اتقوا الله في الحرية
إن الأمر جِدٌّ لا هزل فيه، والذي يجري الآن على الساحة المصرية أمرٌ خطير كل الخطورة، وأحسب أن السكوت عليه تآمر صريحٌ على مستقبل مصر، ومستقبل الديمقراطية فيها. وإني لأخشى كل الخشية أن يشعل اللاعبون بالفعل النارَ في مستقبلنا ومستقبل أبنائنا إلى مدًى لا يدرك إلا الله وحده نهايتَه وأبعاده وأعماقه جميعًا. إنها فتنةٌ يمدها بالمال أعداء مصر من الدول العابثة بأقدار بنيها، والحريصة كل الحرص على إحراق مصر.
ليس الأمر هُتافًا وتعصبًا أحمق ومتاجرة بالدين، وإنما هو حريق يشبُّ، فيأكل كلَّ ما نما في بلادنا من حرية وديمقراطية، وما ثبت في أرجائها وعلى طول تاريخها من ألفة دينيةٍ، ووفاق بين الأديان في ربوعها.
إن الذي يجري الآن تحايل هازل مضحك؛ فهو مخالفة صريحة للدستور، وإن لم يكن الدستور ذا قيمةٍ فعلى البلاد السلام. إن كل دستور لا بد أن يكون مقدسًا ما دام قائمًا، وإن لك أن تطلب تغييره، ولك أن تختلف معه في الرأي، ولكن ليس لك أن تحطمه بأي حالٍ من الأحوال، وعلى أي صورة من الصور. وليس لك أيضًا أن تتحايل على نصوصه، وهذا التحايل يجري الآن في علانية صريحة، بتعاون حزبين قائمين على أسس قانونية، مع جماعات دينية ليس لها أن تكون حزبًا، وليس لها أن تكون ممثلة في المجالس التشريعية. إن الذي يحدث ينافي المنطق والدين وقانون الأحزاب في قيام حزب على أسس دينية، ألسنا مسلمين نحن؟ أليس الإسلام عقيدتنا التي نعبد بها الله الأحد؟ فمن أعطاهم الحق أن يكونوا قوامًا علينا في صلة مقدسة بين الإنسان وربه؟ ومَن نصَّبهم أوصياء على ديننا ومعتقداتنا؟ وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أراد لنا الخيرة فيما نعبد، فما بالهم هم يشهرون علينا أسلحتهم؟ وإن تصرفاتنا في ديننا ودنيانا هي الأمانة التي عرضها سبحانه وتعالى على السموات والأرض والجبال، فأبَيْن أن يَحْمِلنها، وأَشْفَقن منها، وحملناها نحن الإنسان ثم نحن إلى ربنا كادحون، وإليه جلَّ علاه منقلبون، فتُجزى كل نفس بما قدمت، لها ما كسبَتْ وعليها ما اكتسبَتْ، ولا تُظلم فتيلًا، أيضعون أنفسهم آلهة علينا بالسلاح؟ هيهات! والله الذي لا إله إلا هو لن يكون هذا أبدًا.
إن دستورنا كان صريحًا. جاء في المادة الخامسة منه: يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية على أساس تعدُّد الأحزاب، وذلك في إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور، وينظم القانون الأحزاب السياسية.
وهكذا يصبح القانون رقم ٤٠ لسنة ١٩٧٧م بنظام الأحزاب السياسية قانونًا مكمِّلًا للدستور، وتصبح مخالفته مخالفة للدستور.
وفي المادة ٤ / ٣: عدم قيام الحزب في مبادئه، أو برامجه، أو في مباشرة نشاطه، أو اختيار قياداته، أو أعضائه على أساس يتعارض مع أحكام القانون رقم ٣٢ لسنة ١٩٧٨م بشأن حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي، أو على أساس طبقي أو طائفي أو فئوي أو جغرافي، أو على أساس التفرقة بسبب الجنس أو الدين أو العقيدة.
وقد كان الدستور والقانون جميعًا حصيفين غاية الحصافة في رفض أن تقوم الأحزاب على أساسٍ ديني، وهذا المذهب الدستوري تطبيق لقوله تعالى في سورة النساء: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ.
ثم لقوله تقدَّست أسماؤه مرة أخرى في سورة المائدة: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
سبحانك جلَّ شأنك! كأنما نزلت هذه الآيات لهؤلاء الذين يحاولون اليوم أن يفرضوا علينا أنفسهم بالطغيان والجبروت، وبالجهل فشا بين جماعاتهم، وإنك سبحانك تخاطب أهل الكتاب، أفلا يعقلون؟ أم على القلوب منهم أقفالها؟
ألا يدركون أنهم بهذا التعصب يثيرون فتنة طائفية، الله وحده يعلم عواقبها وآثارها؟ وبيننا وفي كل ناحية من حياتنا، وفي كل ثنية من مصرنا إخوان لنا أحباء، يدفع الله عنهم ويحميهم، ويقول تباركت آلاؤه: وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
ثم يذكرهم سبحانه وتعالى مرة أخرى في محكم قرآنه بقوله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (سورة المائدة الآيتان ٨٢، ٨٣).
ألا يدرك أولئك المتعصبون أي كارثةٍ يعرضون لها البلاد بما يفعلون؟ إنهم أصبحوا أحزابًا لا شك في ذلك، وإنهم يتقدمون إلى الانتخابات بهذه الصفة، وليس يجديهم هذا التحايل الذي يصطنعونه من لبس عباءة أحزابٍ أخرى قامت على أسس قانونية، ولكن ليس لها في الشارع المصري حليف أو نصير؛ فهي إذن صفقة تبيع الجماعات المتطرفة تطرفها الديني الذي تخادع به المسلمين عن حقيقة دينهم، في مقابل أن تنال الأحزاب المتحالفة معها مقعدين للرئيسين في مجلس الشعب.
فالدين أصبح سلعةً، والأحزاب المتحالفة أصبحت خدعةً، والمشاعر الدينية المقدسة أصبحت بفعل المتطرفين ثمنًا في الصفقة الباطلة.
ويكتب بعض كتَّاب أن هذا قد يؤدي بمصر أن تصبح لبنان آخر، وما هذا بواقع وهيهات له أن يكون!
فما أمسى لبنان على حاله من الهول الوبيل والحريق المتأجج والتمزيق المروع، إلا لأنه كان بلدًا بغير جيش، وكان السلاح به في يد عصابات ترفع شعارات، وتشابكت الأهواء وعميت الأبصار، وتجمَّدت الأفئدة فهي أحجار، واقتتل الإخوة وصدق في شأنهم قول البحتري:
ولكن لبنان أصبح دماء بلا دموع، وسلاحًا بلا قلوب، ورجالًا بلا أوطان، ومخلوقات بلا هوية، وبشرًا بلا انتماء.
ولن تكون مصر هكذا.
ففي مصر أقوى جيش في الشرق الأوسط، والذي نخشاه كلَّ الخشية لها ليس أن نصبح مثل لبنان. فمثل لبنان لن نكون أبدًا، وإنما الذي نخشاه أن يضطر جيشنا أن ينزل إلى الساحة.
وإن حرية الوطن وما بلغناه من الديمقراطية أمانة في أعناقنا، فإن ثمن الحرية يدفعه كل فرد من أفراد الشعب. وحرية كل فرد في الوطن، تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين، ومن يعتدي على حرية الغير حتمٌ عليه أن يتوقع اعتداء الغير على حريته. أيها المتطرفون فِيئوا إلى رشدٍ من دينكم، وعودوا إلى أحضان أوطانكم، واتقوا الله في أبنائكم وإخوانكم وذويكم، واحذروا أن تلهبوا ألسنة النار في حرية، رأينا الحياة بغيرها جحيمًا من الجحيم، ووبالًا ونكالًا وغُصصًا وهمومًا ثقالًا.
والله من فوقنا وفوقكم هو حسبنا، وهو العدالة المطلقة، إليه عاقبة الأمور، وحسبنا جل علاه موئلًا ووكيلًا.