الأزهر بخير، ولكن …

وصل إليَّ من مكتب فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر رسالةٌ موقَّع عليها من فضيلة الأستاذ جابر حمزة فراج، وهو من العلماء، وهو في الوقت نفسه المدير العام للإعلام والعلاقات العامة بالأزهر الشريف، وهذا نص الرسالة:

«مما لا شك فيه أنَّ الأزهر أكبر جامعة إسلامية، وأوسع مؤسسةٍ دينية، ومن حظ مصر أنَّ الله شرَّفها وخصَّها بهذا التراث العريق، الذي ظل إشعاعةَ نور، ودار هداية، ومنبع علوم، ومصدر إيمان عبر القرون والأجيال. ووقف صامدًا شامخًا، قويًّا باسقًا، حيًّا نابضًا، يؤدي رسالته السلمية بنزاهةٍ وإخلاص، وأخرج للعالم جهابذة العلماء وخيرة الحكماء، فملئُوا الدنيا علمًا ورشدًا. وما من جامعة إسلامية في مختلف الأقطار إلا وكان الأزهر سَداها ولُحمتها وقلبها وروحها. ولن أتكلم عن مآثر الأزهر الشريف، وما قام به من مواقف باسلة، يعترف بها الشرقي والغربي على السواء؛ إذ إنني حينما أحاول حصر فضائله أو إحصاء عطائه؛ فمثَلي في ذلك كمن يحاول أن ينبش خيوط القمر من ضمير الغدير، أو كمن يحاول أن يجمع الربيع في وردة، ويصب العبير في قطرة، ويركِّز الجمال في نظرة، ولكنها همسة أبعثها إلى الأستاذ الأديب ثروت أباظة، وهو من أسرةٍ لها بالأزهر رباط وثيق. إنني قبل كل شيء أشكره على حرصه على سمعة الأزهر وكرامته، وأشكره على دعوته التي يهدف من ورائها إلى تخريج علماء من طراز كريم، وأشكره على مناداته بالاهتمام بالقرآن المجيد. ولكنني أقول له هامسًا: النصيحة بين الملأ فضيحة. وكنت أود منه، وهو المنادي بالإصلاح، أن يأتي إلينا، ويقدِّم ما شاء من اقتراحاتٍ وأفكار؛ لتأخذ مكانها من البحث والتمحيص، وما الأزهر عنه ببعيد. وأحب أن يطمئن سيادته بأن الأزهر بخير، ولا يزال في عطائه وسخائه. ويوم أن تمسَّكَ بعراقته، رمَوه بالتخلف والجمود، ووصموه بالتأخر والتحجر. وعندما توسَّع في إدخال العلوم الحديثة، ثار الثائرون وتحمَّس الغيورون، وقالوا: جنح وانحرف، وما هو في الحقيقة بهذا أو ذاك. نعم لقد توسَّعنا في قبول الطلاب، وعُذرنا في ذلك أنَّ المدارس كانت تستوعبهم وتشدهم، فجفَّت تلك الروافد التي كانت تمد الأزهر، وقلَّ عدد الراغبين وضاق الإقبال؛ الأمر الذي يوحي بالانقراض. وسامح الله مَن قام وقتئذٍ بما سمَّاه بالخطوة الثانية؛ تلثَّمَت بالإخلاص، وهي تخفي من ورائها غرضًا مريرًا وحقدًا دفينًا. ألا إنَّ الأزهر هو الأزهر، تنبَّه بعد التجربة فعاد إلى سيرته الأولى، وتدارك خطر عدم حفظ القرآن الكريم، فأنشأ إدارةً خاصة بذلك أسماها إدارةَ شئون القرآن الكريم، ومهمتها النهوض بالمكاتب، وإعادتها إلى ما كانت عليه من تحفيظ القرآن المجيد. كما أنَّ من خصائص هذه الإدارة الإشراف الفعلي على المكاتب والعمل على مضاعفتها، وذلك عن طريق التشجيع للمحفِّظين والحَفَظة؛ حيث يُمنح المحفِّظ خمسة عشر جنيهًا شهريًّا، إذا كان عنده من التلاميذ ما لا يقل عن خمسة وعشرين، منقطعين لحفظ القرآن، ومتوجهين لدخول الأزهر. كذلك تمنح كل مكتب إعانةً سنوية خمسين قرشًا عن كل تلميذ، كما أن الإدارة تمنح التلاميذ الحفظة جنيهًا عن كل جزء يقومون بحفظه، ثم تمنح المحفِّظ مكافأةً تشجيعية سنويًّا بقدْر ما تقدَّم به من تلاميذ حفظة. والإدارة تقوم بحصر وإحصاء المكاتب في جميع أنحاء الجمهورية. وقد تمَّ حتى الآن حصرُ ألفين ومائة وسبعين مكتبًا، كلُّها تعمل بتراخيص من إدارة شئون القرآن الكريم. وأجهزة إدارة شئون القرآن الكريم تتكوَّن من مدير عام ومدير مساعد، ومفتشين موزَّعين على جميع المناطق الأزهرية، كما تُشرف الإدارة على جميع المراحل بالأزهر في المجالات القرآنية. وقريبًا يمتدُّ إشرافها على كلِّ مَن له علاقة بالقرآن. ومن هنا أحب أن يطمئن كل مسلم غيور إلى أن الأزهر بخير، وأن كتاب الله وسنة رسوله هما الأساس المتين، والينبوع الدافق الذي يرتشف منه الأزهر؛ ليبقى على مرِّ الدهور نبعًا صافيًا، ومعينًا لا ينضب.»

•••

وأبدأ فأؤكد لفضيلة الأستاذ جابر حمزة فراج أنني أكتب ما أكتب؛ حبًّا في الأزهر لا نصحًا له؛ فعتب الأستاذ في غير معتب. فالأمر كما يرى الأستاذ لا يحتاج أن أهمس بالنصح في أذن الأزهر، وإنما أنا أذيع حبي ناظرًا إلى بيت شوقي الخالد:

فَلا خَيرَ في الحُب حتى يَذيع
ولا خير في الورد حتى ينم

وبعد، فكل ما أورده الأستاذ لا يفيد شيئًا فيما أنادي به؛ فتشجيع الأزهر على حفظ القرآن بهذه المبالغ الزهيدة لن يؤدي إلى نفع، والألفان والمائة والسبعون مكتبًا التي تم حصرها ليس يعنيني من أمرها جميعًا شيءٌ، ولو زيدت إلى مائة ألف؛ فالمباني لن تحفظ القرآن، وإنما يحفظ القرآنَ البشر الذين نزل إليهم القرآن، وهؤلاء لن يحفظوه أو يصبح الانتساب إلى الكليات التي تدرس الإسلام والشريعة الإسلامية ممتنعًا إلا على من حفظ القرآن.

فإذا ظل حفظ القرآن هوايةً أو تزيُّدًا يمكن الاستغناء عنه، فويل لنا إذن من هداة الغد! وأبناؤنا أو أبناء أبنائنا لن يجدوا مَن يهديهم، أو هم لن يطمئنوا إلى فتاوى صادرة من رجل لا يحفظ القرآن الكريم. والمتقاضون في غدٍ إلى مجهولٍ أقل ما فيه ظلم، فكيف لقاضٍ شرعيٍّ أن يحكم، وهو لا يعرف الأساس الأول لأحكام الشريعة؟

وأنا يا سيدي لا أعارض أن يقبل الأزهر من الطلاب ما شاء أن يقبل، وإنما كل ما أُطالب به، وتطالب به جميع الخطابات التي وصلت إليَّ، والأحاديث التليفونية التي انهالت عليَّ، ألا يكون التعليم الدنيوي في الأزهر حائلًا بينه وبين التعليم الديني؛ فكل الجامعات تستطيع أن تعلِّم تعليمًا دنيويًّا، ولكن الأزهر وحده هو الذي يحمل شرف التعليم الديني، ولا يجوز له ولا يُساغ أن يتخلى عن هذا الشرف، الذي ارتفع على مآذنه ألف عام. وبعد؛ فأنا يا سيدي الأستاذ حين أكتب ما أكتب، أريد أن أُظهر القائمين بشأن المناهج التعليمية في كليات الأزهر الشريف على أن الرأي العام جميعه مصممٌ على أن يكون الأزهر قِبلة التعليم الديني في العالم أجمع أولًا وقبل كل شيءٍ، وله بعد ذلك أن يضيف إلى هذا الشرف، وإلى واجبه الأول هذا، ما شاء من أنواع التعليم الأخرى. أفي مثل هذا يجوز الجدل؟ ما أظن. والحقيقة يا سيدي أن شيئًا في خطابك لم يؤلمني قدْر نظرك إلى قومٍ رمَوا الأزهر بالتخلف والجمود، ثم حيرتك بعد ذلك بينهم وبين قوم يريدون الأزهر أن يشترط حفظ القرآن لمن ينتسب إلى كلياته الدينية. كأنك يا سيدي لا تعرف مَن الذي يرميكم بالتخلف والجمود. إنهم يا سيدي فريقان؛ فريق يرى الدِّين كله تخلفًا وجمودًا، وما إلى هؤلاء يساق حديث. وفريق مخلص آخر يريد التعليم الديني أن يواكب الحياة الحديثة ويَرُود مسالكها، ويتفهم علماؤه التقدم العلمي فيه. ولم يقصد هؤلاء ولا يجرءون أن يقصدوا أن يبتعد الدارسون للدين والشريعة عن حفظ القرآن؛ فالقرآن خالد، والقرآن قديم وجديد، وحفظه لمن يريد أن يعلِّم الناس دينهم، أو يجلس بينهم قاضيًا في شئون دينهم، فرضٌ لا يمكن أن يكون موضع نقاش.

فخوفك يا سيدي من الذين يرمون التعليم الأزهري بالجمود والرجعية لا يجيز لك، ولا لأحد، أن يرى حفظ القرآن اختياريًّا لمن يرمي عليهم المستقبل عبء الهداية الدينية والتشريع الإسلامي وأحكام الشريعة السمحاء. ومرة ثانية لا أعتقد أن الجدل في هذا الذي أسوق مقبولًا من أحد، وخاصةً من قوم يحملون في صدورهم أكرمَ ما كرَّم الله به الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥