مصريون … مصريون
مصريون … مصريون نحن بكل قطرةٍ من دمائنا، بكل مسرًى من مجرى دمائنا. مصريون بأعراقنا التي ورثناها عن آبائنا، ومصريون بأعراقنا التي تختلج بها قلوب أبنائنا. آمالنا كلها تطوف بأرض مصر وسمائها، ومسالك الهواء في أجوائها، ومجرى الجداول من نيلها، وأمواج البحرين على ضفافها.
وغاياتنا أن يكون الرغد والرخاء والأمن والماء أحضان مصر وحياتها وترابها ونبتها، من الشجرة اللفَّاء العريقة الجذور إلى أعواد الزروع الحديثة الاخضرار.
وفي يوم من الأيام هتف قائل محموم: لا يكفي أن نقول مصر حتى تنحني الرءوس. ويلَه يوم نادى هذا النداء! ما أعظم ما تبجَّح، وما أبغض ما فجر به! كان في ذلك اليوم ذا منصبٍ، واتخذ من منصبه جُنة يستجنُّ بها؛ ليهاجم مصر وهو مصري من ألفاف حنايا مصر. جعل منصبه دريئةً ودرعًا؛ ليطلق صيحته الرعناء الحمقاء التي لا شك أن مددها كان مالًا دنِسًا تسرَّب إليه في ليلٍ من الحاقدين على مصر، والشانئين من أقزام الدول. وحسب الأحمق أن صيحته ستبتلعها أفناء مصر ولا تلتفت إليها، ويكون هو قد زاد خزائنه مالًا، وزاد ذمَّته المالية المتجردة من الأمانة ثراءً بالنقود. وليس يعنيه مِن بعدُ أن تزداد فقرًا إلى الشرف والكرامة والوطنية والانتماء.
ويحه ماذا قال؟! وأي غاية تغيَّا؟ وأي هدف تقصَّد؟ إننا نحن أبناء مصر، إذا سمعنا كلمة مصر خضعت منا القلوب، ووجَفت منا حبات الأفئدة، وخضعت منا الجباه.
فإن يكُنْ هناك يسار فليكن يسارًا مصريًّا، أو يمين فليكن يمينًا مصريًّا.
وإن تزيَّا اليسار بالاشتراكية، أو تسربل اليمين بالتطرف الديني، فلا بدَّ للقلوب أن تظل مصرية أصيلة عميقة الإيمان بمصريتها.
ليس مصريًّا يساريًّا مَن يمد يديه خارج مصر؛ ليصيح: إن العالم كله وحدة، وإن الوطنية شعوبية، وإن الوفاء للدولة تفريقٌ بين أبناء الإنسانية.
فمن أحضان الأم تنبت الإنسانية في العالم، ومن عبير تراب الوطن نشعر بالوجود البشري، ومن لم يعرف كيف يُحب أمَّه جهِل كيف يحب وطنه، ومن لم يعرف كيف يحب وطنه جهِل كيف يحب الإنسان في كل مكان. كاذب ذلك الذي يدعو إلى خير البشرية قبل أن يدعو إلى خير وطنه، وهو يتقاضى من أجل ذلك أموالًا هي أحقَرُ ما يصيب إنسانٌ من مال على وجه الأرض.
بل إن الذين يدعون إلى عالمية الفن، يدركون كلَّ الإدراك أن عالمية الفن لا تكون ولن تكون إلا من محلية هذا الفن ونمائه في أحضان وطنٍ تغذَّى من لِبانه، وشبَّ من بين أحضانه، ومضى شأنه إلى العالم بجناحَين راشهما الوطن الذي وُلد فيه، ونما وشبَّ.
وما أصبح الكُتاب العالميون عالميين؛ إلا لأنهم كتبوا عن مواطنهم، وكانوا على أوسع علم بخفاياها وبالبعيد البعيد من أسرارها. كان هؤلاء الكُتاب بين كل اثنين يتناجيان وفي كل جماعة تتنادم، وفي كل رهطٍ يسمر، ومع كل عامل في دكانه وبيته أو حجرته، وكان يتعرف على الأسرار الخبيئة في بيته، وكان مع كل فلاح يفلَح أرضه. كان الكاتب فأسه ومنجله، وكان معه وأبناؤه به يتحلقون أو يتغاضبون. كان يعرف آمال كل فرد في شعبه، كما يعرف آلامهم، وكان فرحتهم وحزنهم وابتهاجهم وغضبهم ورضاهم وسخطهم. وبهذا الإمعان في المحلية أصبح تولستوي ودوستويفسكي وبسترناك وشكسبير وديكنز وهيجو وبلزاك وزولا ودوديه وجيته وهمنجواي وشتياينبك ومورافيا، وكل مَن بلغ مكانتهم، عالميين.
إن العالمية بنت الوطنية، والمحلية هي الأساس الأول ليجوب اسم الفنان أنحاء المعمورة.
فحين ينادي اليساريون أو غيرهم ممن لفَّ لفَّهم بالتخلِّي عن الوطنية، إنما يفترون فِرية عظمى تحضهم عليها الدول الشيوعية التي تريد أن تمتص كل ثروات الدول الأخرى.
وحين ينادون بأن الدِّين هو أفيون الشعوب، وأنه لا يؤمن إلا الرجعيون الجامدون، تضحك منهم البشرية، وتسخر من جهلهم؛ فإن الأديان هي حضارة البشرية، وهي الفكر التقدمي الذي جاء ليهدي الرجعيين السلفيين الذين يتجمدون كالحجارة التي كان آباؤهم يعبدون. ولو كان الشيوعيون يقرءُون القرآن؛ لقرءُوا الآيات الكثيرة التي تذهب مذهب الآيات الكريمة:
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ صدق الله العظيم.
ولعرفوا أن الرجعية هي الإلحاد، ولكنهم لا يريدون أن يعرفوا، أو لا يريدون أن يعلنوا أنهم عرفوا، أو يعلنون هذا، فتنقطع عنهم الأموال التي تنهال عليهم من كل حدَب وصوب.
إنما نرفع شعار مصر ليرتد عنا المتطرِّفون الشيوعيون الملحدون بالله والوطن، خاسرين حيثما وجدوا، لا قِبلة لهم إلا الخزي، ولا عاقبة لهم في الدنيا والآخرة إلا الفشل والبوار.
ونرفع شعار مصر لقوم آخرين يريدون أن يتخذوا الدِّين المطيَّة؛ ليصلوا بها إلى حكمنا فيصبح أمرنا على أيديهم فُرُطًا.
فهم قرءُوا القرآن، ثم أبوا أن يتدبَّروه. نسُوا قوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا، ونسوا: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، ونسوا: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ، وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وقوله تعالى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ.
فإذا كان الله جل وعلا، رفيعُ الدرجات ذو العرش لم يقدِّر لرسوله، وهو رسوله، وسيد البشر أجمعين، وصلة السماء بالأرض، إلا أن يكون رسولًا فقط ومبلِّغًا فحسب، ونفى عنه أن يكون مسيطرًا، فكيف تريدون أنتم لأنفسكم أن تفرضوا علينا عصاكم قهرًا، وكبرًا وطغيانًا؟ تالله ما تريدونها إلا عوجًا، وتبغونها نارًا تضرمون لهيبها، وما أضرم إنسان نارًا بالباطل إلا أكلته أول مأكولٍ، وكان هو أول حريقها وحطبها.
إننا نرفع مصر شعارًا، ينادي منادينا في كل منتدى مصر، وأسألكم يا أبناء مصر الخُلَّص الشرفاء: أتعرفون نداءً أجمل في القلوب أو أعذبَ في الآذان أو أسعدَ للنفوس من هذا النداء؟
إننا نرفعه شعارًا؛ لأننا نعرف أن هناك فئاتٍ من الناس انتمَت مصالحها إلى غير مصالح مصر، ونعرف أن مصالح هذه الفئات أصبحت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بما يجر على مصر الخراب والهوان، وهيهات ألف هيهات! لن يصل الخراب إلى مصر مهما يجهد بهم السعي، وهيهات ألف هيهات! فلن يمس الهوان نسمة من أجواء مصر. إنها كنانة الله في أرضه، ونحن أبناؤها، دماؤنا حصنها دون أي عربيدٍ يحاول أن يمسَّ ذرةً من ترابها بهوان. هذا شعارنا نرفعه ونموت دونه. ويرفعه معنا أبناء مصر قاطبةً من أقصى بحرها شَمالًا إلى أقصى أسوانها جنوبًا، ومن حدود صحرائها في المغرب إلى حدود صحرائها في المشرق.
لن يخدعنا فاجر كافر ملحد، ولن يزايد بديننا تاجرٌ بضاعته زيف، وحجَّته مَيْن، ووسيلته خداع!
والله سبحانه سيفتح بيننا بالحق، فإنه جلَّ عُلاه بالحق أنزله وبالحق نزل، ونحن نرفض كلَّ من يعاديه، كما نرفض مَن يتخذ منه في الدنيا تجارة، ومتكأ لغير ما يرضي الله تقدَّست أسماؤه، وعلا وتباركت آلاؤه.