرة لا يطيقها الأفراد، ولذلك يقعون ضحايا لها بالشذوذ، ثم النيوروز، ثم السيكوز.

والنزوع الجنسي هو كل شيء عند فرويد — مؤسس التحليل النفسي — أي إنه يعتقد أن كل نوازعنا وأمراضنا تقريبًا تعود إليه، وإلى ما أحدث من مركبات جنسية بين الطفل وأمه، وهو يرى أن الاشتهاء الجنسي يغمر الطفل حتى وهو يرضع، ولكن هذا الاشتهاء عنده ليس مركزًا في بؤرة كما هي الحال عند الكبار؛ إذ هو مُعَمَّم مُبْهَم يشيع في أنحاء جسم الطفل، فهو يرضع مثلًا فيما يشبه اللذة الجنسية كما أنه يلتذ الاحتكاك.

وتبدأ الشهوة الجنسية تتجمع عنده في بؤرة هي الأعضاء التناسلية حوالي سن الثامنة، فتتنبه الأعضاء، وأحيانًا يسوء حظ الطفل فيقع مثلًا في يد خادمة تزيد تنبهه بالعبث بهذه الأعضاء، وهذا التنبه يؤذيه عندما يبلغ الرابعة عشرة أو قبيل ذلك حين تعود نفسه إلى هذه الذكرى التي تركتها له الخادمة بالعبث فيقع في العادة السرية التي تبدأ عبثًا.

وفيما بين الثامنة والثالثة عشرة تقريبًا يعيش الصبي حياة غير جنسية، ثم يبدأ في المراهقة، والتنبه الجنسي يغمره بقوة وبطش، حتى لا يعرف كيف يتصرف، وهو لا يجد النصيحة أو الإرشاد؛ ولذلك يحار ويأخذ في مباشرة تجارب جنسية شاذة، فيقع في الشذوذ في هذه السن لطغيان العاطفة الجنسية، وللحرمان الذي يلاقيه في الوقت نفسه للجنس الآخر، والفصل بين الجنسين في مجتمعنا، بل في كل مجتمع آخر تقريبًا، هو السبب لهذا الشذوذ؛ ولذلك قد يقع المراهق في العادة السرية، أو يتعرف إلى الصبيان الذين في سنه أو أصغر منه تعرفًا جنسيًّا شاذًّا.

وهذا التعرف الشاذ هو — كما قلنا — ثمرة الحرمان، حتى إن كثيرًا من الحيوانات، وخاصة القردة، تعرفه وتمارسه، ولكن هذا الشذوذ يزداد إذا ازداد الحرمان، كما هو المشاهد في الأمم الشرقية، حيث الفصل بين الجنسين من التقاليد المرعية، والأدب العربي مليء بالتغزل بالصبيان لهذا السبب.

ولننظر أولًا إلى العادة السرية؛ فإنها تفشو بين ٩٥ في المائة من الشبان أو أكثر، وهي تبدأ في المراهقة حوالي سن ١٣ و١٤، وأولئك الذين تنبهت عندهم العاطفة الجنسية حوالي سن ٨ أو ٩ يقعون فيها بسهولة أكثر من غيرهم أيام المراهقة، ونعني بكلمة التنبه هنا أن الخادمة مثلًا قد لعبت بالطفل في هذه السن المبكرة فدربته على التحسس والعبث، وتركت في نفسه ذكرى هذه اللذة فيعود إليها في المراهقة، والشاب الانطوائي يقع في هذه العادة أكثر من الشاب الانبساطي؛ لأن الأول يؤثر الاعتزال أو الاعتكاف، وكلاهما يساعده على ممارسة هذه العادة، كما أنه يستسلم لخواطر اليقظة وهي تنبه العاطفة الجنسية، وكثير من الشبان يعيش فيما بين ١٣ و١٦ كما لو كان في شيزوفرينيا خفيفة له عالَم آخَر مؤلَّف من أحلام اليقظة التي يلتذها ويعيش فيها وهو بعيد عن الواقع.

وإذا كان الشاب يمارس العادة السرية في اعتدال فلا خطر منها، ونعني بكلمة اعتدال أنها لا تزيد عن ثلاث أو أربع مرات مثلًا في الشهر، أما إذا زادت فإننا يجب أن نعالجها بالوسائل التالية:
  • (١)

    أن نكسب ثقة الشاب المتهالك على هذه العادة بحيث يأتمننا ويصرح بكل ما يعمل.

  • (٢)

    ألا نبالغ في ضرر هذه العادة حتى لا يشيع الخوف عنده فيزداد قلقه؛ لأنه قد يبرأ من العادة ثم يقع في القلق وتتكاثر عليه الأوهام والوساوس بشأن صحته الجسمية وسلامته العقلية.

  • (٣)

    أن نحمله على اهتمامات وهوايات كثيرة تشغل فراغه، وأن نسخو له بالمال كي يشتري الكتب ليقرأ، ويقصد إلى السينما توغراف، ويتعلم الموسيقا أو الرقص أو الألعاب الرياضية، ويقضي إجازة أسبوع أو شهر في بلدة أخرى ونحو ذلك.

  • (٤)

    أن نخلق له نشاطًا اجتماعيًّا لذيذًا، بحيث يقضي معظم وقته وهو مع غيره، فلا يجد الفرصة للانفراد إلا قليلًا؛ لأن الانفراد يهيئ له الخواطر الجنسية التي تدفعه إلى ممارسة هذه العادة.

  • (٥)

    الرقص مفيد في هذه الحالات، إذا كانت الظروف الاجتماعية تسمح به؛ لأنه يعيد الشاب إلى الواقع، ويمنع الاسترسال في الأخيلة الجنسية، وقد وجدت أنا أن الشاب عَقِبَ الرقص يترك هذه العادة لِمَا يُحِسُّ فيها من خِسَّة ودناءة، وما يجد في الرقص من شهامة ورجولة.

  • (٦)

    يجب أن نذكر أن هذه العادة تتفاقم عند الشاب وقت الاغتمام والهزيمة كالخيبة مثلًا في الامتحان، وهي تَضْعُف وقت النجاح والسرور؛ لأنها لذة عابرة تخفف من الغم والانحطاط أو الكرب النفسي؛ ولذلك يجب أن نساعد الشاب على النجاح ونملؤه استبشارًا بالمستقبل.

وحوالي سن السابعة عشرة يخف إرهاق العاطفة الجنسية، بل هي قد تتشعب إلى استطلاع جنسي سليم، أو إلى استطلاع ثقافي أو اجتماعي أو علمي، وهذا حسن.

وهنك شذوذان آخران يقع فيهما الشبان:
  • أحدهما: الالتفات إلى الصبيان، وثد تثبت هذه العادة وتبقى إلى ما بعد الزواج، فتُحْدِث أذًى فادحًا في العلاقات الزوجية، كما أن العادة السرية قد تفدح أيضًا وتبقى إلى ما بعد الزواج، ولكن الأغلب أن الزواج يمحو هذه العادة، أما الاتصال بالصبيان فكثيرًا ما يعجز الزواج عن محوه من النفس، وقد يكون لهذا الشذوذ أصل عضوي؛ أي إن مرجعه ليس نفسيًّا فقط.
  • والشذوذ الآخر: هو التعرف إلى البغايا؛ فإن البَغِيَّ التي تُشْتَرى منها اللذة بالنقود تُعَامَل بغير حب أو صداقة أو احترام؛ ولذلك سرعان ما يتركها الشاب وهو مشمئز، والعادات الجنسية تثبت في النفس؛ ولذلك عندما يتزوج هذا الشاب يعامل زوجته بالسرعة والهرولة التي كان يعامل بها البغي، فتسوء العلاقة بين الزوجين؛ لأن الزوجة تغدو محرومة.

وعبارة «تثبت في النفس» يجب أن نقف عندها قليلًا في حديثنا عن الزيغ الجنسي، فقد يتعود الشاب مع الفتاة — التي يخشى على عذريتها — عادات الاحتكاك الخارجي، ويصل كلاهما إلى ذروة الشهوة الجنسية بالاحتكاك فقط، فتثبت هذه العادة فيهما، والفتيات يقعن في هذا «التثبيت» أكثر من الشبان؛ لأنهن يخشين الحمل، فيتعودن الاحتكاك الخارجي، وقد يكرهن بل يشمئززن من الاتصال الجنسي التام، وهذا زيغ له عواقبه السيئة الفادحة في الزواج، بل قد تقع الفتاة في «تثبيت» آخر هو أنها تجد اللذة والمتعة في المغازلة بالحديث والتقبيل والتجميش وتقف هنا، ولا تتنقل إلى مرحلة أخرى، بل ترفض في اشمئزاز هذه المرحلة الأخرى، وقد زادت القصص السينمائية هذا الاتجاه في الفتيات؛ لأن القصة تنتهي على الشاشة، بعد جهاد المحبين إلى القبلة، كأن القبلة هي المرحلة الأخيرة. مع أنها — في النظام النفسي الجنسي — ليست سوى إحدى الدرجات؛ وبذلك تعود المغازلة عند الفتاة كل شيء أو أكبر الأشياء؛ أي إنه يحدث «تثبيت» في القبلة.

وأفدح الأمراض الجنسية هي العنة؛ أي: العجز عن التعارف الجنسي، والعنة في المرأة جمود لا أكثر؛ أي إنها تقف الموقف السلبي في التعارف الجنسي، ولكنها قد لا تمانع، أما في الرجل فإن العنة تعني العجز عن إتمام التعارف الجنسي، ولهذه الحال أسباب كثيرة:
  • (١)

    نذكر في أولها اعتياد العادة السرية مدة طويلة؛ لأن هذه العادة تجعل معتادها يألف الأخيلة والخواطر الجنسية، حتى ينتهي إلى النفور من الواقع، ولكن ليست هذه الحال خطرة؛ لأنه سرعان ما ينسى هذه العادة عقب الزواج.

  • (٢)

    وكذلك اشتهاء الصبيان قد يحمل صاحبه على العجز عن التعارف الجنسي مع زوجته، وهذه العادة أثبت من العادة السرية، وأحيانًا لا يشفى صاحبها إذا كان السبب عضويًّا وليس نفسيًّا، ولكن هذا الذي يتعسر شفاؤه لا يبلغ واحدًا في المائة من هؤلاء الزائغين النفسيين.

  • (٣)

    قد تحدث العنة لأن الحب يتغلب على الشهوة، وهذا الكلام غريب على القارئ، ولكن قليلًا من التأمل يوضحه، فإن العروس قد تكون فائقة في الجمال، وعندئذٍ يحس العريس كأنه يعبدها، وهو عندئذٍ يرفعها فوق هذا الرجس؛ أي: الاتصال الجنسي؛ فإننا نشأنا على أن التعارف الجنسي نجاسة، وأن الطهارة تقتضي تجنبه؛ ولذلك عندما يشتد الحب يضعف الاشتهاء، وقد تحدث العنة لذلك، والعلاج سهل جدًا، وقليل من الإرشاد من أحد السيكلوجيين يزيل هذه العنة، ويَحْسُن أن يكون هذا قَبْل الزواج.

  • (٤)

    ويحدث كثيرًا أن تردد العريس قبيل الزواج وحيرته في اختيار الزوجة، هذه أو ذاك، يحدثان عنة تدوم ما دامت هذه الحيرة، وهي تزول بزوالها؛ أي: عندما يستقر على رأي.

  • (٥)

    يحدث للمتزوج عقب الزواج بسنة أو بعشر سنوات أو أقل أو أكثر، أن يصاب أيضًا بالعنة، وهذه الحال تعود إلى كراهةٍ قد استقرت في الكامنة، كأن النفس تحتج على هذا الزواج المكروه، أو تعتل بالعنة لتجنب الزوجة وإهانتها، وكثيرًا ما تكون الزوجة، بتصرفها السيئ، مسئولة عن هذه الحال.

هذه هي أهم الأسباب لهذه الحال التي يَعُدُّها العريس أو الزوج خطيرة، وهي في أغلب الأحيان في غاية البساطة والسهولة.

لا تزال هناك بعض ملحوظات بشأن هذا الموضوع نلقيها للقارئ بلا ترتيب، منها: الرجل أقدر من المرأة على الحرمان الجنسي؛ لأن اهتماماته الكثيرة تشغله، ولكن التزام المرأة لبيتها يحملها على اجترار الخواطر الجنسية في أحلام اليقظة، وفراغها كثير، ولذلك أحلامها هذه كثيرة، ثم إن الجنس اشتهاء وحب وأمومة عند المرأة، وهو أقل بالطبع من ذلك كثيرًا عند الرجل، والتغير الكبير الذي يعقب انقطاع الحيض عند المرأة يدلنا على أن للجنس قيمة فسيولوجية لها أكبر من قيمته عند الرجل.

يحمل مجتمعنا المرأة على أن تتجنب التفريج الجنسي، وهذا شأن كل مجتمع متمدن، مع أن الحال ليست كذلك في الرجل، ولهذا المنع أثر سيكلوجي آخر؛ لأنه ينتقل من التخصيص إلى التعميم، فكما أننا قد رأينا أن الحيرة في اختيار الزوجة تُحْدِث عنة قبل الزواج عند الشاب، كذلك يؤدي هذا المنع عند المرأة إلى انكفافها في النشاط مهما يكن نوعه وإلى تخلفها الاجتماعي.

الحرمان الجنسي مجهود كبير جدًّا، وهو يشبه مجهود الصائم الذي يفكر في الطعام ما دام جائعًا؛ فالمحروم يجتر الأحيلة الجنسية أكثر من المتزوج، وقد يقال: إنه سينسى بعد مدة طويلة هذا الاجترار الجنسي، ولكن إذا صح هذا فقد تأكد الضرر؛ لأن الحال الطبيعية السليمة أن الرجل لا يصح أن ينسى المرأة إلى حد الاستغناء التام، ويجب لهذا السبب أن ينظم المجتمع بحيث لا يطول هذا الحرمان.

الحرمان يضر النيوروزي أكثر مما يضر السليم.

وهناك بالطبع شذوذات جنسية أخرى أقرب إلى الإجرام منها إلى الشذوذ، كالرجل يضرب المرأة ويقسو عليها إلى حد الموت تقريبًا كي يؤدي الاتصال الجنسي، وقد يقتلها في هذا الاتصال، وعندما نتأمل الاتصال الجنسي عامة نجد أن فيه شيئًا من القسوة؛ لأنه في صميمه عدوان، والمريض النفسي يبالغ في هذا الاتجاه، حتى تصير قسوته قتلًا أو تعذيبًا بدلًا من أن تُتَّخَذ الصيغة المألوفة كالعض أو الإيلام الخفيف، وهذه القسوة تسمى «سادية» وأحيانًا تنعكس الصيغة فيكون الشذوذ رغبة في التألم، وهذا ما يسمى «المازوكية» كأن يطلب الرجل أن يضرب قبل الاتصال الجنسي، وهذا الميدان الجنسي يخصب للشذوذات الكثيرة، كالمجنون الذي يفتح القبر كي يفسق بفتاة ميتة، إلخ، وهؤلاء الشاذون يُسَمَّوْن «سيكوبائيين» أي إنهم سويون عقلاء في الحياة العامة، ولكنهم شاذون في هذه النقطة أو تلك (انظر فصل الشخصية السيكوبائية).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤