عودة إلى الأزهر

لم أكن أتصوَّر حين نَشرت مقالتي عن عدم اشتراط حفظ القرآن للدارسين بالكليَّات الدينية بجامعة الأزهر، أنه سيثير ما أثاره. ولعل أهم، بل إنَّ أهم ما جاءني بشأنه برقية من الشيخ الجليل العالِم المُجمَع على قيمته العلمية والخُلقية فضيلة الشيخ عبد العزيز عيسى وزير الأوقاف وشئون الأزهر الأسبق … لا أملِك قِبَلها إلا الشكر والإجلال.

أمَّا الأحاديث الأخرى، فقد تبيَّن لي منها أن المصريين، فيما يبدو، لا يقدِّرون معنى وجود الأزهر في عاصمتهم؛ فقد تعوَّدوا أن يجدوه، وجعلهم هذا التعوُّد يظنون أن وجوده أمرٌ طبيعي.

فهم لا يقدِّرون مثلًا أنه إذا كانت آثار مصر الفرعونية والإسلامية تدل على حضارة عريقة لمصر، فإن الأزهر بالألف عام التي تضيء جوانبه، والتي أضاءت به وبعلمائه جميعَ أنحاء العالم الإسلامي، في كل بقاع الأرض، وفي القارات جميعًا بلا استثناء، يمثل الحضارة الحديثة لمصر.

ولعلهم لا يعرِفون أن تعبير كرسي الأستاذية، المستعمل الآن في كل جامعات العالم، مستمدٌّ من كرسي الشيخ الملاصق لعمود من أعمدة الأزهر.

فأعمدة الأزهر هذه هي أعمدة الثقافة الإسلامية في العالم أجمع.

ومن الجلوس حول هذه الأعمدة تخرَّج لا الأئمة الهداة في الدين وحدَه، وإنما الأعلام الأفذاذ في كل ميادين الحياة العلمية. وحسبي وحسبك أن نذكر سعد زغلول والهلباوي وطه حسين، ولا أطيق وما يطيق أحدٌ أن يحصيهم عددًا. وقد لقيني الأستاذ الجليل الدكتور كامل حته، فأبدى رضاءه عن مقالي، ولكنه استدرك أنه لا بأس أن يتعلم الطبيب أو المهندس أو المحامي أو غيرهم، شيئًا من علوم الدين إلى جانب علومهم.

والدكتور كامل على حق، ولكن هذه العجالة البسيطة من التعليم الديني، التي تصاحب ما يدرُسه هؤلاء، يمكن تدريسها في أية كلية دون حاجة أن تكون هذه الكلية تابعة لجامعة اسمها الجامعة الأزهرية. وقد كنا في كلية الحقوق بجامعة فؤاد، التي صار اسمها جامعة القاهرة بعد تخرجنا، وكنا ندرُس الشريعة الإسلامية على أئمةٍ لا اختلاف في قيمتهم العلمية ومكانتهم في الثقافة الدينية، وهم الشيخ علي الخفيف والشيخ محمد أبو زهرة والشيخ عبد الوهاب خلاف. وقد كان يمكن أن يدرِّسوا لنا جانبًا من قواعد الدين إذا تقرَّر ذلك.

ولكن ليس هذا ما أهدف إليه، فإنه حتمٌ على كل ذي دِين أن يكون على علمٍ بالأسس الهامة في دينه، ولا فضل له في ذلك، وإنما ينصرف حديثي إلى الكليات التي ستخرِّج أمثال هؤلاء الأساتذة الأعلام، وكيف يتخرَّجون اليوم وهم لا يحفظون القرآن، وكيف يكفُّ الأزهر عن مهمته الأصلية في تخريج الأئمة الهداة والأساتذة الأعلام … وكيف يصبحون كذلك وهم لا يحفظون القرآن الكريم.

لقد ألغي حفظ القرآن تمامًا من الدراسة المصرية. والمصيبة تتجسَّم في المتخرجين في الكليات الدينية، التي لا تستوجب حفظ القرآن على مَن يريد أن ينتسب إليها، بينما كان هذا حتمًا على كلِّ مَن يريد أن يكون من العلماء.

وكان حتمًا أيضًا على طلاب دار العلوم التي كان الدخول إليها بثانوية الأزهر، فجميعهم كان من حفظة القرآن الكريم. ومنذ ألغي هذا الشرط ألغيت اللغة العربية من المدارس، وأصبح الذين يدرِّسونها ضعافًا بصورةٍ تدعو إلى الحسرة والألم. ولا أريد أن أزيد حتى لا أمزِّق الجراح.

وكان حتمًا أيضًا على طلاب كلية القضاء الشرعي. ولست أدري كيف سيجلس القضاة الشرعيون في غدٍ يفصِلون في قضايا شرعية وهم لا يحفظون المنبع الأول لهذه الشريعة؟

إن عدم حفظ القرآن الكريم للعاملين في ميدان التعليم الديني كارثة على الدين. وهو أيضًا كارثة على اللغة، ولا بد أن تُستدرك.

ولا يكون هذا الاستدراك إلا بوسيلتين متلازمتين؛ إحداهما عاجلة والأخرى آجلة، الأولى أن يُفرض حفظ جانب كبير من القرآن على الطلبة الحاليين في هذه الكليات، والثانية الآجلة أن يصدُر قانون يحدَّد له عام معيَّن، يجعل الانتساب إلى هذه الكليات ممنوعًا إلا على مَن يحفظ القرآن الكريم.

وقد يقال شيء على جانب كثير من الوجاهة.

كان الذين ينتسبون إلى الأزهر واحدًا من اثنين؛ إمَّا أن يكون أبوه قد نذره للأزهر، كما حدث لأسرة عبد الرازق، فتخرَّج منها في الأزهر الشيخ الجليل مصطفى عبد الرازق والشيخ الجليل علي عبد الرازق. وكان مثلهم من أبناء الأثرياء عددًا ليس كبيرًا ولكنه أيضًا لم يكن قليلًا.

وإمَّا أن يذهب الطالب إلى الأزهر لأن التعليم فيه كان مجانيًّا، بل كانت تُجرى على الطلاب رواتبُ ضئيلة، ولكنها كانت في زمانها ذات شأن. واليوم المفروض رسميًّا أن التعليم كله مجاني، ومهما يكن هذا غير حقيقي في جوهره إلا أنه على كلٍّ حقيقة رسمية.

والمبلغ الذي كان يُرصد للطلبة لم يَعُد يغري أحدًا.

ولهذا فلا بد أن يصدُر تشريع يجعل المتخرِّج في الكليات الدينية من الجامعة الأزهرية ينال ضِعفي مرتب المتخرِّج في الكليات الأخرى، ليكون ذلك دافعًا له أن يحفظ القرآن إلى جانب العلوم الدينية واللغوية الأخرى، وهي كثيرة.

وكان من المقرر أيضًا أن يُعفى من الجندية الذين يحفظون القرآن. والحقيقة أن هذا دافعٌ قوي ينبغي العودة إلى العمل به.

وبعد، فقد تفضَّل الشيخ الجليل عبد العزيز عيسى فطلب إليَّ أن أكتب ثانية في هذا الموضوع. وإني على استعداد أن أكتب ثانيةً وألفًا ليتحقق هذا الهدف، وإني من برقية الشيخ عبد العزيز عيسى أوجِّه الدعوة إلى الكُتاب جميعًا أن يكتبوا آراءهم في هذا الشأن.

فالسكوت على الجريمة جريمة، ومحاولة هدم ديننا ولغتنا أعظمُ جريمةٍ تُرتكب في هذا العصر؛ لأن الدِّين والعقيدة هما الأساس الروحي للإنسان، واللغة هي العقل الذي امتاز به الإنسان على الحيوان، حين يخرج هذا العقل من مكامنه الخفية ليعرض على الناس، وليتبينوا من الحديث ما وراء الحديث من علم أو من جهل.

وأعدء الإنسان أنصار الإلحاد، والمشرِّعون لهدم الوظيفة الأساسية للأزهر، يقوم مذهبهم على هدم الدين ليهدموا به الروح عند الإنسان.

وعلى هدم العقل ليقبل ما يفرضه المذهب الملحد من جعل الإنسان قطعة من آلة، أو حيوانًا في حقل.

ولكن هيهات … فهذا الدِّين يقف وراءه ربٌّ عزيز مقتدر قال في كتابه الخالد الباقي: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.

سبحانه وإنه له لحافظ، وإن رغمت أنوف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥