نقيق
للشيوعيين — والعياذ بالله — نوع من الخُلق ينفردون به عن سائر المخلوقات في العالم. وهم في أنماط أخلاقهم هذه يتشابهون، حذوَك النعل بالنعل في كل جماعة لهم، لا يختلف رهطٌ منهم عن رهط، ولا تجمُّع لهم عن تَجمُّع، فهم جميعًا ينطقون عن لسان واحد، والحُجة التي تجدها عند أحدهم تجدها عند الآخر، وإن تباعدت بين الاثنين الأماكن، وإن شطَّ مستقر أحدهم عن مستقر الآخر، والمراقب لهم يدرك من فوره أن جميعهم أبواق لمصدرٍ إذاعي واحد، وأن جميعهم صدًى لصوت أمر ينطلق من هناك، وينقله حجرٌ منهم في شكل إنسان، أو إن شئت فقل في وعاء إنسان إلى حجر آخر هو يتخذ أيضًا شكل الإنسان.
وتصبح أصواتهم جميعًا وكأنها نقيق ضفادع يتعالى منها الصياح، وتصوِّت جميعها في وقت واحد، لا تستطيع أذنك أن تميز صوت ضفدعة منها عن أخرى، وإنما تنطلق الضفادع جميعًا بصيحة واحدة، والعجيب العجيب في شأن هؤلاء الشيوعيين أنهم إذا صمتوا؛ صمتوا جميعًا في لحظةٍ واحدةٍ، ويسود سكون ينبئ أن الأصوات إلى عودة، وتكون العودة دائمًا بنفس الضجيج، كثيرون يتصاخبون وجميعهم يقول ما يقوله الآخر.
تصاعدت أصوات ضفادعهم في الفترة الأخيرة موجِّهة نقيقها إلى شخصي. وغاية ما أسفر عنه صياحهم أنني كنت ضد حرية الرأي في ساحة فخامة رئيس الجمهورية حين اجتمع بالكُتَّاب، وهو يفتتح معرض الكتاب.
وإن لهم لصفافةً هيهات وألف هيهات أن تتأتى لغيرهم، وقد رموني بتهمة لم أصنعها، والشهود على صدقي وكذبهم أكثر من مائة كاتب كانوا يشهدون اللقاء. وقد استمعوا إلى كل كلمة قيلت فيه. ولو كانوا على ذرة من حياء لخجلوا أن يفتروا فريتهم تلك، والشهود جميعًا يعرفون كذبهم واختلاقهم واعتداءهم على الحق.
أما الواقعة كما حدثت فهي أن عالِمهم محمود أمين العالم طلب الكلمة من فخامة الرئيس، فأعطاه إياها، فراح يُلقي حديثًا طويلًا لم يجعل له عنوانًا، وإنما كل كلمةٍ فيه تطالب بأن تطبق مصر النظرية الشيوعية الماركسية.
ولم يفكر المتحدث أن روسيا، وهي روسيا، بدأت بآخرة تتخلَّى عن كل ما كان ينادي به سيادته، ويريد تطبيقه!
وراح الرئيس يستمع ويناقش في هدوءٍ وفي أدبٍ جمٍّ نعرفه فيه جميعًا، واستمر النقاش حتى سأل الرئيس في هدوء: يعني ماذا تريدنا أن نفعل؟
وقلت أنا في محاولة طبيعية لوضع عنوان لحديث الأستاذ محمود أمين العالم: إنه يا سيادة الرئيس، يريد أن يطبق النظرية الشيوعية الماركسية على حكم مصر.
وأُرتِج على الأستاذ محمود أمين العالم، وكأنما لم يكن يتوقع أن يعلن واحد من الحاضرين عنوان الحديث الطويل الذي ألقاه، ولم يجد شيئًا يقوله إلا جملة متلعثمة مترددة.
– لا، النظرية الشيوعية؟ لا، هذه موعدها بعد عشر سنوات أو عشرين سنة.
وانتهى النقاش.
وخرج جميع الشيوعيين من جُحورهم. ما كان لرئيس اتحاد الكُتَّاب أن يمنع أحدًا من إبداء رأيه. وثروت أباظة يصادر الرأي، والمدافع عن الحرية يتصدى للحرية. وتجاوبت أعمدتهم ومجلاتهم متناوحة، تحمل نقيقًا واحدًا إلا كاتبًا منهم، هو الأستاذ عبد الستار الطويلة الذي أُكنُّ له احترام الخصم في الرأي، الذي يمنعه كرمُ نفسه أن يخلط خصومته بدَخَل أو كذب أو ادعاء باطل.
فقد كان شريفًا في حديثه عني، وما أحسب التهمة التي وجَّهها إليَّ إلا سوء تفاهم لا ألومه عليه، وأشكره في ذات الوقت على نبيل رأيه فيَّ.
وما هذه هي المرة الأولى التي يختلق فيها الشيوعيون الأكاذيب عني ثم يصدقونها، ثم تتوالى مقالاتهم في مهاجمتي من أجل الواقعة التي يعلمون هم على يقين أنهم اختلقوها، ولكن هذا دأبهم؛ فما رأيت في حياتي أجرأ على الحق منهم. وما العجب؟ والمذهب بأجمعه يقوم على إنكار الحق، وهو الحق سبحانه وتعالى عما يشركون.
قال قائلهم، ونشر بجريدة عربية تصدر في دولة عربية: إن ثروت أباظة طالب بمنع دخول الشاعر نزار القباني إلى مصر، في هذه الزيارة التي أدعو فيها أنني أريد أن أمنع دخول الشاعر إلى مصر، التقيت بالشاعر في الأهرام، ودعوته أن يشرفني ببيتي في غداء أو عشاء، فنحن صديقان قديمان، ولقد طالما شرفني ببيتي والتقيت به أكثر من مرة في بيت عمي عزيز أباظة باشا الذي كان يُصرُّ على دعوته، كلما جاء إلى القاهرة. وقد دعاني نزار إلى بيته أكثر من مرة، فكيف تتوطد بيننا هذه العلاقة، وكيف أدعوه إلى بيتي، وفي نفس اليوم أطالب بأن يُمنَع من الدخول إلى مصر؟!
هذه واحدة. وأخرى: مَن نصَّب رئيس اتحاد الكتاب بوابًا على مداخل مصر؟ وبأي صفةٍ يحق لي أن أطالب بإدخال أي شخصٍ أو بعدم دخوله؟
وكيف يسوغ في الأذهان أن يطالب رئيس اتحاد الكتاب، وهي نقابة حَمَلة القلم، باتخاذ إجراء تعسفيٍّ ضد واحد من شعراء العصر أو أي حامل للقلم؟
كانت الفرية مضحكةً واضحة الهزل والضحالة، فأوليتها أذنًا غير صاغيةٍ وأهملت شأنها، ولكن الكذبة سعت بأصوات الضفادع إلى أركان الأرض العربية جميعًا، وتصايحت أقلام الشيوعيين من كل حدب وصوب ترفض موقفي الذي لم أتخذه، ولم أفكر في اتخاذه، ولم أتصور أن من حقي أو من واجبي أن أقفه.
وجاءني محرِّر من الجريدة العربية التي نشرت الخبر أول ظهوره، فبادرتُ بتكذيب ما اختلقوه اختلاقًا، ونشر المحرِّر الأمين الخبر، ووضعته الجريدة مشكورة في مكان واضح من صفحاتها.
فهل أجدى التكذيب؟ هيهات! وما زال الشيوعيون حتى الأيام الأخيرة الماضية ينددون بالموقف الذي لم أتخذه، ولم أفكر في اتخاذه.
ونزار قباني شاعرٌ من أعظم شعراء جيله، ونحن لا نحاسب الشعراء على مواقفهم السياسية، ولو فعلنا لَتعرَّض أغلب الشعراء من الجاهلية إلى يومنا هذا لرفض شديد، ولكان المتنبي، أكبرُ شعراء العربية بعد شوقي، أكثرَ الشعراء تعرضًا للمحاسبة، وإنما ينبغي أن يكون دأبنا مع الشعراء ما وصفهم به الخلاق العليم في محكم قرآنه: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ صدق الله العظيم.
وما لنا أن نحاسب نزار قباني على تقلب رأيه بشأن نقده لمصر أو مديحه لها، وبين كُتَّاب مصر الذين ينتسبون بآبائهم وأمهاتهم وعِظام أجدادهم إلى مصر، مَن باعوها حين ذهبوا إلى الدول العربية بيعَ السَّمَاح، أو بيع اللئام، وراحوا يكيلون الشتائم لمصر وحكام مصر، ويتقاضون أجر إعراضهم ثمنًا دنسًا حقيرًا.
ثم ها هم أولاء اليوم بين ربوع مصر يقولون آراءهم مديحًا ونقدًا، وكأنهم ما باعوا مصر بأموال ما زالت حتى اليوم تملأ خزائنهم، وغفرت لهم مصر، ومَن يغفر إذا لم تغفر الأم؟! وغفرنا نحن أبناءَ مصر ما أساءوا، وَمن أولى بالغفران للأخ من أخيه.
وها هو ذا الشاعر الفنان نزار قباني يعود إلى مصر مُنشدًا لها نشيد الحبيب العائد إلى حبه، وما زالت مصر هي حب العرب أجمعين، يحبونها على أي حالٍ هي عليه، قد يضيقون بما تعانيه، ولكنها عندهم أجمل من أمريكا التي يجدون فيها آخر ما وصل إليه الإنسان لتدليل الإنسان، ولكنهم لا يجدون فيها أو في غيرها دفء الأخوة العربية، ولن يجدوا، ولا يجدون فيها ولن يجدوا ما يلتقون به في مصر من فنٍّ يخاطبهم ويخاطبونه ويناجيهم فيفهمون نجواه.
فمرحبًا بنزار الشاعر المطبوع الذي أعتبره أنا، ويعتبره كل منصفٍ، واحدًا من علامات جيله في الشعر العربي، مرحبًا به في بيتي الكبير مصر، ومرحبًا به في بيتي الصغير الذي طالما زاره، والذي أعتقد أنه يعتبره واحدًا من أقرب البيوت إلى نفسه بين البيوت الكثيرة التي ترحب به في مصر.