وبالحق نزل

قرأتُ فيما قرأت منذ قريبٍ كلامًا حاولت أن أجمع شتاته، أو ألمَّ شعثه، فتأبَّى عليَّ ونفر أن يلتئم، ورفض أن ينسجم بعضه مع بعضه؛ فقد قال القائل إن الشيوعية لا تتعارض مع الإسلام، وتلك عجيبةٌ من العجائب. وقد حاول الكاتب أن يسوق الأدلة ويدعم رأيه بالبراهين، فإذا بالأدلة تنهار جميعًا، وإذا دعائمه تتساقط مع براهينه لتصبح أنقاضًا من هُذَاء، وحطامًا من لغو الكلام.

فالشيوعية لا تجتمع مع الإسلام في وعاءٍ واحد أبدًا، ولا يستطيع أن يكون إنسان ما شيوعيًّا ومسلمًا في وقت معًا مطلقًا.

فالإسلام يقوم على خمسٍ، أهمها: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهاتان الشهادتان ليستا مجرد كلام يُقال، وإنما هما كلام وعمل وقول وفعل، ونطق وإيمان.

لا بد أن نؤمن أن الله واحد أحد، وأنه سبحانه أرسل رسوله محمدًا — عليه الصلاة والسلام — وجعل معجزته هي المعجزة الوحيدة الخالدة في تاريخ جميع الرسل والأنبياء؛ فكل معجزات الأنبياء كانت بصريةً شهدها قوم النبي الذي أُرسِل إليهم، والذين عاصروه، بل والذين تصادف وجودهم وقت وقوع المعجزة.

أمَّا الإسلام فمعجزته القرآن … كتاب لا يأتي عليه الزمان، ويأتي هو على الزمان، باقيًا خالدًا، دائمًا تتلقاه الأجيال كما أُنزل، لا يختلف في حرف من حروفه عن يوم أوحي به إلى خاتم الأنبياء إلى يوم تقوم الساعة.

ويقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ (سورة الإسراء: ١٠٥)، تعاليت يا سبحانك! هذه الدقة في التعبير لم تعرفها اللغة في كلِّ ما كان من كلام قبل الكتاب، وفي كلِّ ما تبِعه من ألوان القول.

وهذه التفرقة الدقيقة في آيته الكريمة لم تعرفها اللغة إلا في القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى يعلن البشرية أنه أنزل كلامه بالحق، ولا يكتفي بهذا، بل يُعلنهم جل وعلا أنه بالحق نزل.

فهو حقٌّ في بداية رحلته، وهو حق حين انتهت رحلته، ليصبح بلاغًا إلى العالمين، فيا أيها الناس، اعلموا منذ نزل القرآن إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، أن هذا القرآن صدر عن الحق، وأصبح بلاغًا لكم بالحق، لا يستطيع باطلٌ أن يتغشى حرفًا منه بظلٍّ، مهما يكن هينًا.

وهو سبحانه يضمن للعالمين أنه هو المسئول عن ذكره، فيقول سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ صدق الله العظيم (سورة الحجر: ٩). وقد فعل سبحانه، وبقي الكتاب، وهو باقٍ إلى الأبد الأبيد.

فالذي يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، يشهد بهاتين الشهادتين أن الله أرسل سيدنا محمدًا بكتابه العزيز، وأن الكتاب أنزله الله بالحق وأنه بالحق نزل.

وليس في الأمر اجتهاد إذن، وما دمت شهدت الشهادتين؛ فأنت إذن تشهد أن القرآن من عند الله.

وأنت مُلزَم أن تؤمن بكل ما جاء في هذا الكتاب. وما دام كتاب الله فأنت لا تستطيع أن تقبل منه ما تقبل، وترفض منه ما ترفض؛ فهو ليس كلام بشر مثلك، وإنما هو كلام الله الذي هو الله. فإذا كان الأمر كذلك، وإنه لكذلك، فكيف يستقيم في الأذهان أن يكون هناك شيوعي مسلم؟

ولست أريد أن أدخل في جدَل عريض حول أصل النظرية الشيوعية من ماركس إلى مَن تبعه بإلحاد إلى آخرِ شيوعي، وإنما أريد أن أناقش ما لا شك فيه.

فالنظرية الشيوعية ترفض الملكية التي تعود بمالٍ على صاحبها، وترفض النظرية الشيوعية فكرة الميراث جملةً وتفصيلًا.

وأسأل هؤلاء الشيوعيين: كيف يستقيم هذا مع ما جاء في القرآن، فهل تُراهم يجيبون؟

لن يجدي هنا قول القائل منهم إنه مسلم، وإنه يقيم الصلاة في مواقيتها، وإنه حجَّ بيت الله الحرام؛ فكل هذا لن يغنيه عن الإجابة شيئًا؛ فهو ما دام مسلمًا فلا بد أنه يعرف أن هناك سورة اسمها سورة النساء. وما دام يعرفها فلا شك أنه يعرف تفاصيل المواريث التي أوردها الله سبحانه في هذه السورة، وهي تفاصيل لم يذكرها سبحانه وتعالى عن الصلاة وهي الصلاة. فالقرآن لم يذكر عدد الركعات في كل صلاة، ولم يذكر سبحانه كيفيةَ الصلاة من ركوع وسجود، ولست أريد بذلك أن أقول إن المواريث أهم، أعوذ بالله سبحانه أن أقصد إلى شيءٍ من هذا، وإنما أردت فقط أن أشير إلى مقدار الأهمية التي شمل الله بها فكرة الميراث في قرآنه الكريم.

فكيف يريد الشيوعيون أن يحرِّموا الميراث والملكية، ويظلوا بعد ذلك مسلمين؟ هيهات!

لقد كان كارل ماركس أكثر صراحةً … أم الأجدر بي أن أقول: إنه كان أكثر وقاحةً منهم؛ فقد علِم يوم أنشأ نظريته أنها ستتعارض مع جميع الأديان، فألغى الأديان جميعًا واستراح، وأتعب البشر عنده من بعده.

فإذا نظرنا إلى تطبيق النظرية في البلاد الشيوعية، وجدنا الكنائس أصبحت متاحف، ووجدنا الدول الشيوعية تمنع غير الملحدين أن يدخلوا الحزب الشيوعي. وويل أي ويلٍ لإنسان في البلاد الشيوعية لا يكون عضوًا في الحزب الشيوعي؟!

إنَّ الشيوعية حربٌ على الأديان جميعًا بنص النظرية. وإذا كان المشرِّعون للنظرية الشيوعية في موسكو يجيزون لأتباعهم أن يدَّعوا التدين؛ ليجتذبوا الناس إلى نظريتهم؛ فإن الإسلام وجميع الأديان لا تتيح لأتباعها أن يختاروا من الدين ما يحلو لهم فيعتنقوه، وينصرفوا عما لا يروق لهم وينبذوه.

إنَّ الدين كلٌّ متكامل، لا يجوز لأحد من البشر أن يختار منه ويرفض.

وإذا كانت الأوامر قد صدرت للشيوعيين في الدول الإسلامية أن يدعوا الإسلام كفترة يسمُّونها مرحلية؛ فإن الإسلام والمسلمين يعلمون المؤمنين والكافرين، ويستطيعون في يسر وفي منطق لا يقبل الجدَل أن يعرفوا المسلمين إسلامًا يسترون به إلحادهم، والمؤمنين الذين يعرفون ماذا يعني قولهم «لا إله إلا الله، محمد رسول الله».

ومن عجَب قولهم في ميدان الإلحاد إن أصل العالم مادة، ثم هم يفصِّلون نظريتهم في الخلق تفصيلًا جريئًا لا مثيل لجرأته. وهم بهذه النظرية يريدون أن يقولوا إنهم يرفضون فكرة الإيمان بالغيب، وإنهم لا يؤمنون بغير العلم.

فإذا هم، ودون أن يشعروا، يقيمون نظرية تقوم كلها على الغيب، لا يؤيدها أي دليل علمي أو روحي؛ فالأمر الذي لا شك فيه أن ماركس لم يكن شاهدًا على بدء الخليقة، كما لم يكن إنجلز أو لينين حاضرَين. فكيف إذن استقامت النظرية بين أيديهم، ويطلقون عليها اسم النظرية المادية، ويطمئنون إلى ذلك ويستريحون؟

بينما نصدق، نحن المؤمنين، ما جاء في القرآن عن بدء الخليقة في منطق منسجم مع طبيعة إيماننا كلَّ الانسجام؛ فالذي عرف سرَّ الروح في الإنسان، أرسل إلينا كتابًا هو معجزة الدهور. وفي هذا الكتاب ذكر كيف نشأ الخلق، وما دمنا لم نعرفْ سرَّ أرواحنا؛ فحتمٌ علينا أن نصدق كلَّ ما يقول.

ويصبح القرآن الكريم في خلق الله أجمعين: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ سبحانك ما أعظمك! ولكنَّ الملحدين لا يبصرون، ولا يريدون أن يبصروا، فعلى القلوب أقفالها، وهم يستمدون إلحادهم من جيوبهم ومن أرباحهم، ثم هم يزدادون جرأةً على الحق، ويدَّعون أنهم مؤمنون.

وما داموا قد فقدوا الإيمان بربهم، فلا عجَب أن يفقدوا الإيمان بوطنهم. وها هم أولاء يشعلون الفتن في كل يوم، ويلقحونها بالسخيمة والأحقاد والضغائن، ويستجيب لهم فتية أبرياء، لا يدرون أنهم جعلوا منهم الوقود ليحرقوا به أمن الوطن.

وليس لكافرٍ ميثاق ولا عهد. وهؤلاء الشيوعيون يعلمون أن نباتهم لا ينمو إلا في الأرض المحترقة، وفي أنقاض الأوطان. وها هم أولاء يحاولون أن يحرقوا بلادنا ويهدموا أركانها.

ولكن هيهات! إن الشعب لهم بالمرصاد، ومن فوقه العزيز ذو القوة المتين، وما خاب من كان الله ظله وعونه وملاذه وملجأه.

ويصل إليَّ خطاب من الصعيد يسألني لماذا أكتب عن الشيوعيين، وهو لا يعرف شيئًا! هنيئًا لك أنك تجهل أمرهم؛ فقد أكرمك الله بهذا الجهل كلَّ الإكرام، ولكنني يا أخي لا أعرف ما هو الموضوع الذي تعرفه أنت حتى أكتب فيه أنا. وما دام الأمر كذلك، فاقرأ أنت عما لا تعرفه؛ فإن هذا هو خير لك ولي من أن أكتب أنا عما أجهله أنا وتعرفه أنت … ألا ترى ذلك؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥