مصباح فيهديه

جاء في كتاب «قصص العرب» حكاية رواها فقيه من فقهاء الشافعية اسمه أبو حامد الإسفراييني. وإنني سأروي لك القصة في صياغتي أنا، فإنما أريد أن أخرج منها بحديث أهفو أن أطرحه عليك. يقول فحوى القصة: إنه كان يومًا عند فخر الملك وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة، فدخل عليه الرضي أبو الحسن الشاعر الذي اشتُهر باسم الشريف الرضي، فأعظمه وأكبره، ورفع من منزلته. ترك ما كان بيده من القصص والرقاع، وأقبل عليه يُحادثه إلى أن انصرف، ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو القاسم، فلم يعظِّمه ذلك التعظيم، ولا أكرمه ذلك الإكرام.

وتشاغل عنه برقاع يقرؤها وتوقيعات يوقِّع بها، فجلس قليلًا، وسأله أمرًا فقضاه، ثم انصرف.

ويقول أبو حامد إنه تقدم إلى الوزير، وسأله: أصلح الله الوزير! هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب العلم، وهو الأمثل الأفضل منهما، وإنما أبو الحسن شاعر فقط.

– انتظر حتى يخلو بنا المجلس، فأجيبك.

وخلا المجلس. ومدَّ الوزير يده إلى أبي حامد بخطابٍ كان يحفظه بين أوراقه، وقال: هذا كتاب الشريف الرضي. اتصل بي أنه قد وُلد له ولد، فأرسلت إليه ألف دينار، وقلت هذه للقابلة — فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء إلى أخلائهم وذوي مودَّتهم مثل هذا في مثل هذه الحال — فردَّها وكتب إليَّ هذا الكتاب، فاقرأه.

ويقول أبو حامد إنه قرأ الخطاب، فوجده اعتذارًا عن الرد، وإنه يقول في جملته: إننا أهل بيت، لا يطَّلِع على أحوالنا قابلة غريبة، وإنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا، ولا تتقاضى عجائز بيتنا أجرة، ولا يقبلن صلة.

ثم يقول أبو حامد إن الوزير قال له بعد أن قرأ الخطاب: وأمَّا المرتضى فإننا قد قررنا على الأملاك ما يشبه الضريبة في مقابل حفر نهير، وكان المبلغ المقرَّر على المرتضى عشرين درهمًا، وقد كتب إليَّ من أجل الدراهم العشرين هذا الخطاب لأرفعها عنه.

ويقرأ أبو حامد الخطاب، فإذا هو أكثر من مائة سطر، كلها خضوع وخشوع واستمالة وإلحاح في المسألة، ليُسقط عنه الوزير هذه الدراهم.

حتى إذا أتمَّ أبو حامد قراءة الخطاب، قال له فخر الملك: فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل: هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد، ونفسه هذه النفس، أم ذلك الذي لم يُشهر إلا بالشعر وحدَه، ونفسه تلك النفس؟

فقال أبو حامد: وفَّق الله الوزير! ما زال موفقًا، وما وضع الأمر إلا موضعه، ولا أحلَّه إلا في محله.

تلك هي القصة رويتها، وقد أذكرتني ببيت المتنبي الخالد:

وتعظُم في عينِ الصَّغير صغارُها
وتصغُر في عينِ العَظيم العَظائِمُ

وعجبت، غاية العجب أن يقول أبو حامد، هذا الذي لا أعرف من شأنه شأنًا، أن الشريف الرضي ليس إلا الشاعر. وهل أعظم من أن يكون الإنسان شاعرًا فنانًا خلَّاقًا؟ إن الأديب الخلَّاق يصدر المرسوم بتعيينه خلَّاقًا من فوق سبع سموات، وتستطيع السلطات في الأرض أن تُعيِّن مَن تعيِّن فيما يشاء من وظائف الأرض جميعًا، ولكن لا تستطيع قوة في الأرض أن تصدر مرسومًا بتعيين إنسان ما كاتبًا أو شاعرًا.

إنها قوة اختصَّ الله بها نفسه سبحانه وتعالى، وليست تجوز لغير الذات الإلهية جل شأنها وتقدَّست آلاؤها.

والفنان الحق هو الذي يعرف قدْر نفسه وما اختصَّه به الله من موهبة لم يُتِحها لأحد غيره، فحين يقول سبحانه عن نفسه: فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ لا نتصور نحن عباد الله وجودَ جمع للخالقين إلا هؤلاء الذين وهب الله لهم منحة الخلق الفني. ولا تجرؤ صفة الخلق أن تنصرف لغير الفن، على أي لون له. ويقول سبحانه وهو أصدق القائلين: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (الحج: ٧٣). والحديث كما ترى للناس كافة على كل مذاهبهم، والمقارنة هنا معقودة بين الإنسان وبين ما يسلبه الذباب من الإنسان، وليس حتى بينه وبين الذباب. ألَا ما أهون الإنسان! وما أعظم غرورَه وما أشدَّ ادعاءه! وهو يدري كل الدراية أنه حين يمسه الضر ذو دعاءٍ عريض.

عجبت إذن من أبي حامد هذا، واحتقاره لشأن الشعراء، ثم ما لبثت أن ارتددت عن العجب إلى إدراك الحقيقة، فقد أهان الشعراءُ أنفُسَهم، والإنسان وحدَه هو الذي يستطيع أن يجعل من نفسه ذليلًا أو ذا كرامةٍ.

وليس الفقر بمستطيع أن يذلَّ إنسانًا. وكم من فقراء قبِلوا الجدوى، وظلوا مرفوعي الرأس موفوري الكرامة. وها قد رأيتَ المرتضى يذلُّ ويرخِّص نفسه من أجل عشرين درهمًا، وهو لم يجد غضاضة أن يستجدي بالنفاق والكذب إعفاءه من دُريهمات لا قيمة لها.

وليس بين الناس ممدوح لا يعرف الحق في المديح الموجَّه إليه، ولكن بين الناس مَن يضعف أمام المديح ويخادع نفسه، يوهمها أنه بهذا المديح جدير، حتى إذا خلا بنفسه، وخلت به، أدرك الحق من صفاته. وربما خُيِّل إليه أنه ذكي، عرف كيف يمكر بالمادح، ويجعله يظن به هذه الصفات الكريمة التي أضفاها عليه!

بينما المادح المنافق يظن بنفسه هو أيضًا أنه واسع الحيلة جمُّ الذكاء، وأنه لفَّق المديح على الممدوح، وفاز منه بما قدَّر لنفسه من عطاء أو من مسألةٍ أو من منفعة.

وكلاهما يعرف الحقَّ عن نفسه، وعن الطرف الآخر. وكلاهما يخادع نفسه بقدر ما يخادع شريكه في السذاجة التي يظنانها خبثًا، وفي الهبل الذي يحسبانه ذكاءً ومكرًا وسَعة حيلة وحسنَ وسيلة، ونحن اليوم في الموسم … فحذارِ!

الناخبون لا تجوز عليهم حيلة، وليس يفوتهم من المرشحين نفاق أو افتعال، فقد كانت في بلدتنا غزالة منذ أيام، واجتمعت بأبنائها، فإذا هم كعادتهم ساخرون أذكياء، يعرفون الحق من الباطل، والصدق من الزيف. فالجموع لا تخادع نفسها وليس من اليسير أن يخدعها أحد أو جماعة. يقول أبناء بلدتي إن جماعة ممن يدعون الحفاظ على الدين قد زاروهم في مواكب من الأطباء؛ لأن كبيرهم طبيب. ويقول أبناء بلدتي إنهم طالعوهم بالحق الذي وجم له المنافقون، أين كنتم؟ وما مجيئكم اليوم فقط؟

أمن أجل الانتخابات تمرون بنا لتوهمونا أنكم حريصون على صحتنا، وعلى مصالحنا؟ وأبناء بلدتي مسلمون، عميقٌ إسلامُهم، إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة لا تجد في شوارع القرية أحدًا، وكلهم صائم في رمضان، وأغلبهم يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، وكل مَن تجب عليه الزكاة يؤديها، وكل مَن استطاع إلى الحج سبيلًا أدى الفرض، بل إن كثيرين من حجاج بلدتنا أَرهقوا أنفسهم إرهاقًا شديدًا، ليحجوا إلى بيت الله الحرام. وبين بلدتنا مَن حج منذ قرابة ثلاثين عامًا على جملٍ وليس بالباخرة؛ لأنه لم يكن يملك أجرَ الباخرة، وهو الحاج حسن أبو عويضة، رحمه الله.

فحذارِ أيها المرشحون … حذارِ … والتحذير موجَّه إليكم كلكم على جميع صنوفكم. إن الشعوب في غاية الذكاء، فلا تظنُّوا بأنفسكم ما ليس لكم من حق المكر والدهاء، فما ينطلي مكركم على الناخب، ولا يجوز ما تحسبونه دهاءً على المجموع، ورحم الله عزيز أباظة حين قال:

شعور الشعبِ يا جعفَـ
ـرُ حقٌّ لا هوَى فيه
له من وَعْيِه الساذِ
جِ مصباح فيهديه
يَميز بوَحيِ فِطْرَتِه
عِدَاه مِنْ مُحبِّيه

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥