بين الخلود والهوان

في كتاب «بلوغ الأرب» هذه القصة التي سأقدِّمها بين يديك. ولقد حاولت أن أدافع هذه الرغبة، فألحَّت عليَّ إلحاحًا شديدًا، فظللت بها وبنفسي أتعمق كلًّا منهما، حتى وجدت نفسي ممسكًا بقلمي، باسطًا صحائفي، ناقلًا إليك ما طالعني من هذا الكتاب العظيم. وأنا فيما أنقل ما في القصة من طرافة، ولست بمستبعدٍ أن تكون القصة من غير واقع الحياة، وإنما اختلقها شاعرٌ ذكيٌّ، ودفع بها إلى مجالس المنادمة والسَّمر فسارت طريقها في التاريخ، حتى أدركها قلم كاتب فأثبتها. وبقيت حتى ظهر أعظمُ كشفٍ عرفه الإنسان، وكانت المطبعة. وسعت إليك القصة اليوم في العصر الذي اعتلينا فيه الأقمار، وسمعنا عن ذلك الأمريكي الذي قال إنه سمع الأذان يتردَّد في آفاق السموات العليا وهو فوق سطح القمر.

ألم أقل لك إن المطبعة هي أعظم كشف في التاريخ، وكيف كان يمكن أن تلتقي هذه القصة البالغة القِدم بعجائب هذا الزمن الذي نعيش فيه في بوتقةٍ واحدةٍ: هي رأسك ورأسي، إلا بما خلدته المطبعة من تاريخ الأقدمين؟

ولا تعجب أن يساورني الشك في صدق القصة التي أقدِّمها إليك؛ فقد كان العرب لا يعرفون القصة التي يبدعها القصَّاصون اليوم. وإنما كانت القصة عندهم قصًّا للأثر والنبأ، وتتبُّعًا للحدث، وحين قال القرآن الكريم: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ فإن الكلمة هنا تعني التاريخ الصادق الذي لا يأتيه الباطل أو الاختلاق من أي ناحية له.

أمَّا البشر إذا قصُّوا، فهم يتزيدون ويكذبون ما شاء لهم الكذب، ويبتدعون ما شاء لهم الابتداع من الأحداث، ولكنهم يوهمون السامعين أن ما يروونه إنما هو الحق، ولو كانوا عرفوا القصة التي نؤلف نحن اليوم أحداثها، ما احتاجوا إلى الكذب وما كان هناك داعٍ أن يزوِّروا على سامعيهم، ويدعوا أن القصة التي اختلقوها إنما هي خيرٌ وقع، وليس حدثًا أنشأه خيالهم.

وإليك القصة، ولنا بعد نقلها إليك حديثٌ آخر.

صحِب رجلٌ كثير المال عبدَين في سفرٍ، فلما توسَّطا الطريق همَّا بقتله، فلما صحَّ ذلك عنده قال: أقسم عليكما — إذا كان لا بد من قتلي — أن تمضيا إلى داري، وتُنشِدا ابنتيَّ الاثنتين هذا البيت، قال:

مَن مبلغٌ بنتيَّ أنَّ أباهما
لله درُّكما ودرُّ أبيكما

فقال أحدهما للآخر: ما نرى فيه بأسًا!

فلما قتلاه جاءا إلى داره، وقالا لابنته الكبرى: إنَّ أباك قد لحقه ما يلحق الناس. وآلى علينا أن نخبركما بهذا البيت. فقالت الكبرى: ما أرى فيه شيئًا تخبرانني به، ولكن اصبرا حتى أستدعي أختي الصغرى.

فاستدعتها فأنشدتها البيت، فخرجت حاسرةً بلا خمارٍ على رأسها، وقالت: هذان قتلا أبي يا معشر العرب، ما أنتم فصحاء! قالوا: وما الدليل عليه؟ قالت: المصراع الأول يحتاج إلى ثانٍ والثاني يحتاج إلى ما يكمله، ولا يليق أحدهما بالآخر. قالوا: فما ينبغي أن يكون؟ قالت: ينبغي أن يكون:

مَن مخبِرٌ بنتيَّ أنَّ أباهما
أمسى قتيلًا بالفلاة مُجَندلا
لله درُّكما ودرُّ أبيكما
لن يبرح العبدانِ حتى يُقتلا

فاستخبروهما فوجدوا الأمر على ما ذكرت.

وإلى هنا تنتهي القصة التي رواها التراث. ولا شك أن شكًّا مريبًا اعتمل في صدرك كهذا الشك المريب الذي اعتمل في صدري. ولكن لا شك أيضًا أنك استمتعت بالقصة مثلما استمتعت.

والشك يعتمل في العقل، والمتعة تنداح في النفس.

والعقل يتساءل كيف يتسنى لرجلٍ معرَّض للقتل من عبديه أن يؤلف بيتًا يعرف أنه لا يعني شيئًا إلا إذا أكملته ابنتاه؟ وكيف خطر له وهو في هذا الكرب العظيم أن ابنتيه ستكملانه بما يفيد أن العبدين قتلاه. وما لهما لا تكملانه بأن العبدين أكرماه فيما يسبق الوفاء؟ فإن كان الأب والابنتان يعلمان أن العبدين لئيمان ولا أمان لهما، فلماذا اختارهما الأب ليكونا رفيقي طريقه الذي لا يصاحبهم فيه آخرون. ولماذا قبِلت الابنتان أن يخرج العبدان مع أبيهما وهما لا يتمتَّعان بالثقة الكاملة منهما؟ ولماذا أدركت البنت الصغرى ما لم تدركه الكبرى، إلا أن يكون ذلك مبالغةً في محاولة الإبهار وإثارة العجب في نفوس المستمعين، حين كانت القصة تروى شفاهًا، ثم في نفوس القرَّاء، حين أصبحت القصة في شكلِ حروفٍ مكتوبةٍ ثم مطبوعةٍ؟ وإلا أن يكون هذا جريًا على عادة مختلِقي القصص في ذلك الحين من جعل الأصغر دائمًا هو الأكثر ذكاءً وفصاحةً، والأعظم ارتفاعًا في الخُلق، ونقاءً في الدخيلة والتصرف. ومن هذا المورد تجد أن ألف ليلة وليلة استتبعت طريقتها في القص والحكاية مع اختلافٍ جوهريٍّ. إنَّ ما كان يرويه العرب، كانوا يدَّعون أنه حقٌّ وقع وحدَث، وأنهم له ناقلون لا مختلِقون، وأن رواة ألف ليلة وليلة لم يدَّعوا هذا الادعاء، ولا كان يعنيهم أن يدَّعوه، كما لم يكن يعنيهم أن يصدِّقهم الناس، أو لا يصدِّقون.

وعودًا إلى تلك القصة، ولنحاول أن نفكر في انسجام التصرف عند العبدين؛ فالقصة التي يكتبها القصَّاصون اليوم تُحتِّم أن يكون التصرف متَّسقًا مع الشخصية التي تقوم به، فكيف لقاتلين سارقين لا أمانة لهما، ولا شرف ولا ذمة أن يحملا رسالةً غير مفهومةٍ إلى بنتي الرجل الذي قتلاه؟

إنَّ حمل الرسالة نوعٌ من الأمانة النادرة؛ فهما تجشَّما العودة إلى ديار القتيل خصوصًا؛ ليؤديا أمانةً كلامية كان من الطبيعي أن ينتهباها مع ما انتهبا من حياة الرجل ومن أمواله جميعًا.

القصة إذن مُختلَقة، ولا بأس على العرب في نَدِيِّهم وسمَرِهم أن يستمعوا إلى المُختَلِقِين من القصاصين، ولكن العرب كانوا أذكياء غايةَ الذكاء، وكانوا يغضُّون الطرْف عن القصص الجيدة السَّبك التي يجدون فيها ذكاء في القص وفي الموضوع، وإذا تحلى هذا أيضًا بشِعر جميل، فأنعم به وأكرم.

ولكنهم كانوا يرفضون الهزيل من القصص؛ حتى إنَّ رجلًا كان اسمه خرافة كان يسير بين أحياء العرب، ينقل إليهم ما يدَّعي أنه أخبارٌ رآها أو سمِعها، ولكنه كان لا يجيد بناء خبره، وتمويه قصته، فأصبح بين العرب سخرية، وأصبح حديثه بين أحياء العرب هزلًا لا جِد فيه، حتى لقد أطلقوا اسمه على كل كلام لا معنى له، وأصبح صفةً، واشتقوا له الفعل والمصدر واسم الفاعل، فيقال: خرَّف الرجل تخريفًا، فهو مخرِّف، ولا يقول إلا خرافة. هكذا كان الأمر.

وأعود اليوم إلى نفسي. ما الذي جعلني أجبرها على أن أنقل إليك هذه القصة؟ أتُراه ما شعرتُ به من متعة في قراءتها بعثتني أن أشركك معي فيها؟ ربما كان الأمر كذلك!

ولكنني أحسب أن دافعًا آخر أهمَّ بكثيرٍ من مجرد المتعة استحثني أن أنقلها إليك.

لقد رأيت بآخرةٍ بعضَ الكُتَّاب الذين يظنون أنفسهم كبارًا، وهم أصغر من الهوان، يقدمون إلى الناس أحاديثَ يسوقونها على أنها تاريخٌ من التاريخ، وصِدقٌ من الصِّدق، وحقٌّ من الواقع.

ويقرأ الناس ما يقولون، فيجدون الكاتب يجعل من نفسه إلهًا منفردًا، يدور العالم كله على ركيزته، وتلف الكرة الأرضية حول دماغه، والعجيب أنَّ التاريخ الذي يزوِّرون، عليه من الأحياء شهود، يدركون كلَّ الإدراك أنَّ هذا الذي يرويه الكاتب الكاذب الغبي الأحمق ما هو إلا حديث خرافة، وإن كان «خرافة» في زمانه يلفُّ كذبه بغِشاءٍ واهٍ من الحقيقة، ليموِّه الحدث على سامعيه، فإن الكُتاب الذين يزوِّرون الحق اليوم أعظم وقاحةً ألفَ مرة من «خرافة» وحكاياته السخيفة الهازلة.

والعجيب العجيب أنَّ هؤلاء الكُتاب ينصِّبون أنفسهم، بتاريخهم المزور، معلِّمين للناس أجمعين، فلا رأي إلا رأيهم، ولا قول إلا قولهم، ولا أدب إلا أدبهم.

وهم بوجهٍ جامد صفيق، يدَّعون أنهم يعرفون كل شيء، في أي شيء؛ فهم علماء القانون والطبيعة والمجتمع والأدب والفن وما شئت، أو لم تشأ من المعارف الإنسانية.

وليس بعجيبٍ أن ترى هؤلاء الصغار يهاجمون كل عظيمٍ في حياتنا، سياسيًّا كان هذا العظيم، أو كان عالمًا، أو كان أديبًا. ويحاولون أن يرفعوا كل خامل خافت الصوت هزيل العمل؛ لأنهم واثقون أن العظماء يعرفون حقيقة أمرهم، وأنهم على علم دقيق بخفايا كذبهم، وخفايا حياتهم، والحقير الدنيء من تاريخهم العفِن.

والكاتب عند الناس إما أن يكون صادقًا أو لا يكون. وليس كاتبًا من يحاول أن يخدع الناس، حتى وإن لجأ في خداعهم إلى تملُّقهم، والهتاف بما يهتف به الغوغاء منهم، والجهلاء والمضلِّلون الذين يضللون الناس، أو المضلِّلون الذين أضلهم الملفِّقون، واستغلوا سذاجتهم أو جهلهم أو غباءهم أو هذه جميعًا.

وكل كاتب لا يراعي الله والحق مع النفس ليس جديرًا أن يحمل لقب كاتب؛ فالكاتب في عصرنا الحديث أمره يختلف كل الاختلاف عن عصور ما قبل المطبعة. حينذاك كان الشعر في أغلب أمره تكسبًا للمال، وكان الكُتاب يصوغون ما يريد الحاكم أن يقول.

ولكنهم منذ ظهرت المطبعة أصبحوا هم لسان شعوبهم، ونبض قلوبهم، وصيحتهم في وجه الظالمين، وحريقهم للضلال، ونورهم الذي يكشف الزيف، وأملهم الذي يُردد المستقبل.

ولعل أعظم مثَل في عصرنا الحديث هو عباس العقاد الذي لم يحاول يومًا أن يصانع الغوغاء، أو ينطق بهتافهم، أو يجري وراء الجهلاء، ولم يقبل أن يمدح إلا إذا اقتنع أن الممدوح جدير بأن يخطَّ العقاد اسمه. ولم يكن عجيبًا أن يحاول الطغاة أن يَحُولوا بينه وبين الصحف، فإذا اسم العقاد أعظم دورانًا وانتشارًا من أي صحيفةٍ، أو أي وسيلة من وسائل الإعلام.

وحين يُعْوزه المال، وينضب منه وعاؤه، يرفع قلمه إلى أعلى، ويرفض أن يُذله من أجل كسرة خبزٍ، ويقبل أن يكون إعلانًا لآلات الطباعة من دار الهلال؛ ليعيش من ثَمن الإعلان. ولكن هيهات أن يكتب كلمة هي غير صادرةٍ من صميم وجدانه، ومن صادق مشاعره، ومن شريف نفسه.

وفي نفس الوقت، كان ينتهب أموال مصر والعرب أطفال لا يصلون إلى نعل حذائه، ولا يصلحون أن يكونوا قراء لقرائه.

ولكن التاريخ لا يُفلت من صدقه أحدًا، ولا يغضي عينه عن مُخادِع أو منافق أو كذاب. ويبقى الصغار الذين هانوا على أنفسهم، فكانوا عند الناس هوانًا صغارًا، ويبقى العقاد عقادًا اسمه هو الشموخ، وهو الصدق، وهو الخلود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥