الله للغة العرب

أتُرانا نكتب لأنه ينبغي علينا أن نكتب؟ أم تُرانا نكتب لتسلية القرَّاء، وإزجاء أوقات فراغهم، ودفع الملالة عنهم، أم هي والسلام ملءٌ لصفحات جريدة لا بد أن يشغل صفحاتها البِيض حِبر أسود منقوش بقلم كُتاب تعوَّد القراء أن يطالعوا أسماءهم في كل يوم، أو في أيام معينة من الأسبوع. إن كان الأمر كذلك، أو شبيهًا بذلك، فبطن الأرض خير من ظهرها، ولنقصف الأقلام، ولتكن الصحف بِيضًا، فهذا خيرٌ لها ولنا على السواء. وإن كان الأمر كذلك، أو شبيهًا بذلك، فأولى بنا، نحن الذين نسوِّد الصحف، أن ننقش الأقلام، ونتسمت بجهدنا سمتًا أكثر نفعًا لنا وللناس، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وإذا كان الأمر كذلك، أو شبيهًا بذلك، فقد ضاعت الكلمة إذن، وهي التي اختارها الله سبحانه وتعالى معجزتَه الباقية على الدهور، وآيته الخالدة إلى الزمان.

وإن لم يكن الأمر كذلك، أو شبيهًا بذلك، فما للمسئولين يسمعون ولا يجيبون، ويقرءون ولا يحفلون؟ أم تُراهم لا يسمعون ولا يقرءون، فتلك إذن الكارثةُ التي لا تصل إليها كارثة والمصيبة التي لا تماثلها مصيبة؛ فالمسئولون هم القائمون على الأمر، والكاتب هو صوت هذا الشعب الذي يقومون على أمره. فإن لم يسمعوا ما يقول الشعب، فكيف إذن سيقومون بشأنه، ويصبحون أمناء على مستقبله، حراسًا على صوالحه؟ ولست أعني أنَّ كل ما يكتبه الكاتب يصبح أمرًا واجب التنفيذ، وإلا أصبح الكُتاب هم الحكام. وإنما أعني أن يكون كل ما يكتبه كاتب، دون غرض أو غاية أو مصلحة شخصية، موضوعَ نقاش من المسئول، واهتمام ومداولة.

ولا بد أن يعرف المسئول أنَّ بقاءه على كرسيه أمرٌ وقتي له نهاية، أسرعت النهاية أم توانت وأبطأت. ولكن صوت الكاتب الذي تخلو نبرته من المنفعة الخاصة، أو من السعي إلى البطولة الزائفة، يبقى صداه على مدى الزمان بلا نهايةٍ.

ربما كان هذا الذي أكتبه مليئًا بالسخط والغضب. وأقسم ما غضبت لنفسي، إنما للحق الذي أومن به كانت غضبتي. ومنذ سنوات كتبتُ عدة مقالات طالبت فيها أن يعود الأزهر إلى الأزهر، وصرخت أن العالم تملؤه الجامعات المدنية، ولكن ليس في العالم إلا أزهر واحد، استضاءت بفيض أنواره جنبات الشرق أجمع، وألقى شعاعه إلى كل مناحي الدنيا. وكان هذا الأزهر أمينًا على فقه القرآن الكريم والدين الحنيف. واللغة العربية هي السبيل إلى فهم القرآن والدين، وحسبنا ما جاء في كتاب أخينا عبد الرحمن الشرقاوي عن الإمام الشافعي، نقلًا عن الثقاة، من أنه كان يُقيم فتراتٍ طويلةً في البادية ليستقيم لسانه العربي، ويصبح جديرًا بأن يتصدى لما تصدى له، حتى استقام له مذهبٌ يتبعه فيه حتى اليوم قومٌ لا يحيط بهم حصر؛ فهو واحدٌ من أئمة أربعة استقرت أسماؤهم على قمة العلم في الفقه الإسلامي. والأئمة الثلاثة الآخرون هم أيضًا كانوا على ثقة لا تقبل المناقشة من أنهم إذا لم يعرفوا لغتهم حقَّ المعرفة؛ فليس لهم أن يجلسوا للفتوى. وكذلك الأمر مع كلِّ مَن سار على نهجهم، أو مشَى في طريقهم.

وطالبت في ذلك الحين أن تعود الكليات الدينية إلى سابق العهد بها، وأن يصبح حفظُ القرآن شرطًا لدخول هذه الكليات. وإن ردني أحدٌ بأن حفظ القرآن لم يَعُد ضرورة بعد أن وُجدت المطبعة وتبِعتها الإذاعة والتليفزيون، سارعتُ إليه … ما على القرآن خفتُ؛ فهو محفوظ بأمر «كن» من صاحب الأمر، وإنما خوفي على اللسان العربي عند الناشئة، وعند المهتمين بشئون الدين الإسلامي، فأولئك إن لم يحفظوا القرآن، فإننا على مدى سنوات قليلة لن نجد قارئًا، فإذا وجدناه فلن نجد متفقهًا في الدين، يخلف الأئمة الأعلام الذين يضيئون اليوم ساحات الأزهر والحياة في طول بلاد العالم وعرضها.

وقد كتبت حينذاك عدةَ مقالات ولم أجد لها صدًى، فثُرت وأعلنت أنني سأطوي الشِّراع وأتوقَّف عن الكتابة في هذا الموضوع. وعند ذلك كلَّمني فضيلة الإمام الأكبر السابق، عارضًا أن يزورني، فأقسمت أن أزوره أنا. وزرته ودار بيننا حديث طويل، انتهى إلى أن الأزهر اقتنع بما قلت، وأنه في مدى عامين من ذلك اليوم سيكون النظام الذي رجوت أن يكون. ومضت بعد العامين أعوامٌ، والحال على ما هو. وأذكر البيت العربي القديم:

كأنْ لم يكُن بين الحَجُون إلى الصَّفَا
أنيسٌ ولم يسْمُر بمكةَ سامِرُ

وبالأمس القريب، قرأتُ مقالًا لأستاذٍ فاضلٍ هو الأستاذ حليم فريد تادرس، موجِّه أول الفلسفة بالتعليم الثانوي. ويتساءل الأستاذ في بداية مقاله عن أسباب تدهور اللغة العربية بين أبناء الجيل الحالي، ويرجع ذلك إلى أربعة أسباب. وأورد من بين الأسباب السببَ الذي أراه أنا أهمها وأعظمها شأنًا، وهو هبوط مستوى معلِّم اللغة العربية. ويقول: إن هذا يظهر من قبول كليات الأزهر المتخصصة لطلابٍ لم يتلقَّوا اللغة العربية في معهد الأزهر. ويقترح الأستاذ حليم فريد تادرس تقريرَ أجزاء من القرآن الكريم على تلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية حفظًا وتفسيرًا، بحيث ينتهي الطالب من مراحل التعليم قبل الجامعي، وقد حفظ معظم القرآن الكريم. ويرى الأستاذ أنَّ تلك من ناحيةٍ ضرورة دينية، ومن ناحية أخرى ضرورة تعليمية لغوية خاصة، إذا علمنا أن اللغة العربية ترتبط ببلاغة القرآن، هذا المعجز الخارق، على حد تعبير الأستاذ حليم. ويرى الأستاذ أيضًا إعادةَ النظر في نظام القبول الحالي بكلية دار العلوم وكليات اللغة العربية بالأزهر، وأقسام اللغة العربية بالجامعات المصرية، بحيث لا يتسرَّب إلى هذه الكليات أو الأقسام إلا مَن تؤهله قدرته اللغوية على دراسة اللغة العربية والتخصص فيها، أسوةً بما هو متَّبع في أقسام اللغات الأجنبية بالجامعات.

ويرى الأستاذ حليم أنه لا بد من عودة الأزهر إلى ساحته الأساسية، ليقوم بوظائفه الأساسية مسجدًا جامعًا، ومجمعًا لحراسة الإسلام وحماية دعوته، وجامعة كبرى للتربية والتعليم الدينيَّين، وعلى رأسهما القرآن الكريم واللغة العربية، ليؤدي على الأقل الدور الذي أداه في عهد العثمانيِّين (٩٢٢–١٢١٣م) وهو العهد الذي استغرق نحو ثلاثة قرون، كانت من أسوأ عهود الأزهر والأمة الإسلامية في تاريخه العلمي والثقافي؛ إذ كان للأزهر في هذا العهد الفضل الأكبر في مغالبة عوامل الانحلال والضَّعف والعُجمة، وفي حفظِ ما بقي من التراث العلمي والعربي. ولولاه لقُضي على هذا التراث، بل لقُضي على اللغة العربية ذاتها.

وإلى هنا ينتهي كلام الأستاذ حليم فريد تادرس موجِّه الفلسفة، وتبدأ حسراتنا تعود إلينا أمواجًا كثيفة، وسوادًا ما له من بَصيص. لقد انحسر الأزهر الشريف عن حياتنا، وأصبح عهد العثمانيِّين، الذي كان من أحلك عهود مصر، أملًا لنا نصبو إليه ونهفو إلى المكانة التي بلغها الأزهر في ظلال أيامه.

وتجتاح النفسَ أمواج أخرى من الألم، وأوشك أن أقول من الخزي، ونحن نرى اللغات الأجنبية في الجامعات تنال نصيبًا وافرًا من الاهتمام، بينما تضيع لغتنا ويلتوي لساننا بالعجمة في بلد الأزهر مصر عميدة الشرق العربي.

والإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، رجلٌ جليل فاضل، وأنا لا أشك لحظة أنه على بينة بهذا الهوان الذي تعانيه لغة القرآن، وهو قادر على أن يردَّ على المدافعين عن الجامعة الحديثة بقولهم إن أغلب الصحابة كانوا لا يحفظون القرآن، بكلمة بسيطةٍ غاية البساطة، هي أن لسان الصحابة كان عربيًّا أصيلًا، ولم تكن اللكنة والانهيار والضَّياع قد أصابت اللغة العربية، فما عليهم من بأسٍ ألا يحفظوا القرآن. والصحابة لم يكونوا معلِّمين للغة العربية في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعة، ولو كانوا لعلَّموا أبناء العربية كيف يكون النطق العربي، والنحو العربي، واللسان العربي. أمَّا المدرسون اليوم فهيهات أن يستطيعوا تعليم العربية؛ لأنهم هم أنفسهم لم يتعلموها. ولا يمكن أن يُعطِي الشيءَ مَن لا يملكه. وإني أحذِّر أن يأتيَ إليَّ مثل هذا الخطاب الذي جاءني منذ قريبٍ من شاب يقول إنني ظلمت الجيل الجديد حين رميته بالجهل. ويذكر لي صاحب الخطاب أنه هو شخصيًّا يعرف خمس لغات. يا أخانا إننا حين نقول كلامًا عن فئة أو عن جيل، إنما نذكر الصفات الغالبة في هذا الجيل، والاستثناء يؤكد القاعدة. تُرى هل هناك مزيد يقال؟ وإن كان هناك مزيد، هل هناك فائدة تُرجى من قوله؟ ما أظن. ومرةً أخرى حسبنا الله ونعم الوكيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥