مصر المنارة
الأبناء أجمل ما وهب الله للإنسان، هم حياتنا، بل إنهم أعزُّ علينا من حياتنا، يسعدنا أن نموت من أجلهم، نسعى في الحياة سعينا ونشقى، وتئُودنا الأيام بشتى أنواع العنت، وتلاقينا بمختلف صنوف الجهد؛ لنوفر لأبنائنا الهناء، ونجنِّبهم كل ما يمسُّ سعادتهم ورغد عيشهم وأمن نفوسهم.
الابتسامة على وجه أبنائنا أعظم ما ينير لنا الحياة، ووجوه كل الأبناء عند أبويهم هي أجمل الوجوه وأنضرها، وهي الخفقة السعيدة من قلوبنا. إذا انحرف بهم طريق، جزعنا كأننا نواجه عواصف العالم أجمع، وإذا استقام سبيلهم، فكل ما نلقاه من أحداث الحياة محتمل. إذا جحدوا التمسنا لهم المعاذير، وإن جنحوا لقسوةٍ اختلقنا لقسوتهم الدوافع، أكرم ما تكون الدوافع!
نغضي عن خطاياهم حتى كأنها ما كانت، ونحتفي بحنانهم بالغًا ما بلغ حنانهم من هوان الشأن.
نلتمس عندهم نظرة رضًا، وقد نكون أعزَّة على أنفسنا، نشمخ بأنوفنا على القمم والهامات العالية، ولكننا عند أطفالنا أطفال. نسعد بأوهى ما يُعطون إذا أعطَوا، وماذا يمكنهم أن يعطوا إلا كلمة فيها حنان، أو سؤالًا عند مرض، أو مشاركة باللفظ عند شدة حاطمة.
هؤلاء الأبناء، هناؤنا وشقاؤنا، عِزنا وحرصنا، أمْنُنا وفزَعنا، غاية الغاية لحياتنا، هم نهايتنا وبدايتنا.
فماذا حدث في العالم اليوم؟ ماذا صنع البشر بالبشر؟ وكيف سمحت الحياة لنفسها أن تخرج علينا صبيحةَ أحد الأيام تعلن إلينا أن أبوَين في لبنان عرضا أبناءهما للبيع؟ ماذا صنعت القوة الغاشمة بالإنسانية هناك؟
إنَّ ما فعله الأبوان ليس قسوةً منهما على أبنائهما، وإنما ما فعلاه أبشعُ من انتحار كلٍّ من الأبوين. ولكنَّ كليهما كان ممزقًا بين جوع أبنائه في ظله، وعُريهم وهوانهم وذلهم في حِماه، وبين أن يبتعدوا عنه كلَّ البعد، مكتفيًا أن يطمئن أنهم على قيد الحياة، مرتئيًا أن حياتهم في رعاية غيره، ينالون عنده غذاء مهما يكن قليلًا، وعنايةً مهما تكن غير حانيةٍ. حنو الأب خيرٌ لهم من حياتهم في بيته جوعى مهزولين، يقتلهم البرد أو يحرقهم الحر وأجسادهم بلا كساء.
وأدرك كلٌّ من الأبوين أنه لو انتحر فقدَ دينه، وفقدَ معه مستقبل أولاده، وهرب من واجبات الأبوة، فأقدم على هذه الخطوة التي ما أحسب إلا أنها زلزلت كلَّ مَن قرأ عنها أو سمِع بها.
أي عذابٍ تعرَّض له كلٌّ من الأبوين حتى انتهى إلى هذا القرار؟ أتُراه يوم اتخذه وأعلنه، خرج من حيرته إلى طمأنينة، أم زاد حيرته هلعًا وذعرًا وإشفاقًا على بنيه؟
هل تملك الإنسانية أن تلوم الأبوين، أم هي تقف واجمة مستخزية حسرى إزاء ما صنعه الأبوان، أو ما صنعته بهما الإنسانية؟
هل هي الإنسانية التي صُدمت، أم الوحوش الضارية التي صعقت لبنان، وفرَّقتها شيعًا، وحطَّمتها جُذاذات قاتلة سفَّاكة؟ وا أسفا على لبنان، بلاد الجبال الشمَّاء تعممها الثلوج كأنها مصابيح الشيوخ الأئمة، والجداول الرقراقة صفا نميرها، وطاب منها المجرى والمرأى والمشرب. بلاد الأرز الأشم يغطي السهول منها والوديان، كأنه أيدٍ مرفوعة بالدعاء والشكر لمن جعل لبنان جنات النعيم، وطريق الخلد، كما كان يراها خالد الشعر العربي أحمد شوقي.
إلى أي مصير ألقى بها التعصب والغباء والأصدقاء والأعداء؟ أصبحت جبالها كالمجرمين العتاة الزنادقة، واستثيرت الجداول منها هادرة، فهي أنهارٌ صاخبة من الدماء الحمراء القانية، وتهدَّلت الأيدي المرفوعة من الأرز، واسترخت في استسلام الموتى ويأس المطحونين.
وما إخال الجبال والجداول وأشجار الأسى إلا صارخةً اليوم في عويلٍ طويل مفجوع من هذين الأبوين، أحدهما في شمال لبنان، والآخر في الجنوب يعلنان الرغبة منهما أن يبيعا كُبودهما لمن يشتري.
إذن، فهكذا يصنع التعصب والتطرف بأصحابه … أتُرانا سنسمع في قريب عن آباء وأمهات يبيعون أبناءهم في إيران؟ وهل يمكن أن تنتهي هذه الحرب هناك إلا بهذا الفتك بأسمى العلاقات الإنسانية وأشرفها معدنًا وأنبلها آصرة؟
أيريد الإرهابيون هنا أن نتمزَّق نحن أيضًا كما مزَّق الإرهابيون لبنان، وكما يمزقون اليوم إيران؟
أيريد المتطرفون في مصر أن يوقعوا بين الإخوة حتى ينتهي بنا الأمر إلى بيع أبنائنا؟ ألا من مذكِّر! ويحهم ألا يعقلون؟ ويل لهم! ألا يبصرون، أم على القلوب منهم أقفالها؟
إن المتطرفين من شتى الأنواع والنِّحل تعاقدت منهم الأيدي واتحدت الطرق، وأصبحوا حربًا على كل قيمة، يحاولون أن يحطموا مصر أول ما يحطمون.
أيريدون أن ينتهي بنا الأمر أن نبيع أبناءنا كما صنعوا في لبنان؟
إن الذي يحدث اليوم في لبنان هو المصير المحتوم لكل بلدٍ يحاول فيه المتطرفون أن يفرضوا أنفسهم على الحكم، على أي لونٍ كان تطرفهم هذا، وعلى أي عقيدةٍ أو ملة أو مذهب.
وتلك الأقلام التي لا تنفث إلا سمًّا، ولا تكتب إلا خزيًا، ولا تخط إلا سفولًا، أمَا آن لها أن تدري أن الطريق الذي فيه يسيرون يتَّجه بوحدة مصر إلى تمزيق؟
لماذا يتاجرون بآلامنا ولا يحاولون أن يخففوا منها؟ ولماذا يزيدون أوجاعنا أوصابًا، ولا يحاولون أن يكونوا دواء لداءٍ، وهم يدَّعون أنهم أبناء مصر، ويزيدون أنهم هم هم وحدهم الأبناء المخلصون؟
أمَا آن لهم أن يرعوا الله فيما يصنعون؟
كره الله هذا، والمؤمنون.
إنما الله سلام، وأمن، وطمأنينة، وهو سبحانه يرى الفتنة أشدَّ وبالًا من القتل، فما لكم ترفعون اسم الله، وتشيعون الفتنة بين عباده، وما لكم تدعون الوطنية، وتفشون الفرقة والتنابذ والأحقاد بين أبناء الوطن؟ وما لكم ويلكم تحملون صحفكم سوداء بالسخيمة، غبراء بالكراهية، قائمة بالسباب؟ إلى أين وماذا تريدون؟
أتُراكم قرأتم ما قرأنا من بيع الآباء لبنيهم، أو تُراكم فزعتم كما فزعت الإنسانية جميعًا، على شتى ألوانها، وصنوفها ومعتقداتها وأديانها؟ أم إنكم أنتم بلا إنسانيةٍ ولا معتقدات إلا الخراب، ولا دين إلا التمزيق والحرق والتدمير؟
ستبقى مصر، ولن نبيع أبناءنا، ولن نبيع قيَمنا ونبالتنا. وإن تكن منَّا فئة عاجت اليوم عن الطريق أو حادت عن الشرَف، فإنَّ وجه مصر المشرق بتاريخها، الذي كان بِكر الحضارات وأولها، وبدينها الذي ظل عمادَ الحياة فيها وأسسها، وبخلقها الذي ورثته عن أعظمِ ما في الحياة من سجايا، سيعيد المعوج إلى الطريق، والحائد إلى السبيل، وستبقى مصر كما أراد لها الحي القيوم كنانةَ الله في أرضه. اختارها سبحانه مسرى أنبيائه وطريقهم، واختارها أن تكون مئذنة العالم العربي ينطلق من مناراتها: الله أكبر، فيرددها من ورائها كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
واختارها أن تكون الضياء الغامر للعالم العربي أجمع.
هكذا كانت، وهكذا هي، وهكذا ستظل، وإن رغمت من المارقين الأنوف، والله سبحانه غالب على أمره.