وإن أجراها عمر

كان الشِّعر العربي هو وسيلة الإعلام عند العرب، ولذلك كان الرسول — عليه الصلاة والسلام — يحتفي بالشِّعر والشعراء غايةَ الاحتفاء، وكان عليه الصلاة والسلام يطرَب للشعر شأن كل عربيٍّ أصيلٍ، حتى إنَّ فارعة بنت أبي الصلت أختَ الشاعر الشهير أمية بن أبي الصلت، وكانت سيدةً فاضلة تحفظ الكثير من الشِّعر، كانت تقصد إلى النبي بدعوةٍ منه، ويستنشدها الشعر، ويمتدح ذكاءها، وحسنَ اختيارها لِما تحفظ.

وكان عليه الصلاة والسلام يحيِّي الخنساء، وهي تنشد الشعر في ساحته: «هِيهِ يا خُنَاس …»

وكان صلوات الله عليه يغضب للشِّعر الذي يَتطاول به الكفار على مقامه الأسنى. وقصة كعب بن زهير معه معروفة، حين هجا الرسولَ، وأمعن في الهجاء، فأباح النبيُّ دمه. وكان أخو كعب مسلِمًا حسنَ الإسلام، فراح يشرح الإسلامَ لكعب، حتى انشرح صدره للإيمان وأسلم، ثم قال لأخيه: والآن ماذا أفعل في دمي المُباح؟

وقال أخوه: إنَّ الذي أباحه سيدُ البشر أجمعين، فإنْ تُبت بين يديه عفا.

– أوَتظنُّه يفعل؟

– إنه لا شكَّ فاعل.

– فكيف وصولي إليه، ولو رآني أحدٌ من أتباعه لقتلني قبل أن أبلغَ مكانه؟

– لا عليك، سأصحبك، ولكن أخفِ وجهكَ.

– ما أرى صُحبتَك ستنجيني من القتل، وما أرى إخفاءَ وجهي نافعًا.

– إننا سنذهب إلى النبي في موعد الصلاة، وهو سيكون في مكان الإمامة، حتى إذا انتهت الصلاة اطلب العفو.

– وإنِّي لناظمٌ قصيدةً في مديحه يظلُّ رنينها في سمعِ الزمان إلى آخر الزمان.

وذهب الأخوان، والنبي يصلي بالناس، ووقَفَا مع المصلين، حتى إذا ما انتهت الصلاة، كشف كعب عن وجهه، وبدأ يلقي قصيدتَه الخالدة:

بانتْ سُعاد فقلبي اليوم مَتبولُ
مُتيَّم إثرَها لم يُفدَ مَكبولُ
وما سُعادُ غداةَ البَينِ إذ رَحَلت
إلا أغَنُّ غَضيضُ الطَّرفِ مَكحولُ
هَيفاءُ مُقبِلةً عَجزاءُ مُدبِرةً
لا يُشتكَى قِصَرٌ منها ولا طُولُ

ثم يقول:

إنَّ الرسولَ لنُورٌ يُستَضاءُ به
مهنَّدٌ من سُيوفِ الله مَسلولُ
في فتيةٍ من قُرَيشٍ قال قائِلُهم
ببطنِ مكَّةَ لما أسلَمُوا زُولُوا
نُبِّئتُ أنَّ رسولَ اللهِ أوعَدَني
والعفوُ عند رَسولِ اللهِ مَأمُولُ

فإذا بالرسول الكريم يقوم من مجلسه، ويصيح: ولقد عفوتُ يا كعب!

ويحتضن الشاعر ويخلع عليه بُردة جديدةً كانت مُهداة حديثًا إلى رسول الله، ومن أجل هذا نجد مَن يقول إنَّ هذه القصيدة هي التي تُسمَّى بالبردة، نسبةً إلى هدية النبي، عليه الصلاة والسلام. أمَّا بُردة البوصيري فيقال إنَّ اسمها البُرأَة؛ لأنَّ البوصيري كان ينظِمها وهو مصابٌ بالشلل، وحين أتمَّها برأ.

وأيًّا كان الأمر، فإنَّ هذه القصيدة تدُل على قيمة الشعر في زمن الرسول، وهي أيضًا ذاتُ دلالة عريضة تَدحض ما يذهب إليه المتطرِّفون من تحميل الإسلام غير مذاهبه. وها هو ذا هادي البشرية، وحامل رسالتها يستمع إلى الغزل الرقيق البديع من كعب، فلا يَضيق به، ولا يرفضه، بل يخلع على الشاعر بُردته.

ومكانة حسان بن ثابت من النبي ومن الإعلام الإسلامي معروفةٌ شهيرة. وقد كان النبي — عليه الصلاة والسلام — يُقرِّبه ويدنيه إليه، ويمتدح شِعره ويستعيده. اقرأ معي قوله:

إنَّ الذوائبَ من فِهرٍ وإخوتَهم
قد بيَّنوا سُنةً للناس تُتَّبعُ
يرضَى بها كلُّ مَن كانت سريرتُه
تقوى الإلهِ وبالأَمرِ الذي شَرَعُوا
قومٌ إذا حاربوا ضَرُّوا عَدُوَّهمُ
أو حاولوا النَّفعَ في أشياعِهم نفَعُوا
سجيةٌ تلكَ منهم غيرُ محدثةٍ
إن الخلائقَ فاعلَمْ شرُّها البِدَعُ
لا يرفعُ الناسُ ما أوهَتْ أكفُّهمُ
عند الدِّفاع ولا يُوهُون ما رفَعُوا
إن كان في الناسِ سبَّاقُون بعدَهُمُ
فكلُّ سبقٍ لأَدنى سَبْقِهم تَبَعُ
أعفَّةٌ ذُكِرتْ في الوَحْي عِفَّتُهمْ
لا يطمَعون ولا يُردِيهمُ طَمَعُ

ولا يكتفي حسان بمديح الرسول، وإنما هو يهجو في عنفٍ وإقذاعٍ أعداءَ الإسلام وخصومَ رسول الله، والنبي الكريم يبارك منه المديح والهجاء معًا … اسمعه يقول في هجاء الوليد بن المغيرة:

إنَّ التي ألقَتْك من تحتِ رِجلِها
وليدًا لمِجهال العشيِّ خَبوبُ
فما لكَ من كعبٍ حصاةٌ تَعُدُّها
وإن قلتَ من شجوٍ فأنتَ كذوبُ

ويقول في مخرمة بن المطلب وأبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف هاجيًا لهما بأمهما:

إذا ذُكرَتْ عَقيلة بالمَخازِي
تقنَّعَ من مَخازيها اللِّئامُ
أبو صَيْفِي الذي قد كانَ مِنها
ومَخرَمة الدعيُّ المُستَهامُ
إذا شُتموا بأمِّهم تولَّوا
سِراعًا ما يَبين لهم كَلامُ

وقد تطوَّر الإعلام اليوم، فأصبحت الإذاعة وأصبح التليفزيون. وإننا لنشهد أنها المرة الأولى في تاريخ مصر، وأكاد أقول في تاريخ الشرق العربي كلِّه، يُسمح للأحزاب المعارِضة أن تعرض برامجها في الانتخابات في الإذاعة، وعلى شاشة التليفزيون الذي تُشرف عليه الدولة، التي تتكوَّن الحكومة فيها من حزبٍ يشارك في المعركة الانتخابية. وقد شهدنا الحكومةَ الوفدية حين كانت تنفرد بالإذاعة، ويظل الزعيم يخطب فيها الساعات الطوال ووراءه الأتباع وأتباع الأتباع. وأذكر في هذا المضمار قصةً لا تخلو من طرافة؛ فقد اقترح أحد أعضاء الوفد إقامةَ حفل تكريم للرئيس بمناسبةٍ سخيفةٍ من المناسبات السخيفة الكثيرة التي كان يحفِل بها حكم الوفد.

وأُقيمت حفلة التكريم … وإذا بعضٌ آخَر يطلب إقامةَ حفل تكريم لهذا الذي اقترح إقامةَ حفلة تكريم للرئيس … والعجيب أنَّ الحفلة أُقيمت فعلًا، وتساءلنا، نحن الشعبَ المصري: إلى أي مصيرٍ سينتهي الأمر إذا اقترح أحدهم إقامةَ حفلة تكريم لمن اقترح إقامةَ حفلة التكريم؟

لنا الله! فكم رأينا من سخافاتٍ وتفاهات، ولكم نخشى أن تعود!

وشهِدنا في التليفزيون زعيمَ الحزب الشيوعي، وهو يقدِّم برنامجه. وإنا لنسأله سؤالًا عامًّا بغير تفاصيل: في أي بلدٍ شيوعيٍّ جرَّبتم هذا البرنامج ونجح؟ إنَّ النظرية الشيوعية لم تَعُد اليومَ نظرية، وإنما هي تطبيقٌ، ونحن اليوم ينبغي لنا أن نناقش التطبيقَ لا النظرية؛ لأن النظريات بغير تطبيقٍ لا تعني شيئًا.

أمَا وقد طبِّقت النظرية فعلًا سبعين عامًا في روسيا السوفيتية، فقد آنَ لنا أن نسأل الشيوعيين: هل نجح التطبيق؟

إذن فما لروسيا السوفيتية تتسوَّل القمح من أمريكا؟ وما لروسيا السوفيتية تتحدَّث عن الحوافز؟ وما لها تميل في كل يومٍ عن النظرية الشيوعية إلى الاقتصاد الحر؟ وما للدول الشيوعية كلِّها تحاول جاهدةً الخروجَ من جنة الماركسية؟

وبعدُ؛ فإنني أحسب أنَّ الحزب الوطني قد أغلق المنافذَ على أحزاب المعارضة، فما من مطلبٍ طلبوه إلا أجابته لهم حكومةُ الحزب الوطني من حرية الاجتماعات إلى الصحافة الحرة، حتى وإن كانت تميل عن الحق، وتقيم الباطل، إلى شرحِ البرنامج في التليفزيون والإذاعة.

فبأي حُجة إذن سيحتجُّون يومَ تقول صناديق الانتخابات: إنَّ الشعب لا يثق فيهم؟

رفقًا أيها الحزب الوطني، فما كان ينبغي أن تُغلق عليهم مسالكَ الحُجج إلى هذا الحد.

وعلى أي حال، لِيعلمِ الجميع أنَّ الأحزاب المعارضة جميعًا سترمي الانتخابات بأنها مزوَّرة، والقائمين عليها بأنهم ظَلَمة غير محايدين.

ولا علاج لهذا … لا علاج وإنْ قام الفاروق عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — من مرقده، وأجرى الانتخابات برجالٍ من صحابة الرسول؛ فإنَّ المعارضة أيضًا ستقول إنَّ الانتخابات لم تكن حرَّة. ولله في خلقه شئون!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥