اللهم انصرنا على أنفسنا
لم يأتِ على الناس حينٌ من الدهر كان الجميع فيه راضين عن زمانهم أو عن حكامهم؛ فكل جيل من أجيال البشر له صبوة إلى الماضي، وحنين إلى الغابر، يواكبه سخط على الحاضر، ورفضٌ لما يحيط به من واقع.
وأحسب أن جيل النبي — عليه الصلاة والسلام — كان أعظمَ الأجيال التي شهدتها البشرية؛ فقد كان مليئًا بالمصابيح الهداة، آمنوا بالرسالة يجابهون بها غلظةَ الجاهلية، وحِرْصَ الكافرين على أمجادهم القبَلية، وعلى أموالهم التي كانوا يقترفونها من كل ما هو دنيء حقير. لا يعفُّون حتى عن الاتجار بالمتعة تحت ظلال ألويتهم الحمراء. ووقف النبي — عليه الصلاة والسلام — يصيح فيهم: لا إله إلا الله، ومحمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، ولا فضل لسيدٍ على عبدٍ في البشرية؛ فالكل أمام الله والناس سواء، للمحسن فيهم الحسنى وزيادة، وللمسيء منهم العقاب والنكال، واحتقار الناس في الدنيا، ونار جهنم في الآخرة، ويصبح للدعوة الإسلامية الكريمة فرسانها في كل ميدان من ميادين الفروسية، فنجد الكرام الذين ينفقون مالهم كلَّه في سبيل الله.
وتجد أصحابَ الضمير المرهف يخشون الله في إطراء غرسهم قدْر ما يخشونه في علانية أعمالهم، وتجد السيوف المشهرة تسابق الحياة إلى الشهادة في إيمان الواثق بهوان الدنيا، وما وعد الله الشهداء في الباقية الخالدة. وتفيق البشرية على فترة من الزمان لم يعرفها الأحياء ولا تسامعوا عنها فيما حمله إليهم التاريخ.
ولكن أكان أهل هذه الحقبة من الزمان راضين عنها؟ إن مَن يقرأ في أدب العرب، يجد أصحاب هذه الإشراقة العظمى كانوا هم أيضًا يتملك نفوسهم حنينٌ إلى الماضي وتعلُّق به. وما كان حنينهم إلى الكفر فيه — لا قدر الله — أو كان إلحادًا منهم إلى غطرسة الجاهلية وما فيها من غلظة، وإنما كانوا ينظرون إلى ما كان من خيرٍ قليل في أخلاق الجاهلية؛ من حفاظ على العهد، ومن حكمة في التصرف، ومن تعفُّف عما يشين أخلاق الرجال، ومن حرص الكرام على إكرام الضيف، وإغاثة الملهوف، وحماية مَن لا ملجأ له.
ونجد عمر بن الخطاب، الذي صنعه الله سبحانه وتعالى المثلَ الأعلى للعدل على مدى الأزمان يحنُّ إلى الماضي هو أيضًا، ويتمثل ببيتين فيهما ترحُّم على ما كان، وسخط على ما هو كائن، فيروي:
فإذا كان عمر يَرى في أولئك الأئمة العظام حوله قِلة، بل أقلَّ من القلة، أفلا يحق لنا نحن اليوم أن نبكي على حالنا دمًا لا دموعًا.
وحين يحكم عمر، ويقيم العدل الذي لم تعرفه البشرية بعده قط، نجد الناس يضيقون بعدله.
فالعدل فيه قسوة؛ لأن كل إنسان يحسب أن ما ينطبق على الآخرين من قوانين لا يجوز أن ينطبق عليه. فالإنسان كلما ازداد جهله تأكَّد لديه أنه أعظم من خلق الله أجمعين. وهكذا فما يكاد يمرُّ على حكم عمر سنتان، حتى كانت بعض النسوة يتوجَّهن إلى الله (وهن يملأن الجِرار، فقد كان الظن يومذاك أن الدُّعاء عند الاستسقاء مقبول): «اللهم بدِّل، اللهم غيِّر!»
لقد ثقُل عليهن وعلى أزواجهن عدلُ عمر، فهن يرفعن الدعاء إلى الله أن يغيِّر عمر، وهو عمر! وبعد عمر بأجيال يحكم حفيده عمر بن عبد العزيز، ويأخذ نفسه وزوجه وأولاده، ثم يأخذ الناس بالعدل أصدق العدل، ويقيم الميزان بالقسط ولا يُخسره، ويرسل إليه أستاذه من مكة خطابًا يسأله: ماذا تريد أن تفعل؟
ويجيب عمر بن عبد العزيز: «أريد أن أقيم العدل الذي أقامه جدي عمر بن الخطاب.» ويرد عليه أستاذه قائلًا: «لن تستطيع، وإذا استطعت؛ فإنك تكون خيرًا من جَدك ابن الخطاب نفسه؛ لأن الذين كانوا حول عمر بن الخطاب كانوا يعاونونه على عدله، أمَّا الذين حولك فسوف يحاربون عدلك، ولن يمكِّنوك منه.»
ويصدُق ما توقَّعه أستاذ عمر بن عبد العزيز، ولا يكمل عمر سنتين في خلافته، وتردِّد البشرية بعد ذلك البيت الشهير:
كل هذا عرفته البشرية وعرفت ما هو شرٌّ منه، ولكن أي هاتف ألحَّ عليَّ أن أمضي في هذا الحديث اليوم؟ إن هذا التساؤل مني ليس حيرة أو جهلًا بما يثور في نفسي، وإنما لوعة وحريق يوشك أن يسد في عيني أقطارَ الأرض جميعًا.
فمع أن الناس كانوا على مرِّ العصور غير راضين عن عصورهم ولا على حكامهم، إلا أن طبيعة الحياة كانت غير هذه التي صرنا إليها اليوم.
وإذا نحن تركنا ذلك الزمن الماضي الذي وصلت أنباؤه إلينا على صفحات الكتب، وتذكَّرنا الزمنَ الذي رأينا أحداثه على صفحات الأيام، وعقَدنا مقارنةً بين ما كنا نرى وبين ما نحن فيه، لعجبنا من أنفسنا: لماذا نظل نُلقي بأنفسنا في مضطرب الحياة؟ ولماذا لا يبحث أمثالنا عن مخبأ لا يُرى إلى الناس ولا يجعلهم يُرون إليه؟ ولكن أين المفر وقد أصبح البعد عن الحياة مستحيلًا إلا بالموت، فإن أغلقنا على أنفسنا أبوابنا لاحقتنا الإذاعة، وهاجمنا التليفزيون، وغزتْ وحدتنا أرسال الزوار مشفقين أو عاجبين أو ساخرين!
لا مهرب إذن إلا أن نواجه الحياة، ونفرض على أنفسنا ما لم نكن نتصور أنا ملاقوه في يوم من الأيام.
إننا منذ نشأنا، كانت الحياة حولنا تموج بالخير والشر، ولم يخلُ زمان — أي زمان — من الصالحين والفاسقين، ومن الكرام ومن الأذلة، ومن الأعزاء على الناس وعلى أنفسهم، ومن كانوا هوانًا على أنفسهم وعلى الناس.
ولا يستطيع أحدٌ أن يزعم أن زمانًا ما كان كله خيرًا بجميع ناسِه، ولا أن زمانًا كان كله شرًّا بجميع أبنائه، حتى زمن النبي ﷺ كان فيه المخلصون والمنافقون، وكان فيه الصالحون والطالحون.
قد يكون الأخيار هم الكثرة، ولكن نادرًا ما يكون ذلك؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: «الجنة حُفت بالمكاره»، والقابض على دينه كالقابض على الجمر. ومغريات إبليس فيها المتعة الحسية وهي متعة الجهلاء، وهم الأغلبية، ومغريات الأديان فيها المتعة الروحية، وهي متعة العلماء والأتقياء والمتعمقين في أمور الحياة والمفكرين، وهم قلة. كل هذا نعلمه وما هو علينا بجديد.
ولكن الحياة حولنا اليوم تجعل كل هذا الذي نعلمه هشيمًا لا قيمة له؛ فقد كان الشر موجودًا في كل العصور — هذا لا شك فيه — ولكنه لم يكن رافع الرأس متبجحًا مدعيًا أنه هو قمة الحياة وسيدها كما هو اليوم. كان الشر يخجل من الخير، فأصبح اليوم والخير يخجل من الشر، كان اللص يتخفَّى عن العيون، فأصبح اليوم الشريف هو الذي يبحث عن ستار يخفي شرفه.
كان اللص يدَّعي أنه شريف، ولكن اللص اليوم لم يصبح في حاجة أن يدعي الشرف، بل إن الشريف اليوم هو الذي يغلب عليه الحياء؛ لأنه شريف!
كان الفجور يتستَّر ويتخفَّى، وأصبح اليوم الفجور يصدر إعلاناتٍ عن نفسه، وكلما ازداد تحطيمًا للقيم علا ضجيجه، وارتفع صوته، وتباهى وتملَّكته العظمة ورَكِبه الغرور وشعر بالزهو والكبرياء، وازداد يقينًا أنه ذو كرامةٍ.
وفي ثلاثينيات هذا القرن شاع عن امرأة من جميلات هذا العصر، ومن أسرة عريقةٍ فضيحةٌ انتشر أمرها. وحدث أن كان المرحوم محمد محمود باشا جالسًا في فندق شبرد، وتقدَّم إليه أحد أصدقائه، ومعه سيدة لا يعرفها محمد باشا. ووقف الباشا خريج أكسفورد يستقبل القادمين، وقبل أن يُصافح محمد باشا صديقه بادره الصديق مقدِّمًا إليه السيدة. وعرف محمد باشا أنها السيدة صاحبة الفضيحة، فإذا هو يأبى أن يمد يده إليها، وإنما يضع يمينه خلف ظهره، ويشير لها بيسراه، ملوحًا بسبابته ذات اليمين وذات اليسار، بما يجعلها توقن أنه يرفض أن يصافحها، ثم يجلس يشيح بوجهه عن صديقه وعن السيدة جميعًا.
كانت الفضيحة في ذلك الحين فضيحة، وكانت الفضائح ألوانًا وأشكالًا؛ منها فضيحة كهذه التي ذكرت، ومنها فضيحة المرتشي، ومنها فضيحة السارق، وكانت تشيع، وكان المجتمع يُنزِل بها العقاب رفضًا أو مقاطعة أو مهاجمة.
أمَّا اليوم فالفضيحة شهرة وعظمة!
نرى تجار المخدرات يتصدرون المجتمع، ونرى تجار الأعراض يتصدرون المتحدثين عن الشرف. إن الشرف أصبح نوعًا جديدًا من الشرف لم يعرفه العالم قبل اليوم، ونرى سارقي البنوك يستغلون سرقاتهم في سرقات أخرى!
جماعات من جنود إبليس أصبحت تسود الحياة، وإن كنا نحن ومَن في جيلنا عُرضًا للكلمات في معانيها الحقيقية، فكيف سيعرف الجيل الجديد هذه المعاني؟ كيف يجد مَن يؤكد أن الشرف ليس هو المال من أي سبيل، وأن هذه الحياة التي يرونها زيفٌ كلها وباطل؟ أم تُرى نحن وما نؤمن به هو الزيف وهو الباطل؟
أين الحق ومَن يستطيع أن يرفعه؟ أين الشرف ومَن يستطيع أن يعلنه؟ أين الحب بغير ثَمن؟ أين النزاهة على رغم الفقر؟ أين النقاء في قذر الدنيا الجديدة؟
ما مصير القائمين على قضائنا في الغد؟ وما مصير الأطباء رسل البشرية؟ وما مصير المهندسين بناة المستقبل؟ وما مصير الاقتصاد وهو عماد الحياة في الأمم؟ إلى أين بنا المسير؟ وإلى أين بنا المصير؟! اللهم لقد حققت لنا في نصر أكتوبر معجزة حرب على أعدائنا؛ فإليك وحدك وإلى رفيع سُدتك نتَّجه أن تدركنا بنصر آخر نحققه، ولا بد أن نحققه في هذه المرة على أنفسنا، وأنت قريب تجيب، وإنك وحدك مَن تجيب.