مصري مؤتمَن
قال لي صاحبي العالِم الطبيب العظيم وهو يحاورني: هل كان الخلفاء الراشدون يحتفلون بالمولد النبوي؟
وأدركتُ لهجةَ الاستنكار في سؤاله وقلت: لا.
فقال وكأنما وصل إلى مبتغاه: شكرًا، هذا كلُّ ما أردت أن أعرفه.
ولم تُتَح لي الفرصة أن أُكمل الحوار؛ فقد كنَّا في جماعةٍ تُوشك على الانصراف، ولم أستطِع أن أقول ما أردتُ أن أقول، وحمدتُ الله. فلو أنني كنت أجبت لغنيت بإجابتي الشفوية التي كانت — لا شكَّ — ذاهبةً أدراجَ الرياح، ولما أعددت نفسي لكتابة هذا الحديثِ إليك، وإليه وإلى مَن يشاء أن يقرأه.
لم يكن الخلفاء يقيمون احتفالًا بالمولد النبوي. هذا حقٌّ، ولكن الاحتفال بأي ميلاد لم يكن معروفًا — فيما أحسب — في عهد الخلفاء، أمَّا في العصر الحديث فأغلبُ الناس يحتفلون بأعياد ميلادهم ويسعدون به، فأيُّ عجيبةٍ إذن في حضارتنا الحديثة أن نحتفل بعيد ميلاد سيدنا وسيد البشر أجمعين، النور الهادي، حامل رسالة السماء الأخيرة إلى الأرض؟
النبي الأمي الذي اختاره الله في رفيع سمواته؛ ليبلِّغ قرآنه المبارَك إلى دنيا الناس، فقدَّم للبشرية المعجزةَ الوحيدة من معجزات الأنبياء التي خلدت بأمر الله بها أن تُحفظ بسر كلمة «كن» في آيته الكريمة: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فإنَّ الذِّكر محفوظ بأمره، وإذا أمره يتمُّ على أعيننا وفي عصرنا، والذِّكر اليومَ في مصاحفَ مطبوعةٍ بالآلة، ولم تكن تلك الآلة معروفةً يوم بدأ هبوط الوحي بادئًا بالأمر الإلهي المقدَّس: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
وهكذا شاء الله — تقدَّست أسماؤه — أن يكون القلم والعلم أول شيءٍ يذكره لنفسه بعد معجزة الخلق التي أوجد بها الإنسان.
النبيُّ الأميُّ حملَ هذه الرسالة التي هي القرآن. ويقول عنه جلَّ علاه سبحانه: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ تباركتَ يا رب السموات، إنه يبشِّر عباده ببُشرَيَين لا واحدة؛ البشرى الأولى أنه أنزله بالحق … وهل الحقُّ إلا اسمٌ من أسمائه؟! والبشرى الثانية أنه بهذا الحق نزل. إذن فالنبي الأمي أبلغَ الرسالة إليكم، أيها البشر، كما أنزلها الله، وأصبحت هذا القرآن. نزل بالحق وأبلغه مَن نزل عليه وحْيُه بالحق أيضًا.
أفلا يستحق الأمين الذي حمل الأمانة، أثقلَ ما تكون الأمانة، وبالحق أبلغَها أصدقَ ما يكون الحق، أن نحتفل بعيد مولده؟
وإخواننا المسيحيون يقيمون أعظمَ احتفالاتهم الدينية والدنيوية أيضًا في مولد المسيح، وجعلوا حياتهم وأيامَهم مؤرَّخة بتاريخ مولده؛ فأيُّ بأس علينا — نحن المسلمين — أن نذكرَ الله ونصلي ونسلِّم على نبينا في عيد مولده ﷺ، فيقول سبحانه: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
وبعدُ؛ فما أحسبُ عالِمنا الطبيب العظيم حين سأل ما سأل واستنكر ما استنكر، إلا يريد أن ينتقد فحسب، وإنَّ للنقد في أفواه الناس حلاوةً لا يجدونها في المديح؛ فالنقد يُظهِر المتحدِّث وكأنه في المكان الأعلى، ناظرًا إلى عباد الله في مضطرب حياتهم نظرةً تَنصبُّ على الخطأ، ولا تريد أن ترى إلا الصواب.
دأبُ الناسِ في ذلك كدأبِ بعضِ الكُتَّاب المصريين في أيامنا هذه، فهم في اعتداء على الحق يمزِّقون كلَّ شرف، ويحطِّمون كل جميل، ويدمِّرون كل أمل.
وكان أحرى بهؤلاء الكتَّاب أن ينقِّبوا عن المصلحة لا التشويش، وينشدوا النفع للوطن لا الركوب على أزماته، وما يعانيه، ليظهروا بصورة الأبطال ناسين أنه لا بطولةَ هناك.
فما تنتظرهم السجون، وما تهم بهم الأيدي الفرَّاسة الطاحنة من أعداء البشرية، الذين مزَّقوا الأعراض في عهد الطغيان، ولا تلتقمهم أفواه الكلاب المسعورة التي شهِدها الأبرياء من المعتقلين.
لا بطولة إذن اليومَ فيما يصنعه بعضُ الكتَّاب.
إنما البطولة الحقَّة أن يذكروا الداء والدواء؛ فالطبيب الذي يذهب إليه المريض فيخبره أنه مريض بكذا وكيت دون أن يذكر له الدواء، يكون وبالًا على مريضه لا شفاءً له.
والمريض اليوم هي مصر أمُّ الجميع لا تُفرِّق هي في أمومتها وعظمتها بين أحد من أبنائها وآخر.
يقول بعض الكُتاب فيما يقولون: اهدموا القطاعَ العام … ألا يعقلون؟
إنَّ القطاع العام ركيزةٌ لا يستغني عنها الاقتصاد المصري، وهيهات أن نستطيع أن نهدمه في طَرفة عين! فأولى بهؤلاء الكُتاب، ثم أولى أن يقولوا: أقيموا المعوجَّ في القطاع العام، ثم على الحكومة من قبلُ، أن تنظر فيما لا يجوز أن يكون قطاعًا عامًّا فتبيعه؛ لينصلح ما فسد منه، وما انهار من بُنيانه.
والأمثلة قريبة. إنَّ كل المحلات التجارية لا يجوز أن تكون قطاعًا عامًّا، وليس في أي دولةٍ مثيلٌ لهذه المحلات؛ لأن القطاع العام هنا قليل، والأغلبية قطاع خاص. أما الدول الشيوعية فكلُّ المحلات التجارية فيها كانت إلى عهدٍ قريب مِلكًا للدولة؛ لأن الفرد فيها لا يجوز أن يملك ما يغل. وقد بدأت الصين تصفِّي القطاع العام فيها؛ ليعود على الأفراد بالربح، ويدفعوا عن أرباحهم الضرائب، فيصبح الكسب مؤكدًا للدولة لا مشاكلة فيه، ولا شكَّ، ولا مضاربة ولا مخاطرة. وبالأمس القريب تبِعتها روسيا.
والدولة الديمقراطية لا تتصوَّر أن يكون هناك محلٌّ تجاري تابع للدولة، فليس من عمل الدولة أن تتاجر على بَنيها.
فالأجدر بمصر أن تبيع كلَّ المحلات التي تعمل وسيطًا في السوق، مثل: عمر أفندي، وصيدناوي، والصالون الأخضر، وشيكوريل، وكل المحلات المشابهة لها، مما نعرفه وما لا نعرفه من محلاتٍ تبيع الفول والطعمية والسمك وغير ذلك، مما يجعل الدولة تاجرةً من الطبقة العاشرة، وبما يحقِّق لها خسائرَ فادحة بفضل التهاون الزري الذي تُدار به هذه المحلات، وبفضل المعاملة الظالمة الجائرة التي يُعامِل بها البائعون في هذه المحلات عبادَ الله الذين كُتب عليهم أن يدخلوا إلى ساحاتهم غير المقدَّسة.
قال لي أحدُ الاقتصاديين، والعهدةُ عليه: إنَّ مصر لو باعت هذه المحلات لاستطاعت أن تسدِّد ديونها جميعًا.
ولقد نعلم أنَّ القطاع الخاص لا يمكن أن يشتريَ هذه المحلات، بما تحمله ميزانياتها من أعباءٍ فادحة، من تزاحم العاملين بها من غير عمل يؤدونه.
وبالطبع، لا يستطيع إنسانٌ في قلبه ذرةٌ من الرحمة أن يطالب الدولةَ بإبعاد هذه الجموع الحاشدة من الموظفين عن موارد رزقهم.
ولكن ما داموا هم لا يقومون بأي عمل في مواطن عملهم الحالية، فأيُّ بأس أن يُنقَلوا إلى مواطنَ أخرى من القطاع العام، ويظلوا على حالهم أيضًا من البطالة؟ إنَّ التوقُّف عن أداءِ عملٍ حين يصبح وظيفةً معترفًا بها لا يضيره في شيءٍ أن ينتقل إلى أي مكانٍ، فإنهم يستطيعون أن يمارسوا عدم أداء العمل في أي مكانٍ، وتظل مرتَّباتهم جاريةً عليهم كما كانت تجري، وحينئذٍ تصبح هذه المحلات متخففةً من أعبائها، وتستطيع أن تحقق ربحًا لمن يشتريها، وهو حين يربح، ستربح الدولة لأنها — باليقين والقطع — ستحصل على الضرائب عن أرباحه. ومثل هذه الدُّور التجارية الكبرى لا تستطيع أن تتلاعب في أرباحها أي تلاعبٍ، فالرقابة عليها ميسورة، وأصحابها لا يفكرون مطلقًا في تشويه حقائق الأسعار في البيع أو الشراء.
لو أنَّ هؤلاء الكتَّاب بحثوا هذا الموضوع، وقدَّموا عنه الدراسات الوافية المستفيضة البريئة من الغرض، البعيدة عن المهاترة لأدَّوا الأمانة، وأصبحوا أطباء يشخِّصون الداء، ويصفون الدواء.
ولو أنَّهم أرادوا أن يلبسوا ثوبَ البطولة حقًّا، فما لهم لا يلبسونه في قضية العلاقة بين المالك والمستأجر، في الأراضي الزراعية على الأقل، إذا كانوا لا يستطيعون أن يتحدثوا عن العلاقة بين المالك والمستأجر في المساكن أيضًا.
الأمر في الزراعة واضحٌ، لا يحتاج إلى مزيدٍ من الحديث، وحسبك نظرة إلى هؤلاء المساكين الذين حكم عليهم الزمان أن يكونوا مُلَّاكًا لخمسة أفدنة، أو لعشرة، أو حتى لعشرين فدانًا. وانظر إليهم في بؤسهم؛ لا يطيقون أن يواجهوا العيشَ في مألوف حياتهم اليومية، وابكِ معهم حين تلمُّ بهم كارثةٌ من الكوارث التي كانت فيما مضى أفراحًا وسعادة وهناء، ابكِ معهم إذا جاء لابنتهم خاطبٌ يريد أن يتزوَّجها، أو شبَّ ابنُهم إلى طوق الشباب، وأراد أن يتزوج من فتاةٍ أحبَّها أو فتاة اختارها. الأفراح في بيوتهم حزنٌ وعنَت وألم وضيق.
وويلٌ لهم كل الويل إذا فكَّروا أن يبيعوا فدانًا مما تقول سجلات الشهر العقاري إنهم يملكون، يقف لهم المستأجر الغني المتكبِّر: لا بيع هناك! فإن كان من المحتَّم أن تبيعوا، فلي نصف الثَّمن، وقد أفكِّر فيما هو أكثرُ من النصف. فكأن هؤلاء المُلَّاك الضِّعاف من جنس لا ينتمي إلى بني الإنسان، أو من وطنٍ عدوٍّ ليس هو مصر على أي حال من الأحوال.
أمَّا في السكن، فلأضرب المَثل بنفسي، وأحسُّ قلمي يبكي وأنا أقدِّم ما أعانيه أنا، وأنا لست مالكًا لأي بِناء، وإنما أقدِّم المَثل من نفسي كمستأجر لا كمالك؛ فقد استأجرت من رجل طيب الخلق عفيفِ النفس شقةً في الإسكندرية في عام ٦١ على ما أذكر، وهي على البحر، ومكوَّنة من ست حجرات، وبها حمَّامان. وكنتُ أدفع إيجارًا حين استأجرتها سبعة عشر جنيهًا، أصبحت أربعة عشر؛ أي إنني أدفع فيها مائة وثمانية وستين جنيهًا في العام كلِّه. بينما الكابينة في المنتزه ارتفع أجرُها من مائة وعشرين جنيهًا في العام إلى ألف وثلاثمائة جنيه في العام، وهي أقلُّ من حجرة، وأقل من حمَّام، وأقل من شُرفة!
فالحكومة أباحت لنفسها أن ترفع أجور مساكنها إلى أكثر من عشرة أضعاف ضعف ما كانت عليه، ولولا أنني أستأجر الكابينة أنا وإخوتي أجمعين؛ ما أطقت البقاءَ فيها، وفي نفس الوقت حرَّمت الحكومة أن يرفع ملَّاك المساكن مليمًا واحدًا إلى قيمة إيجاراتهم.
أدفع للمسكين صاحب العمارة أجرَه، وقلبي يبكي من أجله، ونَفْسي تتقطع حسرات.
فليكتبوا في مثل هذا؛ وليقترحوا له الحلول الاقتصادية، وليحاولوا أن يفشوا العدل في ربوع الوطن، بدلًا من أن يفشوا أسرارًا أمرَ الله بها أن تُستر إن كانت صحيحة، وأمرَ بقائليها إن يُقتلوا إن كانت كاذبة. وأغلب الأمر فيها أنها كاذبةٌ.
أمعارضٌ أنا أم مؤيِّد؟ لا أدري، ولكني واثق أنني مصري، وأنني مؤمن.