أو فليُشهروا إسلامهم

حين ظهر نجيب محفوظ كان واضحًا أن الشكل عنده مخالف تمامًا للمذهب الشيوعي؛ فمن المعروف أن الشكل في المذهب يقتضي أن تنتهي الرواية أو المسرحية أو القصة بالتفاؤل؛ لأن الحلول لجميع المشاكل حاضرة عندهم من قريب، فما على الفرد أو الأسرة أو الجماعة أو الدولة التي تواجه مشكلة إلا أن تُطبق المذهب الشيوعي، حتى تصبح المشكلات جميعًا محلولة في أمان الله، أو في أمان النظرية المادية، فهم لا يعترفون بالله.

ولكن نجيب لم يكن شيوعيًّا في يوم من الأيام، وإنما هو منذ بدأ الكتابة يؤمن بالمذهب الاشتراكي بصورة لا يختلف معه فيها كاتب في العالم، فهو ينادي بالحرية وينادي بتقريب الثروات، وذلك بأن يقدِّم ذو الغنى حقَّ المجتمع الذي أثراه إلى المجتمع، حتى يحاول به أن يُقيم حياة قوم آخرين يطحنهم الفقر. ويرى للفقير الحق في أن يعيش عيشةً كريمة لا يتعرض فيها للجوع أو العري أو المذلة. وقد كانت هذه الأفكار في الأربعينيات سائدةً بين الكتَّاب بعيدة كل البعد عن جمهور الناس. ولكن المؤكَّد أنه ليس في العالم كاتب لا يؤيد نجيب محفوظ في أفكاره هذه؛ فليس من المعقول أن يكون كاتبًا ينطق بلسان الإنسان في بلده وفي كل مكانٍ في العالم، ويقبل أن يسيطر على الآدمي الفقر أو الجهل أو المرض.

وهذه الأفكار لا تتعارض مع الحرية والديمقراطية بطبيعة الحال، وهي مستوحاة أولًا — وقبل كل شيء — من العقائد السماوية.

ولذلك فالاشتراكية هي أعدى أعداء الشيوعية؛ لأنها تحقق شعاراتهم وترفض في نفس الوقت طغيان الطبقة البروليتارية، كما ترفض القهر وإذلال إنسانية الإنسان، وجعله قطعة من آلة أو سائمة يتاجر بإنسانيتها المستلبة قادةُ الحزب وطواغيته.

فلم يكن عجيبًا إذن أن يهاجم الشيوعيون نجيب محفوظ في أول حياته الفنية. وقال عنه بعضهم «البرجوازي الصغير»، وغير ذلك من الألقاب التي يبرعون في تصنيعها، والتي تموت فور ظهورها على سطح الحياة.

ولكن نجيب محفوظ لم يأبَهْ لهجومهم، ولم يلتفت إلى سُعارهم، وإنما سار في الطريق الذي يسير فيه كل كاتبٍ شريفٍ، فهو صادقٌ مع نفسه، لا يكتب إلا ما يؤمن به، ولا يخطُّ حرفًا لا تمليه عليه خالصة نفسه، مستنبعًا ما يعتقد، غير ناظرٍ إلى فئة بذاتها أو فكرٍ يتعارض مع فكره، فإنما غايته الارتفاع بالإنسان عن الجهل، وحمايته من طغيان المادة وإذلالها. ومع الأيام أصبح نجيب محفوظ جبلًا فارعًا شاهقًا، فإذا بالحزب الشيوعي يحتضنه فجأةً مزيفًا على الناس ذلك الفارق البعيد بين ما تهدف إليه أفكار نجيب وبين ما تسعى إليه الشيوعية.

ولكن نجيب الذكي الفَهم الذي استطاع بعبقريته أن ينفذ إلى أعمق أغوار الإنسان والإنسانية لم يستجب لمديحهم، مدركًا الزيف الذي يحاولون به أن يخدعوا الناس عن حقيقة فنه. وكما صمت عند الهجوم والهجاء والثورة عليه، سكت عند المديح والإكرام والتهليل له.

وسار طريقه الذي يؤمن به، وأذكر أبيات شوقي لغاندي:

وعُد لم تحفِل الذَّامَ
ولم تغترَّ بالحَمدِ
فهذا النجمُ لا ترقَى
إليهِ همةُ النَّقد

وبدأ نجيب يبحث برواياته وبعقله عن الإيمان بالله دون فكر مسبق، فكانت روايته الأولى أولاد حارتنا. وتبعها بروايات أخرى كلها بحث عن فكرة الإيمان من واقع حياة الإنسان، لا من واقع الفكرة المتوارثة، حتى انتهى إلى رواية الشحاذ، وأنهاها بالصوت يسمعه الجريح، وحياته تترجَّح بين الذهاب والبقاء: لماذا تبحث عني وأنا قريب منك؟ وهكذا أعلن الإيمان والإسلام جميعًا بالفكر والمنطق؛ فالله بنص القرآن قريب من عبده يجيب دعوة الداعي إذا دعاه.

حينئذٍ أدرك الشيوعيون أنهم فشلوا تمامًا في احتواء نجيب محفوظ، فبدءُوا ينقلبون عليه شرَّ منقلب. ولم يحفل الفنان الشريف بأمرهم، وأكمل طريقه وسط صراخهم الغاضب عليه، فإذا هو يكتب «ثرثرة فوق النيل»، و«ميرامار»، ويصيح في وجه الطاغوت بتلك القنبلة الثقيلة الرائعة الرافضة الثائرة «الكرنك»، يُدين بها عهدًا بأكمله ينتمي إلى الشيوعية، قدْر ما ينتمي إليه الشيوعيون.

حينئذٍ أصبح نجيب محفوظ من أعظم أعدائهم، وعالنوا بالغضب عليه، وصدرت الأوامر صريحةً بمهاجمته، أو بعدم الكتابة عن رواياته، واهمين أن صمتهم سيصرف القراء عنه، وطبعًا خاب فألُهم، وارتكسوا في الخيبة، وظل نجيب هو نجيب؛ فيا طالما جرَّبوا الهجوم والصمت مع كتَّاب آخرين، وبقي الكتاب ومات النقاد منهم، عند الناس وعند الحق.

وقاموا بتجربتهم نفسها مع أستاذنا الرائد توفيق الحكيم، ولكنه استعصم منهم بمكانتِه وثِقَتِه بفنه، وكرثهم بالسلطان الحائر وإيزيس وبنك القلق، ثم أنزل بهم هو الآخر قنبلته الصريحة الصارخة «عودة الوعي»، لم يغلِّفها بإطارٍ روائيٍّ ولا أحاط صراحتها بأستار فنيةٍ، وإنما هي كتابةٌ مقالية صريحة لا تحتمل تأويلًا ولا مناص من مواجهتها، فهاج هائجهم، وماج مائجهم، وصاتوا وسفلوا إلى الحضيض الذي يسفلون إليه دائمًا. ويظل توفيق الحكيم هو توفيق الحكيم، ويظلون هم في مهواهم وحضيضهم.

كل هذا لا غرابة فيه؛ فمن الطبيعي أن يحاول حزب بلا كتَّاب مبدعين خلَّاقين أن يبحث لنفسه عن كاتبٍ مبدعٍ، ولا عجب أن يختاروا جباين من الكتَّاب الذين يدافعون عن إنسانية الإنسان، حتى وإن كان مذهب الحزب الشيوعي يسعى إلى طحن الإنسان وإعدام آدميته وكرامته، بدعوى أنهم سيعطونه لقمةَ العيش، وحتى لو انتهى الأمر بهم وبالإنسان أنهم استلبوا آدميته ولم يعطوه لقمةَ العيش.

فالأمر في ذاته لا يدعو إلى الدهشة.

وإنما الدهشة استولت اليوم على كثير من الناس، لستُ من بينهم، من هذه الضجة التي يحيط بها الكتَّاب الشيوعيون جارودي الذي محق مذهبهم محقًا وركله، لا يرضاه لنفسه مذهبًا، وأشهرَ إسلامه مرتئيًا في الدين الأقوم، السبيلَ الوحيد إلى مواجهة مشكلات العصر.

يتساءل كثير من الناس: فيمَ احتفاء الشيوعيين بجارودي؟ ولا يلتفت أحدٌ من هؤلاء المتسائلين إلى ما كتبه قراجوز من خدم الشيوعية في إحدى الصحف أنه يتمنَّى لو لم يكن جارودي قد أسلم حتى يحارب مع العرب في الجانب الآخر؛ فالعقيدة عند القراجوز أمرٌ يسيرٌ يُباع ويُشترى، ويُعلن ويُحبس. وإسلامُ مفكِّر عظيم مثل جارودي أمرٌ كان يتمنَّى ألا يحدث حتى يفيد القضية العربية، وكأنما أصبحت القضية العربية هي الكفر والإلحاد ورفض الإسلام.

وا حسرتاه على الناس وعلى الدين عند هؤلاء الذين يحملون أسماءً مسلمة، وقلوبًا كافرة!

إنَّ أمر هذا الكاتب أقرب ما يكون بالراقصة الرخيصة التي تشيع عن نفسها كل حقير من الشائعات، بأملِ أن يظل اسمها على الألسنة، حتى يثبتَ إلى الذهن إذا كان هناك فرحٌ يُقام أو ليلة تحيا بغير ذكر الله.

ولكن هذه الراقصة يأتيها الثراء من المتاجرة بشرفها، في حين يقوم وجود الكاتب من وجود شرفه. فكيف يبيعه بيع السماح، وفي سبيل ماذا؟ وأي شيءٍ في الوجود يساوي أن يفقد الكاتب شرفه، ويركع لغير الله؟

إن الشهرة للكاتب لا بد أن تأتي صاغرةً تسعى إليه، ولا يسعى هو إليها، وإلا فلا جاءت ولا كانت. ويبقى هو عزيزًا على نفسه وعلى عشرة قراء يقرءونه، حتى وإن كانوا عمال مطبعته!

وعلى كل حال، فلنترك أمر هذا القراجوز الذي أرفض ذكر اسمه، حتى لا أنيله ما يصبو إليه من شهرة وذيوع صيتٍ قذِر، ولنبحث عن حالة المديح التي أحاط بها الشيوعيون قدوم جارودي إلى مصر، مدعوًّا من الأزهر الشريف العريق الشامخ في تاريخ الإسلام وتاريخ البشرية.

أما أنا فأعتقد أن الأمر صدر من موسكو بهذه الحفاوة؛ حتى يظن الناس أن جارودي لم يقتل الشيوعية بإسلامه، وعند عامة الناس الذين يسوح بينهم الشيوعيون بأراجيفهم، يمكن أن يُلبِس هؤلاء الشيوعيون الأفَّاقون العدوَّ ثوبَ الصديق، والحقَّ ثوبَ الباطل، لا يهمهم أن يناقضوا أنفسهم، وأن يكيلوا المديح اليوم لمن كالوا له الذمَّ بالأمس.

فإن لم أكن محقًّا في هذا الظن، فعلى الشيوعيين إذا كانوا صادقين في الإعجاب بجارودي وبفكره وبفنه، وما سنَّه لنفسه بالحياة، أن يرتضوا خطته ويسيروا في طريقه، ويفعلوا ما فعل. عليهم إذن أن يشهروا إسلامهم كما أشهره هو، أو فليصمتوا. وليعلموا إذا لم يكونوا قد علموا أن الإسلام يجُبُّ ما قبله، وفي مغفرة الله سَعة حتى لتشمل ما أجرموا في حق البشرية. وقد أعلن جارودي إسلامه بعد بحث واختيار، وأعلنوا هم إلحادهم بالاختيار أيضًا. ولكن أشكُّ كثيرًا أنهم بحثوا في أصول الإسلام ثم اختاروا النظرية. وأغلب الأمر أنهم قارنوا بين الفوائد التي تعود عليهم من الإسلام، والفوائد التي تعود عليهم من الشيوعية، ثم اختاروا.

فإذا شاءوا اليوم أن يرجعوا إلى ساحة الإسلام، فسوف يجدون مغفرة الله تنتظرهم؛ فإنه الله، وإنه أكبر، أكبر من كل مخلوق، ومغفرته أكبر من كل ذنب، فإن عدتم إليه بعد شرك وكفر وإلحاد، فهو قابل التوب، وهو العزيز الحميد، فقط أشهِرُوا إسلامكم كما أشهر جارودي إسلامه، واستغنوا عن الدنيا، وفكروا في الآخرة، وفي كرامتكم. تُرى هل يجد ندائي سامعًا؟ مَن يدري! فما شيء على الله ببعيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥