خطاب وتعليق
(١) الخطاب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد …
أعتقد أنك قد قسوت كثيرًا على المسئولين عن جامعة الأزهر في حديثك وقرآنهم وجامعتهم، وعدم اهتمامهم بذلك، كما لو أنَّ الأهرام تصدر في المريخ، وكما لو أنهم يعيشون في بلدٍ آخر غير مصر … إلخ.
وليس الذي يحملني على الكتابة إليك اليوم هو هذا المعنى الذي أشرت إليه.
فقد تابعت أنا وغيري من الأزهريين ما كتبتَ، وفي مجلسٍ ضمَّ مجموعة من علماء الأزهر، على رأسهم فضيلة الشيخ عبد العزيز عيسى، شكرنا لك غَيْرتك واهتمامك بالأزهر ودوره، وكان هذا قبل أن تنشر شيئًا عن برقية فضيلة الشيخ عبد العزيز عيسى.
ولا جدال في أن المستوى التعليمي في معاهد الأزهر وجامعته قد هبَط بشكل ملحوظ.
ولكن الحق أن هذه الظاهرة لا تقتصر على الأزهر وجامعته فقط، بل تمتد إلى المدارس العامة والجامعات الأخرى في الدولة؛ فهبوط المستوى التعليمي أصبح اليوم قضية عامة.
ولكن هذا لا يُعفينا من الاهتمام بشكل خاص بنوعية التعليم الديني والارتفاع بمستواه. وفي البداية لا أريد أن أجعل — كما يفعل غيري — من قانون تطوير الأزهر شماعةً تُعلَّق عليها كل الأخطاء.
فالهدف الرسمي المعلَن في المادة الثانية من قانون تطوير الأزهر «رقم ذ ١٠ لسنة ١٩٦١م» وفي المادة «٣٣» أيضًا هو إعداد «العلماء العاملين الذين يجمعون إلى الإيمان بالله والثقة بالنفس وقوة الروح، والتفقه في العقيدة والشريعة ولغة القرآن الكريم، كفايةً علمية وعملية ومهنية لتأكيد الصلة بين الدين والحياة، والربط بين العقيدة والسلوك، وتأهيل عالِم الدين للمشاركة في كل أنواع النشاط والإنتاج والريادة والقدوة الطيبة، وعالِم الدنيا للمشاركة في الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة … إلخ.»
ولو طُبِّق قانون تطوير الأزهر تطبيقًا سليمًا، لوصلنا إلى هذا الهدف النبيل، حتى وإن كان الداعون إلى هذا التطوير يقصدون غير ذلك.
ولستُ أدافع عن قانون التطوير، ولم يكن لي فيه أي دورٍ، وإنما أريد فقط أن أشير إلى أن هناك عواملَ أخرى وراء ضعف المستوى التعليمي في الأزهر، وعدم الاهتمام بحفظ القرآن الكريم.
- (١)
لم يكن الأزهر في يومٍ من الأيام دارًا لتحفيظ القرآن الكريم؛ فهذه المهمة كانت تقوم بها الكتاتيب المنتشرة في كل مكان. وقد انقرضت هذه الكتاتيب للأسف. وفي الوقت الذي ندعو فيه جميعًا إلى إعادتها، يفاجئنا التليفزيون بمسلسل «الأيام»، يصوِّر لنا فيه «سيدنا» في صورة الأفَّاق الدجال الكذاب، بشكلٍ يوحي بالتعمُّد في تصوير هذه الشخصية بهذه الصورة، في هذا الوقت بالذات؛ حتى لا يبعث أحدٌ بطفله إلى الكتاتيب لو أعيد فتحها.
- (٢)
الذي حدث في السنوات الأخيرة — وما زال يحدث حتى الآن — هو قبول أعداد كبيرة من التلاميذ في معاهد الأزهر الإعدادية والثانوية لا يحفظون القرآن الكريم، أو حتى قدرًا يسيرًا منه.
وكانت سياسة توسيع القاعدة العريضة للمعاهد الأزهرية — مع توفُّر حسن النية — سببًا في التحاق أفواج كبيرة من التلاميذ بمعاهد الأزهر، لا يحفظون شيئًا من كتاب الله.
وقد سُمح ولا يزال يُسمح أيضًا لحمَلة الإعدادية العامة، ممن لم تقبلهم مدارس وزارة التربية والتعليم لضعفِ مستواهم وانخفاض درجاتهم، بالالتحاق بالمعاهد الثانوية الأزهرية. وهم أيضًا لا يحفظون القرآن الكريم. وكانت تُجرى لهم امتحانات قبول صورية. وحتى لو أجريت هذه الامتحانات بكل جِدية؛ فلن تتعدى ما حفظوه من القرآن الكريم في المدارس الإعدادية، وهو قدْر ضئيل جدًّا لا يفي إطلاقًا بمتطلبات المدرسة الأزهرية الثانوية.
وهذه الأعداد الكبيرة من حَمَلة الإعدادية العامة، والتي لا تحفظ القرآن الكريم، تكاد تكون هي المصدر الرئيسي الذي سيغذي الكليات الدينية بجامعة الأزهر لسنوات طويلة مقبلة؛ إذ إن هذه الأعداد ضعيفة المستوى أصلًا في مواد المدارس العامة، ويزداد ضَعف مستواها أيضًا بإضافة دراسة المواد الدينية والعربية في معاهد الأزهر … والنتيجة هي الحصول في النهاية على شهادة الثانوية الأزهرية بمجموعٍ ضعيف.
وأصحاب المجاميع الضعيفة يوزِّعهم مكتب التنسيق بجامعة الأزهر على الكليات الدينية؛ لأن أصحاب المجاميع العالية يلحقون بكليات الطب والهندسة … إلخ.
وهكذا يتضح لنا أنَّ ضعف المستوى التعليمي في معاهد الأزهر، وإهمال حفظ القرآن الكريم، يرجع إلى سياسة الارتجال، وانعدام التخطيط السليم.
- (٣)
أمَّا عن المستوى في الكليات الدينية بجامعة الأزهر، فقد قلتُ في اجتماعات بعض اللجان المختصة: إنَّ هذا المستوى سيظل هابطًا ما دام أن مستوى الطلاب القادمين إلى هذه الكليات هابط أساسًا.
وجامعة الأزهر لم تُلغِ حفظ القرآن الكريم كشرطٍ من شروط الانتساب إلى الكليات الدينية؛ فهي كلياتٌ لا تقبل إلا حَمَلة الثانوية الأزهرية الذين يُفترض فيهم أنهم يحفظون القرآن الكريم ويُمتحنون فيه سنويًّا.
وإذا كان الواقع غير ذلك، فما علينا إلا أن نحاول إصلاحَ ما أفسده الدهر في معاهد الأزهر. ولهذا نقوم بالتشديد على حفظ القرآن الكريم، فيُمتحن الطالب في الكليات الدينية شفويًّا وتحريريًّا في السنة الأولى في ربع القرآن الكريم، وفي السنة الثانية في نصف القرآن الكريم، وفي السنة الثالثة في ثلاثة أرباع القرآن الكريم، وفي السنة الرابعة في القرآن الكريم كله.
وفي هذا المقام أودُّ أن أشير إلى أنه؛ نتيجةً لتشددنا في كلية أصول الدين بالقاهرة في امتحانات القرآن الكريم في العام الجامعي ١٩٧٧/ ١٩٧٨م، كانت نسبة الرسوب ٧٠٪ في مادة القرآن الكريم، وبلغت هذه النسبة في العام الجامعي ١٩٧٨/ ١٩٧٩م حوالي ٦٠٪.
ولعلاج ظاهرة الرسوب في هذه المادة، قرَّرت الجامعة أن يكون هناك دورٌ ثانٍ في شهر سبتمبر من كل عام في مادة القرآن الكريم فقط، لمن يرسبون فيها في الدور الأول. وبذلك تتاح الفرصة أمام الطلاب ليعيدوا حفظ ما فاتهم في أثناء الإجازة الصيفية. هذا الحرص التام من جانب كلية أصول الدين — التي تخرِّج الدعاة — على حفظ القرآن الكريم، جعل البعض من طلاب السنة الأولى يطلبون التحويل إلى كليات أخرى.
واستمرارًا لسياسة التشديد على حفظ القرآن الكريم في كلية أصول الدين، يشترط مجلس الكلية نجاح طالب الدكتوراه في امتحانٍ للقرآن الكريم شفويًّا وتحريريًّا قبل السماح له بمناقشة رسالته للدكتوراه. وهذا إجراءٌ تنفرد به كلية أصول الدين.
وفي النهاية أودُّ أن أشير إلى أننا إذا أردنا أن «يعود الأزهر إلى الأزهر» كما هو عنوان مقالكم الأخير، فلا بد أن يبدأ الإصلاح من القاعدة، من مدارس الأزهر الابتدائية والإعدادية والثانوية.
فالحديث عن هبوط المستوى في الكليات الدينية، وضَعف مستوى حفظ القرآن الكريم فيها حديثًا منفصلًا عن الحديث عن هذه القاعدة العريضة التي تغذِّي تلك الكليات، أمرٌ لن يجدي نفعًا، ولن يغني فتيلًا ما دامت القاعدة مريضة.
وكيف يستقيم الظل والعود أعوج؟! وأودُّ أيضًا أن أحذِّر من دعوة بدأت تطل برأسها في الآونة الأخيرة، وهي الدعوة إلى فصل كليات الأزهر الدينية عن الكليات الأزهرية الحديثة، كما لو أنَّ ضعف المستوى في الكليات الدينية سببه وجود الكليات الحديثة بالأزهر.
إنَّ الإسلام دين ودنيا، ويجب أن تكون رسالة الأزهر تخريج عالِم الدين الفاهم لرسالته الواعي بمسئولياته، وعالِم الدنيا الملتزم بقيم الإسلام وآدابه. وإذا كان هناك قصور في أي جانب يمكن علاجه؛ فوراء دعوة الانفصالية هذه أغراض كثيرة خفية لا نريد أن نخوض فيها.
ولكم مني خالص التحية والتقدير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(٢) تعليق وليس ردًّا
أنا يا سيدي لم أقصد أن يكون الأزهر مدرسةً لتحفيظ القرآن الكريم، ولو أنَّ هذا المعنى كريم ولا ضير فيه على الأزهر، وإنما أنا أرجو أن يعود الأزهر إلى اشتراط حفظ القرآن الكريم لكلِّ مَن ينتسب إليه، وبهذا يصبح كل منتسبٍ للأزهر في الكليات الدينية حافظًا للقرآن الكريم. وقد كان هذا هو الشأن. وكان الطلبة يُمتحنون في القرآن الكريم عند دخولهم، ثم في ابتدائية الأزهر، ثم في ثانوية الأزهر، ثم في امتحان العالمية أيضًا. ولا شك أنَّ مولانا الدكتور محمود حمدي زقزوق يعرف هذا كل المعرفة؛ ولهذا كان خريجو الأزهر مرجعًا في القرآن الكريم، وفي اللغة العربية معًا. وأنا يا سيدي أرجو، وأظن أنك ترجو معي، أن يكون الإجراء الذي تتخذونه في كلية أصول الدين عامًّا في كل الكليات التي تتولى التعليم الديني، ولا شك أنكم ترجون هذا معي. وإني يا سيدي لأعجبُ من لهجة الدفاع عن الأزهر التي أحسُّ بها في بعض الخطابات، أو في قليلٍ من الخطابات، التي ترِد إليَّ من أساتذة الأزهر، وقد كنت أعتقد أنهم سيؤيدون كلَّ ما أذهب إليه.
فحفظ القرآن الكريم غاية ووسيلة، هو غاية لأنه من الطبيعي أن يحفظ الإمام أساسَ دينه، وهو وسيلة لأنه يقوِّم اللسان العربي إلى جانب الدين القيم. ونحن نظن أنَّ لساننا العربي عبر العصور لم يستقِم إلا لأن الأساتذة الذين أشرفوا على تعليم اللغة كانوا منتسبين إلى الكليات الأزهرية، سواء كان ذلك في الجامعة الأزهرية نفسها، أو في كلية دار العلوم أيام كانت تعلِّم اللغة العربية.
وبعدُ يا سيدي، فإني أعتذر إليك عما ظننته قسوة، ولو أنني كنت أنتظر اعتذارًا لي عما ظننته أنا إهمالًا لقضيةٍ من أخطر قضايا الأزهر الشريف، إن لم تكن أخطرها.
ومع شكري يا سيدي على خطابك الكريم، لك مني كل إجلال واحترام.
(٣) الأزهر يعود إلى الأزهر
يعلم الله وحدَه كم سعدتُ بهذا الخطاب الذي أنشره اليوم موجَّهًا إلى الأهرام من فضيلة وكيل الأزهر، بناءً على توجيهٍ من مولانا الإمام الأكبر.
وما أعظمَ أن يدرك المسئولون أهميةَ ما دعونا إليه، وهذا الخطاب إنما هو بشرى أزفُّها إلى العالم أجمع، بجميع معتقداته ومتجهاته؛ فقد اتَّضح لي في هذه الأساليب القليلة أن الأزهر يُمثل معنًى رفيعًا لكل ذي عقيدةٍ في العالم، ويمثل تاريخًا سامقًا لكل مثقفٍ حرٍّ في أنحاء المعمورة.
وإنني بهذا الخطاب الذي تفضلَتْ به مشيخة الأزهر، أعتبر الواجب الذي حمَلَته هذه الصفحة على عاتقها، قد بلغ غايته، وأوفى على هدفه.
والكلمة من إمام المسلمين الأكبر، عهدُ رجل يحمل على كتفَيه مسئولية العهد، وتتجه عيناه في كل ما يفعل إلى رب السموات ذي العزة.
وحسبنا عهد الإمام الأكبر، لتطمئن إليه قلوبنا، وترسو على شواطئ وعده ما اضطرب من سفين.
وإذا حاولتُ اليوم أن أقف في ساحة الإمام الأكبر خاشعًا، أقدِّم الشكر لعهده، فإني أكون متقحمًا لنفسي مكانًا ليس لي؛ فهو بخيرِ الأزهر أدرى، وهو بسبيله الأقومِ أعلم، وهو بما بينه وبين رب السموات والأرض كفيلٌ بأن يحمل العبء، ويقيم الأوَد، ويصلح المُعوَجَّ، ويهيئ الطريق.
وإني باسمي وباسم كلِّ مَن تفضل بمشاركتي الرأي فيما كتبت بهذه الصفحة، أدعو الله له بالتوفيق والسداد، وأن أدعو الله له من الرشد قدْر ما يخشى الله ويتقيه، إنه سبحانه هو المولى وهو سبحانه نعم النصير.