الحلف الخائن

كم من عجائب نقرؤها في هذه الأيام العجيبة، حتى لقد أصبحت على يقينٍ أن أيامنا هذه غريبة على الأزمان، التوى فيها كل طريق، وتكاثرت فيه الثنايا، حتى أصبح الطريق القويم شريدًا لا يجد له بيننا وطنًا أو مستقرًّا.

قرأت فيما قرأت كاتبًا مسئولًا عن الجريدة التي يعمل بها، يعلن في وضوح باسم حزبه، أن حزبه يعاون الأحزاب الشيوعية السرية. ومع أن الدهشة أصبحت بعيدةً عن نفسي كلَّ البعد في زماننا هذا زمن العجائب؛ إلا أنني مع ذلك دهشت أن يعلن رئيس تحرير أنه يرتكب جريمةً يُعاقب عليها القانون؛ ولذلك فإنني أعاهدكم أنني لن أدهش إذا قرأت لهذا الكاتب أو لغيره من تجمُّعه أنه يتاجر في المخدرات أو يوزع حبوب المغيبات.

وفي الجملة التالية لإعلانه عن ارتكابه لهذه الجريمة، يقول الكاتب إنه وحزبه يعاونون الجماعات الدينية المتطرفة، وهكذا استطاع بجملته هذه أن يمحو الدهشة التي انتابتني في جملته الأولى لأواجه الذهول من إعلانه في جملته الثانية.

كيف يجتمع طريقان كلٌّ منهما يتجه الاتجاه المضاد للآخر؟ كيف يلتقي المغالي في دينه، المتطرف في عقيدة الإيمان، مع الملحد الرافض لفكرة الإيمان جميعًا؟ يدعي أنها ساذجة سطحية نعتقد عن جهل بالغيبيات التي لم يثبتها العلم.

إن النظرية الشيوعية لا يمكن أن يقوم لها أساس إلا إذا هدمت فكرة الدين جميعًا، أيًّا كان هذا الدين.

والمتطرف الديني يرى بنظرة متطرفة رعناء أن كل قانون غير قائم على الشريعة الإسلامية كفر وإلحاد، حتى ولو كان قانون أرشميدس أو قانون العرض والطلب.

فكيف يتحالف النقيضان، ويتوحد الطرفان المتباعدان المتباغضان؟

كيف يؤيد الشيوعي الملحد هذا المؤمن الذي يغالي في إيمانه، ويبالغ فيه ويبالغ، حتى يخرج به عن الإيمان السوي المطمئن الشريف إلى الفتنة والتخريب والدمار؟

وكيف يقبل ذلك المؤمن المغالي أن يحالف ملحدًا رافضًا لفكرة الله في جملتها وتفصيلها؟ أيرفضون أن يروا خلق الله في ملابس عصرهم، ويقبلون الملحدين وهم المرتدُّون الذين لو طبقوا عليهم الحد الإسلامي الذي يبغون تطبيقه؛ لأوقعوا بهم الجزاء الذي ينهي حياة الإنسان جميعًا، أيُّ حلفٍ ذاك؟ ما هدفه؟

على أي أساسٍ يقوم؟

أمَّا إنه حلف قائم وموجود؛ فهذا ما لا شك فيه، وبعد إعمال النظر وإمعان الفكر وتدبُّر الخوافي، نجده حلفًا طبيعيًّا لا داعي معه إلى الذهول الذي تولانا.

إنه حلف الشيطان مع الكفار، وحلف الدمار مع الخراب، وحلف البوار مع الفساد، وحلف المفتون مع المفتون، ومشعل الفتنة مع الذي يتعهدها، ويزيد حريقها لهيبًا ونارها وقودًا.

هدف الحلف خراب مصر جميعًا، وهذا إجراء لا بد عندهم أن يتم بادئ ذي بدءٍ. وحين ينتهي — ساء ما يدبرون — ينتهي الحلف بين النقيضين، لتبدأ الحروب على الأرض اليَبَاب، وفي الديار المنسحقة، ويحكم يومذاك — لا كان يومذاك — أكثرهم شرًّا وأقواهم مددًا وأشدهم ضراوة. والفريقان على أية حال يعتمدان على دول أخرى تُغدق عليهم المال والسلاح إغداقًا، والغلبة بعد الخراب والدمار ستكون لأقوى الدول الداعمة شوكةً وأغزرها سلاحًا.

وهكذا يصبح الأمر الذي ينتج من حلفهم، أن كلًّا منهما يعين الآخر، ليدمِّر كلٌّ منهما الآخر بعد ذلك، بعد أن تكون الجماعتان كلتاهما قد خرَّبتا مصر ودمرتاها، لا أنجح الله لهما سعيًا ولا فكرًا.

وقد ذكر الشيطان لربه أن سيَقعد لعباده طريقهم المستقيم. وها هو ذا الشيطان ينفِّذ وعده، ويتلبس في جسوم الشيوعيين وحزبهم. وها هم أولئك يقعدون للمؤمنين طريقهم المستقيم، ليجعلوهم ينحرفون عنه شرَّ منحرف، وليجرفوهم من الإسلام السلام والنور والهداية والرحمة والحب، إلى التطرف الأحمر المخضَّب بالدماء، المتَّشح بالفتنة، الهادف إلى التخريب، المعتمد على القتل غِيلةً وبغير الحق. أقدموا عليه في مقتل الشيخ الذهبي، وفي مقتل الزعيم الخالد أنور السادات، وهم يقدِمون عليه اليوم؛ ليقتلوا مصر جميعها، ويوقدوا بين أبنائها فتنةً لا يهدأ لها أُوار.

فالشيوعيون إذن يقومون بدورهم المرسوم لهم ولا يخافتون، بل يعالنون ولا يتسترون، بل يكتبون وينشرون. ولا شك أن الكاتب يوم كتب ما كتب كان يأمل أن تتخذ منه السلطات موقفًا، فتصادر الجريدة أو تقدِّمها إلى العدالة، ولكن السلطات أدركت في ذكاءٍ الضجةَ التي يريدون أن يثيروها، كما أدركت أنهم يريدون أن يتباكوا على الديمقراطية أنها مُست، مهما يكُنْ مذهبهم يهدف إلى قتل الديمقراطية قتلًا لا تقوم من بعده. أليسوا هم مَن قال كُتابهم: نأخذ حريتك ونعطيك رغيف العيش؟ وأخذوا الحرية من شعوبهم قسرًا، وحرموهم أيضًا رغيف العيش والحياة جميعًا.

هم إذن يطبقون نظريتهم، وهم إذن قد لبِسوا ملابس الشيطان، وقعدوا للمؤمنين طريقهم المستقيم، ونالوا بذلك البركة من إلحادهم، والمال من الدول التي تعينهم، وقروا عينًا، ولكن إلى حين، فوالله ليرَوُنَّ من الله العذاب المستطير، وليَنزِلَنَّ بهم من الأهوال ما أنزله على قوم لوط ونوح والصابئين منذ بداية الزمان.

وانظر إلى شأن المؤمنين، أتراهم يدعون الإسلام وهم لم يقرءُوا القرآن، أم تراهم قرءُوه فما فهموه؟ أم تراهم ادعوا الإيمان، وأرادوا أن يجعلوا منه مركبًا يصل بهم إلى سلطان الدنيا، غير ناظرين إلى نعيم العليا وجنات هنالك أُعدت للمتقين، الذين يهدون قومهم ولا يضلون، والذين يخاطبون الناس بالحسنى؟ أيريدون أن يكونوا من الهداة، وهم يعلمون أن القرآن نزل على محمد ليكون بشيرًا ونذيرًا ومبلِّغًا، وليس ليكون فتنة بين الناس وهولًا آخذًا؟ ألم يقل الله لنبيه: عليك البلاغ وعلينا الحساب؟ أوَلم يقل في قرآنه، عزَّ قرآنه، على لسان نبيه: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا أوَلم تتواتر الآيات بهذا المعنى عشرات وعشرات؟ فما لهؤلاء يريدون أن يصبحوا زعماء سياسيين، شعارهم السلاح وليس الرأي، والعدوان وليس الكلمة. ألم يكن الله بقادر على أن يُفني الظالمين أجمعين، ويقمعهم أن يعذبوا المؤمنين ما عذبوهم، ويعتدوا على سيد البشر عدوانهم الهمجي الحقير؟ فلمَ اختار الله الكلمةَ لخطاب هؤلاء ولمَ أمر نبيه أن يبلغ ويكتفي بالبلاغ؟

لأن الدين عقيدة، والعقيدة صلة إنسان بربه، وهي صلة حرة من كل قهر، نزيهة عن كل إرغام يمد الإنسان أسبابه إلى ربه بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وبالصلاة فروضًا موقوتة، وبالصيام إذا انتفت رُخَص الإفطار، وبالزكاة كما شرعها العزيز الحكيم، وبالحج لمن استطاع إليه سبيلًا، ثم يتقرب الإنسان إلى سموات ربه الرحمن الرحيم بهمسة الدعاء وبعبرة الإيمان، وبرعشة الخشوع وبنور الطمأنينة، وبالخوف من عذاب السعير، وبالطمع في عز الجنة.

هكذا هو الإسلام، صلة فردٍ واحد، تزدهر وتنمو وتتمكن وتثبت وتطمئن وتنغرس داخل النفس، لا يعلمها إلا الواحد الأحد، الذي يعرف خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

أين أنتم أيها المتطرفون من هذه النفس، ومن تسبيحها ودعائها، ومن الخيوط الحريرية المتينة متانةَ الإيمان وقوَّته، تربط بين عبدٍ وربه، لا يراها إلا بارئ النفوس وقيُّومها سبحانه وتعالى عمَّا تصفون؟

أين أنتم مما بين مسلم وإسلامه، وبين عابد ومعبوده، وبين مخلوق وخالقه، وبين مَن فرض الفرائض وبين من أدَّاها، إذا أخلف واحدة منها؛ فحسابه هناك عند صاحب الأمر على الكرام الكاتبين، فلا حسنة ولا سيئة إلا هم محصوها، والحكم بعد ذلك للواحد القهار، وهو أحكم الحاكمين الغفور ذو الرحمة المتين.

أتريدون أنتم في بشريتكم الهزيلة هذه أن تتهموا وتقيموا الادعاء، وتنزلوا العقاب على مَن لا تعرفون أي حبال صلبة متينة تربطه برب العرش؟ أين أنتم من ذاك؟ ومَن ارتضاكم لتكونوا حكامًا؟ وكيف سوَّلَت لكم نفوسكم أن تقتعدوا منازل الأنبياء أو حتى الصديقين؟ بل إنني أراكم تريدون من أنفسكم آلهة، شاه ما تظنون وما تبيِّتون! إن يكن المال المنسكب عليكم يزيِّن لكم السوء الذي تفعلون؛ فاعلموا، إن كنتم لا تعلمون، أن هذا المال من بشر، والبشر لا يستقر على حال، فكم من أصحاب أنهار وعيون وجنات كانوا فيها فاكهين، أبدَلهم ربك قومًا آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا مُنظرين.

هو سبحانه على سادتكم قادر، وهل قادر إلا هو؟ يمحقهم قبل أن تكمل عينٌ طَرفتها، فما أنتم منه إلا هَباء، وما شأنكم عنده أو عند المؤمنين إلا بوارًا، ولا يبقى من آثاركم إلا عبرة الأولين للآخرين، وسبحان رب العزة عما تصفون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥