الأزهر عزة العرب
يستطيع الذين يذكرون ما كتبته عن الأزهر الشريف أن يقدِّروا مدى السعادة التي نعمتُ بها، وأنا أشاهد حلقات الأزهر الشريف، التي كتبَت حلقاتها الكاتبة الإسلامية الكبيرة أمينة الصاوي. وربما نسِيَ بعض الناس أن الأستاذة أمينة أول مَن أدخل فنَّ تحويل الروايات إلى مسرحيات، وكان لها فضلُ السبق بأعمال لاقت نجاحًا باهرًا في عرضها؛ فليس غريبًا عليها، وبعد هذه السنوات الطوال من الممارسة والمدارسة ومن تدريس الدراما، أن تتفوق هذا التفوق الذي بلغته في حلقات الأزهر الشريف.
وقد استطاعت في ذكاءٍ رائع أن تجمع الحاضر إلى الماضي، واستطاعت في ذكاء أشدَّ أن تجعل الرواية رواةً، وأن تجعل لهؤلاء الرواة أنفسهم قصةً تكاد تكون مستقلة تمام الاستقلال عن تاريخ الأزهر نفسه. وأذكر أنني ترجمت مع الأستاذ عبد الله البشير مسرحيةً للكاتب الكبير ماكسويل أندرسون، والمسرحية بعنوان «عذراء اللورين»، وهي بطبيعة الحال عن جان دارك. وقد استطاع المؤلِّف أن يدير المسرحيات في شكل تجارب مسرحية، واستطاع في مهارة فائقة، أن يجعل للممثلين أنفسهم كآدميين، مشكلةً خاصة بهم، نتابع أحداثها في الفقرات التي تفصل بين تجارب الفصول، حتى إذا بدأت التجارب وجدنا الملابس غير مكتملة تمامًا، مع أنَّ المفروض أنه يعرض علينا التجربةَ الأخيرة التي تسبق العرض الأول. ولم يكن عجيبًا من المسرحي العبقري أن يجعل مسرحية الممثلين تسير جنبًا إلى جنب مع مسرحية جان دارك، كما لم يكن عجيبًا أن تنتهي المسرحيتان كلتاهما نهايةً رائعة.
وأشكُّ كثيرًا أن تكون الأستاذة أمينة الصاوي قد اطَّلعت على هذه المسرحية، وأرجِّح أنها أُلهمت إلى طريقة العرض التي اختارتها عن حسٍّ مرهف، وعن عمق تجربة. وأنا لا أدافع عنها، فنقلُ الشكل مباح، وجميع كُتاب المسرح والرواية التمثيلية العربية نقلوا الأشكال عن الغرب، ثم طوَّروا فيها التطور الذي يتفق مع عروبتهم والمستقبِلين لأدبهم.
وأنا في هذه الكلمة، لن أحاول أن أتناول التاريخَ الذي دار حول دور الأزهر الشريف في الحياة المصرية، فلست مؤرِّخًا وما أرتضي لنفسي أن ألج ميدانًا أنا غير متمكِّن فيه.
وإنما ألحُّ على أن أوفي السيدةَ الأستاذة المؤلفة حقَّها من التكريم التي هي أهل له، ثم أصرخ وبأعلى صوت أصرخ: أعيدوا هذا الأزهر إلى مصر بعد أن فقدته مصر.
إن الأزهر كما نعلم، وكما علِم الذي لم يكن يعلم من الحلقات، هو الحصن الأول للعربية والإسلام ولمصر وللهداة النيِّرات من رجالات تاريخ مصر.
فيا أبناء مصر، ويا أبناء المصريين، ويا أبناء بُناة الحضارة الإسلامية في العالم، كيف ساغ لكم أن تضيعوا الأزهر الذي سلَّمه إليكم أبناء الأتراك، وأتباع الدولة العثمانية، والناطقون باللغة الأعجمية؟
أيحافظ على الأزهرِ التركيُّ الأجنبي الألكن الذي لا يقيم من العربية حرفًا، ويضيعه المصري العربي الفصيح الفكر واليد واللسان.
وإني لأكاد أقسم قسمًا، أنا واثق أنني فيه غير حانثٍ، أنه إذا لم تَعُدِ اللغة العربية إلى الأزهر، فلا أمل لأبنائنا أن ينطقوا هذه العربية، ولن تعود العربية إلى الأزهر إلا إذا اشترط الأزهر على الذين يدرسون العلوم الفقهية والعربية ألا يدخلوا الأزهر إلا بعد أن يحفظوا القرآن الكريم وينطقوه، ويعرفوا سرَّ الحرف فيه، وكيف يخرج من اللسان والشفتين.
العالم مليء بالجامعات، آلاف هي مؤلَّفة، ولكن العالم ليس فيه إلا أزهر واحد لا غير، كان ألف عام هو حصن العربية الحصين، وما انهار حصنها وكاد يندكُّ ركنها إلا منذ جعلنا من الأزهر كليات، شأنها شأن مثيلاتها من الكليات التي تملأ أرجاء العالم.
أستحلفكم بالله، وأناشدكم الحق، ألم تشعروا بالعزة والفخر والكبرياء بدينكم ولغتكم، وأنتم تشاهدون حلقات الأزهر هذه التي عرضها علينا التليفزيون؟ وأي شيء يبقى للإنسان إن فقد اعتزازه بدينه ولغته ووطنه؟
الذين ذهبوا إلى البلاد الغربية رأوا كيف يعتزُّ الإنجليزي، وهو ينطق لغته نطقًا سليمًا حاسمًا رائعًا، وكيف يتغنى الفرنسي بلغته، وكأنه يلحِّن أنشودةً ذات أنغام تشبه ألحان الجداول الرقراقة تجري بين الماس والمرجان والزمرد والياقوت والزبرجد. وكيف ينطق الألماني حروفه، وكأنه يضع في ثناياها أمجادَ أزمانه القديمة كلها، وعزة الأجداد أجمعين.
فلماذا كُتب علينا نحن أن نجعل لغتنا، وهي اللغة الوحيدة التي نزل بها الكتاب الوحيد، الذي أنزله الله، وأصدر أمره إلى الزمان أن يحفظه، فحفِظه بكل حرفٍ فيه، لماذا كُتب علينا أن نجعل لغتنا هذه مائعةً هائمةً في دنيا التشرذم؛ لغُربةٍ تميل بها الفتيات الجاهلات إلى الفرنسية حينًا، أو الإنجليزية حينًا آخر، وكأنما يغضُّ من شأنها أن تقولها عربيةً أصيلة كريمة، تنتسب في أصولها إلى العرب أجدادها، وفي أمجادها إلى القرآن الكريم أعظم كتاب عرفته البشرية؟
ولماذا نسمع الشباب يتكلم العربية، وكأنه يمضغ قطعة من لادن؟ فإذا هو أعوج اللسان، مائل الحروف، كسير اللفظ، تكاد لغته أن تكون لغةً أعجمية في نسبها، غربية في صوتها، فما تدري أعن رجلٍ تصدر ألفاظه أم عن امرأة!
أكتب هذا الكلام في نفس اليوم الذي تولَّى فيه وزارة شئون الأزهر الأستاذ العالِم الإسلامي الشاهق الدكتور الأحمدي أبو النور، وإنِّي لأعرفه وأعرف إلى أي مدًى هو في الإسلام حجَّة، وإلى أي قدْرٍ هو في اللغة العربية مرجع. كما أعلم حُسن ظنه بي، الأمر الذي يجعلني أخجل دائمًا من فيض إكرامه، ولن يكرمني مولانا الأستاذ الكبير في خيرٍ من هذا الذي أرجوه منه وله، وهو رجاء أن يقتصر على تعليم القرآن الكريم وحفظِه في الأزهر في كليات الفقه واللغة. وإني لن أمنع نفسي أن أنهز هذه الفرصة، لأرجو الوزارة جميعًا أن تقدِّم للشعب ما ينفع الشعب، لا ما يُرضي بعض فئاتٍ من الشعب، فإنَّ الدواء قد يكون في بعض الأحيان مرًّا، ولكنه في أغلب الأحيان ناجع. وإذا كانت الديمقراطية أن يكون حكم الشعب للشعب؛ فإن بقية التعريف الذي لا غناء عنه هو أن يكون حكم الشعب للشعب لمصلحة الشعب. فلنجرع دواءنا مهما يكن مرًّا، ولتعمل الوزارة الجديدة على مصلحة الشعب لا على تملُّق فئات الشعب؛ فالشعب ليس خبيرًا في الاقتصاد، والشعب ليس خبيرًا في التليفونات، ولا هو بخبيرٍ في الكهرباء؛ فعلى الخبراء أن يقولوا كلمتهم التي ترضي ضمائرهم، وترضي الله في علياء سمائه. وإذا ضاق الشعب حين يتجرع الدواء، فإنه حين يُشفى سيحمد للخبراء ما قدموه له. وليس الشعب هو أبناء مصر اليوم فقط، وإنما الشعب هو الزمن الحاضر والمستقبل، وهو نحن وأبناؤنا، وليس أبًا من لا يتحمل بعض الجهد كل الجهد، ليكون ابنه مع الأيام سعيدًا هانئًا كل السعادة وغاية الهناء.