خطاب وإجابة
جاءني هذا الخطاب من الأخ الأستاذ محمد جمال، وقد كنَّا زميلَي دراسة في مدرسة فاروق. وقد أرسل الأستاذ صلاح شادي بطاقةً مع الخطاب يقول فيها ما معناه: إن الأستاذ جمال يعبِّر عمَّا كان يريد هو أن يقوله، وإني حين أنشر هذا الخطاب؛ فإنما أنشره للاثنين معًا، كما يجيب خطابي عن رأيهما مجتمعين.
حيَّاك الله … وبعد:
قرأت لكم بجريدة الأهرام يوم ٢١ / ٤ / ١٩٨٧م، تحت عنوان «مناقشة»، في ردكم على مقالة الأستاذ صلاح شادي، التي لم أجد الفرصةَ لقراءتها، إلا أنني اكتفيت بما جاء بمقالكم الذي لخَّص المقالة، والرد عليها.
ونظرًا لأهمية الموضوع أرجو أن تعتبرني طرفًا ثالثًا يعشق الوحدة، وينبذ الفُرقة التي مزَّقت الأمة، فهانت هوانًا لم يسبق له مثيل.
وقد أعجبني في ردِّك أنك أنصفت الأستاذ صلاح ورفاقه، حين قلت: «إنما هم أطهار إذا اعتدى عليهم حاكمٌ، فقتل منهم سبعة … إلخ. وهم أطهار حين يُقبض على خمسة عشر ألفًا منهم في ليلة واحدة، كما أعلن هذا طاغية ذلك الزمان … إلخ.»
كما أعجبني احترامك الشديد للحكم الإسلامي في عهد سادتنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز.
كما أعجبني حرصك الشديد على ألَّا يحمل هذه الراية المقدسة، إلا مَن كان على مستوى حمل هذه الأمانة، التي تفوق طاقةَ معظم البشر في هذا الزمن.
وحينما انتقدت حكم معاوية، ويزيد، والمنصور، والحجَّاج، وهارون الرشيد، والخميني، ونميري، وغيرهم، فلا أتصور أبدًا أنه قد غاب عنك أنَّ الإسلام شيء، والمسلمين شيء آخر … وإذا تعمَّقنا في التاريخ، فقد نجد أن حجم الإيجابيات لبعض هؤلاء أكثر من حجم سلبياتهم، كما قد ترون سيادتكم، أنَّ ثورة ٢٣ يوليو حجم إيجابياتها أكثر من حجم سلبياتها. وقد كان الأستاذ صلاح شادي ضمن مَن مهَّدوا لها، قبل أن يكون لها سلبيات.
أخي العزيز، إنَّ شدة حرصك على نقاء الحكم الإسلامي جعلت البعض يظن أنك تميل إلى النُّظم العلمانية التي تفتقر إلى الوجدان الديني والتشريع السماوي. ولا أظن أن تاريخ الحكم العلماني في مصر يغريك على أن تقف مدافعًا عنه، وأن تهَب له اسمك ومكانتك الأدبية الفكرية في عصرنا هذا … ولستَ أنت ممن يخفى عليهم أدقُّ التفاصيل، خصوصًا وأن الصحافة وهي أداة التفاصيل تتمتَّع اليوم بحريةٍ أكثر مما مضى.
ولكن لي بعض الملاحظات الأخرى كالآتي:
قلت للأستاذ صلاح: «مَن سمح لك يا سيدي بأن تبلِّغ وما أنت بمبلِّغ، أو تحاسب وما أنت بإله؟»
وأقول إليك برفق: إنَّ الأستاذ ثروت أباظة مكلَّف أيضًا، بمقتضى الآيات القرآنية الكريمة، أن يحمل الرسالة بالقدوة والموعظة الحسنة في حدود إمكاناته وطاقاته. وليس هذا تكليفًا مقصورًا على رجال الدين الموظفين لذلك.
وقلت له: «أتُراك يا أستاذ صلاح، تريد أن تعيد «مِلْك اليمين» حين تطبِّق الشعار الذي ترفعه أنت وصحْبُك من تطبيق الشريعة الإسلامية؟»
وأقول: إنك تحترم قطعًا دستورنا الوضعي الذي جعل الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. ولا أتصور أبدًا أنه بمستوى فكرك وفكر الأستاذ صلاح أن يعود «مِلْك اليمين» بتطبيق الشريعة الإسلامية التي يحترمها دستور الدولة.
وقلت: «فيم تخالف القوانين القائمة الشريعةَ الإسلامية، إلا في العقوبات التي تسميها الشريعة حدودًا؟»
وأقول: كان ينبغي توجيه هذا السؤال إلى اللجان المختصة في الدولة، والتي تعالج جوانبَ الاختلاف في القوانين القائمة عما تنادي به الشريعة الإسلامية. ولو كان الأمر سهلًا وبديهيًّا لأعلنت هذه اللجان جهودها على ضمائرنا. وأنت خيرُ مَن يعلم أن الشريعة الإسلامية فيها من المتانة والمرونة والكفاءة ما تواجه به الأمر الواقع والعدالة، مع التدرج الطبيعي لنمو المجتمع … وإنني أعتز بشهادة قادة إخواننا الأقباط في هذا الشأن إبَّان عهد عمرو بن العاص. ذلك هو الحكم الإسلامي الذي يقصده الأستاذ صلاح.
وقلت: «إنَّ المتطرفين من المسلمين في مصر قتلوا بعضَ الأفراد من المسئولين في الدولة.»
وأقول: هؤلاء المتطرفون لم يمارسوا الحكمَ الإسلامي في مصر يومًا واحدًا … كما أن الأستاذ حسن البنا، مؤسِّس تلك الجماعة، أعلن رأيه فيهم قائلًا عنهم: «إنهم ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين.» وإن الإسلام شيء وأخطاء المسلمين شيء آخر.
وقلت: «إن العدل يتم إذا طُبِّق القانون الذي يحكم في ظله.»
وأقول: إن العدل شيء وجداني يتصل بالضمير. وقد تعلَّمنا في دراسة القانون أن القاضي العادل يستطيع أن يُصدر حكمًا عادلًا بقانونٍ ظالمٍ بين يديه … إن سلطان العدل هو الذي ينجح دائمًا في تغيير القوانين لتحقيق عدل أفضل … إن القوانين كلها وما تستند إليه من دساتير، فمع احترامنا الشديد لها، كلها متغيرات يُسيطر عليها العدل أخيرًا، وإن غلبته أحيانًا.
وقلت ضاربًا المثل بالثورة الخمينية والثورة النميرية.
وأقول: أرجو ألا تُسقِط من حساباتك الدورَ الرئيسي الذي تقوم به الدولتان العظميان، وهما مختلفتان في كل شيءٍ إلا شيئًا واحدًا، وهو هدم حضارتنا وعقائدنا … وقد حدث فعلًا.
وقلت: «إنهم كان لهم في الانتخابات الأخيرة هذه سلاح مشهر وأنياب حِداد، وإشاعة للذعر بين الناس.»
وأقول: يجب عليهم أن يحاسبوا أنفسهم إن كان ذلك صحيحًا، ولكن أرجو أن تقارن عدالتهم بين طاقتهم الضئيلة، وطاقة الدولة بكل إمكاناتها في هذا المجال، ومدى صحة ما قيل في الصحف.
وقلت: «إن كلمة الله هي العليا، مهما حاولوا أن يجعلوا منها طريقًا إلى حكم الدنيا.»
وأقول: لقد كانت أعظم جملة تختتم بها مقالتك، وإنني على يقين من أنك تتفق معي في أن عهود أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز — التي سجَّلت اعتزازك بها كل الاعتزاز — كانت كلها أمور دنيا، وحكم دنيا، ممتزجة بالقرآن الكريم، ولن يختلف معك الأستاذ صلاح وصحبه في هذا الشأن.
وإليك …
السلام عليكم ورحمة الله
وبعد، فشكرًا لله ولك ما أرضاك من حديثي، وما أعجبك منه، ولأنتقل إلى ما حاولتَ أن تجعله ملحوظاتٍ بعد ذلك. واسمح لي بادئ ذي بدء أن أقول إن خطابك وملحوظاتك لا تناقش في شيءٍ مما ذهبت أنا إليه. وإنما هي خواطر استدعاها إلى ذهنك، ثم إلى قلمك ما قرأته لي.
وعن هذا سوف أغضي، ثم أمضي معك إلى آخر الطريق.
كانت عجيبة منك يا أخي أن تظن — وأعيذك من بعض الظن — أنه قد غاب عنِّي أن الإسلام شيء، والمسلمين شيءٌ آخر. فما كان هذا ليغيب عنِّي أبدًا. وكيف له أن يغيب، بل وكيف لك أن تفكر هنيهة من لحظةٍ أنه يمكن أن يغيب عن أي إنسانٍ؟
الإسلام يا سيدي، دين الله، وليس لنا إزاءه إلا أن نؤمن به، ونخبت ونخشع.
إنه مرقَى الإنسان من عبودية الأرض إلى ملائكية الملكوت الأعلى … فهو تنزَّهَ وسَما أن يكون لحيةً وجلبابًا وخُفًّا ووشاحًا، وهو خير ما عرفته البشرية. وكيف له ألا يكون وهو هُدى الله — تعالت أسماؤه — للناس، وهو ختام آياته التي وعد بها بني آدم حين قال: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (الأعراف).
أما البشَر يا سيدي، فهم الخطاءون، وهم الذين قال عنهم الله سبحانه وتعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب).
فالإنسان يا سيدي هو ذلك الظلوم الجهول، وكل الذين انتقدتهم بشرٌ من البشر وإنسان من الإنسان الذي وصفه ربُّه بأنه ظلوم جهول، ولا عاصمَ للناس منهم إلا الديمقراطية والحرية التي لا يعرفها الطغاة.
وكم أخشى يا سيدي أن ينفرد الظلوم الجهول بالحكم، مدعيًا أنه بكتاب الله يحكم، فيسرف في الأرض ويبغي ويعتو، كما أسرف وبغَى وعتا معاوية، ويزيد، والمنصور، والحجَّاج، وكلُّ مَن تفرد بالحكم في قديم أو حديث، إلا من رحم ربك وما أندرهم! وأنَّى للبشر أن يطلع عليهم أبو بكر، أو عمر، أو عثمان، أو عليٌّ أو شبيههم عمر الأشج بن عبد العزيز.
أمَّا قولك أنت إننا إذا تعمَّقنا في التاريخ، فقد نجد حجم الإيجابيات لبعض الطغاة أكثرَ من حجم سلبياتهم، فعجيبةٌ تُذْهَل لها العجائب.
تعمق أنت يا أخي في التاريخ ما شاء لك التعمق، ولكن الناس عندي ليسوا فئران معامل يُجري عليها الطغاة تجاربهم، فيسرقون ويقتلون وينهبون، ثم يقول عنهم التاريخ إن إيجابياتهم كانت أكثر من سلبياتهم، وإنَّ قَتْل إنسان واحد بغير حق ينسف كلَّ حسنات ذلك القاتل؛ فإن الله من فوق سبع سمواتٍ حكم عليه أنه كأنما قتل الناس جميعًا، وما أظنك يا سيدي بقاتل للناس جميعًا.
أما الثورة يا سيدي، فأمرها ليس مطروحًا للمناقشة في هذا الحديث مطلقًا. ولا يعنيني ولا يعني الناس في شيءٍ أن يكون الأستاذ صلاح بين مَن مهَّدوا لها أو لا يكون، ويبدو أن هذه الجملة جميعًا قد أُرغمت إرغامًا على أن تُساق في خطابك هذا.
أمَّا قولك يا سيدي، إنَّ الحكم العلماني والنُّظم العلمانية تتفق مع ميلي، فتلك هي الأخرى عجيبة تُذْهَل لها العجائب.
متي حُكمت مصر حكمًا علمانيًّا؟ وكيف تقول هذا، وفي مصر الأزهر منذ ألف عام، والحكم والأحوال الشخصية في مصر يتبع مذهب أبي حنيفة منذ قديم، وكل قوانين مصر المدنية متفقةٌ في الأساس الجوهري منها مع الشريعة الربانية، وإن اعتبر بعض الفقهاء فوائد البنوك نوعًا من الربا؛ فإنَّ بعضًا آخرين من عظماء الأئمة لهم في ذلك رأي آخر، وعلى رأسهم الشيخ الإمام محمد عبده، والربا كما تعلم مُعاقَب عليه بين الأفراد في قانون العقوبات المصري، فأين هو هذا الحكم العلماني؟ ألا إنكم ترفعون لافتاتٍ على غير مكانها، وشعاراتٍ هي أبعد ما تكون عن واقع الأمر.
وأما قولك إنني مكلَّف بمقتضى الآيات أن أحمل الرسالة بالقدوة والموعظة فهذا حقٌّ، ولكنني يا سيدي أصدر في ذلك عن رأيي أنا، ولست في ذلك مبلِّغًا؛ فكلمة مبلِّغ في سياق مقالتي تعني الرسول ﷺ وحدَه، وما ينبغي أن يرقى إلى هذا المكان في البشر أحدٌ من بعده، فهو الخاتم.
وهو ﷺ كلَّفه الله بالبلاغ وحدَه، وأمره جلَّ علاه أن يترك الحساب له وحدَه؛ فهو وحدَه العدالة المطلقة، وهو وحدَه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما يتاح هذا لأحد من الناس، بل إنه غير متاح لسيد البشر قاطبةً محمد بن عبد الله رسولِ الله ونبيه ﷺ والمشفَّع عنده في الخلق أجمعين.
أمَّا أنتم يا سيدي — أو المتطرفون منكم على الأقل — فأحسب أنكم تريدون بما نشاهده من أشياعكم في مصر أن تبلغوا رسالةً لم يكلفكم الله بها، فما كنتم ولن تكونوا رسلًا، ثم تريدون أن تتهموا، ولستم مؤهلين من الله بذلك، وتريدون أن تحاسبوا والحساب لله وحدَه، وتريدون أن تنفِّذوا أحكامكم، وكبُر هذا عند الله، وأعيذ نفسي وأعيذكم أن أصف هذا الذي تريدون أن تفعلوا بما يستحقه من وصف.
أمَّا ما ذكرته عن القاضي والقانون؛ فهو هو ما أخشاه؛ فأنا لا أخاف من الشريعة، وإنما أخاف من الإنسان الذي يطبِّقها؛ فالشريعة كلمة الله، والإنسان ظلوم جهول، وأما ما تراه يا سيدي من أنَّ الشريعة الإسلامية فيها من المتانة والمرونة والكفاءة ما تواجه به الأمر الواقع والعدالة، مع التدرج الطبيعي لنمو المجتمع، فهذا أمرٌ أتفق معك فيه كلَّ الاتفاق، بل إنني أهتف به وأُنادي، فماذا يريد إذن الأستاذ صلاح وشيعته من المتطرفين ممن يصرخون بغير هذا، ويمتدُّ بهم التطرف إلى القتل وسفك الدماء والجبروت؟ وما لهم لا يتركون لمن ذكرتهم من القضاة والمشرِّعين أن يصدروا في أحكامهم عن هُدى القرآن دون تعسُّفٍ منكم أو عدوان؟
أمَّا دفاعك عن المتطرفين الذين قُتلوا فأمرٌ لا أسمح لنفسي بمناقشته؛ فما كنتُ لأتصور أن مسلمًا يدافع عن شارب خمر، فكيف به أن يدافع عن قاتل نفس؟ أُشهد الله أني بريء مما تزعمون.
وأمَّا أنَّ الإسلام شيء وأخطاء المسلمين شيء آخر، فتلك قالةٌ عُدت لها، ولهذا أسمح لنفسي أن أعود … إنَّ المقارنة بين الإسلام، وهو شرع الله، وبين البشر لا يجوز أن ترِد بذهن إنسان، فكيف سمحت لنفسك يا سيدي أن تفكر فيها وتكتبها أيضًا؟ هيهات! لا مقارنة.
فما دار لي هذا بخَلَد، وإنما أخشى يا سيدي من أقوامٍ يريدون أن يفعلوا فعل أنصار معاوية، فيرفعوا المصاحف على أسنَّة السيوف، ويصبحوا متحايلين، يرفعون حقًّا ويريدون به باطلًا.
فالمصحف حق، أما الوصول عن طريق رفعه على السيوف إلى كراسي الحكم فباطل يا سيدي، باطل وحق الله، باطل بطلانًا مطلقًا لا سبيل إلى تصحيحه. أما حديثك الباقي يا سيدي عن الدولتين العظميين؛ فأمرٌ أراه أيضًا دخيلًا على ما نحن بصدده. فما أحسب يا سيدي أنكم تنوون الذهاب إلى أمريكا أو روسيا؛ لترفعوا عليهما الشعارات التي ترفعونها هنا علينا، فأرجو يا صديق الصِّبا أن تعفيني من مناقشة هذا الحديث، وأشكر لك ما حَسُن من ظنك بي، داعيًا الله سبحانه أن يهديك ويهدينا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يرحم مصر ويقيها من كل عادِيَة. سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وسبحانه وحدَه هو الملاذ في الشدة، يدرأ عن عباده المؤمنين عاديَة أنفسهم وعدوان الظالمين … جلَّ علاه!