لا بد أن يعود الأزهر إلى الأزهر

يوافيني البريد بكثيرٍ من الخطابات والمقالات حول موضوع القرآن والأزهر الشريف، وإني أنشر هنا خطابًا من الدكتور غسان زكي بدر، أستاذ علم الاجتماع المساعد بآداب عين شمس. ولي على ما كتبه الدكتور تعليق، ثم لي على الموقف جميعه تعليق آخر.

يقول الدكتور:

لقد قامت دعوة تطوير الجامعة الأزهرية على أساس الغيرة على مستقبل هذه الجامعة العريقة، التي يرجع استمرار تاريخها لأكثر من ألف سنة، وتعتبر بذلك أقدمَ الجامعات المعاصرة في العالم. وإذا كانت دعوة التطوير صاحَبَها بعض الإخفاقات، فليس في هذا ما يجعلنا نَصِم عمليةَ التطوير ككل، وإنما تدعونا إلى مراجعةِ ما في عملية التطوير من إيجابيات وسلبيات، فننمي الأولى ونتجنَّب الثانية، دون الرِّدة إلى حالة الجمود التي كانت عليها جامعة الأزهر قبل عملية التطوير.

حقًّا لا أحد ينكر على الأزهر تخريجه لعديد من روَّاد حركتنا الحديثة في النهضة في مجالات الدين الإسلامي والأدب العربي؛ فليس بيننا مَن لا يجد أن رسالة الأزهر الأساسية يجب أن تتركز في رعاية هذين التخصصين من المعرفة الإنسانية، ولا أن تنبع شهرة الأزهر من العناية بهما، لكن هناك اعتبارات حضارية معاصرة تملي على الأزهر ضرورةَ الاهتمام بأن يكون جامعة بكلِّ ما تحمله هذه الكلمة من معاني الإحاطة، بكل معرفة على المستوى التخصصي في البحث والتعليم. ومع أن الطب تخصُّص وتعليم يمكن أن يقوم في كل جامعة، إلا أن جامعة الأزهر يجب أن تتضمن هذا التخصص؛ ليس لأن هناك طبًّا إسلاميًّا وطبًّا غير إسلامي، وإنما لإعداد الأطباء الغيورين على الدين الإسلامي؛ ليكونوا دعاةً إسلاميين في مجال تخصصهم، وليُولوا مسائل البحث الطبية المتصلة بالديانة الإسلامية أولويةً في الكشف عن حقائقها، كما يهتمون بمكافحة أمراض المناطق التي بها تجمُّعات من المسلمين، وتوفر الطبيب المسلم الذي يفضِّل العمل بين أبناء دينه، مهما كانت ظروف حياتهم، على تفضيل العمل في مناطقَ حصلت من الرعاية الطبية على قدرٍ مناسبٍ، لا لشيءٍ إلا لتوفُّر فرص الحياة المغرية من أجورٍ ومعيشةٍ مدَنية، وما يقال عن الطبيب يُقال عن المحامي وعن المهندس وعن الزراعي والاقتصادي … إلخ.

والواقع أنه لا خلاف في المناقشة الحالية حول هذه الأمور؛ فهي مسلَّمات معروفة، ولكني أردتُ ذكرها؛ حتى تكون أمام أعيننا في مناقشةِ ضَعف أسلوب الإعداد الديني لطلاب جامعة الأزهر في تخصصاتهم المختلفة. وفي رأيي يرجع ضَعف الأسلوب حاليًّا لعملية التطوير التي جاءت بقرار تم تنفيذه في يومٍ وليلةٍ، فاستعان الأزهر بهيئات تدريس من غير أبناء الأزهر. ومع أنه استعان بأساتذة أفاضل تخصصًا ودينًا، إلا أنَّ أسلوبهم في وضع مناهج الدراسة والإعداد التخصصي للطلاب جاء بعيدًا عن رسالة الأزهر الحقيقية ورسالة تطويره، واعتبر الأزهر كأي جامعةٍ أخرى في رسالته. وكان الواجب ألا يعتدَّ في التعيين في الأزهر لوظائف التدريس بالشهادات ومعادلتها، وفقًا لنظام المجلس الأعلى للجامعات؛ وإنما كان يجب أن يكون لجامعة الأزهر معاييرها الخاصة، فتكون الدرجة العلمية والمؤهل التخصصي أحدَ جوانب هذه المعايير، وتكون الغيرة على الإسلام والمبادئ الإنسانية العامة جوانبها الأخرى. فلا ضرر في إجراء امتحان للمتقدِّم للتعيين، إلا أن يكون معروفًا بكتاباته التي ترى لجنة التعيين أنها كافية ومناسبة لأهداف جامعة الأزهر.

ولعل من الأخطاء التي وقعت فيها جامعة الأزهر في الحصول على طلابها، أنها سمحت للحاصلين على الثانوية العامة بفرصة التقدُّم إليها، على أن يقضوا في أول التحاقهم سنةً دراسية في دراسات دينية، معتبرة أن ذلك أسلوبٌ قويم في إعداد الطالب الإسلامي، الذي سيحمل رسالة الأزهر. والواقع أنَّ طالب الجامعة الأزهرية من غير الحاصلين على ثانوية الأزهر يجب أن يلتحق بنظامٍ مختلف عن نظام التنسيق، يجب أن يكون الالتحاق بامتحان مسابقة أو معادلة تُحدَّد فيه مواد تُساوي بين طالب الثانوية العامة وطالب الثانوية الأزهرية، والتي على طالب الثانوية العامة النجاح فيها قبل الالتحاق بالجامعة الأزهرية في التخصص الذي يريده؛ فالعبرة يجب أن تكون استيعاب هذه المواد مهما تعدَّدت وليس سنة دراسية، واستيعاب بعض المواد التي يُراعَى في تصحيحها أن الطالب ليست له فرصة الالتحاق بكليةٍ أخرى في جامعة أخرى.

والتعليم الأزهري ليس بتعليم عام تتولَّاه الدولة، وإنما هو نوع من التعليم الخاص الإسلامي تتولاه وزارة الأوقاف، بما لها من رسالة وتمويل إسلامي؛ فهي تساعد الدولة في أداء سياستها العامة، ولكن ليس على حساب رسالتها الخاصة. وهذا حق للأزهر ومعاهده، كما أن حق الدولة أنَّ هناك تعليمًا أساسيًّا، تضع أسسه الدولة وتلتزم به المعاهد الأزهرية بالنسبة لمراحل التعليم حتى الثانوية العامة، كالتزام مدارس اللغات به، رغم تميزها في نوعيتها التعليمية.

وهذا الموضوع يقودنا إلى كلمةٍ سريعةٍ عن ضرورة تطوير التعليم الأزهري في المعاهد على أسسٍ من هذا المعنى، من الحضانة إلى الثانوية العامة، حتى تكون أمام تلميذ هذه المعاهد فرصةُ التحويل من وإلى التعليم العام في الدولة، فتضمن له حريته الشخصية وحرية أسرته في تعليمه العام والأزهري على حدٍّ سواء.

بقي بعد ذلك كلمةٌ بالنسبة لحفظ القرآن الكريم، وهي ما أثار في الوقت الحالي المناقشةَ حول موضوع تطوير الأزهر؛ فالحفظ ضرورة لطالب الأزهر ومعاهده، ويمكن أن يُراعَى في أسلوبه وطريقة الامتحان فيه أساليبُ التربية التي تراعي القدرات الفردية. وهي مهمةٌ يمكن أن تنهض بها كلية التربية بالأزهر، وإن كان لي في هذا الموضوع رأيٌ شخصي — ولا يعتد به — فهو أنني أرى أنَّ فهْم المعاني له أولوية على الحفظ؛ فإلى جانبِ أنه يُسهِّل الحفظ، فسيسمح للمتخصِّص بالبحث عن النص الحرفي في الكتاب الكريم إذا أراد، فليس من الملزم التشدُّد في الحفظ الفائق للنص، وإنما يمكن التيسير مع المحافظة أن يكون معيار الكمال هو الحفظ الفائق الكامل السليم الواعي، وما أدعو إليه هو ما أعتقد أنه فعلًا سائد اليوم بين شباب الأزهر، وهم أزهريو النشأة.

وتقبلوا خالص شكري

أبدأ فأتشكَّك كثيرًا أنَّ دعوة تطوير الأزهر قد قامت على أساس الغيرة على مستقبل هذه الجامعة العريقة؛ فليس يصح في العقول أنَّ الغيرة على مستقبلِ جامعةٍ أساسها الدين القائم على القرآن تُلغي حفظ القرآن من شروط الانتساب إلى الكليات الدينية.

أما ما جاء بعد ذلك في خطاب الدكتور من الاعتبارات الحضارية، فإني أحترمها وأعتقد أنني أشَرت قبل ذلك أن تعليم الأسس العامة للدين وجانب من القرآن الكريم لدارسي الطب أو الهندسة أو الحقوق أو غيرها واجبٌ حتمي لا يعترض عليه أحد، إلا أنه أمر يمكن أن يتم في أي كلية، ولا بأسَ أيضًا أن يكون هناك جامعة أزهرية تحقِّق هذا الهدف.

ولكنَّ هؤلاء الخريجين لا يمثلون الأئمة الدينيين الذين ننادي بوجوب حفظهم للقرآن، والجزء لا يغني عن الكل.

وكان من الطبيعي، لو أنَّ النيات خالصةٌ أن تُقام الجامعة الأزهرية لتعليم العلوم الدنيوية جميعًا مع بعض العلوم الدينية، وتبقى مع ذلك مهمة الأزهر الأساسية على حالها.

والدكتور لا يعارض في هذا، وإنما يثبت معنًى أشرتُ أنا إليه إشارةً عابرة حين أوردت حديثي مع الأستاذ الفاضل كامل حتة، ولكن يبدو أن الدكتور خشِي أن تمرَّ الإشارة دون الانتباه إليها.

وإذن فأنا متفقٌ مع الدكتور غسان زكي بدر في كلِّ ما جاء في خطابه، فيما عدا حُسن ظنه بمن نفَّذ دعوةَ تطوير الأزهر.

وبعد، فما لهذا الحديث لا يصل إلى أحدٍ من المسئولين عن الجامعة الأزهرية؟ أيكونون في بلد آخر غير مصر، أم تُرى الأهرام تصدر في المريخ؟

وإن لم يهتموا بكلامٍ يُنشر عن دين الله وقرآنه وجامعتهم، فبماذا يا تُرى يكون اهتمامهم؟

أيظنون أننا ننشر هذا الكلام للشهرة وللإثارة الصحفية، إذن فهو العجب، فما أنا بحاجةٍ إلى شهرةٍ، وليس الشيخ الجليل عبد العزيز عيسى بحاجة إلى شهرة، والأهرام أكبر من أن أذكر قيمته في الصحافة العالمية، فما هو بحاجةٍ إلى إثارةٍ صحفية.

وإن كان هذا الصمت موجهًا إليَّ، فأنا منه بناجية، فأنا لا أكتب في موضوع خاص، وإن كان موجهًا إلى الصحافة كلها، ممثلة في كبرى الصحف العربية. فويل إذن لمستقبل الثقافة الدينية عندنا، إذا كان القائمون بأمرها لا يعرفون الخطير من الأمور والهين منها.

وقد كنتُ فيما كتبتُ غايةً في الرفق؛ فأنا لم أحمِّلهم مسئولية السماح لمن لم يحفظوا القرآن بأن يعلِّموا القرآن والشريعة الإسلامية، فمعارضتهم في تلك الأيام كانت بطولة، وأنا لستُ من السذاجة حتى أحاسب قومًا على عدم البطولة، وقد كان العهد مقتصدًا تدمير الدين واللغة.

وإن كان هناك قوم كثيرون من كل الأديان وضعوا رقابهم على أيديهم في سبيل ما يعتنقون، ولكن مع ذلك لا جُناح عليهم.

أما اليوم ورئيس الجمهورية يصدر أوامره أن يكون تعليم الدين في كل سنة دراسية، وبأمر، فالدين مادةٌ أساسية لا ينجح الطالب أو ينجح فيها.

فكيف إذن السكوت اليوم على قومٍ سيدرِّسون الدين لأبنائنا في غدٍ، وهم لا يحفظون القرآن الكريم؟

إنَّ هذا النظام جريمة مستمرة، والسكوت عنها مشاركة فيها.

وبعد، فنحن لا نبتغي في هذا الذي نكتبه إلا وجه الله والحق، وأحسب هذا الوجه الأكرم، وهذا الهدف الجليل، هما غاية الأساتذة الأجلَّاء الذين يقومون بشأن الجامعة الأزهرية، فإن لم، فحتمٌ من الحتم ألا يتغيَّوا غير هذين في دينهم ودنياهم … وحسبهم سبحانه، والحق غاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥